ولذلك نرى إن أول ما يبادر اليه الاسلام هو فصل العلم عن المال، وفصل العلم المفرغ من التقوى عن ادارة المجتمع، ولذلك فان الاسلام لا يقول ( ان اكرمكم عند الله اعلمكم ) رغم انه يقول في موضع آخر: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين اوتوا العلم درجات)[89]، بل يقول: ( ان اكرمكم عند الله اتقاكم)[90] ، جاعلاً التقوى اساس التفاضل.
صحيح ان العلم فضيلة ولكنه لا يكون في قمة الهرم الاجتماعي الا حينما يكون مؤطراً بالتقوى، والذي يحدد الاتجاه الصحيح للعلم هو الله عز وجل عبر مناهجه المنزلة على انبيائه، و لذلك لا تجد آية او رواية تذكر العلم ، وتضفي على العلماء الاهمية الا وتشترط ان يكون هؤلاء العلماء على الخط الصحيح، وفي الحديث عن الامام الحجة( عجل الله فرجه الشريف):
( من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مطيعاً لامر مولاه، مخالفاً لهواه فللعوام أن يقلدوه).
خطورة علماء السوء:
وكم هي كثيرة الاحاديث التي تحذرنا من خطورة علماء السوء، و تصف لنا عقابهم يوم القيامة ، ففي رواية ان رسول الله( صلى الله عليه وآله) رأى في ليلة المعراج رجلاً يقرض لسانه بمقاريض من نار، فاستفسر من جبرائيل( عليه السلام) ان من يكون هذا وما هو عمله..؟ فجاءه الجواب: هذا هو العالم الذي سخر علمه بغير الطريق الصحيح.
فعلماء السوء يكونون يوم القيامة داخل تابوت نتن حتى ان رائحتهم تؤذي اهل النار على ما هم فيه من الاذى والكرب الشديد، وفي حديث للامام الصادق( عليه السلام) عن علماء السوء انهم اخطر على الاسلام من جيش شمر بن ذي الجوشن الذي قتل الامام الحسين (عليه السلام).
العلماء الابرار القدوة الحقيقية للمجتمع:
وفي مقابل هذه الفئة من علماء السوء هناك العلماء الابرار الذين هم القدوة الحقيقية للمجتمع لانهم من جهة مزودون بطاقة العلم، ومن جهة ثانية يتمتعون بقدرة توجيهية لهذه الطاقة، فهم لا يستغلون العلم من اجل تكريس شهواتهم و تحقيق مآربهم الشخصية، ولا يوظفون العلم للحصول على بعض الدراهم، والوقوف على ابواب الملوك او على اعتاب اصحاب الثروة والمال.
هذه هي خلاصة رؤية الاسلام حول قيادة المجتمع المتمثلة في ضرورة ان يكون رأس الهرم الاجتماعي تقياً قبل كل شيء ثم تأتي بعد ذلك الصفات الاخرى كالعلم والكفاءة الادارية.
صفات القائد في القرآن :
وحينما يذكر القرآن الكريم صفات القائد الاسلامي فانه يبدي دقة في اختيار الالفاظ ولا يستعمل التعابير الشائعة لحكمة ان التعبيرات العربية تعبيرات واسعة وذات إيحاءات ومعاريض، فحينما تريد العرب ان تعبر عن الظلام نراها مرة تقول (الغلس)، ومرة ( الغسق)، واخرى(الدهمة) حسب درجات الظلام، فهناك ظلام مشوب بالنور، وهناك الظلام العادي، والظلام الحالك ، فلكل درجة من درجات الظلام لفظة خاصة بها، وهكذا الحال في سائر الاشياء.
والصفات الاساسية للقيادة الاسلامية هي الاخرى صفات ذات درجات مختلفة متفاوتة، فقد يوصف العلم بانه علم عادي ، وقد يكون علم اليقين، وقد يتحول علم اليقين الى حق اليقين، وقد يسمو حق اليقين فيصبح عين اليقين ، ومع ذلك يبقى العلم هو العلم ولكن استيعاب الانسان له ، ورؤيته للحياة عبره يختلفان من انسان لاخر، وهكذا تختلف وتتدرج الصفات الاخرى.
و يشترط الاسلام في اولئك الذين يريدون ان يصبحوا ائمة للناس ان تتوفر فيهم اعلى درجات الصفات الاساسية للقيادة العامة وفي مقدمتها التقوى، فالتقوى التي يجب ان يتزود و يتسلح بها الامام القائد هي التقوى التي تصل الى درجة الصبر والصمود أمام عواصف الشهوات ، ونزول المصائب، واشتداد المكاره، فلا تتأثر ارادته بالضغوط المختلفة وان عظمت وتصاعدت، ولذلك يؤكد القرآن الكريم على ذلك قائلاً:
( وجعلنا منهم ائمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا باياتنا يوقنون)[91].
ومن هنا فان الاسلام لا يرتضي لك بأن يقودك انسان عالم أياً كانت درجة علمه، بل يوجب عليك ان تبحث عن اعلم الناس وتقاهم في نفس الوقت للتتخذه إماماً لك ، وقد جعل الله - تعالى- هذا الانسان إماماً لان قيمتي العلم والتقوى كلما زادتا في شخص كلما كانت قيادته اكثر كفاءة، ولذلك فان القرآن الكريم عندما يذكرنا بشروط القيادة الاسلامية فانه يذكر لناكلمتين هما( الربّيّون ) و(الأحبار) ؛ فاربّيّون هم العلماء الممحضون في ايمانهم بالله الاتقياء أولاً والعلماء ثانياً، ولذلك فانهم القادة الحقيقيون للمجتمع، وفي حالة افتقارنا الى الربّيّين تأتي آنئذ مرحلة الأحبار؛ وهم العلماء أولاً والأتقياء ثانياً، يقول- تعالى-.
( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والرّبانيّون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله)[92].
صفات القائد في نهج البلاغة:
جاء في حديث رواه نوف البكالي: ذهبنا الى مسجد الكوفة لنرى علياً( عليه السلام) في قضيّة فاذا به مع مجموعة من اصحابه من بينهم ابن اخي همام بن عبادة بن خيثم ، وكان من اصحاب البرانس( اي العبادة) ، وقد كان همام ممن يلازم علياً ( عليه السلام)، فأقبلنا معتمدين لقاء امير المؤمنين، فالفيناه حين خرج يؤم الناس في المسجد ، فأفضى ونحن معه الى نفر مبدّنين قد افاضوا في الاحدوثات تفكّهاً، و بعضهم يلهي بعضاً، فلما اشرف عليهم امير المؤمنين( عليه السلام) اسرعوا اليه قياماً فسلموا، فرد التحية ثم قال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: اناس من شيعتك يا امير المؤمنين،فقال لهم: خيراً ثم قال : ياهؤلاء ! ما لي لا أرى فيكم سمة شيعتنا، وحلية احبتنا اهل البيت؟ فأمسك القوم حياء، قال نوف : فأقبل عليه جندب والربيع فقالا: ما سمة شيعتكم، صفهم يا امير المؤمنين؟ فتثاقل عن جوابهما وقال: اتقيا الله ايها الرجلان واحسنا، فان الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون فقال همام بن عبادة وكان عابداً مجتهداً- اسألك بالذي اكرمكم أهل البيت، و خصكم وحباكم وفضلكم تفضيلاً إلا أنبأتنا بصفة شيعتكم ، فقال( عليه السلام) : لا تقسم، فسأنبئكم جميعاً، واخذ بيد همام، فدخل المسجد ، فصلى ركعتين أو جزهما واكملهما، وجلس ثم اقبل علينا وحف القوم به فحمد الله، واثنى عليه، وصلى على النبي ثم قال:
( اما بعد ، فان الله جل ثناؤه، و تقدست اسماؤه خلق خلقه فألزمهم عبادته، وكلفهم طاعته، وقسم بينهم معايشهم، ووضعهم في الدنيا حيث وضعهم وهو في ذلك غني عنهم، لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضره معصية من عصاه منهم ، لكنه تعالى- علم تصورهم عما تصلح عليه شؤونهم، وتستقيم به دهماؤهم في عاجلهم وآجلهم..
