تكاملية العلم والدين - معهد الاسلامی بین الأصالة و التطویر نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

معهد الاسلامی بین الأصالة و التطویر - نسخه متنی

سید محمد تقی مدرسی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید



سبق الحديث عن نهج التدبر في القرآن، ومدى ضروة خرق الحجب الشيطانية التي تفصل القلب عن خطاب الرب، و ذلك عبر التدبر المباشر في آيات الذكر، ولكننا نشير هنا إلى عدة بصائر:

أولاً: لابد من تشجيع الحفظ في المعاهد الدينية، و إعطاء درجات أعلى لمن يحفظ سوراً كاملة من هذا السفر العظيم، و ايجاد مسابقات للحافظين!

ثانياً: ينبغي أن يتخذ الاستاذ من دروس التدبر، وسيلة لتنمية حوافز الخير عند الطالب، وتزكية نفسه، و إذكاء أوار عقله، وتوسيع نطاق ادراكه، و تركيز شتات ثقافته الحياتية.

ثالثاً: جعل الطالب يساهم في الدرس ليس بتدبراته الناضجة فقط و انما ايضاً بالكتابة عن ذلك و الالقاء فيه. وبكلمة ينبغي ان يتصدى لدرس التدبر افضل العلماء في الحوزات، لجعل القرآن محوراً لشخصية الطالب، ومحوراً لثقافة، ومحوراً لجهاده.. ومحوراً لحياته.

السنة الشريفة:

و معروف أن السنة هي النمير العذب الذي فاض من نبع الوحي، انه شعاع من القرآن تجلى في نفس الأبرار. إنه الرافد الأصفى الذي إنبعث من ينبوع الكتاب.

ومن بين السنة غرر الكلام، وجوامع النور، و ضياء الأمر، التي جمعتها النصوص التالية:

1- تحف العقول.

وفيها غرر وصايا النبي- ص- واهل بيته (ع) .

2- نهج البلاغة.

وهو معراج الروح إلى الله، ونهج التقوى والجهاد، وسبيل الوعي السليم للتأريخ وللحياة.

3- الأدعية المأثورة.

وهي زبور الأمة المرحومة، وكنوز المعارف الالهية، ومخازن علم التوحيد.. وفي رحاب السنة الشريفة ينبغي التعرف على منهج الاستنارة بها والتزود من غيرها، كذلك المنهج الذي ألفناه، عند التدبرفي القرآن الكريم، وذكرنا به آنفاً.

و ينبغي اتخاذ سبيل وسط بين تطرفين: بين من يقرأ السنة كقطعة أثرية لا تتصل بالحياة اليومية، و بين من يتخذ من السنة مطية لأفكاره بل أهواءه، و إنما يذكرها غطاء لما أعده سلفاً! و السبيل الوسط هو قراءة الواقع الراهن في ضوء السنة، وقراءة السنة للتعرف على الواقع.. فالسنة هي المحور، وإنما الواقع مجال تطبيقها، ودائرة إشعاعها!

بـاء: الفكـرالرســالي

والفكر الرسالي يعني ما رأيناه صالحاً للظروف الراهنة، اقتباساً من تفسير بصائر الوحي، هو ينقسم إلى مراحل متدرجة:

أولاً: الفكر الاسلامي

و هذا يتم بمقارنة موجزة، ولكن شاملة، بين أصول الفكر الاسلامي، و بين المذاهب البشرية ابتداء من نظرياتهم في المعرفة، ومروراً بفلسفتهم في الميتافيزيقيا ، وعقائدهم في الحقول الدينية المختلفة ، وانتهاء بفلسفاتهم الاجتماع

و دراسة هذا الجانب، إذا تمت بصورة جيدة، تصلح أرضية ذهنية ومقارنته الأفكار الاسلامية بما يخالفها من التصورات البشرية في سائر الحقول الفلسفية.

ثانياً: المنطق الاسلامي

و يأتي كتاب المنطق الاسلامي مكملاً للفكر الاسلامي، و يهدف أمرين:

أولاً: مقارنة المنهج الاسلامي في اجتناب الخطأ وكيفية حصول المعرفة، ومقارنته بالمناهج الوضعية، إبتداء من منهج أرسطو و إنتهاء بالمناهج الحديثة- بيكون كانت- ديكارت و غيرهم.

وفي هذا السبيل تتبين الخطوط العريضة للمنهج الاسلامي في المنطق، و ننقد نقداً بناء سائر المناهج لنستفيد ما صلح منها حسب المعيار العقلي أو الديني.

ثانياً: تكوين أرضية لنقد سائر العلوم الحديثة حسب المعيار الاسلامي، نقداً يتناول أساس هذه العلوم و البنى التحتية لها، وهو منهج التفكير.

والواقع إن الحضارة الحديثة ذات جانب سلبيى وآخر إيجابي، ولا يمكن الوصول إلى معيار ثابت يميز الجانبين عن بعضهما إلا بدراسة الركائز الأصلية فيها.

