برتراند رسل من الذين وصلوا إلى هذه النتيجة في فلسفة التحليل المنطقي، فقال في كتاب تاريخ الفلسفة في شرحه لنظرية أفلاطون بشأن العدالة واعتراض تراسيما خوس الذي قال لأفلاطون:ليست العدالة سوى منافع الأقوياء.قال رسل:هذا الرأي يضع المسألة الأساسية للأخلاق والسياسة، وهي هل هناك معيار لتمييز الحسن من القبيح غير هذا الذي يريده مستعمل هذه الكلمات؟وإذا لم يوجد مثل هذا المعيار، فلا يمكن اجتناب الكثير من النتائج التي استنتجها تراسيماخوس.لكن كيف يمكن القول بعدم مثل هذا المعيار؟وفي موضع آخر قال رسل:اختلاف أفلاطون وتراسيماخوس ذو أهمية بالغة، فأفلاطون يرى أنه يمكن .إثبات أن جمهوريته المطلوبة حسنة.ولا مريء ديمقراطي معتقد بعينيّة الأخلاق أن يقول:يمكن إثبات أن جمهورية أفلاطون سيئة، فيما سيقول الموافق لتراسيماخوس:ليس البحث في الإثبات ورده، وليس قابلاً للإثبات والرد أصلا.فالبحث هو في المحبة وعدمها فقط، فأنت تقول:هذا حسن، يعني أفضله، وهذا كالمسائل الذوقية.فمن يحب طعاما ما يقول عنه حسن، والآخر يحب غيره، فيقول عنه حسن.فأيما على حق؟كلاهما على حق، فكل منهما حكم على وفق محبته، فليس لدينا حسن مطلق نزن به الصواب والخطأ.ثم قال:ما أحببتم، فهو حسن لكم، وما لم تحبوا، فهو قبيح لكم.ولا يمكن الحكم على شيء بموجب حب فئة وبغض أخرى، إلا بالقوة.وهذا هو معنى قولهم:العدالة للأقوياء، فإذا اختلفت فئتان في حب شيء حملت أقواهما الأخرى ما تحب، فصار .ذلك قانونا.وخلاصة قول رسل هي أن مفهوم الحسن والقبح مبين للرابطة التي بين الباحث ومورد بحثه.فإذا كانت رابطة محبة عددنا الشيء حسنا، وإذا كانت رابطة بغض عددناه سيئا، وإذا لم تكن رابطة محبة ولا رابطة بغض، لم يكن ذاك الشيء حسنا ولا سيئا.وكتبنا أن جواب رسل وهو أنه يجب أن نُحرز أوّلاً جذر المحبة، فتعرف لماذا يحب الإنسان هذا الشيء ولا يحب ذاك؟يحب الإنسان الشيء الذي يفيده ويصلح حياته، فالطبيعة تخف صوب كمالها، ولذا ترغم الإنسان بالإرادة والاختيار، وتملوءه شوقاً وميلاً وتعلقاً به .وهكذا تعبيه بمفهوم ما يجب وما لا يجب، والحُسن والقبح.ومثلما تُسرع الطبيعة إلى جهة كمال الفرد ومصلحته تسرع إلى كمال النوع ومصلحته، فليس كمال الفرد بمعزل عن كمال النوع، وإنما هو مرتبط به إرتباطا وثيقا.ولهذا تبعث الطبيعة الجميع على حب أشياء يتحقق بها كمال النوع.وهذه المحبوبات متشابهة دائمة كلية مطلقة، وهي معيار المحاسن والمساوي.والعدالة والقيم الأخلاقية كلها من الأمور التي تراها الطبيعة من مصالح النوع وتسرع إليها، وتثير بالأعمال الاختيارية شوقاً إليها في نفوس الجميع.فتحصل في النفس سلسلة مما يجب ومما لا يحب بصورة أحكام إنشائية.فلا ضرورة أن يكون لنا معيار كلي في الأخلاق، وهذا الحسن والقبح من قبيل البياض و السواد والتدوير والتربيع والتكعيب ندعوه الأمور العينية.والأصل الذي التفت إليه رسل من (أنا أحب) هو أنه عنوان لفرد يفكر بمنافعه المادية والجسمية فقط.ولم يلتفت إلى أنه أصل لفرد يحس بكرامة أغلى من روحه، ولا إلى أنه أصل لفرد يحب مصالح النوع.وسنذكر هنا فرضين أو ثلاثة.
