المنهج الامثل - معهد الاسلامی بین الأصالة و التطویر نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

معهد الاسلامی بین الأصالة و التطویر - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



وعن عيسى بن مريم ( عليه السلام ) وهو يشبه علماء السوء تشبيها لطيفاً : ( الدنيا داء الدّين ، والعالم طبيب الدّين ، فاذا رأيتم الطبيب يجر الدواء الى نفسه فاتّهموه، واعلموا انّه غير ناصح لغيره ).

الزهد من اهم صفات العلماء:

فالزهد هو اهم صفات علماء الدين الذين من المفترض ان يصبحوا قادة للامّة، ففي دعاء الندبة الذي يحدد فيه الامام صفات اولياء الله الصالحين نقرأ هذه الفقرة: ( و شرطت عليهم الزهد في درجات هذا الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها ) ، فالله - سبحانه- فوّض اولياءه مسؤولية قيادة الناس بعد أن أخذ عليهم العهد بأن يزهدوا في متاع الدنيا وزينتها، وهذه هي اهم الشروط التي اشترطها الله على عباده الذين خوّلهم مسؤولية الامامة.

ومن حديث له ( صلى الله عليه وآله ) لابي ذر الغفاري قال: ( يا أبا ذر ان الله تبارك و تعالى اوحى الى أخي عيسى: يا عيسى ، لا تحب الدنيا فانّي لست احبها ، واحبّ الاخرة فانّما هي دار المعاد. يا أبا ذر انّ جبرئيل اتاني بخزائن الارض على بغله شهباء فقال لي : يامحمّد هذه خزائن الدنيا، ولا ينقصك من حظك عند ربّك ، فقلت: يا حبيبي جبرئيل، لا حاجة لي فيها ، اذا شبعت شكرت ربّي ،( اذ جعت سألته ).

وعن امير المؤمنين ( عليه السلام ) قال: ( انّ في جهنم رحى تطحن، افلا تسألوني ما طحنها ؟، فقيل له: وما طحنها يا أمير المؤمنين ؟ قال: العلماء الفجرة ، والقراء الفسقة، والجبابرة الظلمة ، والوزراء الخونة، والعرفاء الكذبة).

وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) : ( اذا رأيتم العالم محبّاً للدّنيا فاتّهموه على دينكم، فانّ كلّ محبّ يحوط ما احبّ) ، واوحى الله - تعالى- الى داود ( عليه السلام ) : ( ياداود لا تجعل بيني و بينك عالما مفتونا بالدنيا فيصدّك عن طريق محبتي ، فانّ اولئك قطاع طرق عبادي المريدين، انّ ادنى ما أنا صانع بهم أن انزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم ).

طبــــقات العلماء:

وفي تفسير الاية الكريمة ( والشعراء يتّبعهم الغاوون)[104]

قال الامام ابو جعفر الباقر ( عليه السلام ) : ( هل رأيت شاعراً يتبعه احد؟ انّما هم قوم تفقّهوا لغيرالدّين، فضلوّا واضلّوا)، ويبيّن الامام الصادق ( عليه السلام ) في حديث له منازل العلماء الاشرار في نار جهنم فيقول:

( انّ من العلماء من يحبّ ان يخزن علمه، ولا يؤخذ عنه، فذاك في الدّرك الاول من النار، وانّ من العلماء من إذا وُعظ انف، واذا وعظ عنف، فذلك في الدرك الثاني من النار).

فان اراد ان ينصح الناس ويرشدهم كان كلامه بعنف و غلظة، اما اذا نصحه الاخرون فانّه يستنكف من نصيحتهم، ثمّ يستأنف ( عليه السلام ) قائلا: ( ومن العلماء من يرى ان يضع العلم عند ذوي الثروة والشرف ولا يرى له في المساكين وضعا، فذاك في الدرك الثالث من النار، ومن العلماء من يذهب في علمه مذهب الجبابرة والسلاطين، فان ردّ عليه شيء من قوله او قصر في شيء من امره غضب ، فذلك في الدرك الرابع من النار، ومن العلماء من يطلب احاديث اليهود والنصارى ليعزز بها علمه، ويكثر بها حديثه، فذاك في الدرك الخامس من النار، ومن العلماء من يضع نفسه لفتيا ويقول: سلوني ، ولعلّه لا يصيب حرفا واحدا، والله لا يحبّ المتكلّفين، فذاك في الدرك السادس من النار، ومن العلماء من يتّخذ علمه مروة وعقلا فذاك في الدرك السابع من النار).

وهؤلاء هم الذين يستغلون علمهم في سبيل الاستعلاء على الناس كالكهنة الذين كانوا في بعض مراحل التأريخ اعلى كعباً من الملوك، هم الذين كانوا يستغلون الجماهير بعلمهم وفطنتهم، ولم يوظّفوا في نفس الوقت علمهم من اجل السلاطين، ولا من اجل اصحاب المال والنفوذ، وانّما من اجل انفسهم إرضاء لشهوة التسلّط والتحكّم عندهم.

العلمــاء النموذ جيون:

والاحاديث في هذا المجال كثيرة ، وما التي ذكرناها في هذا الفصل الا جزء بسيط منها، ولقد كان الحديث يدور حول ذمّ علماء السوء الذين باعوا علمهم من اجل شهواتهم، امّا العلماء الصادقون الذين تعلّموا لله، وعلموا لله، وطبقوا علمهم على انفسهم قبل ان يصدعوا به، وقاوموا في سبيل ذلك كلّ الضغوط، وصمدوا كالجبل الاشمّ في وجه جميع الانحرافات فهم الذين يجب ان نعرفهم حقّ المعرفة كي نتمسك بهم، ونتخذهم قدوة صالحة لنا في الحياة.

وهؤلاء العلماء هم الذين تجد في الاحاديث الشريفة صفاتهم انّهم ورثة الانبياء ، وخلفاء الرسول( صلى الله عليه وآله ) ، وهم كأنبياء بني اسرائيل، وان منزلتهم لمع الشهداء والصديقين، وان نومهم بالليل خيرمن قيام العابد ، وجلوسهم في بيوتهم خير من سفر المجاهدين، ومدادهم افضل من دماء الشهداء، وان من نظر الى وجوههم وابواب بيوتهم كتب الله _ سبحانه_ له بذلك عبادة، ومن سألهم مسألتين أعطي في الاخرة مدينتين، كلّ منهما اكبر من الدنيا مرّتين، واذا مات احدهم ثلم من الاسلام ثلمة لا يسدّها شيء.

وثمن كلّ هذا التعظيم، وتلك المنازل الرفيعة التي يمنحها الاسلام لعلماء الدين الربانيين، صمودهم في خنادق الرسالة يتحدّون كلّ الضغوط، ويثوّرون الناس في وجه كلّ ظلم وانحراف، وكلّ طاغوت متسلّط لا همّ له سوى اطفاء نور الله ، واستعباد عباده وسحقهم.

الفصل الثالث

إستقامة المعهد

من المعلوم ان قراءة القرآن والدعاء ليست من الأمور الواجبة وانما هي تمهيد لكثير من الواجبات الشرعية التي نقوم بها، وهي بالاضافة الى ذلك تمثل الحصانة والمناعة ضد أمراض هذا العالم المادي الذي نعيش فيه.

والعالم الديني أو رجل الدين بصورة عامة عليه أن ينبري لمقاومة المفاسد الاجتماعية والانحرافات الدينية، ولأنه مسؤول عن التصدي لها فهو- إذن- يقترب منها كثيراً، وكما إن من الممكن أن يؤثر هذا الانسان في تلك المفاسد و يعالجها، كذلك فان من الممكن ان يتأثر ويتورط فيها.

كيف يحصن عالم الدين نفســــه ؟

وبناء على ذلك فمن الضروري أن يتحصن الانسان الذي أخذ على عاتقه معالجة الناس المنحرفين، وحصانته تكون من خلال قراءة القرآن والادعية بعمق وتدبر، والاستمرار والمواظبة على قراءتها وخصوصاً عندما يكون بمفرده، فعندما يتهجد الانسان ليلاً بالذكر وبالآيات القرآنية الكريمة يشعر بلذة منقطعة النظير لا تتوفر في غيرها من الممارسات العبادية، ففي حديث عن الامام عليّ - عليه السلام- يرد التأكيد على ذلك في قوله: ( أحبّ من دنياكم ثلاثاً؛ ألطعام، افشاء السلام، والصلاة بالليل والناس نيام).