ثالثاً: العرفان الاسلامي

و هذاالجانب يتخصص في طائفة من النظريات الفلسفية التي راجت مؤخراً في الحوزات العلمية مما فرض التصدي لها، وبالذات في مجال العرفان المستورد من المصادر الغربية. ودراسة هذا الجانب- في المراحل المتقدمة- يعطي رؤية تجاه نظريات كثيرة، أبرزها نظرية الفيض التي قامت عليها جملة أفكار العرفاء.

وكلمة أخيرة؛ إن دراسة هذه الجوانب الثلاث تمهد للتخصص في أحد فروع الثقافة الاسلامية المقارنة.

جيم: الثقافة الرسالية:

وفي الثقافة دروس متسلسلة سنذكرها باذن الله تباعاً، إلا أنها من أشد الموضوعات حاجة إلى الأستاذ امللهم الذي يقدر وضع الطلبة، ومدى استيعابهم، و يسعى نحو توعيتهم، أكثر مما يهدف تعليمهم مفاهيم مجردة.

أو ليست كلمة الثقافة، تعني الأفكار المؤثرة في السلوك؟ و كيف يمكن تحديد هذه النوعية من الأفكار، من دون معرفة طبيعة كل شخص، ومدى الانحراف في سلوكه؟!

ثم إن أهم و أبرز الرؤى الثقافية تتم دراستها في السنة الأولى حيث لا تزال همة الطالب عالية و انضباطه جيداً، و يعتمد ذلك اعتماداً كبيراً على التثقيف الذاتي تحت إشراف العديد من الموجهين.

ومراحل التثقيف هي التالية:

أولا: برنامج الثقافة

وهي سلسلة الكتابات المنتخبة، من مصادر شتى، وهي خلاصة أفكار جاهزة يستفيد منها الطالب في تحدي الأفكار الغربية.

ثانياً: التأريخ

و الرؤية إلى التأريخ، و سرد قصصه بهدف الاعتبار، تعطي الأفراد بصائر نافذة، خصوصاً دراسة تاريخنا الاسلامي، وموجز عن تاريخ الأمم.

ثالثاً: السياسة

ودراسة الأوضاع السياسية، و اعطاء الرؤى الرسالية تجاهها، تشكل حجر الزاوية في صياغة الشخصية الرسالية اليوم، وهي تتصل اتصالاً وثيقاً بالثقافة و التاريخ.

رابعاً: فقه الحركة

حيث أن دراسة الأوضاع السياسية و الاجتماعية للأمم لا تعني شيئاً لو لم تقارن بفقه الحركة الرسالية، وكيفية معالجة الظروف الصعبة، و طبيعة الأساليب الماكرة التي يستخدمها المستكبرون في مواجهة الحركة الاسلامية.

التخصص للمستقبل الأفضل

كان الشيخ بهاء الدين العاملي من نوابغ علمائنا عبر التأريخ، وكان يكرر كلمته المعروفة: ((ماغلبت ذا فن، وما غلبني ذو فنون))، وهكذا أشار إلى أهمية التخصص في العلوم الدينية، ولكن الغرب قد فاقنا بالتخصص. لانه تفوق علينا في ايجاد نظام لتعاون المتخصصين، وبالرغم من اننا لا زلنا في باكورة الامر، إلاّ اننا نحلم بتجاوز العقبات بالتوكل على الله.

ومجالات التخصص في الحوزات شتى، ولكن أبرزها التالية:

القائد الرباني:

لأن القائد الرباني أعظم شخصية تهدف المعاهد الدينية إكتشافة ومساعدته للبروز، فان على الادارة الرشيدة البحث عنه، و توفير فرص النمو أمامه بأية وسيلة، و لعل المعهد الاداري واحد من الوسائل المناسبة لذلك.

في هذا المعهد يستفاد من العلوم الادارية، و النفسية الاجتماعية، كما يتركز البحث حول مناهج الاسلام في القيادة و شروطها.

المفكر المنظر:

والعقول الكبيرة والنفوس الملهمة، يغنون بابداعاتهم الفكر الاسلامي، خصوصاً اليوم حيث يحتاج العالم الاسلامي إلى المزيد من الأفكار الشابة التي تتحدى النظرات الشاذة.

والمعهد الذي يتخرج منه هؤلاء المفكرون ، يشبه مراكز الدراسات حيث يخص كل فرد أو مجموعة أفراد بموضوع، ويوفر لهم كافة الوسائل المتاحة لتكميل مهمتهم.

المبلغ الصالح:

و لأن المنبر الحسيني أحد أهم الوسائل الدينية لنشر الفضيلة ، فان معهد الخطباء ذو أهمية قصوى، و إن التطوير في هذا المرفق لا يتم إلا عبر معهد متخصص في كل الأبعاد الثلاث التي يعتمد عليها المنبر وهي:

1- بعد المأساة و إثارة العواطف بصورة صحيحة و بعيدة عن الأخبار الضعيفة، والأفكار المثبطة، والتفسيرات الخاطئة.