في البدء يجب أن نحقق في مرحلتين:
الأولى أن ننظر هل يوجد في وجدان الأفراد عدّة أحكام مشتركة ودائمة، أو لا؟.وهذه صغرى يجب الحصول عليها من التجربة.يعني علاوة على الحسن والقبح الموقت والجزئي والفردي المقطوع بوجوده هل يوجد في وجدان أولئك سلسلة مسائل تتوحد إزاءها نظراتهم؟أي هل هناك ما ليس فيه جنبة ذاتية كالذوق الشخصي يمكن الحكم على أساسه على الرغم من البواعث الشخصية والمقتضيات الفردية؟يمكن القول:لا أعلم تحليل المطلب، لكني أعلم أنني وجميع الناس نحكم بأن الصدق حسن بذاته، وهذا حكم كلي.أو نحكم بأن جزاء الإحسان بالإحسان حسن، وهذا الحكم فيما وراء المصالح الفردية، حتى إذ قيل إن رجلا جازى من أحسن إليه بالإحسان قبل ألف عام حظي بمدحنا له وثنائنا عليه.وإذا قيل:إن رجلاً قابل المعروف بالمنكر في الماضي السحيق، حظي بذمنا واحتقارنا.ولا يستطيع أحد إنكار أن ها هنا نوعين من العمل:أحدهما جدير بالمدح وهو ذو قيمة.والآخر حقيق بالذم ولا قيمة له.ولو جرد الإنسان ذهنه، ونظر إلى الفعلين والفاعلين، فوضع مثلا أبا ذر ومعاوية أحدهما إزاء الآخر ليحكم عليهما، لرأي معاوية قد أغدق كل شيء مسخراً لأبي ذرّ وزيّن له كل شيء من أجل أن يرتبط به، إلا أنه أبى إباءً كريماً ولم يحد عن مبادئه التي هي إنسانية.هنا لا بد للمرء من الاعتزاز بأبي ذر والاشمئزاز من معاوية.ويمكن النظر بذهن مجرد إلى جومبي ولو محباً، فلا تختلف النتيجة عن سابقتها.والنكتة الأولي هي أننا لا شأن لنا بمن حللوا وقالوا:كل ما يجب وما لا يجب يعود إلى الاعتبار والحب.فهذا أمر حسن ومحفوظ عليهم.وما نريده نحن بالدرجة الأولى هو هل بين الناس أحكام مشتركة؟إذا كانت -وهي كائنة_ تتبعناها بالدرجة الثانية، لنرى على ما قالوه قابل للتوجيه، أو أنه ليس كذلك حتى على وفق ما قاله السيد الطباطبائي ورسل وأمثالهما؟.قلنا:لدينا نوعان هما:ما يجب، وما لا يجب، وهما فرديان جزئيان نواجههما يومياً من قبيل يجب أن أتناول هذا الطعام، وأن ألبس ذاك القميص.وهما أيضا كليان، وقد ذكر مثالهما. والآن ما جذر الحسن والقبيح الكليين؟وما مبناهما بعد أن رفضنا قول المتكلمين بأنهما صفتان عينيتان، وأن الحسن والقبح ذاتيان في الأشياء؟كيف يوجه الحسن والقبح بعدما قلنا في النهاية:إنهما رابطة بين الإنسان والشيء؟هناك ثلاثة توجيهات:الأول هو أن للإنسان أهدافا لسد حاجاته الذاتيه، فإذا جاع، وُجد له هدف هو أن يطعم، وأمثال ذلك.وللإنسان أهداف أخرى، وهي الأهداف النوعية، وهي أن يحب الشيء لا من أجل نفسه، وإنما من أجل الآخرين.فيحب أن يرتوي غيره ويشبع كما يحب لنفسه، هكذا خلق الله الإنسان.وإذا قبلنا هذا التوجيه، إختل رأي السيد الطباطبائي .الذي قال:إن جهاز الإنسان الحِسِّي مطابق لجهازه الطبيعي والتكويني.يعني كلما تحركت طبيعته الفردية نحو شيء ما كان جهازه الحسي وهدفه في خدمتها.