ألا من سأل عن شيعة اهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم في كتابه مع نبيّه تطهيراً فهم العارفون بالله، ، العاملون بأمر الله، اهل الفضائل والفواضل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، نجعوا لله بطاعته، و خضعوا له بعبادته، فمضوا غاضين بأبصارهم عما حرم الله عليهم، واقفين اسماعهم على العلم بدينهم ، نزلت انفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء، رضوا عن الله بالقضاء، فلولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر ارواحهم في اجسادهم طرفة عين شوقاً الى لقاء الله والثواب، وخوفاً من العقاب ، عظم الخالق في انفسهم، و صغر ما دونه في اعينهم ،فهم والجنة كمن رآها، فهم على ارائكها متكئون وهم والنار كمن رآها، فهم فيها معذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، واجسادهم نحيفة، وحوائجهم خفيفة، وانفسهم عفيفة، ومعرفتهم في الاسلام عظيمة، صبروا اياماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة، وتجارة مربحة يسرها لهم رب كريم، أناس أكياس أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وطلبتهم فاعجزوها، اما الليل فصافون اقدامهم، تالون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يعظنون انفسهم بأمثاله، و يستشفون لدائهم بدوائه وتارة تارة، مفترشون جباههم واكفهم وركبهم واطراف اقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يمجدون جباراً عظيماً، ويجأرون إليه- جل جلاله- في فكاك رقابهم.
هذا ليلهم، فأما النهار فحلماء علماء بررة اتقياء ، براهم خوف بارئهم فهم امثال القداح ، يحسبهم الناظر اليهم مرضى وما بالقوم من مرض، او قد خولطوا وقد خالط القوم من عظمة ربهم، وشدة سلطانه امر عظيم طاشت له قلوبهم ، و ذهلت منه عقولهم، فاذا استقاموا من ذلك بادروا الى الله تعالى بالاعمال الزكيّة ، لا يرضون له بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل، فهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، ان زكي احدهم خاف مما يقولون، وقال: انا علم بنفسي من غيري، و ربي اعلم بي، اللهم لا تؤاخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون ، فانك علام الغيوب، وساتر العيوب.
هذا ومن علامات احدهم ان ترى له قوة في دين، وحزماً في لين، وايماناً في يقين، وحرصاً على علم، وفهماً في فقه، وعلماً في حلم , و كيساً في رفق، وقصداً في غنى، و تجملاً في فاقة، وصبراً في شدة، و خشوعاً في عبادة، ورحمة للمجهود ، واعطاء في حق ، ورفقاً في كسب ، و طلباً في حلال، و تعففاً في طمع ، وطمعاً في غير طبع و دنس، ونشاطاً في هدى، واعتصاماً في شهوة، وبراً في استقامة ، لا يغره ما جهله ، ولا يدع احصاء ما عمله، يستبطىء نفسه في العمل، وهو من صالح عمله في وجل ، ويصبح وشغله الذكر، و يمسي وهمه الشكر، يبيت حذراً من سنة الغفلة ، ويصبح فرحاً بما اصاب من الفضل والرحمة، ان استصعبت عليه نفسه في ما تكره لم يعطها سؤلها فيما اليه تشره، رغبته في ما يبقى ، زهادته فيما يفنى).
وهكذا يمعن الامام علي( عليه السلام) في تعديد صفات المتقين حتى كان من امر همام ما كان حيث انه ( عليه الرحمة) اطلق صيحة وقع على اثرها مغشياً عليه, فحركوه فاذا هو قد فارق الدنيا، فاستعبر نوف باكياً وقال: لأسرع ما أودت موعظتك يا امير المؤمنين بابن اخي، ولوددت لو كنت مكانه.
فقال( عليه السلام) : ( هكذا تصنع المواعظ البالغة بأهلها، اما والله لقد كنت اخافها عليه).
وبعد ، فهذه هي صفات المؤمنين الصادقين الذين يريدهم الاسلام ليكونوا قدوة للمجتمع، وقادة وائمة للبشرية، ولقد زودنا الله- تعالى- بالعقل لكي نبحث عن الافضل و نتخيره، فان كان هؤلاء هم خير لنا فلنبحث عنهم ، ولابد اننا سوف نجد امثالهم، لان الارض لا يمكن ان تخلو من حجج الله.
بين العلم والعمل
يسجل التاريخ الحديث اليوم منعطفين خطيرين نمر بهما معا هما:
1- منعطف للامة الاسلامية
2- منعطف لطلائع الامة وشبابها المؤمن.
المنعطفات التاريخية في حياة الامة:
فمنعطف الامة الاسلامية هو حالة الهيجان الجماهيري المتجسدة على هيئة الانتفاضات والثورات، فافغانستان- مثلا- شهدت قبل انتصار ثورتها وقبل حدوث هذه السلبيات المؤسفة بعد انتصارها وشهدت ميلاد حضارة اسلامية كما شهدت ايران من قبل ثورة اسلامية، فما حدث في افغانستان ليس بالشيء الهين، فلقد عاشت منعطفا تاريخياً فريدا، فخاضت لاول مرة في تاريخ الامة الاسلامية تلك الحرب المدمرة وخرجت منتصرة منها.
وفي مصر ايضاً هناك حركة اسلامية متطورة تعمل في الخفاء، و تنتشر بشكل سريع رغم جواسيس المخابرات الامريكية والموساد، وجواسيس الحكومة المصرية، وهناك خوف حقيقي على النظام منها.
كما ان انتصار الثورة الاسلامية في ايران هو بحد ذاته منعطف تاريخي لا شك فيه ،وهذه المنعطفات تتزامن جميعها مع المنعطف الثاني، وهو الذي يمثل طلائع الامة و شبابها الغيور المؤمن الذي يرسم خريطة مستقلبه ومستقل الامة بوعيه وبالاعتماد على نفسه.
المنعطف الشخصي لا يمكن ان يتكرر:
والمنعطف التاريخي قد يتكرر، ولكن المنعطف الشخصي لا يمكن ان يتكرر، فكل انسان يمر بمرحلة الشباب مرة واحدة في حياته، وفي هذه المرحلة بالذات يمر الانسان بالمنعطف التاريخي حيث يخلق نفسه، ويصوغ شخصيته من جديد ، ففي مرحلة الطفولة والشخيوفة لا يمكن للانسان ان يمسك فيها بزمام نفسه بشكل كامل ، وذلك لاعتبارات خاصة بهاتين المرحلتين، اما في مرحلة الشباب فالامر على العكس تماما، والشاعر يؤكد ذلك في قوله:
ان الغصون اذا عدّلتها اعتدلت وليس ينفعك التعديل في الحطب
والشباب المؤمن مكلف في هذا الوقت بان يخطط لمستقبله ومستقبل امته الاسلامية التي تمر الان بمرحلة الثورة ( مرحلة الشباب) ، والدليل على مرورها بهذه المرحلة هو ما نراه من الآلاف المؤلفة من الشباب المؤمن المتواجد في ساحات الجهاد بين لهيب النار والثورة والايمان فهم- اذن- يصنعون بأيد حاذقة مستقبلهم و مستقبل الامة معاً.
وعندما يتزامن هذان المنعطفان فانهما سيضعاننا امام مسؤوليتنا التي يجب ان نضطلع بها كي نكون ممن يؤثر في تاريخه تاثيراً عميقاً لا يزول.
ان شباب الجيل السابق كانت لهم اهدافهم الخاصة التي تقتضى منهم أن يصلحوا العالم و يبدلوه، فكانوا هم الناهضين الوحيدين بين نيام العالم كله، وكانوا ينادون دون ان يكون هناك من يستجيب لهم، فاندفعوا يصنعون الملاحم والبطولات.
مسؤوليتنا في هذا المرحلة الحساسة:
ونحن ايضاً مسؤولون اليوم عن تعيين مصير هذه الامة الاسلامية المضطهدة، ولذلك فان مسؤوليتنا تعد خطيرة جداً ، فالله عز وجل- سيسألنا غدا عن سبب تهاوننا وتكاسلنا في هذه المرحلة الحساسة التي تمربها الامة الاسلامية.
