و قال الفضيل يا ربي إنيلأستحيي أن أقول توكلت عليك لو توكلت عليك ما خفت إلا منك و لا رجوت إلا إياك.
عوتب بعض الزهاد على كثرة التصدق بماله فقال لو أراد رجل أن ينتقل من دار إلى دارما أظنه كان يترك في الدار الأولى شيئا.
قال بعض الملوك لبعض الزهاد ما لك لا تغشىبابي و أنت عبدي قال لو علمت أيها الملك لعلمت أنك عبد عبدي لأني أملك الهوى والهوى يملكك.
دخل متظلم على سليمان بن عبد الملك فقال يا أمير المؤمنين اذكر يومالأذان قال و ما يوم الأذان قال اليوم الذي قال تعالى فيه فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌبَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فبكى سليمان و أزال ظلامته.
سئل الفضيل بن عياض عن الزهد فقال يجمعه حرفان في كتاب الله لِكَيْلا تَأْسَوْاعَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ.
كتب يحيى بن خالد من الحبس إلىالرشيد ما يمر يوم من نعيمك إلا و يمر يوم من بؤسي و كلاهما إلى نفاد.
قيل لحاتم الأصم علام بنيت أمرك قال على أربع خصال علمت أن رزقي لا يأكله غيري فلم أهتم به وعلمت أن عملي لا يعمله غيري فأنا مشغول به و علمت أن الموت يأتيني بغتة فأناأبادره و علمت أني بعين الله في كل حال فاستحييت منه.
نظر بعض الصالحين إلى رجل يفحش في قوله فقال يا هذا إنما تملي على حافظيك كتاباإلى ربك فانظر ما تودعه.
كان يقال مثل الدنيا و الآخرة مثل ضرتين لبعل واحد إنأرضى هذه أسخط الأخرى.
قيل لبعضهم ما مثل الدنيا قال هي أقل من أن يكون لها مثل.
دخل لص على بعض الزهاد الصالحين فلم ير في داره شيئا فقال له يا هذا أين متاعك قالحولته إلى الدار الأخرى.
قيل للربيع بن خيثم يا ربيع ما نراك تذم أحدا فقال ما أناعن نفسي براض فأتحول من ذمي إلى ذم الناس إن الناس خافوا الله على ذنوب العباد وأمنوه على ذنوبهم.
قال عيسى بن موسى لأبي شيبة القاضي لم لا تأتينا قال إن قربتنيفتنتني و إن أقصيتني أحزنتني و ليس عندي ما أخافك عليه و لا عندك ما أرجوك له.
من كلام بعض الزهاد : تأمل ذا الغنى ما أشد نصبه و أقل راحته و أخس من ماله حظه و أشدمن الأيام حذره هو بين سلطان يتهضمه و عدو يبغي عليه و حقوق تلزمه و أكفاء يحسدونهو ولد يود فراقه قد بعث عليه غناه من سلطانه العنت و من أكفائه الحسد و من أعدائهالبغي و من ذوي الحقوق الذم و من الولد الملالة.
و من كلام سفيان الثوري : يا ابنآدم جوارحك سلاح الله عليك بأيها شاء قتلك. ميمون بن مهران في قوله تعالى وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ قال إنها لتعزيةللمظلوم و وعيد للظالم.
دخل عبد الوارث بن سعيد على مريض يعوده فقال له ما نمت منذ أربعين ليلةفقال يا هذا أحصيت ليالي البلاء فهل أحصيت ليالي الرخاء.
بعضهم وا عجباه لمن يفرحبالدنيا فإنما هي عقوبة ذنب.
ابن السماك: خف الله حتى كأنك لم تطعه قط و ارجه حتىكأنك لم تعصه قط.
بعضهم : العلماء أطباء هذا الخلق و الدنيا داء هذا الخلق فإذا كانالطبيب يطلب الداء فمتى يبرئ غيره.
قيل لمحمد بن واسع : فلان زاهد قال و ما قدرالدنيا حتى يحمد من يزهد فيها رئي عبد الله بن المبارك واقفا بين مقبرة و مزبلةفقيل له ما أوقفك قال أنا بين كنزين من كنوز الدنيا فيهما عبرة هذا كنز الأموال وهذا كنز الرجال.