وهو يرى الاستخدام أصلاً عاماً ضرورياً.والتوجيه المذكور آنفا يخالف قوله، فعلى وفق هذا التوجيه يكون العمل اعتياديا ومبتذلا إذا عاد على عامله، ويكون متعالياً وكريماً إذا عاد على الآخرين.فالغيرية ملاك الرفعة، والذاتية ملاك الضعة.فإذا كان العمل من أجل النفس، لم يكن ذا شأن.وإذا كان من أجل الناس بما هم ناس، تعلق بهم هم، وكان أخلاقيا.فمعيار الأخلاقية هو العمومية، ومعيار غير الأخلاقية هو الخصوصية.فالعمومية تضفي على الفعل قيمة مع أنه لا يختلف عن الفعل الذاتي.إذن صحيح أن الحسن هو ما أحب، ولكني أحب حيناً لنفسي، وحيناً لغيري.وما أحبه لغيرة يخرج من البعضية إلى الكلية قهراً، ويصير عاماً دائماً أخلاقياً، لأنه ينبع من حب الخير للآخرين.وهذا أصل كلي ودائم.
الأخلاق كلية ثابتة
وهذا التعريف للأخلاق يوجّه أشياء من قبيل الكذب ابتغاء مصلحة.لماذا الصدق حسن؟لأن فيه الخير العام، ولو كان فيه مفسدة لكان قبيحاً.فالصدق بما هو صدق ليس حسناً، ولكنه حسن لخدمته الآخرين، فملاك حسنه الأصلي هو هذه الخدمة العامة.فلو ترتب عليه ضر الآخرين كان قبيحاً.وهذا يعني أن الأخلاق اجتماعية الطابع، وهو ما يقال هذه الأيام.وعلى وفق هذا التوجيه نصل إلى أصل أخلاقي كلي خالد تتغير مصاديقه وهو ثابت.والفرق كبير بين تغير الأصل وتغير مصاديقة.ومدار البحث هو هل الأصول الأخلاقية ثابتة أولا؟وعلى هذا التوجيه نرد جميع الأخلاق نرد جميع إلى أصل واحد ثابت دائم هو خدمة الآخرين.سؤال:هذا الأصل في الواقع يشبه مصطلحاً اصطلحنا عليه أو عقداً عقدناه، ففرضنا أن الأخلاق لخدمة الآخرين، ثم قلنا:إنها كلية وثابتة.ألا يمكن لامرئ أن يفرض أن الأخلاق لخدمة النفس، ثم يقول أيضا:هذا أصل كلي وثابت؟.جواب:غفل السائل عن المقدمة الأولى. قلنا:لدينا أمور يحكم عليها الجميع حكماً واحداً، وكلهم يرونها ذات قيمة.وخدمة الآخرين أمر أنظر إليه النظرة التي تنظرونها .أنتم إضافة إلى أني أمراً سامياً كريماً فوق المصالح الخاصة تماماً كما ترونه أنتم.ثم قلنا:كيف يكون هذا الأصل كلياً والحسن والقبح ناشئا من الحب والكره وهذان متغيران مختلفان أبداً؟هذا الكلام يصح إذا كان الحب والكره ذاتيين على ما قال رسل وما يستفاد من كلام السيد الطباطبائي، ولكن ما المانع أن يكون الإنسان قد فطر على غايتين؟.سؤال:لفظ الآخرين الوارد في التعريف مبهم، والظاهر أنه لا يعمُّ الآخرين مطلقاً، فالجندي الذي يقاتل من أجل الأجانب يخدم الآخرين، لكن عمله ليس أخلاقيا.جواب:لم نقل:إن الآخرين يعني أيا كان، بل قصدنا نوع الإنسان، يعني العمل الذي يعود على الناس بالخير، لا الذي يعود على هذا بالنفع وعلى ذاك بالضر.فنحن لدينا نفس واحدة بإنسان معيّن.ولدينا أسرة تشمل المتعلقين بإنسان ما تعلقا قرابيا، وكل جبار محسن إلى أسرته عادل رؤوف فيهم.وهنا يجد مفهوم النفس توسعة له.