2- و بعد الجذب والأناقة والنجاح في الأداء ببلاغة أخاذة و أسلوب بديع.

3- بعد الموضوع المثير والمناسب للظروف، هذا أعظم الأبعاد، لأن الخطباء الرساليين لا يمكنهم بسهولة إختيار الموضوعات المفيدة بصورة تتناسب والمنبر الحسيني، حيث الطابع الجماهيري و الطابع الديني، وحيث تقتضي ضرورات التقبة (الحديث بالكناية) التي تكون أبلغ من التصريح!

كلمات الختام

ونختم الحديث عن المعاهد الدينية (بيوت الذكر) بكلمات عن البيئة المميزة التي تجعل هذه البيوت تعبق بشذى الايمان، تدعوك إلى التقوى والتبتل ، و إلى الهدى والعرفان، و إلى الجهاد والاجتهاد، أجواؤها العطرة قبل الحروف والكلمات. أوتدري ما سر ذلك العبق الالهي الذي جعل مجالس العلماء روضة من رياض الجنة؟ تعال نكتشف معاً هذا السر.

أولاً: القدوات الصالحة

أولم يذكرنا الحديث المأثور عن الامام الصادق جعفر بن محمد- عليه السلام- بهذه الحقيقة: (( معاشر الشيعة كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً ، و احفظوا ألسنتكم ، وكفوها عن الفضول ، وقبح القول))[20].

أو لم يأمرنا الاسلام على لسان الامام الصادق- عليه السلام- بالبحث عن القدوات و الالتفاف حولهم؟ جاء في الحديث عن الحسين بن المختار قال: قلت لأبي عبدالله- عليه السلام-: جعلت فداك و يوم القيامه ترى الذين كذبوا على الله قال: ((كل من زعم أنه أمام)) وليس بامام، قلت: وإن كان فاطمياً علوياً؟!: (( و إن كان فاطمياً علوياً))[21]

دور القدوة:

بلى؛ أعظم من الدرس في هذه البيوت، ذلك العالم الرباني الذي يفيض إيمانه عليك، قبل أن يرفدك نور علمه، و يتجلى نور فضائلة، قبل أن تصدعك كلمات عظته.

و حتى في الجانب العلمي، لا ينتفع الانسان من حروف الكتاب، بل من إيحاءات المعلم، و هكذا قال الأئمة: (( خذ العلم من أفواه الرجال)).

دور المعلّم:

و هكذا ينبغي أن نوفر الظروف التي تجعل الربانيين مستعدين للتدريس في هذه المعاهد ، و أبرزها حسن إستماع الطلبة، و حسن تلقيهم و إتباعهم.

و ينبغي أن يجد المعلم فرصة كافية لاعداد دروسه، فلا تزيد عليهم بما يثقل كاهلهم و يضعف كفاءتهم. كما ينبغي توفير الظروف المادية التي تساعدهم على الالتزام بالدروس. كما ينبغي تخصيص نسبة أكبر من المعلمين لطلاب أقل عدداً، ليكون التلقي المباشر و فرص السؤال و التوجيه أسهل و أفضل .

و هكذا مؤتمرات المعلمين والأساتذة ذات أهمية لتناول البحوث المسهبة في طرق التوجيه والتعليم.

إستقدام الأستاذ:

وفي فروع تخصيصية محددة ينبغي أن نستقدم من خارج المعاهد من نستعين به في التدريس ولو بقدر محدود.

ثانياً: التقوى والالتزام

إذا دخلت بيتاً من بيوت الذكر ، فاستقبلتك الأناقة والنظافة، و جذبتك لوحات رسمت عليها كلمات قرانية أو نصوص دينية بجمال رائع، و غمرك الهدوء و السكينة ، وكان الرجال في غاية الأدب و الدماثة، وفي منتهي الوقار والهيبة.

وعندما رفع أذان الصلاة هرعوا إلى صفوف الجماعة، ووقفوا في خشوع ونظم يرتلون آيات الله، وإذا انتهت الفرائض قاموا يتنصلون، ودوى في رحاب الموقع صوت الدعاء كدوي النحل.

وإذا جن عليهم الليل، ومضى أكثره، قاموا إلى صلواتهم بخشوع و إذا جلسوا حلقاً حول أستاذهم الذي لا يفصله عنهم سوى الهيبة الروحية، رأيتهم ينصتون إليه و كأن، على رؤوسهم الطير!

و إذا مد سماط الطعام سموا قبل أن تمد إليه أيديهم، و لهجت ألسنتم بشكر الله و ذكره، ثم أكلوا بقدر حاجتهم، وقاموا الى أعماليهم سراعاً..واذا دخلت مساكنهم رأيت النظافة و الأناقة والنظام.. إذا التقوا فاض البشر من أساريرهم، لأنهم أحبوا بعضهم في الله، و إذا تمازحوا لم يخرجوا عن أدب الحديث، و في المناسبات الدينية توغلوا في احيائها بما ورد فيها.

