جرى عند ابن سعدان يوماً كلام في الأخلاق، وحضره جماعة منهم عيسى بن ثقيف الرومي أبو السمح، وغير هؤلاء من مشايخ النصارى، وكانوا متحرمين بالفلسفة ومحبين لأهلها، وكان محصول ذلك: من أراد أن يكسب نفسه هيئة جميلة، وسجية محودة، بتهذيب الأخلاق وتقويمها وتطهير من الأدناس التي نعتريها، تقسمه أمران متباينان: أحدهما عسر ذلك وإباؤه، وتعذره والتواؤه، فيظن لذلك أن الأمر الذي يحاوله معجوز عنه، وأنه غير مقدور عليه، وأن الوصول إليه محال. والآخر استجابة ذلك وانقياده، ومطاوعته وإمكانه، فيظن ذلك أن الغاية التي يؤمها باجتهاده وقصده نظافة بدنه، وتدليك أعضائه، وتقليم أظافره، ونفي القذى عن عينيه، وتسريح شعره، وترجيل جمته، وتنقية أرفاغه وإزالة الدرن عن مغابنه بيده ويد غيره، والقيم في الحمام وغيره، وقدر على ذلك ووجد السبيل إليه سهلاً حتى يخرج من الحمام ناضر البدن نقي الأطراف قد اكتسب صاحبه صباحة ونظافة وضياء وخفة ظاهرة من ثقل ما كان راكبه وملازمه من الوسخ والدرن، فإن أراد بعد ذلك أن يحول فطس أنفه قفاً، وزرقة عينه حوراً، ولفف لسانه استمراراً، أراد المحال، وحاول المعجوز عنه، وقرف بسوء الاختيار، وحكم عليه ببوار السعي وبطلان الاجتهاد. ومع هذا فليس له أن ييأس من إصلاح ما هو مستطاع، ليأسه من إصلاح ما هو غير مستطاع. وليس له أيضاً أن يرجو إصلاح ما ليس بمستطاع، لاقتداره على إصلاح ما هو مستطاع. قطب هذه المذاكرة في الأخلاق، على أن تهذيبها وتطهيرها وردها إلى مقارها، وتسويتها وتعديلها من الصعب المتعسر، والممتنع المتعذر، لكنها مع هذا كله ممكنة من نفسها في أشياء خاصة، وفي مواضع معلومة، بعض الإمكان، وضامنة الاستحالة فيها بعض الضمان، فعلى هذا لا ينبغي أن يطمع في إصلاحها كل الطمع، ولا يقطع الرجاء عن إصلاح الممكن منها كل القطع.