والعمل عندما يكون أخلاقيا يجتاز حدود النفس إلى الناس عامة، وما أسعد صاحبه إذا اجتاز دائرة الناس أيضا، فكان الله!وكلما كسر العمل طوق النفس، ومضى إلى دائرة أوسع كان أخلاقيا.وهذا الرأي تنال منه نظرية السيد الطباطبائي التي لا تقبله بسهولة، فأصل الطباطبائي لا يمكن اجتيازه بسرعة.ولا يستطيع القائل بعدم الانسجام بين جهاز الإدراك وجهاز الطبيعة الفردية عبوره.فطبيعة الإنسان الفردية تتحرك إلى جهة، وطبيعته الإدراكية تتحرك إلى جهة أخرى، وتسعى إلى الكمال النوعي من غير عبءٍ بالكمال الفردي.وجهاز الإدراك الذي هو في خدمة الجهاز الطبيعي ويجب أيضا أن يكون كذلك- هو في خدمة النوع من دون ارتباط بالفرد ومصالحه.سؤال:هل خدمة النوع جزء من طبيعة الإنسان على ما قيل؟.جواب:لا، ليست خدمة النوع جزءً من طبيعة الفرد، لكن الفرد يحس بلذة حين يحسن إلى الآخرين، وليست هذه اللذة سُدى، لأنه لا يمكن الإلتذاذ إذا لم تبلغ الطبيعة الفردية الكمال.ولأبي علي كلام لطيف هو أن الإنسان إذا أدرك اللذة، فليس لأن الطبيعة ذات جريان وإحساس وإنما لأن هذه الطبيعة تنشد الكمال، وإذا تبلغه، فإن علم الشيء علماً حضورياً كان باعثاً على الإحساس باللذة.وهذا يعني عبور الطبيعة من القوة إلى الكمال.وإن علم الشيء علماً حضورياً هو عين اللذة، يعني نيل اللذة الذي هو الكمال، وذلك عند اقتران هذا النيل بالإدراك.ولا يمكن للإنسان، يلتذ دون أن تبلغ الطبيعة الكمال.
الأنا الكلية
والنظرية الأخرى هي التي يلتزمها عدة من العصريين قائلين:لا يمكن أن يكون ما يريده الإنسان غير مرتبط بالأنا، وكل ما التذ به لا بد أن يعود على نفسه هو، لكنه ذو نفسين:فردية واجتماعية.فالإنسان من جهة نظر حياتية فرد يحسُّ بأنا واحدة هي الفردية الشخصية.والمسألة الأخرى التي قالها دوركهايم والآخرون، واستنبطها السيد الطباطبائي من القرآن الكريم إطلاع على رأي أولئك.وهذه المسألة هي أن المجتمع له شخصية، وشخصيته حقيقية لا اعتبارية، فتركيبه من الأفراد ليس اعتباريا.وليس الأفراد ذوو الأصالة هكذا.فالمجتمع له نوع خاص من التركيب، فهو يختلف عن .التركيب الطبيعي الذي تزول فيه مميزات العناصر.فهو مركب تركيباً معيناً لا نظير له، فكل أفراده يتمتعون باستقلالهم وإرادتهم، فكل منهم يحس بنوعين من الأنا إحداهما فردية، والأخرى جماعية.وعلى قول الباحثين الاجتماعيين، فإن المجتمع عرف نفسه في الفرد، يعني أن الجماعة يحس بوجودها في وجود الفرد.وللعرفاء قول شبيه بهذا، ولوليم جيمس قول شبهه مع اختلاف يسير.وبين نفوس العرفاء وحدة تقريبا، فهم يرون الأنا الواقعية هي الأنا الكلية، ويقولون:عندما يقول المرء أنا، ويتخيل نفسه منفصلا، فهو مشتبه.ويرجعون النفس الواقعية إلى الحق- تعالى- ولا يرون الأنا الفردية إلا تجليا لتلك النفس الواقعية.فكأن هناك روحا كلية في الواقع تتجلى في مختلف الأفراد، أي أن كل أنا ترجع إلى أنا واحدة.