فالمرحلة الاولى- إذن - هي تحين الفرص للابتعاد عن الناس والأضواء ليتسني للفرد هداية نفسه، ومن ثم هداية مجتمعه في المرحلة الثانية.

ويروى في هذا المجال إن بعض الصالحين كانوا يذهبون الى المقابر، ويجلسون عندها، ليعظوا بها انفسهم وينصحوها، فيبدأ كل منهم بتعديد وذكر ذنوبه وخطاياه التماساً منه- تعالى- المغفرة.

فالضمير الانساني الاسلامي يمنع الانسان من إرتكاب المعاصي ، ولكنه قد يرتكبها الاّ انه سرعان ما يتوب، اما الذي يرتكب الذنب ولا يتوب منه فعليه ان يتذكر ذنوبه ويعددها في حين خلوته و توجهه الى الله - تعالى-.

وقد كان اية الله العظمى الميرزا مهدي الشيرازي- رحمة الله عليه- من هؤلاء الواعظين لانفسهم، حيث كان يحمل معه دفتراً يكتب فيه ما يعظ به نفسه، وما يزجرها عن اتيان المعاصي، ولرسوخ ارادة التغيير في نفسه استطاع احداث التغيير الاجتماعي ايضاً، فلقد تصدى هذا العالم الكبير ايام المد الاحمر للمستعمرين، ومروجي الافكار الزائفة لجميع الاغراءات ووقف بشجاعة وبسالة لمحاربة الشيوعية، ومقاومة الفساد حتى وافاه الاجل.

فالدنيا مشحونه بالسلبيات، وهي كلها امتحان، فقد يرى البعض السلبيات ويهرب منها بدلاً من أن يبادر الى معالجتها، والعالم يشبه الطبيب الى حد بعيد، فالطبيب يعالج المريض ولايستطيع ان يهرب منه ويتركه ولكن يمكنه أن يتحصن لمواجهة المرض، وكذلك هو العالم.

الممارسات العبادية السبيل الى التحصــن:

ويتم التحصن من خلال المزيد من تلاوة القرآن و قراءة الادعية وبالاستفادة مما نقرؤه، ومن خلال التحصن بدرع العلم، ولطالب العلم محفزات كثيرة تدفعه لطلب المزيد من العلم ؛ منها ما قد يتمثل في الامتيازات التي تتمتع بها بعض المدارس بالاضافة الى تشجيع الاسرة، وهناك محفزات أقوى منها، محفز الايمان بالهدف والتضخية من أجله، وهناك بالاضافة الى ذلك الكثير من الدوافع التي تثير في النفس الرغبة في التعلم والتعليم ، وهذا ما تدفعنا اليه آيات القرآن الكريم والاحاديث النبوية الشريفة، كقوله- صلى الله عليه وآله-:

( طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة)[105]

( من تعلم لله عز وجل ، وعمل لله وعلم لله ، نودي في ملكوت السماء عظيماً)[106]

ومن الواجبات على طالب العلم أن يكون واعياً عند تلقيه للعلم، مفتوح القلب ليستوعب مفردات الدرس، لان الروح هي التي تدرس لا الجسد، فعندما يكون الطالب في حالة تلقي الدرس يجب ان يتحول الى أذن صاغية للمدرس، فلا يستهزىء ولا يستهين بالقيم ، ويستجمع شتات فكره لفهم ما يلقيه المحاضر عليه.

إصلاح النفس منطلق التغيير:

فعلى الفرد أن يصلح نفسه ليصلح من ثم مجتمعه، فالشخص الذي تكون معلوماته مهزوزة وضعيفة، ومطالعاته سطحية لا يمكنه مواجهة الامراض الاجتماعية والمفاسد الخلقية.

وطلاب العلم ملزمون اليوم أن يكونوا أفضل العلماء لكي يكونوا قدوات حية لغيرهم. ولكي نكون قدوة جيدة يجب ان نكون ملمين بالكثير من العلوم، فلا يكفي أن نتعلّم الفقه والاصول فقط كما تفعل المدارس الدينية، بل يجب علينا ان نتعلم السياسة والاقتصاد والاجتماع والاخلاق وما الى ذلك، فلو تعلمنا الفقه دون السياسة - مثلاً- فاننا نكون قد ضربنا مثلاً سيّئاً لسائر المدراس والاتجاهات، وبذلك نكون قد حطمنا المثل الاعلى.

والمطلوب منا أن نجمع بين العمل في سبيل الاسلام، وتعلم العلوم الحديثة من مسائل سياسية وادبية وقراءة مختلف الكتب وبين التعمق في الفقه والاصول. ولكي نثبت هذه النظرية علينا أن نهتم بكلا الجانبين، لان الجمع بين مختلف العلوم يثمر أفضل النتائج، وكذلك العمل الى جانب التعلم، فحياة الكسل والجبن والاضطراب والتوتر يجب ان نبتعد عنها لنقبل على حياة جديدة مليئة بالنشاط والعمل، كما يقول ( تعالى) :

( يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحاً فملاقيه )[107]

الخطوط الرؤيسية للحياة :

وهناك ثلاثة خطوط تتحرك بشكل متواز حتى يسترجع الله عز وجل أمانته من الانسان المتمثلة في روحه الكائنة بين جنبية ؛ الخط الاول هو خط العلم : ( أطلبوا العلم ولو بالصين )[108] ، والخط الثاني هو خط الورع والتقوى وبناء الذات : ( اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن الاّ وانتم مسلمون)[109] ، والخط الثالث هو خط العمل: ( يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحاً)[110]

وللأسف فان المجتمع الذي نعيش فيه اليوم أقل ما يقال عنه انه لا يجسد تعاليم الاسلام، فلو كان هذا المجتمع يطبق تعاليم الاسلام كلها لما وصل الى ما هو عليه الان، لان مجتمعاتنا تابعة ومرتبطة بحكام الجور ، فلابد أن نغير هذه المجتمعات بعد أن نغير انفسنا وهي عملية ليست بالسهلة، والاصعب منها والاكثر ضرراً هو ان لا نعمد الى تغيير انفسنا، وربنا المتعال قالها بصراحة : ( ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).

لا تنافي بين طلب العلم وممارسة الانشطة الاخرى:

قد يقترح البعض تشكيل لجان نعمل ضمنها، وقد يسود الاعتقاد ان العمل ضمن هذه اللجان يتنافى مع دراسة طالب العلم، في حين ان هذا الاعتقاد مغلوط لأنّ دماغ الانسان يجب أن يكون واسعاً يستوعب جميع الاعمال كلاًّ في وقته، فلا يصح ان يتذرع طالب العلم الرسالي بانه مشغول في الدراسة ، بل عليه ان يمارس جميع الاعمال وفق تنظيم خاص مثله كمثل الاشخاص الذين يمارسون شتى انواع الاعمال من الصباح حتى المساء ودونما كلل أو ملل.

إن العمل ضمن اللجان والاشتراك في انشطتها وادارتها هي مجموعة ممارسات رياضية من شأنها بث الطاقة الحيوية في أرواح الشباب المؤمن ، وتدفعهم الى المزيد من العمل والانتاج والابداع ، فالذي يتحرك جسده يتحرك و ينشط عقله تبعاً لذلك.

من هنا ينبغي أن نغرس في نفوسنا بذور الروح الشابة المتفاعلة التي يستهدف الاسلام ترسيخها في نفوسنا ، وخصوصاً في نفوس طلاب العلم، وصولاً الى تحقيق الشخصية المثالية التي يجب ان يتمتع بها طالب العلم.