قيل لبعضهم أتعبت نفسك فقال راحتها أطلب.
دخل الإسكندر مدينةفتحها فسأل عمن بقي من أولاد الملوك بها فقيل رجل يسكن المقابر فدعا به فقال مادعاك إلى لزوم هذه المقابر?
فقال أحببت أن أميز بين عظام الملوك و عظام عبيدهمفوجدتها سواء .
فقال هل لك أن تتبعني فأحيا شرفك و شرف آبائك إن كانت لك همة.
قال همتي عظيمة قال و ما همتك قال حياة لا موت معها و شباب لا هرم معه و غنى لا فقرمعه و سرور لا مكروه معه فقال ليس هذا عندي قال فدعني ألتمسه ممن هو عنده. مات ابنلعمر بن ذر فقال لقد شغلني الحزن لك يا بني عن الحزن عليك. كان يقال من هوانالدنيا على الله ألا يعصى إلا فيها و لا ينال ما عنده إلا بتركها.
و من كلام عبدالله بن شداد : أرى دواعي الموت لا تقلع و أرى من مضى لا يرجع
فلا تزهدن في معروف فإن الدهر ذو صروف كم من راغب قد كان مرغوبا إليه والزمان ذو ألوان من يصحب الزمان ير الهوان و إن غلبت يوما على المال فلا تغلبن عليالحيلة على كل حال و كن أحسن ما تكون في الظاهر حالا أقل ما تكون في الباطن مآلا.
كان يقال إن مما يعجل الله تعالى عقوبته الأمانة تخان و الإحسان يكفر و الرحم تقطعو البغي على الناس.
الربيع بن خيثم لو كانت الذنوب تفوح روائحها لم يجلس أحد إلىأحد.
قيل لبعضهم كيف أصبحت ? قال آسفا على أمسي كارها ليومي متهما لغدي. و قيل لآخر :لم تركت الدنيا قال أنفت من قليلها و أنف مني كثيرها و هذا كما قال بعضهم و قد قيلله لم لا تقول الشعر قال يأباني جيده و آبى رديئه.
بعض الصالحين : لو أنزل اللهتعالى كتابا أني معذب رجلا واحدا خفت أن أكونه أو أنه راحم رجلا واحدا لرجوت أن أكونه.
مطرف بن الشخير خير الأمور أوساطها و شر السير الحقحقة و هذا الكلام قد روي مرفوعا.
يحيى بن معاذ : أن لله عليك نعمتين في السراء التذكر و في الضراء التصبر فكن في السراء عبدا شكورا و في الضراء حرا صبورا.
دخل ابن السماك على الرشيد فقال لهعظني ثم دعا بماء ليشربه فقال له ناشدتك الله لو منعك الله من شربه ما كنت فاعلاقال كنت أفتديه بنصف ملكي قال فاشربه فلما شرب قال ناشدتك الله لو منعك الله منخروجه ما كنت فاعلا قال كنت أفتديه بنصف ملكي قال إن ملكا يفتدى به شربة ماء لخليقألا ينافس عليه.
قال المنصور لعمرو بن عبيد رحمه الله تعالى عظني قال بما رأيت أمبما سمعت ?
قال بما رأيت قال رأيت عمر بن عبد العزيز و قد مات فخلف أحد عشر ابنا وبلغت تركته سبعة عشر دينارا كفن منها بخمسة دنانير و اشتري موضع قبره بدينارين وأصاب كل واحد من ولده دون الدينار ثم رأيت هشام بن عبد الملك و قد مات و خلف عشرةذكور فأصاب كل واحد من ولده ألف ألف دينار و رأيت رجلا من ولد عمر بن عبد العزيزقد حمل في يوم واحد على مائة فرس في سبيل الله و رأيت رجلا من ولد هشام يسأل الناسليتصدقوا عليه.
حسان بن أبي سنان : ما شيء أهون من ورع إذا رابك شي ء فدعه.
مورق العجلي : لقد سألت الله حاجة أربعين سنة ما قضاها و لا يئست منها قيل و ما هي قال ترك ما لا يعنيني.
قتادة : إن الله ليعطي العبد على نية الآخرة ما يسأله من الدنيا ولا يعطيه على نية الدنيا إلا الدنيا.
