ثم دخلت سنة تسع و سبعائة استهلت و خليفة الوقت المستكفي أمير المؤمنين بن الحاكم بأمر الله العباسي ، و سلطان البلاد الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير ، و نائبه بمصر الامير سيف الدين سلار ، و بالشام آقوش الافرم ، و قضاة مصر و الشام هم المذكورون في التي قبلها .
و في ليلة سلخ صفر توجه الشيخ تقي الدين بن تيمية من القاهرة إلى الاسكندرية صحبة أمير مقدم ، فأدخله دار السلطان و أنزله في برج منها فسيح الاكناف ، فكان الناس يدخلون عليه و يشتغلون في سائر العلوم ، ثم كان بعد ذلك يحضر الجمعات و يعمل المواعيد على عادته في الجامع ، و كان دخوله إلى الاسكندرية يوم الاحد ، و بعد عشرة أيام وصل خبره إلى دمشق فحصل عليه تألم و خافوا عليه غائلة الجاشنكير و شيخه المنبجي ، فتضاعف له الدعاء ، و ذلك أنهم لم يمكنوا أحدا من أصحابه أن يخرج معه إلى الاسكندرية ، فضاقت له الصدور ، و ذلك إنه تمكن منه عدوه نصر المنبجي .
و كان سبب عداوته له أن الشيخ تقي الدين كان ينال من الجاشنكير و من شيخه نصر المنبجي ، و يقول : زالت أيامه و انتهت رياسته ، و قرب انقضاء أجله ، و يتكلم فيهما و في ابن عربي و أتباعه ، فأرادوا أن يسيروه إلى الاسكندرية كهيئة المنفي لعل أحدا من أهلها يتجاسر عليه فيقتله غيلة ، فما زاد ذلك الناس إلا محبة فيه و قربا منه و انتفاعا به و اشتغالا عليه ، و حنوا و كرامة له .
و جاء كتاب من أخيه يقول فيه : إن الاخ الكريم قد نزل بالثغر المحروس على نية الرباط ، فإن أعداء الله قصدوا بذلك أمورا يكيدونه بها و يكيدون الاسلام و أهله ، و كانت تلك كرامة في حقنا ، و ظنوا أن ذلك يؤدي إلى هلاك الشيخ فانقلبت عليهم مقاصدهم الخبيثة و انعكست من كل الوجوه ، و أصبحوا و أمسوا و ما زالوا عند الله و عند الناس العارفين سود الوجوه يتقطعون حسرات و ندما على ما فعلوا ، و انقلب أهل الثغر أجمعين إلى الاخ مقبلين عليه مكرمين له و في كل وقت ينشر من كتاب الله و سنة رسوله ما تقر به أعين المؤمنين ، و ذلك شجي في حلوق الاعداء و اتفق أنه وجد بالاسكندرية إبليس قد باض فيها و فرخ و أضل بها فرق السبعينية و العربية فمزق الله بقدومه عليهم شملهم ، و شتت جموعهم شذر مذر ، و هتك أستارهم و فضحهم ، و استتاب جماعة كثيرة منهم ، و توب رئيسا من رؤسائهم و استقر عند عامة المؤمنين و خواصهم من أمير و قاض و فقيه ، و مفت و شيخ و جماعة المجتهدين ، إلا من شذ من الاغمار الجهال ، مع الذلة و الصغار - مجبة الشيخ و تعظيمه و قبول كلامه و الرجوع إلى أمره و نهيه ، فعلت كلمة الله بها على أعداء الله و رسوله ، و لعنوا سرا و جهرا و باطنا و ظاهرا ، في مجامع الناس بأسمائهم الخاصة بهم ، و صار ذلك عند نصر المنبجي المقيم المقعد ، و نزل به من الخوف و الذل ما لا يعبر عنه ، و ذكر كلاما كثيرا .و المقصود أن الشيخ تقي الدين أقام بثغر الاسكندرية ثمانية أشهر مقيما ببرج متسع مليح نظيف له شبا كان أحدهما إلى جهة البحر و الآخر إلى جهة المدينة ، و كان يدخل عليه من شاء ،