الفصل الرابع

هدفيـة المنهج

حجج الله على الناس:

قد نتعلم عندما نتلو آيات الذكر الحكيم ، والنصوص الاسلامية الاخرى، المضامين المبشارة التي تدل عليها الفاظها وكلماتها، أو قد نتعمق فيها لنصل الى تلك القيم التي تهدي عقولنا، واذا بلغ الانسان بالآيات الكريمة الى هدى العقل، فانه سيصبح من أولي الالباب الذين يبحثون عن الجوهر والمغزى، ولا يكتفون بالحدود والأطر والمظاهر ، والحديث الشريف عن الامام الكاظم ( عليه السلام ) يقول : ( ان لله على الناس حجتين؛ حجة ظاهرة وحجة باطنة ، فأما الظاهرة فالرسل والانبياء والأئمة- عليهم السلام- وأما الباطنة فالعقول)[111].

فالحجة هي التي تهدي الناس الى الحق، وبما أن الحق واحد فالحجج التي تهدي الانسان الى ذلك العقل ينبغي أن تكون واحدة هي الاخرى، حيث ان كليهما يصبان في مصب واحد، ويهديان الى حقيقة واحدة ؛ فالعقل يهدي الى الحق والشرع يهدي الى الحق ذاته، ولكن متى نعرف ونفهم الشرع بشكل كامل؟

حينما نصل بالشريعة والايات القرآنية أو النصوص النبوية الى ذات الحقيقة التي نصل اليها عبرعقولنا فحينئذ نكون قد فهمنا الشريعة فهما حقيقياً ، فاذا قرأنا- مثلاً- آية قرآنية تأمرنا بالعدل فسوف يستقيم الامر لدينا آنئذ، لأن العقل دلنا على ما قد دل عليه الشرع، اما اذا دلنا العقل على شيء، والشرع على شيء آخر مخالفاً للاول، فحينئذ علينا أن نتهم انفسنا لاننا لم نفهم الشريعة.

وفي هذا المجال نسوق مثالا تأريخياً في تلك الفرقة التي كانت تزعم ان الله - تعالى- يُرى يوم القيامة ، وان المؤمنين بامكانهم أن ينظروا اليه- سبحانه وتعالى- مستندين الى قوله - تعالى-: ( وجوه يومئذ ناظرة، الى ربها ناظرة) فالعقل لا يمكنه ان يحكم بانه يستطيع ان يرى الله - تعالى- وهو الذي خلق الرؤية والعقل ، وخلق الانسان والعالم، وخلق الكون بما فيه، فيستحيل علينا الاحاطة بجميع المخلوقات ، ذلك لان العين لا يمكنها أن ترى أكثر من مسافة قصيرة فكيف تستطيع ان ترى المجرات بل وخالق هذه المجرات؟ فهذه الآية يجب ان تؤول لكي يكون فهمنا لها فهماً دقيقاً، وهذا المبدأ لا ينطبق على المجالات العقائدية فحسب ، وانما يمكننا تطبيقه والقياس عليه حتى في المجالات الحياتية بأجمعها.

حقيقة الاخلاص في العمل:

والاخلاص في العمل- وهو الخلوص الذي أمرنا أن نستحضره في انفسنا قبل البدء بأعمالنا- ليس مجرد نية نمارسها قبل الصلاة كأن اقول: أصلي صلاة الصبح ركعتين لوجوبها قربة الى الله - تعالى- بل ان النية والخلوص فيها لا يعنيان مجرد هذا الكلام ، ومجرد خطور هذه الفكرة في الذهن ، فالاخلاص في النية مقياس يهدي العقل، وينعكس ايضاً على الاعمال والممارسات حتى نجد انفسنا قادرين على اكتشاف المخلص من غيره بشكل واضح وسريع، لان حياة الانسان المخلص، وممارساته ، وأهدافه تختلف جذرياً عن حياة واهداف وممارسات غيره من الناس.

لقد صرح ربنا- سبحانه- في القرآن المجيد، ان ( وقالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله، ذلك قولهم بافواههم يضاهؤون قول الذين كفروا من قبل)[112].

فقد كان الكفار سابقاً يقولون بأن لله - سبحانه- ولداً ، ثم دخلت هذه الفكرة الخاطئة المذهب المسيحي فيما بعد وعبر مجموعة من الفلاسفة كان في طليعتهم ( افلاطون ) ، وكما دخلت هذه الفكرة المسيحية فقد دخلت أيضاً اليهودية من قبل

ثم يحذر الله- تعالى- القائلين بهذه الفكرة في قوله: ( قاتلهم الله انّى يؤفكون، اتخذوا احبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)[113] أي إن اهل الكتاب من نصارى و يهود اتخذوا المسيح و عزيراً- عليهما السلام- اربابا من دون الله، ( وما امروا الا ليعبدوا الهاً واحداً لا اله الا هو سبحانه عما يشركون)[114] والشرك الذي ورد في هذه الآية ليس شركاً داخلياً فحسب وانما ينعكس على هيئة مظاهر متعددة، وكما ان الشرك يظهر في صورة اعمال، فان الاخلاص ايضاً يتجسد على شكل اعمال.

وقبل ان يقول الله - تعالى-: ( سبحانه عما يشركون) قال: ( اتخذوا احبارهم ورهبانهم ارباباً من دون الله) ، كما انه - تعالى شأنه- لم يقل: ( اتخذوا المسيح ) في حين ان الوجه البارز فى المسيحية المنحرفة هو اتخاذ المسيح رباً من دون الله ، فهم يعتقدون انه ابن الله ، ولكن القرآن يقول ( اتخذوا احبار ورهبانهم ) ، لان القول بربوبية المسيح ينعكس في واقعهم على شكل عبادة الاحبار والرهبان، ولذلك جاء الحديث على النحو التالي بان ذكر القرآن في البدء عبادة الاحبار والرهبان ثم المسيح ثم قال في النهاية: ( سبحانه عما يشركون ). الاخلاص واقع سلوكي أم نية مجردة ؟

وعلى هذا فان الشرك ليس مجرد عقيدة، وإنما هو واقع سلوكي، كما ان الاخلاص هو ايضاً واقع سلوكي في حياة الانسان، فالخطيب الذي يتحدث باخلاص يختلف عن الخطيب الذي يتحدث بدونه ، ويتضح لنا ذلك- أي حالة الاخلاص- في حيوية كلامه، واختياره لموضوعاته، ومدى تكثف اسلوب التحدي فيها، فعندما يعيش هذا الخطيب في بلد الطاغوت، ويتحدث باخلاص عن الجهاد وغيره من الضروريات متحديا بذلك السلطة فحينئذ يمكننا ان نطلق صفة الاخلاص على هذا الخطيب.

ولكننا نرى في المقابل بعض الخطباء يرتبكون ويرتجفون فوق المنابر ويفقدون كل المميزات التي وهبها الله إياهم، يكتمون كلمة الحق، ويخشون ان يصدعوا بها عندما يجد طاغية ما أو أحد ممثليه جالساً في مجلسه، هو يعلم - أي الخطيب - إن الله أخذ عليه المواثيق والعهود بالاخلاص في كلامه وسائر جوانب حياته.

وعلى هذا فان الاخلاص ليس مجرد حديث، ولا مجرد نية تلفظ، او خاطرة في الذهن بل هو خلوص النية لله، ذلك الخلوص الذي ينعكس على مختلف جوانب حياة الانسان ، و إذا إنعكس على حياة الانسان أثمر، أما إذا كان مجرد لقلقة لسان ، أو خطور نية فانه سوف لا يتمخض عن آية نتيجة.

الاخلاص منطلق عمل الحوزات العلمية:

والحوزات العلمية لابد أن تستوحي من هذا الاخلاص برامج عملية لدروسها، ذلك لان سيرتها الدراسية لابد ان تكون متوافقه مع أوامر الله - جل وعلا- ، فالهدف هو الذي يحدد وسيلته، وبالتالي فاننا عندما نريد أن نصل الى هدف معين فلابد أن نبحث عن الوسيلة، وبالتالي فاننا عندما نريد أن نصل الى هدف معين فلابد أن نبحث عن الوسيلة التي توصلنا اليه.

علينا أن نسأل أنفسنا لماذا ندرس الفقه والنحو والتفسير والمنطق..؟ ولماذا ندرس الاصول والتأريخ ؟

فإن لم تكن أهدافنا من هذه الدروس واضحة فاننا سنتورط، وستنقلب علينا وبالاً ، فعندما ندرس الفقه- مثلاً- فاننا لا ندرسه من أجل أن نتعلم منه البيان والبديع ، بل نريد ان ندرسه لنفهمه هو نفسه ، واما العبارات الفصيحة والمعقدة فيجب علينا ان نتعلمها من كتب البلاغة.

