مقابسات نسخه متنی
لطفا منتظر باشید ...
والثالث: الموت، وذلك أني ممنوع بتخيله عن كل استمتاع ولذة، أتخيله تخيلاً غالباً موحشاً، وربما غشي فؤادي من ذكره، وباشر صدي من كربه، ما يبلغ بي أني أتمناه لأستريح. والرابع: الباري عز وجل، وأنه في أعلى أرجاء الفكر، وفي الحد الأقصى من حديث النفس، لا يخلو من ذكره بالي وقلبي، ولا ينصرف عن مناغاته سري وجهري. على أنه لا صورة له عندي ولا عيار ولا تخيل. ولكن أبت علياؤه إلا شعوراً به، ووجداً ناله، وإعراباً عنه، وإيماء نحوه؟ فقال أبو سليمان: هذا خبر عن محل رفيع في الاستنارة، وشأن عجيب في حصول الطهارة، واتصال السفارة. وقد يظن من لا شرب له من هذه العين أن هذا وسواس يغلب من جهة المزاج إذا انحرف، والاعتدال إذا فقد، وليس كذلك، بل يوشك أن يكون مصطفى الغاية المتمناة، والنهاية المتواخاة. لأن الوالدة يلحظ منها المبدأ الحسي فيعشق لذلك. ومن سجايا النفس الفاضلة، ومن عادة الفطرة النقية والطينة الحرة، أن يكون المبدأ ملحوظاً فيها وعندها. وهذا كله للشعور بالمبدأ الذي هو الأول بالإطلاق، مع أحوال تتناصر وتتشابه في خلال هذه الفكرة، تتفلل بها النفس تعللاً مؤنساً مطرباً ودافعاً للوقت موجباً. قيل له: فلم لم تكن المنزلة دون الأم؟ فقال: الأم شأنها في الحس أعظم، وتدبيرها في المباشرة أظهر، وشفقتها بحسب ضعف قوتها أكثر، والأب هو الفاعل الحسي أيضاً، ولكن لا مباشرة له متصلة، ولا ولاية له متمادية. إنما هو أول فقط؛ والأم حاملة واضعة، وفاطمة ومرضعة، وحاضنة ومربية. فالكلفة عليها أغلظ وحسها للولد آلف، وهو بها أشعف. ثم قال: وأما تخيل الموت فلأن النفس تلحظ المعاد وتنزع إليه وتتقلب نحوه، لأن المعاد هو المحيط الذي منه أبدأ وإليه يجب أن يكون المنتهى؛ ولاستعجام الحال في الثاني ما فتئ قلبه في الفكر فيه، فيعتريه السهر الشديد والفكرة الغالبة، نفوراً من الشقاء وتحسراً على ما يكاد يقرب من الخير؛ ولا سبيل للنفس إلى هذه العاقبة إلا بتخيله البدن الذي هو السور المانع بينه وبين الخلاص من أسر هذا العالم وتدبيره بهذه الإستقصات. وهذه التخلية هي التي تسمى موتاً؛ وإنما هي تحول من مكان إلى مكان. فالفرق مصحوب، والخوف قائم، والظن مترجح، والأمل بين رياح عواصف. فكلما كان استعجام الحال أشد كان الأمل أضعف، وكلما كان الأمر أبين كان الشوق إليه أعظم. فأما ما يتعلق بحديث الناموس الآلهي الشارع لطرق الخيرات القائدة إلى غاية السعادات، فإنه أيضاً إنما يشتد ذلك ويكثر ويتضاعف، لأن للنفس الفاضلة مباحث كثيرة في شأن من هذا نعته وكميته. تلك المباحث هي مسالك الخير المأمول، ومراقي السر المعلوم والمجهول، فالشغف والفكر والنظر إنما يتضاعف في شأن هذا الشخص ليقبس من نوره، ويهتدي بأمره ونهيه، ويظفر بتنقية النفس من جهته بقوله وفعله ويمنه وبركته.فأما ما يرتقي عن هذه الحدود إلى الغاية الأولى والغاية القصوى، فذلك بطلب النفس وسكونها سكوناً لا قلق بعده، وطمأنينة لا يخطل بعدها. فبحق كانت هذه الخواطر سانحة، وهذه المشاعر فاتحة، وهذه الأواخر مشهودة، وهذه الأوائل موجودة. وبقدر تواليها وتعاقبها، وتوافيها وتقاربها، تكون نقطة الإنسان في اكتساب الآلهية الحسنة، والقنية الباقية، والأخلاق الآلهية من العلم والحمة، والجود والسماحة، والعفاف والهمة العالية، والشجاعة البينة، ولا خير والعدالة، والتقديس والنزاهة. فلا عدة للنفس الحكيمة، والطبيعة الكريمة، إلا هذه الفضائل التي هي ينابيع الخيرات، ومصابيح الغايات، وثمرات هذه الحياة. ثم قال: والله نسأل توفيقاً ندوم به على هذه المحجة البيضاء، واللقم الأفيح ثم نزداد بصيرة إلى التمسك بما عادت جدواه علينا عاجلاً وآجلاً، ببذل الغاية، وتقديم الحرص، ورفض الدنيا، ومجانبة قرناء البطالة وأبناء الهوى والشهوة، فإنه مجيب من دعاه، وكافي من استكفاه. وأقول: ما أحوجنا جميعاً إلى أن نهب أنفسنا لكسب هذا المجد، وتشييد هذا البناء، واقتناء هذا الذخر؟ فوالله الذي لا إله إلا هو لو تزينا بهذه المقابسة وحدها من هذا الشيخ كانت زينة لنا إلى آخر الأبد، فكيف ولها أخوات تعضدها، وأمهات تشهد بصحتها؟