مقابسات نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
لا يفتات عليه في شيء، ولا يستبد بشيء دونه، فالأحوال على هذا كلها جارية على أذلالها وقواعدها في مجاريها، لا يزل منها شيء إلى غير شكله، ولا يرتقى إلى ما ليس من خليقته، وهكذا ما عدا جميع ما حددناه باسمه وحكيناه برسمه، فلو وقف رجل له من الحزم نصيب، ومن الفطنة قسط على هذا الملك العظيم، وعلى هذا الملك الجسيم، وسدد فكره، وحدد وهمه، وصرف ذهنه، وتصفح حالاً حالاً، وحسب شيئاً شيئاً، وقدر أمراً أمراً، وتأمل باباً باباً، وتخلل شيئاً شيئاً، ورفع سجفاً سجفاً، وتقفر وجهاً وجهاً، لأمكنه أن يعلم ما يتم له هذا النظر، ويسره هذا القياس، ويصدره هذا الحدس، ويقع عليه هذا الإمكان، لما سيعمله هذا الملك غداً، أو يسديه بعد غد، وما يتقدم به إلى شهر، وما يكاد يكون منه إلى سنة وسنين، لأنه على الأحوال ملياً؟ ويجلوها جلواً، ويقايس بينها قياساً، ويلتقط من الناس لفظاً لفظاً، ولحظاً لحظاً، ويقول في بعضها: يترك كذا وكذا، ويفعل كذا وكذا وهذا يدل على كذا وكذا، وإنما جرؤ هذه الجرأة على هذا الحكم والبت، لأنه قد ملك لحظ الملك ولفظه، وحركته وسكونه، وتعريضه وتصريحه، وجده وهزله وسجيته وتجعده، واسترساله، ووجومه ونشاطه، وانقباضه وانبساطه، وغضبه ومرضاته، ونادره ومعتاده، وسفره وحضره، وبشره وقطوبه، ثم يهجس في نفس هذا الملك يوماً هاجس، ويخطر بباله خاطر، فيقول: أريد أن أعمل عملاً، وأوثر أثراً، وأحدث حالاً لا يقف عليها أوليائي، ولا المطيفون بي، ولا المختصون بقربي. ولا المتعلقون بحبالي، ولا أحد من أعدائي والمتتبعين لأمري، والمحصين لأنفاسي، والمترقبين لعطاسي ونعاسي؛ ولا أدري كيف أقترحه، لأني متى تقدمت في ذلك بشيء إلى كل من يلوذ بي ويطيف بناحيتي، كان الأمر في ذلك نظير جميع أموري؛ وهذا هو الفساد الذي يلزمني تجنبه، ويجب على التيقظ فيه. فيقدح له الفكر الثاقب، والذكاء اللاهب، أنه ينبغي أن يتأهب للصيد ذات يوم فيتقدم بذلك ويذيعه ويطالب به، فيأخذ أصحابه وخاصته في أهبة ذلك وإعداد الآلة، فإذا تكامل ذلك له أصحر للصيد وتشوف له، وتطلبه في البيداء، وصمم على بعض ما يلوح له، وأمعن قبله، وركض خلفه جواده، وشدد في طلبه بداده، ونهى من معه أن يتبعه حتى إذا وغل في تلك الفجاج الخاوية، والمدارج المتنائية، وتباعد من متن الجادة، وواضح المحجة، صادف إنساناً فوقف عليه وحاوره وفاوضه، فوجده حصيفاً محصلاً، يتقد فهما، وينتقد إفهاماً، وقال له: أفيك خير؟ فقال: نعم، وهل الخير إلا في وعندي؟ وإلا معي؟ ألق إلى ما بدا لك وخلني وذلك؟ فقال له: إن الواقف عليك والمكلم لك، ملك هذا الإقليم، فلا ترع واهدأ ولا تقلق؟ فيكفر له عند سماع هذا ويقول: السعادة قيضتني لك ، والجد أطلعك علي، فيقول له الملك: إني أريد أن أصطفيك لأرب في نفسي، وأبلغ بك إن بلغت ذلك لي، وأريد منك أن تكون عيناً على نفسك زكية، وصاحباً لي نصوحاً، فقم لي بذلك بجهدك ووسعك، واطو سري عن مسانح فؤادك فضلاً عما خلا ذلك. فإذا بلغ منه غاية الوثيقة والتوكيد ألقى إليه عجرته وبجرته، ويعثه على السعي والنصح وتحري الرضى، ووصاه بما أحب وأحكمه وأزاح علته في جميع ما يتعلق المراد به، ولا يتم إلا بحضوره. ثم ثنى عنان دابته إلى وجه عسكره وأوليائه ولحق بهم، وتعلل بقية النهار في قضاء وطره من صيده. ثم عاد إلى سريره في داره، ومقره في ملكه. وليس عند أحد من رهطه وبطانته وغاشيته وحاشيته وخاصته وعامته، علم بما قد أسره إلى ذلك الكهل الصحراوي وبما حادثه فيه. والناس على سكناتهم وغفلاتهم حتى أصبحوا ذات يوم عن حادث عظيم، وأمر جسيم، وشأن هائل، وعارض محير. وكل عند ذلك تهول: ما أعجب هذا؟ من فعل هذا؟ متى تهيأ هذا؟ من ارتصد لهذا؟ من انتصب لهذا؟ وكيف تم هذا؟ هذا صاحب البريد وليس عنده منه أثر! وهذا صاحب المعونة وهو عن الخبرة به بمعزل! وهذا الوزير الأكبر وهو متحير! وهذا القاضي وهو متفكر! وهذا حاجبه وهو ذاهل! وكلهم عن الأمر الذي دهم مشدوه، وهو منه متعجب!... وقد قضى الملك مأربته، وأدرك حاجته، وأصاب طلبته، وبلغ غايته، وأنفذ رأيه، ونال أربه، كذلك ينظر هذا المنجم إلى زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، وإلى البروج وطبائعها، والرأس ولا ذنب وتقاطعهما، والهيلاج والكد خذاة، وإلى جميع ما دانى هذا وقاربه، وكان له فيه نتيجة وثمرة، فيحسب ويمزج، ويرسم ويقلب. عند أشياء كثيرة من سائر الكواكب التي لها حركات بطية، وآثار مطوية، فينبعث بما أغفله وأهمله وأضرب عنه ولم يتسع له، ما يملك عليه حسه وعقله وفكره ورويته، حتى لا يدري من حيث أتى، ولا من أين دهى، وكيف