اهداف الدراسة على ضوء الاخلاص:

وبناء على ذلك فان للدراسة اهدافاً خاصة منها:

1- التركيز على المحتوى لا الاطار، فاذا وقفت بعض العبارات دون وصولنا الى هذا الهدف نستطيع ان نتبع شتى السبل لازالة مثل هذه العراقيل كأن نغير الكتاب وندرس كتاباً آخر يكون محتواه أبسط ، فان يدرس الانسان طيلة حياته مادة ما ومن ثم يعرض للاستفسار عنها فلا يجيب إجابة وافية فهذا يعني انه لم يعرف الهدف الذي يدرس من اجله هذه المادة، وفي هذا مضيعة للوقت والجهد، وتأخر عن ركب الحضارة.

2- التطبيق والممارسة كما يشير الى ذلك - تعالى- في قوله: ( فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين )[115] فالتفقه وفهم القرآن و تعلمه لا يمكن ان يكون الا بالتحرك والهجرة، فلكي يفقه طلاب العلم معارف القرآن والسنة، ولكي يطلعوا على كثير من الامور الغامضة عليهم ان يتحركوا، وينفروا ليكتسبوا بالتالي المزيد من المعلومات والتجارب.

فعلينا- إذن - أن نقرأ الكتب، ونطلب العلم بهدف التعمق فيه، ومن ثم لأجل ممارسته وخدمة الناس من - خلاله؛ فعندما ندرس النحو مثلاً- علينا تطبيقه في حياتنا اليومية والافادة منه في تصحيح الاخطاء والالفاظ الدخيلة في كلامنا، وكتابة الموضيع الادبية بعد الاستعانة بكل ما درسناه في علم النحو، و هكذا فان التطبيق هو أحد أهدافنا الرئيسية التي نتوخاها من طلب العلم.

وكذلك الحال بالنسبة الى السياسة، فعندما أدرس هذا العلم يجب ان لا يكون هدفي فهم المصطلحات السياسية فحسب، وانما ينبغي ان نفهم السياسة حتى نصل الى مرحلة نستطيع فيها ان نصون انفسنا من المؤامرات الاستكبارية العالمية.

وكذلك عندما ندرس التأريخ يجدر بنا ان نستهدف معرفة تلك القوانين والسننن الالهية المتحكمة في التأريخ لكي نأخذ الدروس والعبر منه.

ان طالب العلم الذي لا يضع اهداف الدراسة نصب عينية سيكون في المستقبل وبالاً على أمته، بل انه قد يقودها الى دار الخراب والبوار.

و يعتبر القرآن أبرز الدروس وأعظمها فنحن عند دراستنا إياه ينبغي علينا ان نهدف من هذه الدراسة الوصول الى مرحلة التدبر في القرآن لكي لا نشك في جدوى دراستنا له.

ونحن عندما نستشكل و ننتقد، فان اشكالاتنا وانتقاداتنا هذه لا تقع على الجهلة من الناس ولا تنصب على العلماء، بل انها تقع على انصاف العلماء من الناس الذين يفتقرون الى العلم الكامل ومع ذلك يفتون الناس بعلمهم الناقص.

المطلوب من الحوزات إنتاج علماء حقيقيين:

والمطلوب منا اليوم ان نجعل الحوزات العلمية منتجة للعلماء الحقيقيين، ومربية لمن يفهم ويعرف الفقه والسياسة والتفسير تمام الفهم والمعرفة، ويتعمق حتى يصل الى اهداف كل تلك العلوم، وهذه الاهداف هي التي تحفزنا للبحث عن كتاب دون آخر، وان كانت الدعايات القوية تحيط ببعض الكتب غير المفيدة، ولكن الذي يبحث عن الدعاية لا يمكنه ان يبحث عن اهدافه، ولذلك كان لزاما عليه ان يبحث عن الهدف لا عن الاعلام والدعاية ، ولا عما يجب عليه ان يفعله طلباً للشهرة، لان ذلك ليس من الاخلاص في شيء.

إن ما ذكرناه كان ملخصاً لما أردنا تبيانه لطلاب العلم في مجال العلوم ، وكل واحد منا قد يكتشف من خلال ممارساته ، وقيامه بالتبليغ بين الناس ان هناك علماً آخر لابد ان نتعلمه، فيضغط على الحوزة العلمية باتجاه تعلمه، فنحن نريد ان نبحث عن المجتمع الذي يمكننا ان نمارس عملية التبليغ فيه ، وما يحتاج اليه هذا المجتمع ، ثم نتحرك متوكلين على الله ، و مستمدين العون والتوفيق منه .

الفصل الخامس

المدرس الناجح

هناك حديث شريف في فضل التدريس يقول: ( من تعلم علماً فقد تعلم علماً واحداً ، ومن علم علماً فقد تعلم اربعة علوم ) ، وكل من يمارس دور الدراسة والتعليم يدرك عمق معنى هذا الحديث وواقعيته ، فالمدرس هو الشخص الوحيد الذي يفهم بالضبط ما يقوله في فصل الدراسة ، فلا يمكن ان يكون هناك طالب يفهم المادة مثل ما يفهمها الاستاذ.

المباحثة منهج علمي متطور:

وأي واحد منا لو مارس دور الطالب في حياته فانه سوف لا يفهم ما يلقى عليه من دروس بشكل كامل إلا اذا قام بدور المدرس، ولذلك بات منهاج المباحثة والمذاكرة من افضل البرامج والمناهج الموضوعة في الحوزات العلمية ، لأنّ ذلك يمنح و بشكل متناوب فرصة ممارسة دور المدرس ولو بصورة جزئية .

وطريقة المباحثة تتلخص في ان نقرأ كتاباً ما فيقوم احدنا بدور المدرس ليشرح الدرس وفي اليوم التالي يحل دور الطالب الآخر ليكون مدرساً يشرح الدرس لزملائه .

وفي التدريس والمباحثة فرصة ثمينة يتاح لنا من خلالها فهم ما درسناه من جديد أضف الى ذلك ان ما نستفيده من التدريس يفوق بكثير ما كنا نستفيده من الدراسة والمدرسين، كما ان الفهم العميق للدروس الابتدائية والذي نحاول ان نصل اليه عند المباحثة يساعدنا كثيراً على فهم الدروس المتقدمة، فالذي يدرس النحو- مثلاً- فان اول كتاب سيطالعه هو ( لمنهاج ) ثم يأتي بعد ذلك ( قطر الندى وبل الصدى ) ومن ثم ( شرح ابن عقيل ) ، فالذي لا يفهم المنهاج يصعب عليه فهم غيره من الكتب، اما اذا درسه بفهم وعمق و تمكن منه فانه يستطيع فهم ما سواه.

التدريس مناعة ضد النسيان:

ومن القوائد الكثيرة الاخرى التي نحصل عليها من اسلوب المباحثة والتدريس إستيعاب الدروس جيداً لما يتطلبه التدريس من إعادة للدرس وتكراره لمرات عديدة وبالتالي عدم نسيانه، والتخلص من هذه الافة التي يشير اليها الحديث الشريف: ( آفة العلم النسيان) .

واهمية التدريس تكمن في هذا الجانب ، وهو ما يحصل عليه الطالب بواسطة التدريس والمتمثل في الفهم العميق، والحفظ الجيد للعلوم التي يتلقاها.

مشاكل التدريس:

والتدريس ليس مجرد تقديم معلومات للطالب وانما هو حالة في نفس الانسان، أو بتعبير اخر هو حالة متكاملة في النفس يستطيع الفرد من خلالها التغلب على المشاكل التي تعترض هذه الوظيفة الانسانية، ومن هذه المشاكل:

1- التهيب الذي يمثل اول مشكلة تواجه الطالب عند دخوله الصف وعليه ان يتجاوزها.

2-لا أبالية الطلاب حيال المادة، ولكي لا يواجه المدرس هذه المشكلة يجب عليه ان يجذب الانتباه نحو المادة.

