المقابسات
أبي حيان التوحيديالمقابسة الأولى
في تطهير النفس وتجريدها من الشوائب البدنية
سمعت أبا سليمان المنطقي يقول: بالإعتبار تظهر الأسرار، وبقديم الاختبار يصح الاختيار، ومن ساء نظره لنفسه قل نصحه لغيره؛ وكما تنظف الآنية من وسخ ما جاورها ولا بسها، ووضر ما خالطها ودنسها، لتشرب فيها، وتنظر إليها، وتستصحبها وتحفظها، ولتكون غنيا بها، ولا تريدها إلا طاهرة نقية مجلوة، ومتى لم تجدها كذلك عفتها وكرهتها ونفرت منها وطرحتها، لأن طبيعتك لا تساعدك عليها، ونفرتك لا تزول منها، وإباؤك لا يفارقك من أجلها، وقشعريرتك لا تذهب من شناعة منظرها؛ وكذلك فاعلم أنك لا تصل إلى سعادة نفسك وكمال حقيقتك، وتصفية ذاتك، إلا بتنقيتها من دون بدنك، وصفائها من كدر جملتك، وصرفها عن جملة هواك، وفطامها عن إرتضاع شهوتك، وحسمها عن الضراوة على سوء عادتك، وردها عن سلوك الطريق إلى هلكتك وتلفك وثبورك واضمحلالك. فاسعد أيها الإنسان بما تسمع وتحس وتعقل، فقد أردت لحال نفيسة، ودعيت إلى غاية شريفة، وهيئت لدرجة رفيعة، وحليت بحلية رائعة، وتوجت بكلمة جامعة، ونوديت من ناحية قريبة.المقابسة الثانية
في علم النجوم
وهل هو خال من الفائدة دون سائر العلوم؟ وكيفية ارتباط السلفيات بالعلوياتهذه مقابسة دارت في مجلس أبي سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني، وعنده أبو زكريا الصميري، والنوشجاني أبو الفتح، والعروضي أبو محمد المقدسي، والقومسي، وغلام زحل ، وكل واحد من هؤلاء إمام في شأنه، وفرد في صناعته؛ سوى طائفة دون هؤلاء في الرتبة، وهم أحياء بعد؛ فاستخلصتها جهدي، ورسمتها في هذا الموضع، وقد كادت تضيع في جملة تعليق كثير ضاع إستعضت منه الحسرة والأسى. ومن حق العلم، وحرمة الأدب، وذمام الحكمة، أن يتحمل كل مشق دونها، ويصبر على كل شديد في اقتنائها وتحصيلها. ولا أنسب فضلاً إلى واحد منهم بعينه، لأن شديد في اقتنائها وتحصيلها. ولا أنسب فضلاً إلى واحد منهم بعينه، لأن الكلام بينهم كان يلتف ويلتبس، وكانت المباهاة والمنافسة يدخلان فيه، ويظهران عليه؛ وينالان منه؛ وهذا من ذوي الطبائع المختلفة معروف، ومن أصحاب التنافس معتاد، ولو استتب القول بين سائل ومسؤل لحكيت الحال مقرباً ومبعداً ومصوباً ومصعداً؛ ولكن الأمر على ما عرفتك، فكن عاذري عند خلل يمر، إن أبيت أن تكون شاكري عند صواب تظهر عليه؟ إن شاء الله تعالى. قيل: لم خلا علم النجوم من الفائدة والثمرة؟ وليس علم من العلوم كذلك؟ فإن الطب ليس على هذا، بل الناظر فيه والشادي منه، والكامل من أهله، يقصد بالطب استدامة الصحة ما دامت الصحة موجودة، وصرف العلة إذا كانت العلة عارضة، وكذلك النحو الذي قصد به الماهر فتق المعاني، وصحة الألفاظ، وتوخي الإعراب، واعتياد الصواب، ومجانبة اللحن، على حدود ما في غرائز العرب وطبائعها وسلائقها. وكلك الفقه الذي قصد به صاحبه إصابة الحكم، واقتضاب الفتيا، وإيجاب الحق، ورفع الخلاف، وإقماع الخصم، وحسم مواد التنازع، ورد أهله إلى الرضى والتسليم. وكذلك الشعر الذي منتهاه قائم في نفس صاحبه، ثابت في قريحته، يجيش به صدره، ويجود به طبعه، ويصح عليه ذوقه؛ من مدح مأمول، وترقيق غزل، وهجو مسيء، واستنزال كريم، وتوشية لفظ، وتحلية وزن، وتقريب مراد، وإحضار خدعة، واستمالة غرير، وضرب مثل، واختراع معنى، وانتزاع تشبيه؛ مع تصرف في الأعاريض بين، وقيام بالقوافي ظاهر وكذلك الحساب الذي نفعه ظاهر، ومحصوله حاضر، وفائدته عامة. ونتيجته منجذبة، وثمرته دانية، وغبه محمود، وجدواه موجودة، به صحت المعاملة، وقامت الدولة، وحرس الملك، وجبي المال، وأمن الغبن، وقام الديوان، وقوى السلطان، وقرت الرعية، واستفاضت السيرة، واستمرت القضية؛ هذا إلى أسرار فيه عجيبة، وغوامض ترجع إليه شريفة، وخواص لا توجد لغيره غريبة.