ولكي نقوم باعباء هذه المسؤولية على اتم وجه علينا ان ننمو نمواً متكاملاً لا احادياً، فالنمو الأحادي او ذو البعد الواحد ينتج جسماً ضخماً وارادة ضعيفة، أو ان العلم سيزداد في حين سيقل العمل والعكس صحيح؛ و بعبارة أخرى تتواجد قدرة جيدة لدى الفرد على التطبيق والتنفيذ، ولكن لا توجد لديه قدرة على التحكم بالارادة، وهذا كله نمو ذو بعد واحد ، وهذا الشكل من النمو يشكل خطراً على مستقبل الفرد والامة، ذلك لان الفرد لا يستطيع ان يتلافى ما حدث من إهمال بعد عدة سنوات، وعلى هذا فان النمو ينبغي ان يكون متكاملاً من جميع الجهات.
ان الله عز وجل- خلق جميع أعضاء الانسان متناسقة على الرغم من تباين اشكالها، فلا يمكن لأيّ واحد منا ان يدعي ان يسطي ان يعوض بحاسة السمع عن البصر، أو إستخدام رجليه بدلاً من يديه، فلقد وضع الله كل شيء في مكانه في تنسيق بديع ، وحكم المخ على جميع تلك الاعضاء.
وكما ان الانسان قد احتوى على هذه الكمالات البشرية التي لا تناقض بينها ، فان التناقض بين العلم والعمل معدوم ايضاً ، فالعلم يشبه العين التي ترى و تستطلع، والعمل يشبه اليد التي تنفذ، فيجب- إذن- أن نقرن العلم بالعمل- لأن القول بان التناقض موجود ما هو الا فكر مدسوس من أفكار الشيطان ، فليس صحيحاً أن لا أعمل لأني أدرس أو أن لا أدرس لأني أعمل.
العمل عبر اللجان:
واللجان هي احدى المحطات التي يستطيع الشباب المؤمن عبرها أن يفرغ طاقاته و بطريقة سليمة ، فلا يتصور طلاب الحوزة بان طاقاتهم ستبقى مختزنة ان لم يشتركوا في اللجان ، فالطاقة لا تختزن وانما تذهب ن ولا نحصل في النهاية على أي ثواب، وفي المستقبل يصبح مثل هؤلاء الطلاب كالعلماء الذين يجلسون في بيوتهم ، ويريدون ان يقصدهم الناس.
التأسّي باصحاب الائمة(ع):
ان عالم الدين يجب أن يكون كأصحاب الائمة- عليهم السلام- فلقد كان اصحابهم فقهاء وفلاسفة وحكماء...
وهكذا يجب أن يكون علماء الدين، على هذه الصورة يجب أن يربّوا انفسهم، فعليهم ان يكملوا جميع أبعاد حياتهم علماً وعبادة وزهداً وقدرة على تحمل الصعاب، واتقان جميع الاعمال، و اكتساب مختلف الكفاءات ، بل عليهم ان يكونوا دورة حضارية متكاملة قائمة بذاتها، وتنعكس في وجودهم الحضارة الاسلامية بكل ابعادها.
الامام الخميني القدوة المثالية:
يمثل الامام الخميني( قدس سره) القدوة المثالية،والدورة الحضارية المتكاملة التي نتطلع اليها جمعياً ، فالذي يطلع على حياته و برامجه يدرك كيف استطاع أن يعكس روح الحضارة الاسلامية في وجوده و بجميع جوانبها، فقد كان يقرأ يومياً ما يقارب الثلاثمائة صفحة من النشرات والتقارير والصحف والمجلات والرسائل والبرقيات بالاضافة الى استماعه الى جميع النشرات الخبرية التي تذاع في المحطات العالمية.
وفي الوقت نفسه كان ( رض) يقرأ القرآن باستمرار، ويقوم برياضته اليومية ( المشي) و بالاضافة الى صلاته و تهجده وقيامه في الليل، و استقباله للضيوف، وهذه العادات لم يكتسبها الامام مؤخراً بل لقد عود نفسه على ممارستها منذ أيام شبابه، ولذلك فإنه لم يكن يحمل عصا يتوكأ عليها حتى نهاية عمره الشريف، لانه حمل عصا الايمان منذ البدء.
سبيلنا الى التكامل:
ان الوصول الى مرحلة التكامل يعد أمراً صعباً وهاماً في الوقت نفسه، واذا ما أردنا أن نعيش ونرسم مستقبلنا ومستقبل أمتنا فعلينا ان نتكامل ذلك من خلال عدة وسائل وطرق منها:
1- الاقدام على العمل وعدم الهروب منه.
2- التوكل على الله والاستعانة به على أداء أعمالنا.
3- المشاركة في اللجان الفاعلة في نهضة الامة نحو آفاق الازدهار.
وعلى كل واحد منا ان يحمل بين جنبية املاً وهدفاً في حياته، فالذي لا يحمل أي هدف يعيش كما تعيش الانعام، ولأجل ان يتحقق الهدف الذي نطمح اليه علينا ان نتكامل ، نقدم كي نظفر بالموفقية والنجاح.
ولكي يتحقق التكامل التام على طلبة العلم اتباع الاساليب التالية.
1- ضبط الوقت فيما يتعلق بالدرس، فالحضور المتواصل والمنتظم في الصف ينعكس على ما يتلقاه الطالب من العلوم ، ومقدار فهمه للدروس بصورة متكاملة وصحيحة.
2- تركيز النظر والفكر على حديث المدرس، وهذا أمر هام جدّاً يجعلنا لا ننسى الدرس على الاطلاق.
3- تلخيص الدرس ومراجعته.
وعلى هذا فالمطلوب أن نربي انفسنا على مختلف الكمالات ، من تزكية النفس الى التعلم ، ومختلف الممارسات العملية، حتى نجعل من شخصيتنا شخصية متكاملة تنفع الامة الاسلامية في منعطفها الجديد.
من المشاكل التي ابتلي بها العالم اليوم مشكلة التجزئة المتوغّلة الى حدود عميقة و بعيدة في كيان هذا العالم؛ فلقد توجّه العلم الحديث نحو التحليل و التجزئة الى درجة انّه أنسى العالم الرؤية التكامليّة الواحدة، والاطار المشترك الذي يجمع الافكار والمعلومات المختلفة، على الرغم من انّ حكماء عصرنا قد انتبهوا الى نقطة الضعف هذه، وحذّروا منها مثل العالم المعروف ( الكسيس كاريل) الحائز على جائزة نوبل في كتابه الشهير ( الانسان ذلك المجهول)، فهو يحدّثنا باسهاب عن مشكلة التجزئة في العلم الحديث، وكيف انّ هذه الازمة جعلتنا لا نعرف ذواتنا التي هي اقرب الاشياء الينا.
مظاهر التجزئة في العلم الحديث:
و يضرب هذا المفكّر لذلك مثلاً عن الانسان، وكيف انّه جزّء روحه عن جسمه، وفصل علم النفس الاجتماعي عن علم النفس الفرديّ وهكذا الحال بالنسبة الى بقية فروع علم النفس التي فصلها هي الاخرى عن علم التربية والاخلاق والعلوم الفلسفيّة المرتبطة هي ايضاً بالانسان، ولم يكتف بذلك بل انّه عمد الى تجزئة علم الاقتصاد عن علم السياسة، وعلم السياسة عن علم الاجتماع، والاخير عن علم النفس.
وعلى سبيل المثال فانّك اذا درست في كليّة ما فانّك بعد فترة قصيرة سترى نفسك تبحث عن قضيّة جزئيّة جداً لينسيك هذا البحث فهم القضايا الاخرى، ولذلك فانّ الانسان اليوم ينظر الى بعد واحد في كافّة اموره، وقد كتب عالم النفس ( هربت ماركوس) كتاباً حول هذه المشكلة اسمه ( الانسان ذو البعد الواحد)، وقد فجّر هذا الكتاب ثورة الشباب في فرنسا عام ( 1968).
وعلى الرغم من تحذير الفلاسفة والحكماء في العصر الحديث من هذا التوجه والمبالغة في التجزيئّية الاّ ان وجهة العلم الحديث تنطلق و بسرعة نحو التحليل والتجزئة ووضع الحدود الفاصلة بين الحياة الواحدة، وبين المجتمع الواحد والنفس الواحدة.