من كلام محمد بن واسع : ليس في النار عذاب أشدعلى أهلها من علمهم بأنه ليس لكربهم تنفيس و لا لضيقتهم ترفيه و لا لعذابهم غاية وليس في الجنة نعيم أبلغ من علم أهلها بأن ذلك الملك لا يزول عنهم.
قال بعض الملوكلبعض الزهاد أذمم لي الدنيا قال أيها الملك هي الآخذة لما تعطي المورثة بعد ذلكالندم السالبة ما تكسو المورثة بعد ذلك الفضوح تسد بالأراذل مكان الأفاضل وبالعجزة مكان الحزمة تجد في كل من كل خلفا و ترضى بكل من كل بدلا تسكن دار كل قرنقرنا و تطعم سؤر كل قوم قوما.
و من كلام الحجاج و كان مع غشمه و إلحاده واعظابليغا مفوها خطب فقال اللهم أرني الغي غيا فأتجنبه و أرني الهدى هدى فأتبعه و لاتكلني إلى نفسي فأضل
ضلالا بعيدا و الله ما أحب أنما مضى من الدنيا بعمامتي هذه و لما بقي منها أشبه بما مضى من الماء بالماء .
و قال مالك بن دينار غدوت إلى الجمعة فجلست قريبا من المنبر فصعد الحجاج فسمعته يقولامرؤ زور عمله امرؤ حاسب نفسه امرؤ فكر فيما يقرؤه في صحيفته و يراه في ميزانهامرؤ كان عند قلبه زاجر و عند همه آمر امرؤ أخذ بعنان قلبه كما يأخذ الرجل بخطامجمله فإن قاده إلى طاعة الله تبعه و إن قاده إلى معصية الله كفه إننا و الله ماخلقنا للفناء و إنما خلقنا للبقاء و إنما ننتقل من دار إلى دار.
و خطب يوما فقالإن الله أمرنا بطلب الآخرة و كفانا مئونة الدنيا فليته كفانا مئونة الآخرة و أمرنابطلب الدنيا فقال الحسن ضالة المؤمن خرجت من قلب المنافق.
و من الكلام المنسوب إليه و أكثر الناس يروونه عن أمير المؤمنين (ع) أيها الناس اقدعوا هذه الأنفس فإنها أسأل شي ء إذا أعطيت و أبخل لشي ء إذا سئلتفرحم الله امرأ جعل لنفسه خطاما و زماما فقادها بخطامها إلى طاعة الله و عطفها بزمامها عن معصية الله فإني رأيت الصبر عن محارم الله أيسر من الصبر على عذاب الله .
و من كلامه أن امرأ أتت عليه ساعة منعمره لم يذكر فيها ربه و يستغفر من ذنبه و يفكر في معاده لجدير أن يطول حزنه ويتضاعف أسفه إن الله كتب على الدنيا الفناء و على الآخرة البقاء فلا بقاء لما كتبعليه الفناء و لا فناء لما كتب عليه البقاء فلا يغرنكم شاهد الدنيا عن غائب الآخرةو اقهروا طول الأمل بقصر الأجل.
و نقلت من أمالي أبيأحمد العسكري رحمه الله تعالى قال خطب الحجاج يوما فقال أيها الناس قد أصبحتم فيأجل منقوص و عمل محفوظ رب دائب مضيع و ساع لغيره و الموت في أعقابكم و النار بينأيديكم و الجنة أمامكم خذوا من أنفسكم لأنفسكم و من غناكم لفقركم و مما في أيديكملما بين أيديكم فكان ما قد مضى من الدنيا لم يكن و كان الأموات لم يكونوا أحياء وكل ما ترونه فإنه ذاهب هذه شمس عاد و ثمود و قرون كثيرة بين ذلك هذه الشمس التيطلعت على التبابعة و الأكاسرة و خزائنهم السائرة بين أيديهم و قصورهم المشيدة ثمطلعت على قبورهم أين الملوك الأولون أين الجبابرة المتكبرون المحاسب الله و الصراطمنصوب و جهنم تزفر و تتوقد و أهل الجنة ينعمون هم في روضة يحبرون جعلنا الله وإياكم من الذين إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّاوَ عُمْياناً. قال فكان الحسن رحمه الله تعالى يقول أ لا تعجبون من هذا الفاجريرقى عتبات المنبر فيتكلم بكلام الأنبياء و ينزل فيفتك فتك الجبارين يوافق الله فيقوله و يخالفه في فعله .