3-صعوبة المادة بالنسبة الى الطلاب وعليه في هذه الحالة ان يستعين بالامثلة المبسطة ليوضح المادة، ويوصلها الى اذهان الطلاب سهلة مستساغة.

وكل هذه الخطوات ليست بالضرورة مرتبطة بفهم المادة، وانما تدخل ضمن مجموعة حقول كحقل علم النفس ، والتربية ، والاجتماع، وحقول اخرى مختلفة.

واجبات المدرس في الصف:

فعلى المدرس- مثلاً- النظر في اعين الطلاب ليكتشف كل من يزيغ ذهنه عن الدرس، وعليه ايضاً ان يحدد ما يشغل بال الطالب، ثم يحاول ، أن يجذب إنتباه الجميع بأن يغير اسلوبه على الفور وكلامه او يحاول ان ينبه الطالب الشارد الذهن بأي شكل من الاشكال.

ومن هذا الطريق- طريق دراسة نفسية الطلاب- يمكنني أن أكون مدرساً ناجحاً اقرأ ما يدور في خلد الطلاب من خلال عيونهم وامور اخرى كثيرة، ولذلك نرى ان رجال المباحث والاستخبارات يرتدون دائماً ملابس داكنة حتى لا يفهم الاخرون كيف وبماذا يفكرون، وكذلك نرى ان بعض السياسيين يرتدون اثناء المفاوضات المهمة نظارات داكنة ، او لا ينظرون الى الطرف المقابل حتى لا يكتشف الاخير مايدور في خلده ، فعندما يقص عليك شخص ما قصة غريبة لم تسمعها فان علامة التعجب سترتسم في عينيك، ولذلك فان في دراسة علم النفس فائدة عظيمة يحصل عليها المدرس في ممارسته لوظيفته.

ووظيفة المدرس في الصف لا تتلخص في إنهاء الوقت كيفما اتفق، بل يجب على المدرس ان ينظر نظرة تقديس الى الوقت و خصوصاً بالنسبة الى الطالب ، فكل مدرس إنما يأخذ في الحقيقة اربعين دقيقة من وقت عدد من الطلاب نفترض انهم يبلغون خمسة عشر طالباً ، و بحساب ذلك رياضياً نجد انه يأخذ ستمائة دقيقة وهو وقت لا يستهان به .

وعلى هذا فان على المدرس ان يقوم في هذا الوقت بعدة وظائف ، فعليه ان يُفهّم المادة بشكل سريع وعميق بحيث تترسخ في اذهان الطلاب ، وهذه عملية هامة و معقدة في مهمة التدريس.

الاسلوب الصحيح في التدريس:

ونحن نرى بعض الطلاب يتذكرون موضوعاً ما بعد عشرات السنين ذلك لأن الاستاذ درسهم اياه بأسلوب صحيح بأن دعم الموضوع بالامثلة وما الى ذلك مما جعل الطلاب يذكرون هذا الموضوع بعد سنين ، وهذا فن يجب على كل مدرس ان يتعلمه من خلال الممارسة لان المدرسة لا تعلمنا مثل هذه الامور ، فعلينا- اذن- ان نكتسبها من خلال التجارب والممارسات، فالمدرس الجيد هو الذي يمهد للطلاب السبيل لفهم اكثر الكتب تعقيداً وصعوبة.

وفي هذا الجال أنقل هنا إحدى تجاربي الشخصية عندما كنت ادرس مع مجموعة من الطلبة كتاب ( كفاية الاصول ) الي كان اكثر الكتب صعوبة ، وقد كنا ندرسه عند سماحة آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي ( حفظه الله ) .

وكنا نذهب عنده في زحمة ما يشغله من الاعمال ، فنأخذ من وقته نصف ساعة ليدرسنا هذا الكتاب، فكان السيد يدرسنا خلال ربع ساعة، وفي الربع الثاني يحدثنا عن السياسة وقضايا اخرى.

وقد كانت الدقائق الخمسة عشرة التي كان يدرسنا فيها السيد ( حفظه الله ) تعادل على الاقل ساعة مما يدرسه الاخرون مضافاً الى ذلك عدم احساسنا بالملل ، فقد كان يكفي ان نجلس يشرح لنا الموضوع بأسلوب مبسط للغاية، فيحل ألغاز الكتاب وغوامضه حتى تكشف لنا، وكان من ميزاته ايضاً انه كان يتكلم بسرعة خلافاً لبعض المدرسين الذين اعتادوا ان يذهبوا الى زاوية الصف ليفكروا قليلاً.

وفي الوقت الذي كنت ادرس فيه هذا الكتاب ( كفاية الاصول ) عند السيد كتبت انا ايضاً شرحاً لكتاب الكفاية، وقد رآه احد العلماء من مراجع النجف مدوناً في دفتر فاطلع عليه فأعلن انه يصلح لان يطبع لاحتوائه على شرح جيد.

ولقد كان عمري في تلك الايام التي درسنا فيها الكفاية دون العشرين ، ولكني استطعت وبفضل التدريس الجيد ان أكتب شرحاً للكفاية وهو الكتاب المعقد ! والفضل في ذلك يعود الى فن التدريس الذي كان الاستاذ يحذقه، والذي يتبلور في اهتمامه بالطلاب، ومتابعته للموضوع و تعمقه في المادة ، ومحاولة البحث عن الامثلة التي تقرب الى اذهان الطلاب معلومات الدرس.

خلق الجو الحيوي من شروط المدرس الناجح:

ومن الامور الاخرى المرتبطة بالتدريس ان الحديث في الصف لا ينبغي ان يكون مقتصراً على الدرس فحسب لان فكر الانسان يتعب ويرهق من جراء الخوض في موضوع واحد، فهو- أي الفكر- بحاجة الى طرائف ليس من الضروري ان تكون مضحكة كأن تكون استطراداً حلواً لغرض تلطيف الجو، وقد يكون هذا التلطيف من خلال التعليق على حدث سياسي ما ، او سرد قصة معبرة لطيفة وما الى ذلك.

طريق المدرس الى كسب قلوب الطلاب:

وعلى هذا فان على المدرس ان يتبع جملة امور يستطيع عبرها النفوذ الى قلب الطالب بشخصه ودرسه ، و هذه الامور هي:

1- التواضع لانه يؤدي الى كسر الحواجز القائمة بين المدرس والطالب و بالتالي فانه يسهل عملية فهم كل منهما للآخر، فالصف ليس ثكنة عسكرية يلقي فيها المدرس بأوامر عسكرية من عليائة ويطلب من التلاميذ تنفيذها اون لم تكن صحيحة.

2- تهوين الدرس وإظهاره بمظهر البساطة للطلاب وذلك من خلال القاء الامثلة والقصص والطرائف.

3- مراعاة مشاعر الطلاب والاهتمام بهم، وعدم توجيه النقد الجارح اليهم، فكما يصعب عليك تقبل النقد فان غيرك يصعب اليه ذلك ايضاً ، فعلى المدرس ان لا ينسى ان وظيفته التربوية التي تعتبر في مقدمة وظائفه لا تمنحه حق اهانة الطلاب او توجيه النقد اليهم، اما اذا كان نقده ضرورياً فعليه ان يحاول جاهداً تخفيف وقعه الى ادنى حد ممكن حتى يسهل على الطالب تقبل واستيعاب هذا النقد.

وعلى هذا فان فن التدريس يعد من القضايا الاساسية ، كما ان له - بالاضافة الى أهميته العلمية- اهمية اجتماعية وتربوية و نفسية ، فعلى المدرسين ان يحولوا قاعة الدرس الى جو يسوده المرح والنشاط والحيوية والتفاهم والانسجام والمتابعه، فتطرح فيه الافكار، و تثار المناقشات من دون تشنج وعصبية ، وعلى المدرسين ايضاً ان يحسنوا الاستفادة من مركزهم ووطيفتهم بأساليب سليمة وذكية، طالبين في ذلك التوفيق والسداد من الله - تعالى-.

الفصل السادس

المنهج الامثل

يقرر خبراء الاعصاب ان في دماغ الانسان عشرات الملايين من الخلايا تبقى معطلة عنده حتى موته ، وحتى اولئك الذين يديمون التفكر، ويستمرون في تلقي العلوم المختلفة لا يستخدمون خلايا دماغهم الا بنسبة قليلة ، فهذه الخلايا بامكانها استيعاب العلوم المختلفة مهما كانت.

