توابون

ابراهیم البیضون

نسخه متنی -صفحه : 20/ 18
نمايش فراداده

التقدم نحو الشام

بعد يوم وليلة من الابتهالات والتضرع حول قبر الحسين(1) مستغفرين الله وطالبين اليه أن يمنحهم نعمة الشهادة، غادر التوابون كربلاء عبر الفرات الى الانبار ومنها الى القيارة وهيت. ومن هذه الاخيرة كتب سليمان بن صُرد الى أمير الكوفة عبد الله بن يزيد جواباً على رسالته كما سبق ان أشرنا. ولقد تجنب التوابون كما هو واضح السير عبر الصحراء، واتخذوا طريق الجزيرة. ولعل غايتهم من وراء ذلك كانت تزويد جيشهم بقوات اضافية من الجزيرة وبلاد الشام، حيث كانت تتواجد المعارضة القيسية بزعامة الكلابيين أصحاب قرقيسيا(2). خاصة وأن بعض العناصر التوابية تراجعت الى الكوفة(3)

____________

(1) ابن الاثير : 4/75.

(2) البصيرة حالياً في سوريا، عند مصب الخابور على الفرات.

(3) ابن كثير : 8/252 - 253.

[141 ]

بعد أن فتر حماسها وأدركها الخوف عند تواتر الاخبار عن جيش كبير للامويين زاحف من دمشق، فآثرت السلامة والعودة. ويبدو ان عددها كان محدوداً فلم يؤثر على الخطة العامة للتوابين. ولكن هذا لم يمنع حاجة هؤلاء الملحّة الى المساعدات المادية والعسكرية لمجابهة نظام راسخ في دمشق وجيوش على مستوى رفيع من التنظيم. ولهذا جرت اتصالات بين سليمان بن صُرد وبين زفر بن الحارث الكلابي صاحب قرقيسيا عند اقتراب التوابين من أبواب المدينة وكان المسيّب بن نجبه، نائب سليمان والرجل القوي(1) في الحركة رسول سيده الى الامير الكلابي(2). وكان هذا الاخير قد أمر باغلاق المدينة تحسباً للظروف، فلما قابله المسيّب وعرّفه بنفسه وشرح له أبعاد تحركهم هذا، أبدى تعاطفاً ملحوظاً معهم واستعداداً للتجاوب مع ما يطلبونه من مساعدات، دون أن ينسى تسويغ موقفه باغلاق الابواب في وجههم : «انا لم نغلق ابواب هذه المدينة الا لنعلم ايانا تريدون ام غيرنا، وما بنا عجز عن الناس وما نحب قتالكم وقد بلغنا عنكم صلاح وسيرة جميلة»(3).

____________

(1) الطبري : 7/74.

(2) الطبري : 7/72.

(3) ابن الاثير : 4/75.

[142 ]

خرج موكب التوابين من قرقيسيا مزوداً بما يلزمه من احتياجات اقتصرت على بعض المواد الغذائية، لان زفر رغم تعاطفه معهم، ورغم عداوته الشرسة للامويين(1)، لم يمدهم بالمتطوعين ربما لانه وجد في حركتهم من المغامرة والتهور، ما يجعل أي فرصة للنجاح معها مستحيلة، او ربما لخروجه منذ أمد غير بعيد من حرب مدمرة مع الامويين في مرج راهط. ولهذا لم يرد استنفاذ طاقاته مرة أخرى بدون جدوى.

وفي اثناء ذلك، وفي الوقت الذي كان يواكب فيه الزعيم الكلابي جماعة التوابين خارج المدينة(2) حملت اليه استخباراته معلومات غير سارة عن وجود عبيد الله بن زياد في (الرقّه) على رأس جيش ضخم وبصحبته خمسة من كبار قادة الامويين وأشد أعداء الحزب الشيعي ضراوة وهم : الحصين بن نمير السكوني، شرحبيل بن ذي الكلاع الحميري، أدهم بن محرز الباهلي، ربيعه بن مخارق الغنوي، جبله بن عبد الله الخثعمي(3).

____________

(1) الطبري : 7/73.

(2) الطبري : 7/73.

(3) الطبري : 7/73، ابن الاثير : 4/75.