وقد توصل وليم جيمس إلى هذا المطلب بنوع من التجارب النفسية فقال:ترتبط ضمائر الأفراد في الباطن أحدها بالآخر دون إطلاع غالبا، فمن يزكي نفسه، يستطيع.أن يطّلع على تلك الضمائر عن طريق ارتباطها الداخلي بعضها ببعض، مثلها مثل آبار ارتبطت منابعها تحت الأرض وانفصلت مواردها فوق الأرض.والارتباط الحاصل ناشئ من اتصالها بالمنبع الإلهي.ولا يذهب علم الاجتماع إلى هذا، فهو يقول:إن الأفراد يكتسبون بعد التركيب واقعاً حضارياً هو واقع حقيقي، فيحس الإنسان أحيانا بأن نفسه ليست فردية، وإنما هي كلية، فيعمل حينئذ عملين:أحدهما من أجل أنا الفردية، والآخر من أجل أنا الجماعية في نفسه.وفي هذا نظريتان:اتكأت الأولى على وجود الإنسان واتخذته هدفا، فهو يعمل من أجل الأنا عملاً ومن أجل غيرها عملا.واتكأت النظرية الثانية على إحساس الإنسان بنوعين من الأنا، فهو يحس بالأنا الفردية، فيعمل من أجلها ويحس بالأنا الجماعية ويعمل من أجلها.فإذا حلت الأنا الجماعية حصل الاستنتاج السابق، وهو أن قيمة العمل الأخلاقي هي ألا يكون للأنا الفردية التي لا بد من عدها.فالأنا الجماعية شيء كلي دائم، وكل ما انبعث منها .أخلاقي، وما انبعث من غيرها ليس أخلاقيا.ويمكن أن تتغير مصاديق هذا لأصل مع أنه كلي دائم.وهناك رأي آخر، وهو أنه ليس بإمكان الإنسان أن يعمل دون ارتباط بذاته الخاصة، فعمله من أجل غيره دون ارتباط به غير ممكن.فللإنسان نوعان من الأنا هما التحتى والعليا، فكل أمرىء له درجتان هو في إحداهما مثل جميع الحيوان، وفي الأخرى هو ذو واقع علويّ.والعجب من عدم قول السيد الطباطبائي لهذا، مع أنه ينسجم مع أصوله كلها ومنها ما ذهب إليه في باب الأخلاق.فحين نقول طبيعة الإنسان إنما نقصد واقعه لا مظهره المادي.فهو ذو واقع وجودي يخدمه جهاز الإحساس لديه.وهذا الواقع الوجودي في درجة، وواقعه الحيواني في درجة، وواقعه الملكوتي الذي هو القسم الأصل في درجة أعلى من الدرجتين المذكورتين آنفا.فعندما يقال:إن طبيعة الإنسان تسرع إلى الكمال، فالمقصود هو طبيعته الحيوانية وواقعه الإنساني.وهو يحس بالأنا العليا في نفسه، بل يحس بما هو أعمق منها أيضا.فحين تتنازعه المقتضيات الحيوانية والإنسانية يميّز هذه من تلك بعقله، ويسعى بإرادته إلى تغليب المقتضيات التي ينتصر لها العقل.وقد يوفق في هذا الكفاح، وقد لا يوفق فيه، ففي الغذاء مثلاً يقتضي العقل نوعاً ومقداراً غير ما تقتضيه الشهوة، فإذا غلبته الشهوة انهزم فيه الإنسان، وإذا غلبها أحس بالظفر في نفسه في حين أنه لم ينتصر عليه أحد ولا انتصر على أحد.وإنما انتصر جانب من وجوده على جانب آخر منه، وفي الحالين يجب أن يحس بالظفر والهزيمة على حسب الظاهر فكلاهما حدثا في عرصة وجوده، ولكننا لا نراهما كذلك.