ومن الناحية البيولجية والفسلجية يقرر القرآن الكريم ان اجساد الانبياء لا تختلف عن أي جسد آخر: ( قل انما انا بشر مثلكم ) ، ومع ذلك فأن ادمغة الانبياء و قلوبهم بامكانها ان تحتمل علما لا يمكن ان تحتمله ملائكة الله المقربون ، فهم على عظمتهم ، واطلاعهم على عالم الغيب أمروا ان يتعلموا الاسماء من آدم أبي البشر- عليه السلام-.

آفاق المعرفة الواسعة:

ومن المعلوم لدى الجميع ان افضل الانبياء وسيدهم هو نبينا الاكرم محمد ( صلى الله عليه وآله ) الذي أمر أن يسأل ربه زيادة العلم ( وقل ربي زدني علماً ) ، و فتحت امامه آلاف الابواب من العلم والمعرفّة ، ينفتح من كل باب ألف باب.

ولك ان تتصور حينئذ آفاق المعرفة امام الانسان، هذا العالم الكبير، والاية العظمى ، والكيان الذي سجدت له ملائكة الله المقربون ، فلقد خلقه الله - تعالى- في احسن تقويم ، واودع في وجوده القابلية لان يبلغ مبلغ اولياء الله ، وهذه الافاق الواسعة مفتوحة امام الانسان و طرق الوصول اليها عديدة ومتنوعة ، و المهم ان نبحث عن اقصر الطرق، وللاسف فان اغلب الناس يختارون ابعد الطرق للوصول الى اهدافهم ، في حين ان الطريق القريب لتحقيق الاهداف الالهية هو سبيل الله الذي نطلب من الله تعالى دوماً اهتداءنا اليه : ( اهدنا الصراط المستقيم ) لكي لا تضيع جهودنا ، ولكي لا تذهب اوقاتنا هدراً.

طريق المشاهدة افضل طرق المعرفة:

فالمؤمن الملتزم بمناهج الوحي يدرك ان عمره قصير، فيبادر الى استغلال كل فرصة تسنح له ، ويحاول ان يستغل كل طاقة من طاقاته، من خلال البحث عن الطرق السليمة ، ومنها طريق القرآن الذي يهدينا الى العلم واليقين والذي يتطلب منك ان تكون بكل وجودك عند الحقيقة فتشاهدها ، من خلال اسقاط الحجب والستائرعنها ، و مشاهدتها بشكل مباشر، وهذه الطريقة هي التي توصل الى الهدف في اقصر مدة زمانية ممكنه.

وللاسف فان الكثير منا يخطىء الطريق، فيسد عينية و يصم اذنيه ، وفي هذا المجال يروى ان رجلاً جاء الى امير المؤمنين ( عليه السلام ) وسأله عن المسافة بين الحق والباطل ، فاجابه الامام بانها اربعة اصابع، ثم جعل اصابعه بين اذنه وعينه وقال: ( ما رأته عينك فهو الحق ، وما سمعته اذنك فهو الباطل ). والسبب في ذلك ان اكثر الاشاعات والاحاديث التي تأتي من هنا وهناك ما هي الا اوهام ، فليس من الصحيح ان تقنع بما يقال لك ، لانه من الممكن ان يكون مجرد وسوسة و تشويش والقاء للافكار المغلوطة.

وللاسف فان هناك من لا يريد ان يبحث و يتأكد بنفسه عن الحقيقة ، فتجده يعرض نفسه لموجات متلاحقة من الافكار الباطلة ، ومثل هذا الانسان يعتبر بعيداً عن الحقيقة ، وهو يحتاج الى وقت طويل لكي يتخلص من تلك الوساوس والظنون التي تدخل الى القلب مباشرة بمجرد ان تكون المنافذ مفتوحة ، وبالتالي فان رؤيتنا للحقائق ستكون رؤية مشوهة.

الطريقة القرآنية في الوصول الى الحقائق:

اما الطريقة القرآنية للوصول الى الحقائق فهي أن تعتمد على نفسك ، وان تلقي السمع وانت شهيد فتحاول- مثلاً- ان تتفهم بنفسك الكتب التي تعرض عليك ، وان تعتمد في الحكم على الظواهر من خلال مشاهداتك الشخصية ، ولنا في الشخصيات المعروفة الناجحة خير مثال على ذلك ، تلك الشخصيات التي فتحت باب فهمها، ففكرت ، وحاولت مشاهدة الواقع.

اما نحن فللاسف الشديد نعتمد في اصدار احكامنا على ما نقرأه في الكتب ، و على ما يتحدث به هذا الخطيب او ذاك في حين انه انسان مثلي ، فلنحاول اذن ان نفكر في ما يعرض علينا من معلومات وافكار مختلفة ، والى ذلك يشير الحديث الشريف: ( حديث واحد تدريه خير من ألف حديث ترويه ) .

والقرآن الكريم ايضاً يحثنا على التفكر ، فمن خلال التفكر يستطيع الانسان ان يكتشف حقائق كثيرة ، بل ان حياة الانسان نفسها عبارة عن حلقات متلاحقة من الاكتشافات ، ولكننا نرى- للاسف الشديد- ان البعض لا يكلف نفسه عناء اكتشاف واستغلال طاقاته الذهنية والنفسية.

عدم البرمجة والتنظيم سبب تخلفنا في طلب العلم:

والسبب في كل ذلك يعود الى عدم تنظيمنا لحياتنا، وعدم برمجتها ، وبدون هذا النظام لا يمكننا ان نكون متحركين، ولنا في حياة ائمتنا و شخصياتنا العظيمة الاسوة في ذلك ، فقد كانوا يسبرون في حياتهم وفق برنامج و نظام دقيقين ، فلنكن منظمين في حياتنا ، وليشمل هذا النظام حتى التفاصيل والجزئيات ، لان سيادة الفوضى فيها من الممكن ان تقوم بدور سلبي في حياتنا.

ولا بأس في هذا المجال ان نتبع الطرق والاساليب العلمية الحديثة في تنظيم حياتنا وخصوصا المناهج التعليمية في الحوزات العلمية ، و نخص بالذكر هنا منهج تعلم اللغة العربية، فبامكان الطالب - اذا لم يكن من الناطقين بهذه اللغة- ان يتعلم هذه اللغة خلال ستة اشهر ان لم نقل اقل وذلك اذا ما اتبعنا المناهج الحديثة في تعليمها ، و هكذا الحال بالنسبة الى المواد الدراسية الاخرى التي بامكاننا ان نختصر المسافة الزمنية لدراستها من خلال تحديث مناهج و طرق التعليم ، فبدلا من ان ندرس مادة المنطق- مثلا- خلال سنين عديدة يمكننا ان ندرسها و نستوعبها خلال فترة قصيرة ، وكما هو الحال الآن في الجامعات الحديثة التي تعمد الى تدريس هذه المادة خلال فترة لا تتجاوز البضعة اشهر ، من خلال سلوك اقصر الطرق لتعلمها .

ضرورة استنفار الطاقات في طلب العلم :

ومن اجل تحقيق كل ذلك علينا ان نستنفر طاقاتنا وان نحافظ على فاعلية العمل والنشاط في نفوسنا اما اذا اصبنا بالعقم في التفكير والجمود والخمول فسوف نبقى نراوح في امكنتنا دون ان نغير من اوضاعنا شيئا ، وتعتبر هذه الميزة من ابرز مزايا الجامعات المتقدمة في العالم ، فهي تحث الطالب على ان يفكر و يكتشف المعلومات بنفسه ، فالمهم ان ينمو عقلك وفكرك ، وتنمو قدرتك على التفكير.

و جميع آيات القرآن الكريم تقريبا تحرض الانسان على التفكير، و تقرر ان الاعمى والبصير لا يمكن ان يستويا : ( وما يستوى الاعمى والبصير)[116] ، فالاعمى الحقيقي هو الذي يمتلك العين ولكنه لا يريد ان يرى بها وبعبارة اخرى ، هو الانسان الذي يمتلك الطاقات والمواهب ولكنه لا يستغلها.