و الثانيمقابله في المعنى لا في اللفظ. أما الأول فكقوله تعالى فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيراً فالضحك ضد البكاء و القليل ضد الكثير و كذلك قوله تعالى لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ .
و من كلام النبي صخير المال عين ساهرة لعين نائمة .
و من كلام أميرالمؤمنين (ع) لعثمان أن الحق ثقيل مري ء و أن الباطل خفيف وبي ء و أنت رجل إن صدقتسخطت و إن كذبت رضيت .
و كذلك قوله (ع) لماقالت الخوارج لا حكم إلا لله كلمة حق أريد بها باطل .
و قال الحجاج لسعيد بن جبير لما أرادقتله ما اسمك فقال سعيد بن جبير فقال بل شقي بن كسير.
و قال ابن الأثير في كتابهالمسمى بالمثل السائر إن هذا النوع من المقابلة غير مختص بلغة العرب فإنه لما ماتقباذ أحد ملوك الفرس قال وزيره حركنا بسكونه.
و في أول كتاب الفصول لبقراط في الطبالعمر قصير و الصناعة طويلة و هذا الكتاب على لغة اليونان.
قلت أي حاجة به إلى هذاالتكلف و هل هذه الدعوى من الأمور التي يجوز أن يعتري الشك و الشبهة فيها ليأتيبحكاية مواضع من غير كلام العرب يحتج بها أ ليس كل قبيلة و كل أمة لها لغة تختصبها أ ليس الألفاظ دلالات على ما في الأنفس
منالمعاني فإذا خطر في النفس كلام يتضمن أمرين ضدين فلا بد لصاحب ذلك الخاطر سواء أكان عربيا أم فارسيا أم زنجيا أم حبشيا أن ينطق بلفظ يدل على تلك المعاني المتضادةو هذا أمر يعم العقلاء كلهم على أن تلك اللفظة التي قالها ما قيلت في موت قباذ وإنما قيلت في موت الإسكندر لما تكلمت الحكماء و هم حول تابوته بما تكلموا به منالحكم. و مما جاء من هذا القسم من المقابلة في الكتاب العزيز قوله تعالى في صفةالواقعة خافِضَةٌ رافِعَةٌ لأنها تخفض العاصين و ترفع المطيعين. و قوله تعالى فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُمِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ. و قوله أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَىالْكافِرِينَ. و من هذا الباب :
قول النبي (ص) للأنصارإنكم لتكثرون عند الفزع و تقلون عند الطمع .
و مما جاء من ذلك في الشعر قول الفرزدقيهجو قبيلة جرير :
يستيقظون إلى نهيق حميرهم ** و تنام أعينهم عن الأوتار
و قال آخر :
فلا الجود يفني المال و الجد مقبل ** و لا البخل يبقي المال و الجد مدبر
و قال أبو تمام :
ما إن ترى الأحساب بيضا وضحا ** إلا بحيث ترى المنايا سودا
و كذلك قال من هذه القصيدة أيضا :
شرف على أولى الزمان و إنما ** خلق المناسبما يكون جديدا
و أما القسم الثاني من القسم الأول و هومقابلة الشي ء بضده بالمعنى لا باللفظ فكقول المقنع الكندي :
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى ** و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
فقوله إن تتابع لي غنى في قوة قوله إنكثر مالي و الكثرة ضد القلة فهو إذن مقابل بالمعنى لا باللفظ بعينه. و من هذاالباب قول البحتري :
تقيض لي من حيث لا أعلم النوى ** و يسري إلي الشوق من حيث أعلم
فقوله لا أعلم ليس ضدا لقوله أعلم لكنهنقيض له و في قوة قوله أجهل و الجهل ضد العلم. و من لطيف ما وقعت المقابلة به منهذا النوع قول أبي تمام :
مها الوحش إلا أن هاتا أوانس ** قنا الخط إلا أن تلك ذوابل
فقابل بين هاتا و بين تلك و هي مقابلة معنوية لا لفظية لأن هاتا للحاضرةو تلك للغائبة و الحضور ضد الغيبة.