أقول: إذا دخلت في مثل هذه البيوت ألا تحس بأنك قد دخلت روضة من رياض الجنة، وأن هناك فرصة حقيقية عليك التمتع بها؟

نسأل الله أن يرزقنا أبداً مثل هذه الفرص، و أن يسعدنا بها، و يجعلها ذخراً لنا عند لقاء ربنا، إنه سميع الدعاء.

الباب الاول : مُنطلقات المَعهد الاسلامي

المعهد الاسلامي منطلق الحضارة

للحضارة الاسلامية خصائصها و قنواتها، وبالتالي فاننا لابد أن نتعرف عليها من خلال هذه الخصائص و القنوات ، فلا يمكننا أن نجزىء حضارة الاسلام التي قامت على أساس رسالات الله تعالى فنأخذ منها بعضاً و نترك البعض الآخر، أو نلتزم بمحتواها دون الحدود كما لايمكن أن نعكس الأمر فنتمسك بالظواهر دون المحتويات.

الحوزات العلمية من أبرز خصائص الحضارة الاسلامية:

ومن أبرز خصائص الحضارة الاسلامية هي هذه الحوزات العلمية التي لا أدعي انها التطبيق الوحيد لتعاليم الاسلام، و بالتالي فاننا لسنا ممن ينسب الكفر إلى المعاهد العلمية و الجامعات، و يعتقد ان الطريق الوحيد إلى الاسلام، و الافتراض الوحيد لاحتواء تعاليمه مايوجد فى الحوزات.

كلا.. فليس من مذهبنا التكفير وإتهام الناس بالنفاق بمجرد أن يخالفوا آراءنا، أو سلوكنا و طرقنا. فالاسلام دين السماحة، ولا يجوز لنا أن نحلل و نحرم حسب أهوائنا. فمن أعظم الذنوب أن ننسب حكماً إلى الله تعالى, و نفتري عليه ما لم ينزل به سلطاناً.

ومع ذلك فان ما نستوحيه من مجمل تعاليم الاسلام، و سيرة الرسول (صلى الله عليه و آله) ، و أهل البيت( عليهم السلام) هو ان الحوزات العلمية تمثل الوعاء الافضل لتلك التعاليم و التطبيق الأنسب لها و نحن لا ندعي انها معصومة عن الخطأ والنقص، و انها قد بلغت الكمال المطلق لأنها على أية حال تمثل إرادة الانسان، و الانسان مهما كان و باستثناء من عصمه الله لابد أن يكون فيه النقص، و تصدر منه بعض الانحرافات.

وإذا أردنا أن نجدد حضارة الاسلام فلابد من أن نهتم بهذه الحوزات، و نستمد منها القوة والتوجيهات والتعاليم لحياتنا، هذه التعاليم التي استطاعت الحوزات عبرها المحافظة على جوهر الاسلام وروحه خلال تلك الانعطافات التي كانت في مسيرة المسلمين على امتداد الف و اربعمائة عام، ففي خلال تلك التطورات الهائلة التي حدثت عند المسلمين، والانحرافات التي غزت ادمغتهم، كانت الحوزات العلمية تتحدى و تقاوم و تبلور النظرية الاسلامية الصحيحة و بالتالي فانها كانت تحافظ على جوهر الاسلام. الحوزات العلمية في مواجهة التيارات المنحرفة

وعلى سبيل المثال فمنذ أكثر من ألف عام غزت البلاد الاسلامية التيارات الفكرية و الفلسفية الغريبة سواء من غرب العالم أم شرقه فمن الغرب زحفت تيارات يونانية و أفكار فلسفية إغريقية التي سبقت و أن ادخلت في الديانتين اليهودية و النصرانية افكار الشرك من مثل الاقانيم الثلاثة في النصرانية، و نقصد هنا بالطبع النصرانية التي يتبرأ منها المسيح (عليه السلام)، وكذلك- بالنسبة إلى اليهودية - فكرة الجحود، وان يد الله تعالى مغلولة، و ان عزيز ابن الله.

ومن الشرق إنطلاقاً من الهند والصين و ايران تسلكت إلى المسلمين أفكار غريبة هي الاخرى مثل فكرة التصوف و الاشراق رغم أن هذه الفكرة دخلت أيضاً اليونان فأثرت في فلسفة افلاطون، لان الشرق و الغرب؛ أي الامبراطورية الرومانية و اليونانية قبلها، والامبراطورية الفارسية كانت تتفاعل مع بعضها، سواء كان هذا التفاعل عنيفاً من خلال الحروب التي كانت تحدث بينها، أم هادئاً من خلال تبادل البعثات والوفود العلمية، و بالتالي فان تلك الحضارات إختلطت ببعضها، وتفاعلت فيما بينما وهنا يطرح التساؤل التالي : ترى من الذي تولى مهمة المحافظة على الاسلام إزاء تلك التيارات الفكرية و الفلسفية على الاقل بيننا نحن أتباع أهل البيت ( عليهم السلام)؟