ثم يستأنف السياق القرآني قائلاً ( ولا الظلمات ولا الظل ولا الحرور، وما يستوي الاحياء ولا الاموات ان الله يسمع من يشاء وما انت بمسمع من في القبور)[117] ، وفي هذا التعبير كناية عن الانسان الذي لا يفكرن ولا يمتلك البصيرة ، حتى وان نزل عليه القرآن الكريم.

فالانسان الذي لا يدرك ولا يفهم هو في الحقيقة ميت لا فرق بينه وبين من يرقد في القبر.,

و يخاطب القرآن النبي ( صلى الله عليه و آله ) قائلا: ( إن أنت إلا نذير ). فالمعلم والمرشد هما بالنسبة اليك مجرد أدلاء على الطريق ، فان ضيعت هذا الطريق دلوك عليه بالاشارة اليه ، فعليك اذن ان تستعمل بصيرتك لا ان تغمضها ثم تسأل الاخرين عن الطريق.

المبادرة الى طلب العلم:

فالانسان هو الذي يجب ان يخلق العلم لا ان يقدمه اليه الاخرون جاهزاً ، والانسان العالم هو الوحيد الذي يخشى الله حقّ خشيته من بين الناس كما يقول تعالى: ( انما يخشى الله من عباده العلماء ) ، كما جاء في الحديث الشريف: ( الخشية ميراث العلم ) ، فليس هناك فائدة من قراءة الكتب في حين ان قلبي لا يخشع لله ، وعيني لا تدمع من خشيته ، لان قراءتي لهذه الكتب ماهي الا تكديس للمعلومات دون ان اتفاعل معها.

وفي الجانب الاخر نرى ان هناك اناساً يقرؤون القرآن بتفاعل و تأمل و كأن القرآن يخاطبهم، في حين ان هناك اناساً اخرين يقرؤون وهم ساهون ، يقرؤون وافكارهم مشغولة في مشاكلهم.

القلوب اوعية للعلم :

يقول الامام علي (ع) : ( ان هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها ) . والوعاء يعني الظرف، فكلما كان القلب اوسع كلما استطاع ان يستقبل المعلومات بشكل افضل ، ونحن نطالب اخواننا في الحوزات العلمية ان يبحثوا عن اقرب الطرق الى تحصيل العلوم و خصوصا علم تفسير القرآن ، الذي يعتبر من العلوم الواسعة المتشعبة ، فلو درست كل تفاسير القرآن لما اعتبرت متدبرا في القرآن الكريم ، ففي آية واحدة يمكننا اكتشاف آفاق واسعة ، و حقائق كثيرة .

فعلينا ان لا نكون - لا سمح الله - مصداقا للاية القرآنية القائلة : ( مثلهم كمثل الحمار يحمل اسفارا..)[118] ، فهذه الاية لم تنزل على اليهود فحسب ، بل ان مصداقها ينطبق على كل انسان لا يستفيد ولا ينتفع من علمه ولا يتفاعل معه ، ولا يخشى الله نتيجة لهذا العلم الذي يحمله ، فاذا حدثت الخشية فنحن نعد حينئذ علماء ، والخشية لا يمكن ان تحدث الا عندما نحصل على العلم بالتفكر، والتبصر، والبحث الشخصي.

التدبر والتأمل سبيلا الدراسة الواعية :

فعلينا- اذن - ان نقرأ بتدبر ، ونحاول استيعابه ، وان نأخذ الدروس والعبر من حياة قادتنا العظماء وعلى رأسهم الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله ) الذي كان يجتهد في العبادة دون ملل او كلل .. فلنسأل انفسنا ، هل تمثلنا هذه الحالة ، وهل تصورنا هذه الشخصية ، ام كانت تلك الروايات مجرد كلمات تطرق اسماعنا دون ان نتعمق فيها ، هذا هي مشكلتنا المتمثلة في اننا نطفو دائما على السطح دون ان ننفذ الى ماوراءه ، وهذا هو سبب ان البعض يشكو من نسيان العلوم بعد قراءتها و دراستها ، ذلك لان دراستهم لها لم تكن دراسة متعمقة واعية.

ان القراءة الحقيقية هي القراءة التي نقرأها بالتفكير والتعمق في المعلومات التي نقرأها ، فلنسأل انفسنا : ماذا تعني هذه المعلومات ، وما هي ابعادها ؟ و حينئذ سوف لا ننسى هذه المعلومات حتى وان مرت عليها سنين طويلة .

نسأل الله - سبحانه وتعالى- ان يوفقنا للتفكر والتدبر ، وان يبصرنا بعيوب انفسنا ، ويهدينا للوصول الى العلوم والمعارف الربانية لتكون لنا صراطا مستقيما ، وان يرزقنا توفيق طاعته ، واجتناب معصيته ، وبجعلنا من الصادقين ، ويلحقنا بالصالحين ، انه ولي التوفيق.

الباب الخامس :

تطور المعهد الأسلامي

الفصل الاول

آفاق التطوير

لا زال يدور في خلد الكثيرين ضرورة تنظيم الحوزات العلمية وفق الاسس التي تتطلبها المرحلة الراهنة ، تماشياً مع تطورات العصر ، وتقدم الزمان . ومنذ خمسين سنة الماضية، تتردد هذه الدعوة من قبل كبار العلماء ، ولا زالت هذه الدعوة تتكرر مرات ومرات.

ومن هنا ينبغي على كل من اوتي حظاً من الحكمة ، و نصيباً من العلم ان يدلي بدلوه في هذا المجال ، ويبدي خبرته وفكرته ورأيه بما يتناسب وأهمية هذا الموضوع ، عسى ان يتحقق- باذن الله تعالى- بأحسن وجه.

وفي اطار هذا الموضوع هناك عدة ملاحظات مهمة هي:

1- في كتاب للاستاذ ( منير شفيق ) عن مساهمة المسلمين و خصوصاً علماء الدين في تطوير المناهج القانونية والفقهية، جاء ان علماء المنهج الحديث لم يأتوا بأي جديد ، لان علماء الاسلام قد غطوا جميع جوانب المناهج وابعاده تغطية كاملة ، فلم يبق للمحدثين والعلماء الغربيين أي جديد ، لان الزخم العلمي الذي ضخه الاسلام في نفوس المسلمين كان قوياً الى درجة لا يكاد يصدقها الانسان ، ولان الدقة والعمق والموضوعية والتجرد والاهتمام عند علمائنا السابقين بالموضوعات العلمية قد بلغ حداً إقترب من الكمال .

ففقهاؤنا في الحوزات العلمية كانوا يصنعون المعاجز او ما شابه المعاجز في معالجتهم لأدق المسائل العلمية والفلسفية والفقهية والتشريعية والاصولية ( اصول الفقه ) ، ومن يقارن بين الفقه الاسلامي الذي تطور على ايدي فقهائنا الاجلاء ، والفقه الغربي يجد البون الشاسع بينهما ، كما ان من يدرس علم النفس او علم الاخلاق عند علمائنا ، يدرك ان خط الغربيين في علم الاجتماع او النفس او العلوم الانسانية عموماً لا يمكن ان يبلغ خط علمائنا.

ومن هنا فان اهتمامنا بتنظيم الحوزات العلمية لا يعني ابداً الانتقاص من قيمة هذه الحوزات ، او عدم الانتباه الى دورها الكبير والفعال في تطوير العلم ، وفي الابقاء على جوهر الحضارة الاسلامية كما سبق وان اشرت الى ذلك.

ضرورة استقلال العلم عن النفوذ والثروة :

2- إن أهم صفة يجب أن تبرز في اوساط الحوزات العلمية ، ولابد من الابقاء عليها وتكريسها هي ضرورة استقلال العلم عن المال والنفوذ والثروة. فعلماؤنا السابقون (رض) حافظوا رغم فقرهم المادي ، والصعوبات الكبيرة التي كانوا يعانون منها ، حافظوا على استقلال العلم، فلم يمدوا ايديهم لا لمصافحة صاحب السلطة ولا لمصافحة صاحب المال، فكان عنوانهم في حياتهم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : ( اذا رأيتم العلماء على ابواب الملوك فبئس العلماء و بئس الملوك ، واذا رأيتم الملوك على ابواب العلماء فنهم الملوك ونعم العلماء ) ، او قوله ( صلى الله عليه وآله ) ( الملوك حكام على الناس ، والعلماء حكام على الملوك ) .

