الحجّ ملتقى سياسيّ
إنّ
كون الحجّ أمراً عبادياً أو مجسداً لأكثر العبادات لا ينافي أن يشتمل على بعد آخر
فيه حياة للمسلمين وقوام لعيشهم ، وإقامة لشؤونهم الاقتصادية والاجتماعية
والسياسية والعسكرية والحكومية ، وهذا ما نعبّر عنه بكون الحجّ ملتقى سياسياً
تجتمع فيه هذه الآثار الحيوية ، وهذا ما يدعمه أيضاً الذكر الحكيم ،
وتؤيده السنّة النبويّة وعمل المسلمين في القرون الإسلاميّة
الأُولى .
أمّا الآيات التي
ترمز إلى تلك الأبعاد ، فنكتفي منها بما يلي :
الف : قال سبحانه : {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ
مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا
}30 . والمُراد من
كونه مثابة كونه مرجعاً للناس والمسلمين عامّة ، ولأجل أنّ الحجّ عمل اجتماعي
يجب أن يخيّم عليه الأمن ويسيطر عليه السلام ، حتى يقوم الناس بعمل اجتماعي
لأهداف اجتماعية ، قال سبحانه : {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا
}31 ، وقال تعالى حاكياً عن خليله :
{رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا}32 .
فالحجّ بما أنّه
أمر اجتماعي وملتقى للشعوب المختلفة ، بحاجة إلى استتباب الأمن والهدوء حتى
يقوم كلّ إنسان وشعب ببيان فكرته ونظريته ولا يخاف من إنسان ولا دولة ،
ويتجلّى الحجّ كمنبر حرّ للمسلمين كلّهم ، وهذا ما نعبّر عنه بكونه عملاً
اجتماعياً .
وفي جانب ذلك
فالحجّ ملتقى ثقافي يلتقي فيه المفكّرون الكبار والعلماء في شتّى الحقول ،
فيقومون بعرض الاطروحات والتجارب على الصعيد الثقافي والعلمي والاقتصادي; كي تتعرف
كلّ طائفة على ما عند الأُخرى من الأفكار القيّمة والنظريات المفيدة ، فيؤدي
ذلك إلى التقاء الأفكار والاحتكاك بينها .
إذاً
الحجّ عمل اجتماعي وملتقى ثقافي وفي الوقت نفسه مؤتمر سياسي سنوي يجتمع فيه قادة
المسلمين ، فيتشاورون في مهام الأُمور بغية التنسيق والتعاون فيما
بينهم ، ولعلّ إلى تلك الجوانب الثلاثة يشير قوله تعالى :
{جَعَلَ
اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ}33 .
فسواء
كان القيام بمعنى القوام وما به حياة المسلمين ، أو كان بمعنى ضدّ
القعود ، فالآية تتضمن نكتة مهمّة وهي انّ كيان المسلمين معقود بناصية الحجّ
فيه يقومون وفي ظلّه قوام حياتهم ، فالآية نظير قوله سبحانه :
{وَلاَ تُؤْتُوا
السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِى جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً}34 .
فوصف سبحانه أموال
الناس بكونها قياماً لهم ، أي بها يقومون في الحياة ، أو
بها قوام حياتهم الاجتماعية ، فاقتران الآيتين يعرب عن
كون الحجّ ركناً في حياة المسلمين وبقاء كيانهم . ويشير أيضاً إلى تلك الجوانب
قوله سبحانه :
{لِيَشْهَدُوا
مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الاَْنْعَامِ}35 . فكانت الغاية من دعوة كلّ راجل وراكب إلى
الاجتماع في أيّام الحجّ خصوصاً في المواقف والمشاهد ، حيازة المنافع الكبيرة
التي يحتوي عليها الحجّ . فما جاء في الآية تعبير جامع يتضمّن كلّ نفع يرجع
إلى المسلمين في ذلك الملتقى ، ولا يصحّ لنا تخصيصه بالنفع المعنوي بإخراج
النفع المادّي ، أو تخصيصه بنفع دون نفع ، ففي ذلك الوفود إلى الله
سبحانه منافع كثيرة يصطادها المسلمون حسب قابلياتهم
وصلاحياتهم .
هذا
ما لخصّناه للقارئ الكريم من الذكر الحكيم ، وأمّا السنّة الشريفة فيكفي في
ذلك أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمر الإمام عليّاً (عليه السلام)
بأن يتلو آيات البراءة في يوم الحجّ الأكبر ، قال سبحانه : {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ
الْحَجِّ الاَْكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِىءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
وَرَسُولُهُ . . . . . .}
36 وهل يشك ذو مسكة في أنّ البراءة ورفع الأمان عن
المشركين وإمهالهم أربعة أشهر عمل سياسي قام به قائد الإسلام أيّام رسالته وازدهار
دعوته ، حتى يكون ذلك قوّة للمسلمين في الأجيال اللاحقة؟
هذا هو الإمام
الطاهر الحسين بن علي (عليهما السلام) أطاح بطاغية عصره يزيد بن معاوية ،
ففضحه بعرض جناياته وأعماله المخزية على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان في
موسم الحجّ في أرض منى ، وقد اجتمع تحت منبره قرابة ثمانمائة منهم ،
وأبان في خطابه موقف أهل البيت من الإسلام ، ثمّ ذكر مظالم الجهاز الأُموي
الحاكم ، وطلب من الجميع أن يحملوا خطابه وهتافه إلى إخوانهم وأوطانهم حتى
يقفوا على فداحة
الكارثة ، التي ألمّت بهم من جراء تسلّم بني أُميّة لمنصّة الحكم ، وقد
جاءت خطبته في كتب السير والتاريخ ، فمن أراد فليرجع
إليها .
وبعد
ذلك : إنّ
في سيرة المسلمين لدليلاً واضحاً على أنّ الحجّ ملتقى سياسي وراء كونه عملاً عبادياً ،
فانّ الاصلاحات الجذرية التي قام بها المفكّرون المسلمون قد انعقدت نطفها
في الأراضي المقدّسة وفي موسم الحجّ ، فحملوا الفكرة التي تبنّوها في جوار
بيت الله الحرام وفي ذلك الُمحتشد العظيم ، ثمّ غذّوها بفكرتهم وتجاربهم إلى
أن أُتيحت لهم الفرص لبناء مجتمع طاهر أو حكومة عادلة أو ثورة عارمة في وجه الطغاة
والظالمين ، وبذلك يتّضح أنّ الحجّ الإبراهيمي ليس مجرد طقوس وسنن يقوم بها
الفرد أو الجمع في أيّام معلومات ، بل فيه آية العبادة وشارة السياسة ،
وفيه منافع للمسلمين في عاجلهم وآجلهم ، فيجب على المسلمين احياء
هذه السنّة الكريمة الحجّ الحقيقي ، الذي وضع حجره الأساس إبراهيم الخليل (عليه
السلام) كلّ ذلك بفضل الحجّ وببركة ذلك الُمحتشد
العظيم .