الجواب هو، الحوزات العلمية. إقرؤوا مثلاً كتاب ( الكافي )هذا الكتاب العظيم الذي ارى أن من الضروري أن يدرس في الحوزات العلمية، وأن يكون الذي يدرسه مجتهداً أو قريباً من الاجتهاد، و عارفاً ببصائر القرآن، عندما تقرؤون هذا الكتاب ستكتشفون انه إنما ألف- كما يقول مؤلفه- لمقاومة التيارات الدخيلة ومنها الفلسفة اليونانية، و هذا ما يشير اليه الكثير من المؤلفين الذين أرخوا للشيخ الكليني و كتابه ( الكافي).

و إذا نظرنا إلى التأريخ الوسيط نرى أن الافكار الشرقية تسربت مرة اخرى إلى البلاد الاسلامية من مثل التصوف و الاشراق اللذين قدما من الهند لينمو و يتماوج مرة اخرى في بعض البلدان الاسلامية مثل ايران و مصر، فمن الذي قاوم هذه الافكار؟

إنها الحوزات العلمية أيضاً متمثلة في العلامة المجلسي (رض) ووالده؛ ففي البدء كتبا شرحاً على الكافي سمي بـ( مرآة العقول)، ثم الف العلامة المجلسي الابن تلك الموسوعة الاسلامية العظيمة التي لم نجد لها نظيراً لحد الان وهي موسوعة(بحار الانوار).

ومن تلاميذه الشيخ البحراني ، والعلامة نعمة الله الجزائري و آخرون انكبوا على تأليف الكتب حتى يقال أن احدهم ألف كتاباً يفوق( بحار الانوار) من ناحية الحجم بعدة أضعاف.

وفي تأريخنا المعاصر أيضاً وقفت وما زالت الحوزات تقف في مواجهة الافكار التي نفذت إلى بلادنامرة عبر الغرب من خلال الافكار المادية، ومرة عبر الشرق متمثلة في الافكار الماركسية، ومن أبرز من قاموا بهذا الدور في النجف الاشرف جماعة من العلماء يقف في طليعتهم العلامة الشيخ محمد رضا المظفر ، وفي كربلاء قام بهذا الدور آية الله العظمى الامام السيد محمد الشيرازي (حفظه الله) ، و آية الله الشهيد السيد حسن الشيرازي و آخرون، وفي قم تولى هذه المهمة العلامة الكبير السيد محمد حسين الطباطبائي، والشهيد آية الله المطهري وغيرهما ممن ما يزالون يدافعون عن حياض الاسلام.

أولئك العلماء نبعوا جميعاً من هذه الحوزات العلمية ، ولذلك لابد أن نعترف بأن هذه الحوزات هي بمثابة الخندق الأمامي الذي دافع من خلاله و عبره الرجال المؤمنون عن الاسلام وقيمه ورسالات الله، ولذلك اصبحت الحوزات بهذا الدفاع الفكري و العلمي المتواصل والحثيث عن الاسلام المركز الطبيعي لنمو الحضارة الاسلامية في العصر الحديث.

ومرة اخرى نؤكد اننا لا ندعي انها التطبيق الوحيد، ولا ندعي بأنها الكمال المطلق ، ولكنها الاكمل و النسب حسب ما نستوحيه من الشريعة السلامية وتعاليم الدين.

كيف نحافظ على الحوزات العلمية و ننشرها؟

ولكن كيف نحافظ على هذه الحوزات، وكيف ننميها ، وكيف نبني حضارة الاسلام من خلالها؟

من أبرز ما ينبغي أن نعرفه إن علينا أن نوسعها في الأفق المكاني والجغرافي، أي علينا أن ننشرهذه الحوزات في كل بقعة من عالمنا الاسلامي، فلابد أن تتأسس المعاهد الدينية في ارجاء البلاد الاسلامية وفق تلك القيم الاسلامية التي طبقتها الحوزات العلمية في مراكز انطلاقها.

وكما ان الغربيين حينما أرادوا بناء حضارتهم جاؤوا أولاً إلى بلادنا فتعلموا منا العلم ثم عادوا إلى بلادهم، فكذلك نحن علينا أن نستفيد من الحضارة الغربية- حسب قيمنا- في بناء حضارتنا، فلابد أن نستفيد من النقاط الايجابية في الحضارة الغربية وخصوصاً في مجال العلوم والتكنلوجيا، ولابد من أن نصب هذه النقاط في قالب أوضاعنا واصالتنا.