مخاطر منهج التجزئة:
مثل هذه التجزئة تشكلّ خطورة للبشريّة ، وخطورتها هذه تكمن في انّ الله - تعالى- لم يخلق مجتمعاً من دون فرد، ولا فرداً من غير مجتمع، ولا نفساً تعيش في عالم الاجتماع، واخرى في عالم الاقتصاد او في عالم السياسة فالله- سبحانه- خلق الكون وحدة واحدة مترابطة الاجزاء ، ولا يمكن فهم هذا الكون من دون الرؤية التكاملية.
وهذه الخطورة تتضاعف عندما تدخل هذا الروح التجزئية البعيدة عن الرؤية التكامليّة الى بلادنا ذلك لانّ الانسان في العالم الغربيّ ان كان له اختصاص في فرع معيّن فانّ هناك اشخاصاً آخرين مختصين في فروع اخرى، و بالتالي فان جهودهم المختلفة تنصب في اطار واحد.
امّا نحن فقد اردنا تقليد الغرب ولكننّا نسينا في غمرة هذا التقليد قيمنا، فعندما نفذت فينا تلك الروح سبّبت لنا مأساة وهي انّك ترى- على سبيل المثال- طبّنا متخلّفاً، و خبراتنا معطّلة، فترى حملة الشهادات يقدمون من اوروبا وهم مزوّدون باعلى الخبرات والتجارب، ولكنهم للاسف الشديد لا يوظّفون في اختصاصاتهم.
وهكذا فانّ مشكلتنا تتمثّل في انّ الواحد مناّ يعمل على الاختصاص في علم ما ولكنّه يواجه بعدم وجود علوم اخرى تكمل اختصاصه.
وبناء على ذلك فانّنا نعتقد ان التوغّل في التحليل دون الاهتمام بالرؤية التكامليّة هو اتجاه مغلوط، كما و نعتقد انّ هذا الخطأ يتضاعف اثره عندما يدخل الى بلادنا التي تعيش مرحلة متأخرّة من التقدّم الحضاريّ في حين انّ الاسلام يأمرنا بأن نكون تكامليّين في تفكيرنا، و يطلب منّا ان نكون قادرين على ان نعرف كلّ شيء بحيث تعطينا هذه المعرفة بصيرة في تعاملنا مع مفردات الحياة، فان لم يكن الانسان المؤمن عالماً فانّه خبير في علم النفس، وفي علم الاجتماع بقدر حاجته، خبير في الطبّ بقدر حاجته ايضاً، ذلك لاّنه متكامل ، ولاّنه كيّس فطن، ولا يؤخر عمل اليوم الى غد، فالاسلام كلّه يتكامل في ذاته، بحيث يتحوّل الى مشروع حضاريّ متكامل.
المنهج الاسلامي شامل و متكامل:
وفي نفس الوقت فانّ الاسلام يأمر المؤمنين جميعاً بأن يسيروا في الارض، فينظروا، ويتفكرّوا ليعقلوا ويبصروا، وعندما يوجّه الاسلام كلامه الى قمّة المجتمع الايماني فانّه يحدّثنا عن هذه الميزة بصورة ادقّ حينما يحدّد لنا من هو العالم الذي ينبغي ان تعطن له مهمّة قيادة المجتمع الايماني الخالص، فترى الاسلام يأمره ان يكون شمولي النظرة والبصيرة، شموليّ العمل. فالعالم لا يمكن ان يكون رجلاً يقول: انا مهمّتي ان ادرس، وانتم مهمتكم ان تأمروا بالمعروف و تنهوا عن المنكر، فالاسلام يأمره هو الآخر ان يقوم بهذه الفريضة كما يأمر الشرائح الاخرى من المجتمع بها، بل انّ هذا الواجب يعدّ من ضمن اهداف هذا العالم .
وهكذا الحال بالنسبة الى السياسة فليس من حقّ العالم ان يكون جاهلاً للسياسة، فالفقه في الحقيقة هو حكم السياسة والاقتصاد والاجتماع والاسرة وجميع مجالات الحياة، فهو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بواقع الانسان، فالقرآن ليس كتاباً معزولاً عن الحياة بل يجب ان يطبّق فيها.
انّ اولئك الذين يدّعون ان الحوزات العلميّة ينبغي ان لا تشتغل في السياسة انّما هم في الحقيقة متأثّرون امّا بالفلسفة اليونانيّة القديمة او بالفلسفة الاوروبيّة الحديثة التي تذهب الى تجزئة العالم في حين انّ الاسلام لا يعترف بهذه التجزئة ، فليست هناك حدود بين السياسة والاقتصاد، والسياسة والفقه في الاسلام.
الفرائض الاسلاميّة غير قابلة للتجزيء:
ونفس القول نقوله للذين يقولون بانّ على المؤمن ان يدرس لكي يستطيع ان يأمر بالمعروف وينهن عن المنكر في حين انّه ما من فقيه من الفقهاء يقول انّ الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر من شروطه التفرغ للدراسة.
انّ الاسلام يأمرنا بكلمات صريحة بان نقوم كلّنا بتلك الفريضة الالهّية من خلال الحديث النبويّ المعروف: ( كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته) والحديث : ( من اصبح ولم يهتمّ بامور المسلمين فليس بمسلم ) وكذلك الحديث: من سمع من ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم).
انّ هذه الاحاديث وغيرها صريحة في وجوب الاهتمام بأمور المسلمين اينما كانوا، وعلى سبيل المثال فانّ هناك مسلمين يموتون جوعاً في اثيوبيا، وارتيريا، والصومال في حين انّنا ننام متخومين غير شاعرين بالظروف القاسية المأساويّة التي يمرّون بها، وفي هذا المجال توجد احصائيات تقول ان خمسين طفلاً في زائير يموتون من الجوع يومّيا، كما انّ هناك ستّة ملايين انسان مهدّدين بالموت في اثيوبيا!!
أفلا تهمّنا هذه الاوضاع بعد ذلك؟ أوليس هؤلاء مسلمين؟ انّ المسلم هو من نطق بالشهادتين، وهذا يكفينا لأن نقدّم العون والمساعدة لهم.
والأدهى من كلّ ذلك انّ البلدان الغربية تستغلّ الظروف السيّئة التي يمربها هؤلاء المسلمون لتعمل على تنصيرهم مقابل تقديم المساعدات لهم، وفي هذا المجال سمعت انّ هناك ربع مليون مسلم في اندنوسيا قد تنصّروا!
ازاء هذه الاوضاع ليس من حقّي انّ اواصل دراستي وانتظر الى ان اتخرّج لافكر في هذا الموضوع، فمثل هذه التبريرات والاعذار لا نجدها في الاحاديث والنصوص الشرعيّة.
وهناك منّا من ينشغل بالحديث ضدّ هذا و ذاك في حين انّه ترك العمل ، ولم يدخل الساحة، فهو يريد ان يبرّر تقاعسه بالصاق التهم بالعاملين، والاكتفاء بالاشارة الى الاخطاء دون ان يقوم بفريضة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد اشار- تعالى- الى هذا الفريق في قوله:
( واذ قالت امّة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم او معذّبهم عذاباً شديداً، قالوا معذرة الى ربّكم ولعّلهم يتقون، فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء واخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون)[93].
وهكذا نزل العذاب على الذين سكتوا ، ولم يقوموا بدورهم في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ولم ينج سوى اولئك الذين ادّوا هذه الفريضة.
الحوزات العلميّة علم وعمل:
انّ من خصائص الحوزات العلمية انها تدخل ساحة العمل بصورة مباشرة، فكلّ فرد منها لا يرى نفسه بعيداً عن الساحة حتّى في مرحلة دراسته، أفليس من المؤسف بعد ذلك ان نرى في الجامعات الحديثة التي تنطلق من مبدأ التجزئة، و تخضع لقوانين الفصل بين العلوم المختلفة، تكتّلات سياسيّة ، وتظاهرات واضرابات و تحدّيات، ثم لا نجد مثل ذلك في حوزاتنا العلميّة ؟!
