مقابسات نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
بذلك القدر المغفل، والقليل الذي لا يؤبه له، والكثير الذي لا يحاول البحث عنه، أمراً لم يكن في حساب الخلق، ولا فيما علموا فيه القياس واختلط بالتقدير والتوهم. قال: ولهذا يحكم هذا الحاذق في صناعته لهذا الملك، وهذا الماهر في علمه لهذا الملك، ثم يلتقيان فتكون الدائرة على أحدهما، مع شدة الدفاع، وصدق المصاع . هذا وقد حكم له بالغلب والظفر. قال في هذا الموضع النوشجاني: إنما يؤتى أحد الحاكمين لأحد الملكين، لا من جهة غلط في الحساب، ولا من قلة مهارة في العمل، ولكن يكون في طالعه أن يصيب في ذلك الحكم، ويكون في طالع ذلك الملك ألا يصيب منجمه في تلك الحرب؛ فمقتضى حاله وحال صاحبه يحول بينه وبين الصواب، ويكون الآخر مع صحة حسابه وحسن إدراكه، قد وجب في طالع نفسه وطالع صاحبه ضد ذلك، فيقع الأمر الواجب، ويبطل الآخر الذي ليس بواجب. وقد كان المنجمان من جهة العلم والحساب أعطيا الصناعة حقها، ووفيا ما عليهما فيها ووقفا موفقاً واحداً على غير مزية بينة؛ ولا علة قائمة قال أبو سليمان: ما أحسن هذا! وطالما يسكت عن هذه المسألة فانقضت عن جوابها؟ قالوا: ولولا هذه المشيئة المندفئة، والغاية المستترة، التي استأثر الله بها، لكان لا يعرض هذا الخطأ مع صحة الحساب ودقة النظر، وشدة الغوص وتوخي المطلوب، وتبع غلبة الهوى والميل إلى المحكوم له؛ وهذه البقية دائرة في أمور هذا الخلق، فاضلهم وناقصهم ومتوسطهم، وفي دقيقها وجليلها، وصعبها وذلولها؛ ومن كان له من نفسه باعث على التصفح والنظر والتخير والاعتبار، وقف على ما أومأت إليه عن كثب، وسلمه من غير منكر ولا صخب. ثم قيل: ولحكمة جليلة ضرب الله دون هذه العلل بالأسداد، وطوى حقائقه عن أكثر العباد، وذلك أن للعالم بما سيكون ويحدث ويستقبل، علم خلق للنفس، واقع عند العقل، فلا أحد إلا وهو يتمنى أن يعلم الغيب ويطلع عليه، ويدرك ما سوف يكون في غد، ويجد سبيلاً إليه، ولو دل السبيل إلى هذا الفن لرأيت الناس يهرعون إليه، ولا يؤثرون سبيلاً آخر عليه، لحلاوة هذا العلم عند الروح، ولصوقه بالنفس، وغرام كل أحد به، وفتنة كل إنسان فيه؛ فبنعمة من الله لم يفتح هذا الباب، ولا انكشف من دونه الغطاء، حتى يرتعي كل أحد روضه، ويلزم حده، ويرغب فيما هو أجدى عليه وأنفع له، أما عاجلاً فقد علمت أن علم ما يكون أحب إلى جميع الناس من كل فقه وكلام وأدب وهندسة وشعر وحساب وطب، لأن هذه رتبة إلآهية، وهي الفاصلة الكبرى. فطوى الله عن الخلق حقائق الغيب، ونشر لهم نبذاً منه، وشيئاً يسيراً يتعللون به، ليكون هذا العلم محروصاً عليه كسائر العلوم، ولا يكون مانعاً عن غيره. قال: ولولا هذه البقية التي فضحت الكاملين، وأعجزت القادرين، لكان تعجب الخلق من غرائب الأحاديث، وعجائب الضروب، وظرائف الأحوال، عبثاً وسفهاً، وتوكلهم على الله لهواً ولعباً. ثم قيل: وهذا يتضح بمثال، وليكن ذلك المثال ملكاً في زمانك وبلادك واسع الملك، عظيم الشأن، بعيد الصيت، شائع الذكر، معروفاً بالحكمة، مشهوراً بالحزامة، متصل اليقظة، قد صح عنه أنه يضع الخير في موضعه، ويوقع الشر في موقعه، عنده جزاء كل سيئة، وثواب كل حسنة، قد رتب لبريده، وأصلح الأولياء له، وكذلك نصب لجباية أمواله أقوم الناس بها، ويعاقب ويثيب، ويفقر ويغني، ويحسن ويسيء. وكذلك لعمارة الأرض أنهض الناس بها، وأنصحهم فيها! وشرف آخر بكتابته لحضرته، وآخر بخلافته ووزارته، في حضره وسفره. إذا نظرت إلى ملكه وجدته موزوناً بسداد الرأي، ومحمود التدبير وأولياؤه حواليه، وحاشيته بين يديه، وكل يخف إلى ما هو منوط به، ويبذل وسعه دونه. والملك يأمر وينهي، ويصدر ويورد، ويحل ويعقد، وينظم ويبدد، ويعد ويوعد، ويبرق ويرعد، ويقدم ويؤخر، ويخلع ويهب، وقد علم صغير أوليائه وكبيرهم، ووضيع رعاياه وشريفهم، ونبيه الناس وخاملهم، أن الرأي الذي يطلق بأمره كذا وكذا صدر من الملك إلى كاتبه، لأنه من جنس المكاتبة وعلائقها، وما يدخل في شرائطها ووثائقها. والرأي الآخر صدر إلى صاحب بريده، لأنه من أحكام البريد وفنونه وما يجري في كليته، والأمر الآخر ألقى إلى صاحب المعونة، لأنه من جنس ما هو مرتب له ومنصوب من أجله؛ والحديث الا الآخر صدر إلى القاضي، لأنه من باب الدين والحكم والقضاء. في كل هذا مسلم إليه ومعصوم به،