وللأسف الشديد فاننا لم نفعل ذلك في عملية اخذنا من الحضارة الغربية، فجامعاتنا تنا لم تحقق ما كنا نصبوا اليه لانها قلدت الغرب بشكل كامل، ولانها لم تتأثر به تأثراً واعياً، فأصبحت أداة للتبعية لا نواة لحضارة مستقلة ، حتى أن أغلب جامعاتنا تدار الان من قبل شركات أجنبية، و إذا حدثت بعض التغييرات في مناهج هذه الجامعات فهي تغيرية سطحية ظاهرية من مثل تعريب هذه المناهج دون تغيير نظامها الغربي، فالأسماء والمصطلحات عربية ولكن السلوك غربي.

الحوزات العلمية صامدة رغم التحديات:لألألفالفالتبتبتبتب

وإزاء هذا الوضع نرى أن الحوزات العلمية ما زالت محتفظة باصالتها، ومن هنا تأكيدنا على ضرورة نشر الحوزات لتناسبها مع افكارنا و تقاليدنا وتراثنا واستقلالنا، ولكن لابد من أن نضمن إستمرارية المحافظة على هذه التقاليد، فليس من المعقول أن نؤسس حوزة يكون الطلاب فيها حالقين للحاهم، ومرتدين للقبعات، فهذا مما لا يناسب عرف الحوزات العلمية، فلابد لهذه العمائم أن تكون على رؤوسنا لاننا ورثناها من عهد الرسول الاكرم(صلى الله عليه وآله) بل لعلها كانت قبل عهده (صلى الله عليه وآله) فجاء الاسلام ليؤكدها. فالملابس الفضفاضة التي يرتديها طالب العلوم الدينية هي جزء من تقاليدنا، فمن المكروه شرعاً أن يرتدي المسلم ملابس ضيقة تحكي و تصف الجسم.

و هكذا نرى أن المستحبات والمكروهات روعيت حتى في الملابس بل و في تفاصيل اخرى كثيرة، وفي هذا المجال اذكر انني زرت ذات مرة احد المساجد القديمة في اصفهان ، فلاحظت وجود ممر طويل يؤدي إلى المسجد من الشارع بعد أن يدور الداخل فيه حتى يصل إلى حرم المسجد، فسألت عن سبب بناء هذا الممر على هذه الكيفية ، فقيل لي لان من المكروه الدخول إلى المسجد من جهة قبلته لان الناس في حالة صلاة فيه، فبنوا هذا الممر لكي يدخل الداخل من الجهة المخالفة للقبلة.

وهكذا نرى أن المسلمين كانوا دقيقين حتى في هذه الامور، فلم يكونوا -مثلا- يضعون نقوشا لحيوانات وغيرها في المساجد لكراهتها، و إذا انتقلنا إلى الحوزات العلمية نرى أن من السلوكيات الاصلية لهذه الحوزة ما يسمى بـ( المباحثة) و ذلك بأن يتفق طالبان على أن يكون احدهما استاذاً للاخر في يوم، و تلميذاً له في يوم آخر. و في الحقيقة فان هذه السلوكية تتفق مع منهج التثقيف الذاتي، فعلى الطالب أن يتعلم عدم الاعتماد على الاستاذ في كل شيء، وهو منهج لا نجد له نظيراً في الجامعات الغربية.

الحوزات العلمية لها نظامها الخاص بها:

و حسب تعاليمنا نحن المسلمين و خصوصاً حوزاتنا العلمية اننا لا نسير وفق نظام التوقيت الغربي، بل لدينا نظام خاص بنا، فالعمل يبداً أساساً- كما نستوحي ذلك من الاسلام- من الفجر لا حسب ساعة معينة و يستمر إلى ابعد وقت ممكن ، كما نستفاد ذلك من الآيات القرآنية مثل قوله تعالى:

( فسبحان الله حين تمسون و حين تصبحون)[22]

و قوله: ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهوداً)[23]

فمثل هذه الآيات القرآنية تدل على الاهمية العظمى التي يوليها الاسلام للوقت، فالساعات لا تحدد الانسان المؤمن، ولا تقيد طالب العلم، ولا تطلب منه أن يدرس ثماني ساعات- مثلاً- ثم يكتفي.

في حين نرى ان النظام الغربي نظام يوقف الامور عند حد معين، ولا يتيح للطالب الحرية الفردية الكافية، وقد انتبهت الجامعات الغربية إلى ذلك فبدؤوا يدخلون نظام الحرية في الدراسة من خلال نظام( الكورسات) و اختيار المواد الدراسية وعبر الدراسة في المنازل في بعض المناطق، اما المسلمون فقد كانوا يمتلكون هذا النظام في دراستهم منذ القدم و رغم انهم لم يكونوا يتمتعون بامكانيات تكنولوجية إلا ان حرية الدراسة كانت مكفولة لهم؛ فالطالب عندما يكون راغباً في اجتياز المراحل الدراسية حتى التخرج خلال فترة قياسية فان الحوزات العلمية لا تمانع في ذلك.