انّ كلّ فرد في الحوزة العلمية ينبغي ان يتحسّس بمسؤولياته ، و انّ من الواجب عليه ان يطبّق تشريعات الاسلام ، فكما انّ طالب العلم لا يجوز له ان يترك صلاته، فانّه لا يجوز له ايضاً ترك مهامة الرسالية متذرّعاً بالدراسة، والاتجاه التقاعسي الذي يجعلنا نفقد طاقاتنا في حين انّ الله - تعالى- اودع فينا كنوزاً لابدّ ان نكتشفها و نستخرجها.
والمهمّ في ذلك ان يستغل الانسان الوقت، والبركة والتوفيق من الله عز ّوجل -، فمن كان هدفه الله ورضوانه فانّه - تعالى- سوف يبارك له بدليل قوله: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا)[94].
فجاهد وتحرّك لله لكي يوفقك، وفتّش عن الطريق الى ذلك، عن عمل يتناسب مع اختصاصك.
صحيح انّني لا استطيع ان اكون حاضراً عند المسلمين في انحاء العالم ولكنني استطيع ان اخطب واكتب وارسل الرسائل الى الناس اعظهم من خلالها، فان لم اعرف لغتهم فبامكاني تعلّمها وهذا هو مقدّمة الواجب.
وان لم اكن قادراً على حمل السلاح فانّ بامكاني ان اجمع المال، او ان اكون لسان خير واشجّع من خلال ذلك روح الاندفاع نحو تقديم العون للمسلمين، فان كان في قلبي حبّ الجهاد في سبيل الله - تعالى- فانّه سوف يفتح لي الطريق، هناك الكثير من الاخوة تحرّكوا في هذا المجال، واكتشفوا الطريق، وقد هدى الله - سبحانه - بهم خلقاّ كثيراً.
وعلى هذا فانّ من خصائص الحوزات العلميّة انّها تجمع بين العلم والعمل ليس بعد التخرّج فحسب وانّما في اثناء الدراسة ايضاً، فالانسان المؤمن لا يستكفي من العمل الصالح لان هذا العمل يرفعه الله - تعالى- : ( اليه يصعد الكلم الطيّب والعمل الصالح يرفعه)[95] ، والعمل الصالح يمكن ان يتمثل في تقديم قدح من الماء، والانسان المؤمن مستعد للقيام بأي عمل مهما كان بسيطاً في سبيل ان يحصل على الاجر.
وفي هذا المجال هناك رواية لطيفة عن عيسى بن مريم (ع) تقول انه الاجر قال للحواريين ذات مرة: يا معشر الحواريين لي اليكم حاجة اقضوها لي، قالوا: قضيت حاجتك ياروح الله، فقام فغسل اقدامهم، فقالوا: كنا نحن أحق بهذا ياروح الله، فقال: إن احق الناس بالخدمة العالم، انما تتواضعوا هكذا لكي تتوا ضعوا بعدي في الناس كتواضعي لكم[96].
فتواضعوا لمن تتعلّمون منه، و تواضعوا لمن تعلّموه، ولنسقط هذه الحجب والتبريرات الشيطانية، ولنعلم انّ العمل لله - تعالى- يمكن ان يتجسّد في كلّ شيء، أمّا الانسان الذي يتعلّم ولكنّه لا يستطيع غداً ان يقوم بأيّ عمل فهو بمثابة كائن جامد لا يرجى منه أيّ نفع، ولنعلم ان قيادّينا الكبار كانوا دائماً في مقدّمة المجتمع، و تكفينا في هذا المجال نظرة واحدة الى سيرة النبيّ (ص) ، وكيف انّه كان يشترك بصورة مباشرة وعمليّة في ادارة امور المجتمع الاسلاميّ كما يشير الى ذلك - تعالى- فيما يخصّ الجهاد:
( واذ غدوت من اهلك تبوّىء المؤمنين مقاعد للقتال)[97].
وهكذا فقد كان النبي (ص) في مقدّمة من يبادر الى تنظيم شؤون القتال، ورصّ الصفوف ، ووضع الخطط الحربيّة، فلنقتد به (ص)، وليكن شعارنا في حياتنا.
وعلى هذا فانّ من الاخطاء التي تورّطت فيها الحضارة الحديثة، تجزئة العلم ، وقد ازدادت خطورة هذا الخطأ في بلادنا التي تعتبر متخلّفة الى حدّ ما، في حين انّ الحوزات العلميّة انطلقت في مناهجها من مبدأ الجمع بين العلم والعمل ، وهي انّما تفعل ذلك لتكون مركزاً لانطلاق الحضارة الاسلامية الرشيدة بإذن الله - تعالى-.
حقيقة العلم
انّ موقف الانسان من العلم كثيراً ما يحدّد اتجاهه في الحياة ، فالعلم كأيّة قوة اخرى في الحياة قد يتّخذه الانسان سلاحاً له، وقد يتخذه سلاحاً ضده، والعلم يرفع الله - تعالى- به رجالاً فيجعلهم في الخير ائمّة ، وللناس هداة، وهو الذي يجعل بعضاً من الناس في مصاف الانبياء، فبه جعل علماء امّة رسول الله (ص) كأنبياء بني اسرائيل، فيجعل منهم الفقهاء الذين فرض الله طاعتهم على عباده فرضاً.
ومع ذلك فانً العلم قد يكون ذلك السلاح الرهيب الخطير الذي نشر الرعب في العالم فاذا بالملايين من البشر يراودهم هاجس تطوّر هذا العلم ، فبالعلم استعمر بعض المفسدين في الغرب والشرق ملايين المستضعفين من البشر ومن ضمنهم نحن، لأنهم سبقونا في مجال العلم والتقنية ولو كنّا مثلهم نعلم اسرار الحياة لما استضعفونا، ولما زعموا انّهم اولياؤنا في كلّ صغيرة وكبيرة.
انّ العلم هو ذلك السلاح ذو الحدّين ، ونحن يجب ان نحدد موقفنا منه، فلا الرفض المطلق، ولا القبول التام، فالرفض المطلق هو الذي ادّى بشعوبنا الى حالة التخلّف والتبعيّة، وهو الذي جعل الشعوب التي يقال انّها متقدّمة ومتحضّرة تستكبر في الارض، ففي بداية هذا القرن او في نهاية القرن الماضي، كانت هناك معابد اقيمت في البلدان الاوروبية لعبادة العلم ، فانخدع الناس بهذه الآلة الجديدة فجعلوها معبوداً مطلقاً وتركوا القيم والمعنويات، فاعتقدوا انّهم ماداموا متقدّمين في العلم فقد حقّ لهم ان يكونوا قادة للناس، و مستكبرين في الارض.
وهكذا لابدّ ان نتّخذ بين الموقفين موقفاً معتدلاً؛ فالعلم هو خادم للقيم، والمحقّق لاهداف الانسان العليا، أما العلم الذي يقف في مواجهة القيم فهو مرفوض، بل هو محارب من قبلنا بكلّ ما اوتينا من قوة، فبينما نجد في الآيات القرآنية رفعاً لدرجة العالم الى مستوى الانبياء ونجد مرّة اخرى في القرآن ذاته نعتاً لصاحب العلم المفرغ من التقوى بانّه كالكلب الذي يلهث وراء الانسان .
درجة العلم والعلماء في الاسلام:
وفي الاحاديث يجعل أئمّة الاسلام درجة العلم في مصاف درجة النبوّة، ودرجة الايمان العليا؛ فالشفاعة في يوم القيامة لثلاثة اصناف؛ الانبياء والعلماء والشهداء، والمداد الذي يكتب به العلماء خير من الدم الذي يريقه الشهيد فداء لدينه وقميه، والعالم الواحد خير من سبعين عابداً، والعالم يزهر في السماوات كما يزهر القمر في ليلة البدر، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم، والعلماء هم امناء الرسل وامتداد لقيادة النبيّ ( ص) وآل بيته (ع) .
و في المقابل نجد هذه الاحاديث نفسها تنصب باللعن على علماء السوء و توبيخهم فاذا بهم يعيشون اسوء الحالات يوم القيامة لانّهم وصفوا عدلاً ثمّ خالفوه، واذا بأهل النار يتأذون من ريح افواه علماء السوء، واذا بهم يفسدون بلاداً با باكملها.