لقد نعى الفكر الغربي استقلالية العلم ، وتحسر عليها اليوم علماء اوروبا و اميركا لانهم قد فقدوها منذ زمن بعيد ، فأصبح العلم خادماً على ابواب المال والسلطان ، وبالتالي فقد اصبح في خدمة الهوى في حين ان قيمة العلم تكمن في ترويض الهوى و توجيه الانسان.

وتفيد آخر الاحصائيات الصادرة من منظمة الامم المتحدة ان 60%مما تجود به الارض من بترول و معادن يصرف في التسليح وهذا يدل على ان العلم قد اصبح في خدمة الاهواء والنزوات، فافضل العلماء واقدرهم في اوربا واميركا هم الذين يعملون موظفين في وكالات المخابرات ، او في الشركات التابعة لوزارات الدفاع ، او في هذه الوزارات بصورة مباشرة ، كما ان افضل الجامعات في اميركا هي الجامعات التي يشرف عليها البنتاغون وهكذا الحال في روسيا .

ومن جهة اخرى نجد ان افضل كتابنا نحن المسلمين وافضل عقولنا تعمل في المؤسسات الصحفية المرتبطة بدورها بالحكام والطغاة فلماذا- اذن- لا نفخر باستقلال الحوزات العلمية ؟

الثورة الثقافية في الحوزات يجب ان تكون جذرية :

3- ان عملية تنظيم الحوزات العلمية يجب ان لا تنصب على الجوانب الفوقية والسطحية في هذه الحوزات ، بل الى الجوانب الجذرية فيها بمعنى ان علينا ان نجمع بين الخصائص الاسلامية التي كانت متوفرة في الحوزات العلمية سابقاً كخصيصة الحرية ضمن إطار النظام ، والتقوى ، و تركيز الاهتمام على العلم اكثر من أي شيء آخر ، ثم جمع هذه الخصائص الى جانب تكميلها بميزات العصر وحاجاته.

كيف يمكننا ان نحقق ذلك ؟

فيما يلي نقترح بعض الخطوات العملية في هذا المجال:

1- نحن المسلمين نعيش تخلفاً سلوكيا و فكرياً ، و بتعبير آخر ، نعيش تخلفاً حضارياً منذ عدة قرون ، وعلى الحوزات العلمية ان تعالج هذا التخلف .

ومن الوان تخلفنا تربيتنا الفردية في مقابل جماعية الحضارة أية حضارة تذوب الفرد في بوتقة الجماعة ، وينتهي فيها الأنا ليبدأ ( نحن ) ، اما التخلف فهو على العكس من ذلك تماماً ، فما هو الفرق- مثلاً- بين الحجارة التي تنتجها مصانع الحجارة ، وبين البناء ؟

الفرق ان تلك الاحجار هي حجارات مفردة بينما البناء يمثل حجارات مجتمعة الى بعضها البعض تشكل كلها وحدة واحدة .

و هكذا الحال بالنسبة الى الفرق بين حالتنا الان وحالتنا سابقاً.

وفي الحوزات العلمية ينبغي ان تموت الانانيات، وان تكون هذه الحوزات بوتقة لصهر المجموعات المنتمية اليها ، فمن نذر نفسه لله يجب ان يصهر هذه المجاميع بالاهداف الواحدة ، وينبغي ان لا يكون هذا مجرد قرار أوشعار ، بل ان يكون ممارسة عملية ، ففي الحوزات يجب ان تمارس السلوكيات التي تثير في الانسان الجوانب الاجتماعية كما هو الحال في المخيمات الكشفية ، فقد أثبتت التجارب الحديثة إن أثر هذه المخيمات في إنماء الروح الجماعية عند الانسان كبير جداً ، فينبغي ان تكون الحوزات العلمية متجهة الى العمل والدراسة الجماعية وان ينحسر نطاق الفردية فيها .

ضرورة تعميق الصلة في الحوزات بالنصوص الشرعية :

2-ينبغي ان يكون الاتجاه في الحوزات نحو الاتصال الاعمق والامتن بالنصوص الشرعية فنحن لا نريد ان ننتزع انفسنا من واقعنا المتخلف لنعلقها في الفراغ ، بل نريد ان ننتشلها من هذا الواقع الفاسد لنربطها بذلك الواقع الحضاري المتكامل ، وهو واقع القرآن الكريم و سيرة رسول الله والائمة الكرام ( عليهم افضل الصلاة والسلام ) .علينا ان نتمثل سيرة نبينا ( صلى الله عليه وآله ) واصحابه المخلصين و سيرة ائمتنا وحوارييهم، فنستلهم هذه السيرة في حياتنا استلهاماً كاملاً ، كما علينا ان نعود الىالنصوص القرآنية ، ونكثر من قراءتها ونحاول تفسيرها وتأويلها والاتعاظ بها ، فنجعل القرآن شعارنا ، ونعيش في واقعنا معه ، لا نتخذ منه دثاراً نتدثر به في اوقات الحاجة ، وكذلك الحال بالنسبة الى الاحاديث .

ان دراسة المتون قد اشغلت حوزاتنا عن دراسة المتون الاخرى وكأننا لسنا بحاجة الى دراسة نهج البلاغة او الصحيفة السجادية ، وكأن وصايا ائمتنا ( عليهم السلام ) ووصايا السابقين من علمائنا التي تستهدف صياغة الشخصية الاسلامية والايمانية المتكاملة لا تعنينا اساساً.

ان ثلث الدراسات الحوزوية ينبغي ان تتمحور حول متون القرآن والاحاديث وتأريخ السابقين من علمائنا .

معرفة اللغة العربية كأساس في منهج الحوزات العلمية:

3-ان اللغة العربية هي لغة العالم الاسلامي ، فعلم الاسلام وفقهه كتب باللغة العربية، فلا ريب ان معرفة هذه اللغة بجميع خصائصها و آدابها ضرورة ، ولكننا نلاحظ في بعض الحوزات العلمية اهتماماً بدراسة النحو والصرف والمعاني والبيان وما شاكل ذلك دون الاهتمام بذات اللغة العربية ، فينبغي ان نعود الى هذه بالذات ، وان يكون اتقان هذه اللغة شرطاً مسبقاً لدخول الحوزات ليدرس الطالب جميع الكتب بهذه اللغة ، واهمية هذه الملاحظة تأتي من اهمية العودة الى النصوص التي ذكرناها في الملاحظة الثالثة .

ضرورة الارتباط بين النظرية والتطبيق:

4-ايجاد العلاقة بين ما يدرس في الحوزة وبين ما تتطلبه الظروف المستحدثة، فليس كل علم نافعاً ، وليس كل تعليم مطلوباً، فلابد ان نجعل الحاجات العملية، اساساً للتعلم ، فلكي نعمل علينا ان نتعلم، ولذلك يجب ان لا نتعلم الا ما ينفع عملنا.

وعلى سبيل المثال فان ايران الثورة بعد الانتصار كانت بحاجة ماسة الى القضاة، في حين يدرس في الحوزات العلمية اكثر من خمسة عشر الفاً من الطلاب ، وللاسف فان اكثر هؤلاء الطلبة لم يتوجهوا الى القضاء.

في حين القاضي يمكن اختياره طبقاً للمناهج الاسلامية خلال اربع سنوات ، ولكن الامور- مع ذلك - بقيت كما كانت عليه سابقاً لان العلم لم يكن مرتبطاً بالعمل، فقد كان في واد وحاجات الناس في واد آخر، و اتذكر ان الحوزة العلمية في النجف الاشرف كانت تصدر الفقهاء والمراجع ، ولكنها لم تكن تخرج مبلغين لترسلهم الى المدن الاخرى الا خلال السنين الخمسة عشرة الماضية ، التي شهدت الحوزة فيها تطوراً نسبياً.

فنحن-اذن- بحاجة الى مبلغين ، والمبلغ ينبغي ان يتخرج من الحوزة خلال فترة اقصاها اربع سنوات لا اكثر.

ضرورة الاهتمام بالبحوث والدراسات العليا:


/ 11