فعند غلبة العقل يحس بالنصر، وعند غلبة الشهوة يحس بالهزيمة، وهذا لأن الأنا عنده عقلانية وإرادية، والجنبة الحيوانية عنده هي السفلى، وهو بمنزلة مقدمة.لواقعه الذي هو الجنبة السفلى التي هي نفسه وغيره في آن واحد.وإذا نظرنا إلى مثل هذه الأثنينيّة في وجود الإنسان، يكون توجيه الأصول الأخلاقية على هذا النحو.للإنسان كمالات بحسب الأنا الملكوتية، وهي كمالات واقعية، إلا إنشائية، لأن الإنسان ليس بدنا فقط، وإنما هو جسم وروح أيضا.والعمل المتناسب وكمال الإنسان المعنوي الروحي عمل علوي قيم، والعمل الذي لا يتلاءم وعلو الروح عمل اعتيادي ويعد تافها.وعلى هذا النحو نقبل الحسن والقبح اللذين قال بهما السيد الطباطبائي ورسل وسواهما.والبحث هنا أيُّ أنا نحبها التّحتى أم العليا؟فإذا كان المحبوب هو الأنا الفوقي، كان الحب أخلاقيا وذا قيمة، وإحساس الإنسان بالأخلاق ناشئ من هنا.وإذا يرى الإنسان جنبة من وجودة سامية والأعمال المرتبطة بها رفيعة ليس إعتباراً، بل لأنه يرى تلك الجنبة في وجوده أكمل وأقوى من غيرها. وكل الكمالات ترجع إلى هذا الوجود، وكل المناقص ترجع إلى عدمه.ولذا رد الصدق والصواب والإحسان والرحمة والخير وأمثالها إلى الأنا الأعلى في الإنسان.وقد قال الحكماء:إن الحكمة العملية مربوطة بالفعل الاختياري من ناحية الفضل والكمال، ويعيدون الأمر في النهاية إلى النفس، ويصرحون بأن لنفس الإنسان كمالين:نظري وعملي.واكتساب حقائق العالم كمال نظري، ومكارم الأخلاق كمال عملي للنفس ينميها ويوازن بينها بين الجسم، ويدعم ما لديها من كمال واقعي.وإذا أخذنا بهذا الرأي، وصلنا إلى أصل إسلامي كبير لم يقله الحكماء، وهو أن الإنسان يحس بالسمو بحكم ما لديه من شرف وكرامة ذاتيين وهما جنبة ملكوتيه ونفحة إلهية فيه من دون إنتباه.ويحسن بان هذا العمل أو الملكة مناسبة للشرف أو غير مناسبة، فإذا ناسبته وانسجمت معه، عدت خيرا وفضيله وإلا كانت رذيلة.وعلى نحو ما تدل الغريزة الحيوان إلى ما ينفعه وما .يضره، فإن لنفس الإنسان فيما وراء الطبيعة كمالات تناسبها طائفة من الأعمال والرغبات.وتوجه ما يجب وما لا يجب والحسن والقبيح هو أن الناس خلقوا متشابهين في الكمال، ولخلقهم متشابهين كان ما يحبون لوناً واحداً، وهكذا نظراتهم، يعني أنهم متشابهون في الكمال الصعودي والمعنوي على الرغم من اختلافهم في الأجسام والأماكن وتغيرهم في الحاجات البدنية، ولا بد أن تكون المحبوبات والطيبات والمساوي والمنكرات واحدة دائمة كلية.وبهذا تُعلّل الفضائل الاجتماعية وغيرها كالصبر والاستقامة.والنظريتان السابقتان تعلّل الأخلاق الاجتماعية فقط كالإيثار وإعانة الغير، ولكنهما لا تعللان الصبر والاستقامة خلافاً للنظرية الأخيرة التي تعلل الأصول الأخلاقية كافة.وبقبولنا هذا الأصل المبين لجميع المحاسن والمساوي وأنها ناشئة من ارتباط الشيء بكماله، فإننا نستكشف به إن هذه المحاسن والمساوي مشتركة كلية ودائمة.