موقفنا من العلم مرتبط بموقفه من القيم :
وعلى هذا فانّ موقفنا من العلم يرتبط بموقفه من القيم ، وموقفنا من العلماء مرتبط بموقفهم هم الآخرون من القيم ، وهذا الموقف يجب ان لا يكون محدوداً بمجموعة معيّنة من العلماء بل يجب ان يكون معمّماً على المجتمع كلّه، فاذا اراد ابناء المجتمع لانفسهم الخير والفضيلة، واذا ارادوا لانفسهم السعادة والفلاح، والرقي والتقدم فيجب ان تكون مواقفهم من العلم والعلماء مواقف سليمة نابعة من القيم، لا من الانبهار المطلق بالعلم، ولا من الرفض الجاهلي له.
معالجة التخلّف معالجة جذريّة:
انّ مواقف الافراد كأفراد تتركز عند القيادات ، وفي الموقف الاجمالي للمجتمع تجاه العلماء. فلننظر في حياتنا الاجتماعية، ولنبحث عميقاً عن الاسباب التي تؤدّي الى تخلّف بلادنا، والى العوامل التي تؤدّي الى عبوديّة شعوبنا، وكيف تتحرر من نير الظالمين وهي لما تتحرر من ارهاب علماء السوء واغوائهم واستضعاف جماهيرنا، ولنحاول البحث عن الجذور فبدون اقتلاع هذه الجذور النتنة فانّ من المستحيل ان تتحرّر شعوبنا، وكيف يمكن لمن يعبد الشيطان ان يتحرّر من طاغوت علماء السوء الذين هم شياطين الانس، فعلماء السوء هم الجبت الذي يمهّد للطاغوت، وهم الذين يزيّنون للناس اخطاءهم ، ويبرّرون لهم اوضاعهم المتردّية ، وهم الذين يقفون عقبة امام حركات التحّرر، و يشيعون الاراجيف حول كلّ مصلح. هؤلاء هم علماء السوء.
دور علماء السوء في تكريس حالة التخلّف:
وهكذا ففي بلد تحيط به افكار مضلّلة، والافكار التبريريّة والتخاذليّة كيف يتسنى لاهله ان يحرّروا انفسهم؟
ان اكبر قوة للانسان هي قوة الايمان، ومع ذلك فانّها لا تستطيع ان تفعل شيئاً من دون العلم ، لانّ العلم هو مطيّة الايمان، ولكنّ علماء السوء يسرقون هذه المطيّة، ويسلبون امضى سلاح بيد الجماهير الا وهو سلاح الوعي ، فاذا كان الطغاة يستعبدون الناس في اموالهم وانفسهم فانّ علماء السوء يستعبدون الناس في عقولهم وعلومهم ووعيهم، انّهم يسرقون اغلى ما يمتلكه البشر الا وهو العقل والوعي.
ولو لم يفهم الانسان انّ السارق الاكبر هو هذا العالم المخادع الذي باع نفسه وعلمه وشعبه ببضعة دراهم، لو لم يفهم الشعب هذه الحقيقة لبقي الى الابد متردّياً في اوضاعه الفاسدة، ولا يمكن له النجاة منها ابداً، ونحن اذا أردنا حريتنا واستقلالنا واذا اردنا انقاذ بلادنا، لابد ان نقول للعالم بعد ذلك انّنا بشر مثلكم .
وهكذا يجب علينا ان نحدّد موقفنا من الطواغيت ومن علماء السوء السائرين في ركابهم والاّ فان الطاغوت سيستمر في بلادنا.
ضرورة مقاطعة وسائل التضليل الاعلاميّ:
وقديماً عندما بدأت طلائع الهجمة الاستعماريّة على بلادنا و شعوبنا افتى فقهاؤنا بحرمة الاحتفاظ باجهزة الراديو في البيت، ونحن الآن نفهم لماذا فعلوا ذلك، فقد كانوا يؤكّدون على انّ الراديو هو جهاز ضلال لذلك حرّموا- آنذاك- الاحتفاظ به في البيت، لانّ مثل هذه الاجهزة الاعلاميّة بنيت على اساس الفساد. فلماذا ننادي الى التحرر في حين اننا مازلنا نعتمد على هذه الاجهزة الاعلاميّة، فلناقاطعها فان اردنا حريّتنا لابدّ ان نحرّر افكارنا، و نتّخذ موقفاً واضحاً من الكذبة والفاسقين.
فلماذا نقبل على كلّ تلك الصحف والمجلات المليئة بالجدل والتضليل؟
في رأيي انّ من الافضل ان يبقى الانسان امّياً ولايقرأ هذه الصحف ، ولا أعني بذلك ان تبقى جماهيرنا امّية ، بل اعني انّنا يجب ان نبني كياننا العلميّ المستقلّ، فقد حرّم الاسلام الاستماع الى ناطق الاّ اذا كان ناطقاً عن الله - تعالى- ، والاّ فان الاسلام امر المؤمنين ان يجدّوا في طلب العلم الى درجة انّه اعتبر التعلّم جهاداً، وقد جاء في الحديث الشريف: ( من تعلّم لله، وعمل لله، وعلّم لله نودي في السماوات عظيماً).
اساس العلم يجب ان يكون سليماً:
وهكذا يجب ان يكون الاساس سليماً و قائماً على التقوى، وان يكون تعلّمنا قائماً على كلمة التقوى ، فاذا تعلّمنا العلم لارضاء شهواتنا وطموحاتنا ولكي نصبح شيئاً مذكوراً بين الناس، ولمنافسة الآخرين، فانّ الله- تعالى- سيجعل هذا العلم وبالاً علينا، لانّ اساس هذا العلم فاسد، فالعلم الذي تطلبه لغير الله هو علم فاسد يجرك الى النار، فاذا امسكت بيدك القلم فسائل نفسك: لماذا اكتب، وما الدافع وراء كتابتي؟ ولا تسجل اسمك في قائمة الموالين للظلم والجور، فمجرّد الكتابة في مجلاّت وصحف الأنظمة الظالمة هو حرام، واعلموا ان القلم النزية يفضّل ان يكتب على الجدران على ان يكتب في تلك الاوراق المزخرفة الصقيلة التي يزوّد بها الظالمون المرتزقة من اصحاب القلم.
انّ الكلام اذا خرج من القلب دخل في القلب ، واذا ما قاطعت الجماهير اولئك الكتّاب، وتلك الصحف والمجلاّت ، فانّ جيلاً جديداً من الرساليين سيولد، ويخرج الى الساحة.
كيف نقتلع جذور الفساد؟
والاسلام يأمرنا ان نقتلع جذور الفساد عبرالخطوات التالية:
1- مقاطعة كلّ علماء السوء و جميع الوسائل الاعلاميّة الناطقة باسمهم.
2- بناء جهاز علميّ نزيه ومتكامل وقائم على اساس التقوى من خلال التعلّم لله، والعمل والتعليم له - تعالى-.
3- مقاطعة الطغاة بالوسائل الماديّة المختلفة.
وهكذا فانّ اهمّ مسؤولّية ملقاة على عاتق شعوبنا هي مسؤوليّة التبشير والانذار، ولو تحمّلت هذه المسؤوليّة وعملت بها فانّ الله- عز وجل- سوف يمدّ اليها يد نصرته، ومن ينصره الله فلا غالب له.
ماهي علاقة العلم بالمال، وما هو الضمان الذي يعطيه الاسلام للعلم لكي يبقى مستقلا وبعيداً عن ضغوط الجبابرة، وعن استغلال القوى المنحرفة في المجتمع، وكيف يحصّن العلماء انفسهم ازاء هذه الضغوط الهائلة؟
قبل الاجابة عن هذا الاسئلة لابد أن نعرف إن ما وصل اليه العالم من تقدّم ورقي انّما هو رهين العلم والعلماء لا الحكام والجبابرة، ولكن مشكلة البشرية ان الطغاة كانوا دائما يسرقون مكاسب العلماء ، و يوظّفونها لصالحهم.
فعلى طول التأريخ كان العلم اداة فاعلة بايدي الطغاة والجبابرة لتطويع الشعوب وترويضها، فلقد كان لكلّ فرعون( هامان) يؤيّده و يؤازره و( بلعم) يؤمّن له التغطية الدينية المزيفة، وكان لكلّ معاوية رجال أمثال كعب الأحبار ، ولكلّ يزيد رجال من مثل شريح القاضين ولكل طاغوت مجموعة من العماء المرتزقة سواء تستّروا بستار الدّين أم بستار مادي.