[143 ]

تهيّب زفر الموقف الخطير، وخاف على ضيوفه المتهالكين على الشهادة، والمتدافعين لقتال عدو ليسوا في حجمه. فأخذ يلحّ عليهم بالتروي والرجوع الى قرقيسيا والعمل على تشكيل جبهة واحدة ضد المروانيين من بني أمية(1) «ان شئتم دخلتم مدينتنا وكانت أيدينا واحدة، فاذا جاء هذا العدو قاتلناهم جميعاً»(2). ولكن هذه المعلومات عن الجيش الاموي الضخم لم تستثر التوابين الذين أصروا على متابعة المسيرة، ورفضوا نصيحة زفر، كما رفضوا من قبل نصيحة أمير الكوفة عبد الله بن يزيد. فقد رد سليمان على الامير الكلابي قائلاً : «قد أرادنا أهل مصرنا على مثل ما أردتنا عليه وذكروا الذي ذكرت، وكتبوا الينا بعدما فصلنا، فلم يوافقنا ذلك فلسنا فاعلين»(3).

ولابد هنا لاي متتبع لاخبار حركة التوابين، الا ان يستوقفه ذلك الصمود الرائع لهذه الحركة العظيمة، ولا بد ان تنتزع اعجابه تلك الشخصيات القيادية المرتفعة،

____________

(1) الفتوح لابن الاعثم الكوفي. نسخة اسطنبول (مخطوطة).

(2) ابن الاثير : 4/75.

(3) الطبري : 7/73.

[144 ]

بايمانها المثالي، ونضالها الاسطوري الفريد. انها شخصيات من طراز جديد ومن معدن آخر لا نجد لها مثيلاً الا في كتب الاساطير. شخصيات اتقنت جيداً صناعة الموت، وتعدت قوانين الشهادة المعروفة، لتكتب بدمائها شرائع جديدة، ليست لدنياها وانما للتاريخ. أليس مثيراً أن تقوم حركة أساسها المغامرة وعنوانها الفداء، فتمر عليها سنوات خمس - أكثرها كمنظمة سرية تعمل في الخفاء - دون أن يخبو بريقها أو تفقد شيئاً من حماسها المتأجج، حتى في المواجهة المباشرة مع الموت ؟.

غير أن رفض سليمان لرغبة زفر بالانكفاء الى قرقيسيا والتحصن فيها ضد الامويين، واصراره على التقدم لاكمال المهمة التي التزم بها مع رفاقه في مسيرتهم التكفيرية، لم يحولا دون متابعة الامير الكلابي تحذيراته للتوابين من الخطر الداهم الذي يتهددهم، وتقديم نصائحه وخبراته بكل اخلاص لهم.. وهي توجيهات على جانب من الاهمية، خاصة ما يتعلق بجغرافية المنطقة واستراتيجيتها ومواقع الماء فيها.. وكان آخر ما توجه به زفر للتوابين بعد أن أدرك عقم محاولاته في حملهم على التراجع : «اني للقوم (أي الامويين) عدو، وأحب أن يجعل الله عليهم الدائرة، وأنا لكم وادّ أحب أن يحوطكم الله بالعافية».

[145 ]

ان القوم قد فصلوا من الرقة فبادروهم الى عين الوردة(1) فاجعلوا المدينة في ظهوركم ويكون الرستاق والماء والمادة في أيديكم وما بيننا وبينكم فأنتم آمنون منه. فاطووا المنازل فوالله ما رأيت جماعة قط أكرم منكم، فأني أرجو أن تسبقوهم، وان قاتلتموهم فلا تقاتلوهم في فضاء ترامونهم وتطاعنوهم فانهم أكثر منكم ولا آمن أن يحيطوا بكم فلا تقفوا اليهم فيصرعوكم ولا تصغوا اليهم فاني لا أرى معكم رجالة ومعهم الرجالة والفرسان وبعضهم يحمي بعضاً، ولكن ألقوهم في الكتائب والمقانب ثم بثوها فيما بين ميمنتهم وميسرتهم واجعلوا مع كل كتيبة أخرى الى جانبها، فان حُمل على احدى الكتيبتين رحلت الاخرى فنفست عنها. ومتى شاءت كتيبة ارتفعت ومتى شاءت كتيبة انحطت، ولو كنتم صفاً واحداً فزحفت اليكم الرجالة فدفعتم عن الصف انتفض وكانت الهزيمة»(2).

____________

(1) رأس عين تنبع على بضعة أميال الى الشمال من قرقيسيا على نهر الفرات، ابن الاثير : 4/76، جون جلوب : امبراطورية العرب 134.

(2) الطبري 7/73 - 74، ابن الاثير : 4/76.