و أما مقابلة الشي ء لما ليس بضده فإما أن يكونمثلا أو مخالفا.
و الأول على ضربين مقابلة المفرد بالمفرد و مقابلة الجملةبالجملة. مثال مقابلة المفرد بالمفرد قوله تعالى نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْأَنْفُسَهُمْ و قوله وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً هكذا قال نصر اللهبن الأثير. قال و هذا مراعى في القرآن الكريم إذا كان جوابا كما تقدم من الآيتين وكقوله وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها و قوله مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِكُفْرُهُ. قال و قد كان يجوز أن يقول من كفر فعليه ذنبه لكن الأحسن هو إعادة اللفظفأما إذا كان غير جواب لم تلزم فيه هذه المراعاة اللفظية بل قد تقابل اللفظة بلفظةتفيد معناها و إن لم تكن هي بعينها نحو قوله تعالى وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ماعَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فقال يفعلون و لم يقل يعملون. و كذلك قوله تعالى فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ و لم يقل قالوا لا تفزع. و كذلكقوله تعالى إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ و لم يقل كنتم تخوضون و تلعبون.
قال و نحو ذلك من الأبيات الشعرية قول أبي تمام :
بسط الرجاء لنا برغم نوائب ** كثرت بهن مصارع الآمال
فقال الآمال عوض الرجاء قال أبو الطيب :
إني لأعلم و اللبيب خبير ** أن الحياة و إن حرصت غرور
فقال خبير و لم يقل عليم. قال و إنماحسن ذلك لأنه ليس بجواب و إنما هو كلام مبتدأ.
قلت الصحيح أن هذه الآيات و هي قولهتعالى نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ و ما شابهها ليست من باب المقابلةالتي نحن في ذكرها و أنها نوع آخر و لو سميت المماثلة أو المكافأة لكان أولى والدليل على ذلك أن هذا الرجل حد المقابلة في أول الباب الذي ذكر هذا البحث فيهفقال إنها ضد التجنيس لأن التجنيس أن يكون اللفظ واحدا مختلف المعنى و هذه لا بدأن تتضمن معنيين ضدين و إن كان التضاد مأخوذا في حدها فقد خرجت هذه الآيات من بابالمقابلة و كانت نوعا آخر. و أيضا فإن قوله تعالى وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنامَكْراً ليس من سلك الآيات الأخرى لأنه بالواو و الآيات الأخرى بالفاء و الفاءجواب و الواو ليست بجواب.
و أيضا فإنا إذا تأملنا القرآن العزيز لم نجد ما ذكرههذا الرجل مطردا قال تعالى أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى وَ ماعَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَ هُوَ يَخْشى فَأَنْتَعَنْهُ تَلَهَّى فلم يقل في الثانية و أما من جاءك يسعى و هو فقير. و قال تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُلِلْيُسْرى وَ أَمَّا مَنْ
بَخِلَ وَ اسْتَغْنى وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى فقابل بين أعطى و بخل و لم يقابلبين اتقى و استغنى و مثل هذا في القرآن العزيز كثير و أكثر من الكثير.
و قد بانالآن أن التقسيم الأول فاسد و أنه لا مقابلة إلا بين الأضداد و ما يجري مجراها. وأما مقابلة الجملة بالجملة في تقابل المتماثلين فإنه إذا كانت إحداهما في معنىالأخرى وقعت المقابلة و الأغلب أن تقابل الجملة الماضية بالماضية و المستقبلةبالمستقبلة. و قد تقابل الجملة الماضية بالمستقبلة فمن ذلك قوله تعالى قُلْ إِنْضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِيإِلَيَّ رَبِّي فإن هذا تقابل من جهة المعنى لأنه لو كان من جهة اللفظ لقال و إناهتديت فإنما أهتدي لها.