فلولاكيسنجر وامثاله لما استطاع نيكسون ان يلعب بمصير العالم، ولولا ( بريجنسكي) وامثاله لما استطاع كارتر ان يقوم بما قام به من إفاسد في الارض، ولولا ( سوسولوف) لم يستطع ( بريجنيف) ومن قبله ( خروتشوف) ان يتسلّطوا على ربع مليار انسان في الاتحاد السوفياتي، ويلعبوا بمقدرات العالم ، ولولا ميشيل عفلق وطارق عزيز وامثالهم لما كان بمقدور صدّام ان يعبث بمقدّرات العراق و شعبه، ولولا الصحفيون الذين يبيعون ذممهم وضمائرهم لهذا الطاغوت او ذاك لما استطاع الطغاة خداع الشعوب وإغواءهم.
لابدّ من استقلالية العلم:
وتأكيدنا على استقلالية العلم لا يعني عدم التأكيد على اهميّة العلم ذاته والمكاسب العلمية الهائلة التي بلغتها البشرية بالعلم، فتخلّف بلادنا لا يعود الى وجود الانظمة الفاسدة فيها، وتسلط الدكتاتوريّات الارهابية والفاشيّة عليها فحسب ، وانّما بالاضافة الى ذلك لعدم اهتمام شعوبنا بالعلم والتعلّم، فالتخلف واقع فاسد له مظاهر عديدة منها الانظمة الفاسدة، ومنها البؤس والحرمان، وتفشي الجهل والاميّة، وفقدان الرعاية الصحّيّة، وضعف القوة العسكرية
ونتساءل : لماذا نجد شعباً آسيوياً- هو الشعب الياباني- يعيش في منطقة فقيرة في الموارد الطبيعية ، وغير ستراتيجية، يتقدّم يوماً بعد يوم ، ويبدء الثورة الثالثة في عالم الصناعة، ويغزو بانتاجه أسواق أوروبا وأميركا؟ يجيب الباحث الاميريكي( جان جاك سونان) مؤلف كتاب( التحدي العالمي) عن هذه التساؤلات قائلاً: ( إذا كان ثمّة عامل يفسّر النجاح الياباني، فهو البحث الجماعي الدائم عن المعرفة وعندما اعلن( دانيال بيل ) و ( بيترداركر) و بضعة اخرون بداية مجتمع ما بعد الصناعة الذي تحلّ فيه المعرفة كمورد اساسي محل رأس المال، لم يكونوا يتصّورون الى أي حدّ سيشق هذا المفهوم الجديد طريقه و بسرعة خاطفة في جميع الاوساط القيادية في اليابان، ثمّ في كلّ شرائح الشعب، لقد أجمع العالم على الاهيمة القصوى التي يجب ان تولى الى متابعة التعليم والمعرفة باستمرار طوال سنوات العمر.)[98].
ضمانات الاسلام لاستقلال العلم :
وهناك عدة ضمانات يعطيها الاسلام لاستقلال العلم وهي :
1-منح العلم قيمة ذاتية ليكون هو والعلماء محوراً يستقطب حوله قدرات الجماهير وطاقاتهم وامكانياتهم، وقد جاء في الحديث عن الامام الحسن العسكري ( عليه السلام) انه قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله): ( اشد من يتم اليتيم الذي انقطع عن ابيه يتم يتيم إنقطع عن إمامه، لا يقدر على الوصول اليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلي به من شرائع)[99].
فمع ان اليتيم الذي يفقد أباه في صغره يعاني الكثير من الآلام في حياته، إلاً انّ من ينقطع عن إمامه هو في الحقيقية أشد معاناة واكثر خسارة ذلك لاّنه بانقطاعه عن إمامه سيخسر الطريق الذي يصل عبره الى سعادته في الدنيا والاخرة.
وعنه( عليه السلام)ايضاً قال علي بن الحسين (عليه السلام):( اوحى الله تعالى الى موسى (عليه السلام): حببني الى خلقي، و حبب خلقي الىّ: قال : يارب كيف افعل؟ قال: ذكرهم بآلائي و نعمائي ليحبّوني، فلئن ترد آبقاً عن بابي، او ضالاً عن فنائي افضل لك من عبادة مائة سنة بصيام نهارها و قيام ليلها، قال موسى: ومن هذا العبد الآبق منك؟ قال :العاصي المتمرد، قال: فمن الضال عن فنائك؟ قال: الجاهل بإمام زمانه تعرفه، والغائب عنه بعدما عرفه، الجاهل بشريعة دينه تعرفه بشريعته، وما يعبد به ربّه ، ويتوصل به الى مرضاته، ثمّ قال عليّ بن الحسين( عليهما السلام): فأبشروا علماء شيعتنا بالثواب الاعظم ، والجزاء الاوفر).
وعن الرضا ( عليه السلام) قال: ( يقال للعابد يوم القيامة: نعم ارجلُ كنت، همّتك ذات نفسك، و كفيت الناس مؤونتك، فادخل الجنة ، الا ان الفقيه من أفاض على الناس خيره، وانقذهم من أعدائهم ووفر عليهم جنان الله، وحصل لهم رضوان الله تعالى.
ويقال للفقيه: يا ايّها الكافل لأيتام آل محمدّ الهادي محبّيهم ومواليهم، قف حتى تشفع لمن اخذ عنك، او تعلّم منك، فيقف فيدخل الجنة معه فئاماً وفئاماً حتى قال عشراً وهم الذين أخذوا عنه علومه، وأخذوا عمّن أخذ عنه، وعمن أخذ عمّن أخذ عنه الى يوم القيامة فانظروا كم فرق بين المنزلتين).
فانت اذا ألفت كتاباً فكلّ من قرأ كتابك واهتدى به يستطيع ان يدخل معك الجنة، او حتى من قرأ كتاباً مقتبساً من كتابك، وهكذا الى يوم القيامة، والفئام في اللغة تعني مائة الف انسان تعبيراً عن الكثرة الهائلة.
ومن وصايا الرسول ( صلى الله عليه وآله) للامام علي (عليه السلام) قوله: ( يا علي لا فقه أشد من الجهل )، وعنه (صلى الله وآله) قال: ( فضل العالم على العابد سبعين درجة، بين كلّ درجتين حضر الفرس سبعين عاماً، وذلك ان الشيطان يبدع البدعة للناس فيبصرها العالم فينهي عنها والعابد مقبل على عبادته لا يتوجه لها ولا يعرفها).
وعن الصادق عن رسول الله ( صلى الله عليه و آله) قال: ( فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم )، وعن الرسول ( صلى الله عليه وآله ) قال:( فقيه واحد اشدّ على الشيطان من الف عابد) ، وعن الصادق ( عليه السلام ) قال: ( معلّم الخير تستغفر له دواب الارض وحيتان البحر وكلّ صغيرة وكبيرة في ارض الله وسمائه).
وعنه ( عليه السلام) عن رسول الله( صلى الله عليه و آله) قال: ( يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب المركوم او كالجبال الرواسي فيقول: ياربّ اّنى لي هذا ولم اعملها؟
فيقال له ( هذا علمك الذي علّمته الناس يعمل به من بعدك ) .
وعلينا ان لا ننسى ان اشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلا ثمّ خالفه الى غيره، كما يقول الامام الصادق( عليه السلام) في تفسير قوله- تعالى- : ( فكبكبوا فيها هم والغاوون..) قال: نزلت في قوم وصفوا عدلا ثمّ خالفوه الى غيره.
وفي تفسير قوله- تعالى- ( ومن احياها فكأنّما احيى الناس جميعاّ ) قال الامام الباقر (عليه السلام ): (من استخرجها من اللكفرالى الايمان)، وعن على ( عليه السلام ) قال: ( لم يمت من ترك افعالا يقتدى بها من خير ، ومن نشر حكمة ذكربها).
ويمثل الرسول( صلى الله عليه وآله ) العلماء كنجوم السماء يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، فيقول: ( مثل العلماء في الارض كالنجوم في السماء يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فاذا طمست اوشك ان تضل الهداة ).