علماء نبغوا قبل سن البلوغ:

و قد قرأت في احوال المرحوم آية الله (الميرزا محمد حسن الشيرازي) مجدد القرن الماضي إنه عندما بلغ من العمر اثني عشر عاماً بدأ يدرس كتاب ( اللمعة)، وهو كتاب يدرس في المراحل المتقدمة من الدراسة، وعلى هذا فانه ليس هناك سن معين للدراسة في النظام الاسلامي، ولذلك فقد تخرج من الحوزات علماء بلغوا مرحلة الاجتهاد قبل أن يصلوا إلى سن البلوغ من مثل العالم فاضل الهندي، وكذلك العلامة الحلي.

و هكذا نرى ان النظام الدرايس في الحوزات هو نظام يشجع على التنافس الحر الايجابي البناء، وهناك مثال آخر، يتمثل في الشيخ شريف العلماء(رض) الذي اصبح مرجعاً في حين انه لم يبلغ من العمر سوى ثلاثين عاماً و قد بلغ هذه المرحلة بعد سنين من الكد المتواصل والسهر المستمر، لأن النظام يسمح له بأن يتثقف ذاتياً ، ثم ان نظام الحوزة يلغي الفوارق، فكثيراً ما نرى طلاباً يدرسون عند أشخاص أصغرمنهم سناً ، فالعمر ليس هو المقياس في الحوزات .

الفواق القومية ملغاة في الحوزات العلمية:

وكذلك الحال بالنسبة الى الفوارق القومية فهي أيضاً ملغاة في الحوزات العلمية، فهذا عربي يدرس عند ايراني، و ذاك افغاني يدرس اللغة العربية والمثال الواضح على ذلك العالم الجليل( محمد علي) المعروف بـ( المدرس الافغاني) فقد كان من اكبر مدرسي الأدب العربي في النجف الاشرف وقم المقدسة، فلم يكن هناك احد يقول هذا افغاني، و ذاك ايراني ، لان تعاليم الحوزة مستقاة أساساً من الاسلام الذي يلغي القومية و الاقليمية لكي لا تكونا مانعاً امام طلب العلم.

و التثقيف الذاتي لم يكن يتجلى في الدروس التقليدية فحسب بل في سائر الامور. فتجد الكتب مكدسة عند كل عالم لولعه في قراءة الكتب، وربما لا تجد عنده مايشتري به عشاء ليله لكي يوفرما يشتري الكتب و بأي ثمن.

هكذا كان طلاب العلم عندنا يتنافسون على اقتناء الكتب و مطالعتها و دراستها. ورغم انه لم تكن آنذاك مطابع تطبع الكتب ولكنك تجد المكتبات مملوءة بالكتب الخطية، لان ولعهم وحرصهم على مطالعة الكتب وعلى تثقيف انفسهم بلغا مبلغاً عظيماً.

الزهد أساس استقلال الحوزات العلمية:

ومن الخصائص الاخرى للحوزات العلمية الاستقلال، و يعتبر الزهد من أعمدة الاستقلال، أكد ذلك الإمام علي(عليه السلام) في قوله:( احتج الى من شئت تكن اسيره، و استغن عمن شئت تكن نظيره). وفي هذا المجال يروي لنا التأريخ ان طلبة العلم عندنا كانوا يقرؤون في الليل على ضوء القمر، ورغم ان البلاد الاسلامية كانت تمتلك الاموال الكثيره الا ان طالب العلم كان عزيزالنفس، فلم يكن مستعداً لأن يبيع استقلاله من اجل شهواته، رغم انه كان بامكانه أن يطرق أبواب السلاطين و الاغنياء لشبع حاجاته، وليعيش في ترف ورغد.

وقد كانت بيوت علمائنا بسيطة للغاية، ولقد رأينا بيت المرجع السيد محمد الشيرازي( حفظه الله) في كربلاء فوجدنا ان مساحته لم تكن تتجاوز ستين متراً، وهكذا كان بيت والده الميرزا مهدي الشيرازي، الذي كان مرجعاً أيضاً، فقد كان بيتاً صغيراً حتى ان الناس اقترحوا عليه ان يبنوا له بيتاً واسعاً لكي يستطيعوا زيارته، ولكنه رفض ذلك.

هكذا كانت حياة علمائنا، ولذلك استطاعوا المحافظة على الاسلام، ولو كانوا يفتشون عن الاكل و الشرب والمظاهر لاستطاعوا الحصول على ذلك ولكن على حساب الاسلام والرسالة، لقد كانوا زاهدين في كل شيء؛ في الدنيا وفي الرئاسة، فكان الناس يلتفون حولهم، و يرونهم تجسيداً عملياً للدين.

نحن بامكاننا أن نؤسس حوزة في أميركا، ولكن بشرط أن تتجلى صفة الزهد فيها ، و بدون ذلك فاننا لا يمكن أن نعود الى روح الاسلام وجوهره، وهذا لا يتعارض مطلقاً مع انتشار الحوزات العلمية و تأسيس الحضارة الاسلامية، و اتصال الجماهير الاسلامية بهذه الحوزات، فهناك طبقة تابعة للدنيا، و اصحاب الدنيا لا يأتون عادة ليتعلموا، بل ان هناك من يدخل الحوزة وهو ينتمي عادة الى تلك الفئة النقية المخلصة.