و وجه التقابل المعنوي هو أن كل ما على النفس فهو بهاأعني كل ما هو عليها وبال و ضرر فهو منها و بسببها لأنها الأمارة بالسوء و كل مالها مما ينفعها فهو بهداية ربها و توفيقه لها. و من ذلك قوله تعالى أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً فإنه لم يراع التقابل اللفظي و لو راعاه لقال و النهار ليبصروا فيه و إنماالمراعاة لجانب المعنى لأن معنى مبصرا ليبصروا فيه طرق التقلب في الحاجات.
و أما مقابلة المخالف فهو على وجهين.
أحدهما أن يكون بين المقابل و المقابل نوع مناسبة وتقابل كقول القائل :
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ** و من إساءة أهل السوء إحسانا
فقابل الظلم بالمغفرة و هي مخالفة له ليست مثله و لا ضده و إنما الظلم ضدالعدل إلا أنه لما كانت المغفرة قريبة من العدل حسنت المقابلة بينها و بين الظلم ونحو هذا قوله تعالى أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ فإن الرحمةليست ضدا للشدة و إنما ضد الشدة اللين إلا أنه لما كانت الرحمة سببا للين حسنتالمقابلة بينها و بين الشدة. و كذلك قوله تعالى إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْوَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا فإن المصيبة أخص من السيئة فالتقابل هاهنامن جهة العموم و الخصوص.
الوجه الثاني ما كان بين المقابل و المقابل بعد و ذلك ممالا يحسن استعماله كقول امرأة من العرب لابنها و قد تزوج بامرأة غير محمودة :
تربص بها الأيام عل صروفها ** سترمي بها في جاحم متسعر
فكم من كريم قد مناه إلهه ** بمذمومة الأخلاق واسعة الحر
فمذمومة ليست في مقابلة واسعة و لو كانتقالت بضيقة الأخلاق كانت المقابلة صحيحة و الشعر مستقيما . و كذلك قول المتنبي :
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها ** سرور محب أو مساءة مجرم
فالمقابلة الصحيحة بين المحب و المبغضلا بين المحب و المجرم.
قلت إن لقائل أن يقول هلا قلت في هذا ما قلت في السيئة والمصيبة أ لست القائل إن التقابل حسن بين المصيبة و السيئة لكنه تقابل العموم والخصوص و هذا الموضع مثله أيضا لأن كل مبغض لك مجرم إليك لأن مجرد البغضة جرمففيهما عموم و خصوص.
بل لقائل أن يقول كل مجرم مبغض و كل مبغض مجرم و هذا صحيحمطرد .
حيدي حياد كلمة يقولها الهارب الفار وهي نظيرة قولهم فيحي فياح
أي اتسعي و صمي صمامللداهية و أصلها من حاد عن الشي ء أي انحرف و حياد مبنية على الكسر و كذلك ما كانمن بابها نحو قولهم بدار أي ليأخذ كل واحد قرنه و قولهم خراج في لعبة للصبيان أياخرجوا. و الباء في قوله بأضاليل متعلقة بأعاليل نفسها أي يتعللون بالأضاليل التيلا جدوى لها. و السهم الأفوق المكسور الفوق و هو مدخل الوتر و الناصل الذي لا نصلفيه يخاطبهم فيقول لهم أبدانكم مجتمعة و أهواؤكم مختلفة متكلمون بما هو في الشدة والقوة يوهي الجبال الصم الصلبة و عند الحرب يظهر أن ذلك الكلام لم يكن له ثمرة.تقولون في المجالس كيت و كيت أي سنفعل و سنفعل و كيت و كيت كناية عن الحديث كماكني بفلان عن العلم و لا تستعمل إلا مكررة و هما مخففان من كية و قد استعملت علىالأصل و هي مبنية على الفتح و قد روى أئمة العربية فيها الضم و الكسر أيضا. فإذاجاء القتال فررتم و قلتم الفرار الفرار. ثم أخذ في الشكوى فقال من دعاكم لم تعزدعوته و من قاساكم لم يسترح قلبه دأبكم التعلل بالأمور الباطلة و الأماني الكاذبةو سألتموني الإرجاء و تأخر الحرب كمن يمطل بدين لازم له و الضيم لا يدفعه الذليل ولا يدرك الحق إلا بالجد فيه و الاجتهاد و عدم الانكماش. و باقي الفصل ظاهر المعنى.
و قوله القوم رجال أمثالكم مثل قول الشاعر :