وعنه ايضا ( صلى الله عليه وآله) قال: ( ما اهدى المرء المسلم الى اخيه هديّة افضل من كلمة حكمة يزيده الله بها هدى ، ويردّه عن ردى) ، وعنه ( صلى الله عليه وآله ) وهو يبيّن منزلة العلماء في الجنة: ( ألا أحدثكم عن اقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم يوم القيامة الانبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور؟ فقيل: من هم يارسول الله؟ قال هم الذين يحببون عباد الله الى الله، و يحببون عباد الله الي، يأمرونهم بما يحبّ الله، وينهونهم عمّا يكره الله، فاذا اطاعوهم احبهم الله ).
كلّ تلك الاحاديث والعشرات من أمثالها إنّما جاءت لتوضّح قيمة العلم والعلماء، وان العلماء هم محور المجتمع، هذه هي من الضمانات الاساسية لاستقلال العلم عن المال والقوّة.
2- تزكية دوافع طلب العلم:
عندما يوقّع الطالب الجامعي على وثيقة يتعهّد بموجبها ان يخدم المعهد الذي يدرس فيه لمدة خمس او عشر سنوات، فانّما يوقّع في الحقيقة على وثيقة ارتباطه بذلك المعهد، لاّنه لم يوفر الامكانات لهذا الطالب الاّ لكي يوظفه بعد تخرّجه في المجال الذي يخدم مصالح المعهد نفسه، و هكذا يصبح العلم وبشكل تلقائي تابعاً للمال، فترى الطالب يطلب العلم لا لكي يخدم الناس واّنما لكي يكتسب قيمة بينهم ، كأن يصبح وزيراً يخدم في إحدى وزارت السلطة الحاكمة.
ازاء ذلك نرى النصوص الاسلامية تؤكد تاكيداً بالغاً على ضرورة ان تكون نيّة طالب العلم نقيّة، بأن يكون طلب العلم لله وحده، وحينما يكون كذلك فانّه سيكون للناس أي للمصلحة العامّة.
وفي الحديث المأثور عن الامام عليّ ( عليه السلام ) : ( طلبة هذا العلم على ثلاثة اصناف، ألا فاعرفوهم واعيانهم: فصنف يتعلّمون للمراء والجهل ، وصنف منهم يتعلّمون للاستطالة والختل ، وصنف منهم يتعلّمون للفقه والعقل، فأما اصحاب المراء والجهل تراه مؤذياً، ممارياً للرجال في اندية المقال، قد تسربل بالخشوع، و تخلى عن الورع ، فدقّ الله من هذا حيزومه ( أي قصم ظهره ) ، وقطع منه خيشومه ( أي أنفه ) ، وامّا صاحب الاستطالة والختل ، فانّه يستطيل على اشباهه من اشكاله، يتواضع للاغنياء من دونهم ، فهو لحلوائهم هاضم ، ولدينه حاطم، فأعمى الله من هذا بصره، وقطع من آثار العلماء أثره، وامّا صاحب الفقه والعقل تراه ذا كآبة وحزن، قد قام الليل في حندسه، وقد انحنى في برنسه ( لباس الزهد ) ، يعمل و يخشى، خائفاً من كلّ احد الاّ من كلّ ثقة من اخوانه، فشدّ الله من هذا اركانه، واعطاه يوم القيامة أمانه ).
فهو لا يثق بمن يحوم حوله من شياطين الانس، هؤلاء الذين يدورون حول العلماء ويمثلون بطانتهم الفاسدة، التي يستطيع اعداء الدين عبرها التأثير على العلماء.
1- اقصاء علماء السوء من المجتمع:
ويكون ذلك من خلال تزويد الناس بمقاييس ثابتة وواضحة يمكنهم بواسطتها التعرّف على علماء السوء، وبالتالي طردهم من ساحة المجتمع، والقرآن الكريم يضرب لنا امثالاً تأريخية على علماء السوء ويصف بعضهم بانّه ( كلب) والآخر ( حمار ).
يقول- تعالى- وهو يحدثنا عن قصه ( بلعم بن باعوراء ) العالم الذي استخدم علمه لضرب نبيّ الله موسى ( عليه السلام ورسالته: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين )[100] .
( الغواية هي الضلالة بوعي واختيار، فقد يضلّ انسان طريقه وهو غافل ، وقد يضلّ طريقه عامداّ، فهذا الانسان كان واعياً ولكنّه لم يتّبع وعيه، فضله الله وكان من الغاوين.
( ولو شئنا لرفعناه بها، ولكنّه أخلد الى الارض، واتّبع هواه، فمثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذّبوا بآياتنا )[101]
فقد كان بامكان ابن باعوراء ان يسمو بعلمه الى اعلى عليين، ولكنّه اخلد الى الشهوات، فكان مثله كالكلب الذي يلهث بمناسبة و بغير مناسبة.
وفي سورة المؤمن يحدّثنا القرآن الكريم عن العلماء الذين يغترّون بعلمهم، و يتصوّرون انّ ما عندهم من علم يغنيهم، فيستهزؤون برسالات الله، ولكنّهم ينسون ان ما توصلوا اليه من علم ما هو الاّ قطرة من بحر، ولذلك فانّ ما يجهلونه سيحيق بهم فيهلكهم و يدمّرهم.
( فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون)[102]
وفي سورة الجمعة يقول- تعالى-: ( مثل الذين حمّلوا التوارة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا، بئس مثل القوم الذين كذّبوا بآيات الله، والله لا يهدي القوم الظالمين)[103]
وفي السنة احاديث كثيرة، تستهدف ذات الهدف الذي يدور حديثنا حوله وهو ضرورة فصل علماء السوء عن المجتمع ، ففي الحديث عن الامام عليّ ( عليه السلام ) قال: قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ):
( العلماء رجلان؛ رجل عالم آخذ بعلمه فهذا ناج، وعالم تارك لعلمه فهو هالك، وانّ اهل النار ليتأذون بريح العالم التارك العلمه، وإن أشدّ اهل النار ندامة و حسرة رجل دعا عبداً الى الله عز وجل فاستجاب له وقبل منه، و أطاع الله عزّ وجلّ فادخله الله الجنة، وادخل الداعي النار بتركه علمه، و اتّباعه هواه)، ثمّ قال( عليه السلام) : ( ألا إ، أخوف ما أخاف عليكم خصلتان؛ إتباع الهوى؛ وطول الامل ، اما اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ ، وطول الامل فينسي الآخرة).
فهنا يذكر الامام ( عليه السلام ) السبب الذي يدعو العالم الى ترك علمه، وهو إتباع الهوى، وطول الامل ، فالعالم الذي يعلم ان الموت وراءه لا يسوّل لنفسه الانحراف مطلقا، ولذلك جاء في الحديث عنه ( عليه السلام ) : ( من أطال الامل، أساء العمل) ، وعن النبيّ ( صلى الله عليه وآله ): ( من كان يأمل ان يعيش غداً فانّه يأمل ان يعيش ابداً)، وهو الذي يقول عن نفسه ( صلى الله عليه وآله ): ( والذي نفس محمد بيده ما طرفت عيناي الا ظننت ان شفري لا يلتقيان حتّى يقبض الله روحي، ولا تلّقمت لقمة الا ظننت انّي لا أسيغها حتّى أغصّ بها من الموت ).
فالعالم الذي يتّبع علمه يدرك انّ عشرات الالوف من اسباب الموت تحيط به من كلّ جانب ومكان، والذي يحفظه انّما هم الملائكة الذين سخرهم الله - تعالى- لحفظه، وحينما يحين اجله فانّه يعجز عن دفع الموت عن نفسه، فالحفظة الموكّلون به قد انتهت مهمّتهم وصدر اليهم الامر بمغادرته فيقع حينئذ ضحيّة اول سبب يعترضه من اسباب الموت.
وفي الحديث عن الامام عليّ ( عليه السلام ): ( قطع ظهري رجلان من الدنيا، رجل عليم اللسان فاسق، ورجل جاهل القلب ناسك، هذا يصدّ بلسانه عن فسقه، وهذا يصدّ بنسكه عن جهله، فاتّقوا الفاسق من العلماء، والجاهل من المتعبّدين ، اولئك فتنة كلّ مفتون فانّي سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : ياعليّ هلاك امّتي على يدي كلّ منافق عليم اللسان).