المفهوم الصحيح للزهد:

وهنا لابد ان نعرف معنى (الزهد)؛ الزهد هو أن لا نملك رغبة في قلوبنا، كأن يرغب الانسان في أن يأكل الطعام الفلاني لحبه له ، ولكنه يكف عنه رغم ذلك،في حين نرى انساناً آخر شبعان لا يرغب في أن يأكل من طعام معين لشبعه هذا ، فمثل هذا الانسان لا ينطلق من ( الزهد) في عدم اشتهائه للطعام، بينما ينطلق الاول من هذا المبدأ.

ان الراغب في الدنيا لا تنتهي حاجاته فيها أبداً ، فهو- على سبيل المثال- عندما يشتري عشرين ثوباً نراه يرغب في أن يشتري المزيد، أما الانسان الزاهد فهو يشعر ان هذا العدد من الثياب يفيض عن حاجاته، فيزهد بالفائض منها.

فالانسان الحريص على الحياة يتنافس دائماً على مظاهر الحياة وزخارفها، فتوجهه متركز أساساً الى الدنيا، و مثل هذا الانسان من الصعب عليه ان يترك الدنيا ، ويقطع علائقه بها، أما الذي يفكر في الآخرة دوماً فنرى ان سلوكه و تصرفاته متوجهة الى الآخرة و مهيئة لها.

والحال بالنسبة الى علماء الدين، يجب ان يكونوا قمة في الزهد، وصلوا الذروة في الرغبة عن الدنيا، لانهم - أساساً- يدعون الناس الى الاخرة، ويدعونهم الى الزهد في الدنيا، فهذا الانسان العالم الذي تربيه و تخرجه الحوزة العلمية يملك في الحقيقة كل شيء لانه يملك القلوب، لذلك ينبغي ان نعمل من اجل نشر الحوزات العلمية بأساليبها الحضاريه الايمانية، و بتقاليدها و قيمها الاصيلة الخاصة بها، لكي تقوم بدورها في بناء الحضارة الاسلامية.

الفصل الثاني

دور العلم في البناء الحضاري

يقول تعالى: ( فاتقوا الله ما استطعتم و اسمعوا و أطيعوا و أنفقوا خيراً لأنفسكم ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون* إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم و يغفر لكم والله شكور حليم* عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم)[24]

لكي نحرر بلادنا من تسلط الطغاة و أرهابهم و قمعهم و فسادهم، ولكي نحرر مجتمعاتنا من أغلال الجبت، وقيود الطغيان، ومن اجل ان نطلق طاقات امتنا في سبيل البناء و التقدم.. لابدّ ان نعقد العزم الراسخ على أن نحرر أنفسنا أولاً؛ فمن ضلت نفسه في غمرات أهوائه و شهواته، و حُبست في زنزانة أنانيته و كبريائه، لا يمكنه مطلقاً أن يحرر الآخرين.

قال ربّنا -سبحانه وتعالى-: ( ومن يوق شحّ نفسه فأولئك هم المفلحون).

المفلح من وقاه الله:

فالانسان الذي وقاه الله تعالى- من حالة البخل و الإنغلاق و بالتالي حالة الاخذ دون العطاء هو الوحيد الذي سيفلح، واما ذلك الانسان الذي لم يوق من تلك الحالة فانّ زنزانته تلك التي صنعها لنفسه في الدنيا ستستمر معه الى القبر و الى الحشر ثم الى النار، حيث يزج في مكان ضيق مقرناً بالاصفاد.

فكل واحد منا مسجون، ومن أهم واجباته انقاذ نفسه من السجن الذي ابتلي به، فالله - تعالى- يريد ان يجرب قدرتنا وارادتنا فاذا استطعنا ان نفك عن انفسنا حصار السجن فسوف نحصل على نعم الله الكثيرة، والله-تعالى-يقول: ( يا ايّها الذين آمنوا استجيبوا لله و للرسول اذا دعاكم لما يحييكم)[25] ، وفي مقدمة هذه النعم نعمة الايمان التي حرم اغلب الناس أنفسهم منها لأنهم غير احرار.

العلم السبيل الوحيد لتحرير النفس:

و يعدّ العلم السبيل الوحيد للخروج من سجن الذات، لان الجهل هو في حدّ ذاته سجن، والانسان بفطرته جهول: ( انه كان ظلوماً جهولاً)[26].

فحينما أخرج الله- تعالى- بني آدم من بطون أمهاتهم آخرجهم وهم لا يعلمون شيئاً، ثم زرع في قلوبهم العقل، و منحهم الحواس ليكتسبوا العلم بها.

و هكذا فإنك كلّما إستطعت أن تخرج من سجن الجهل، كلما إستطعت الوصول إلى أفق أبعد، كما يشير الى ذلك قوله - تعالى-: ( و قل ربي زدني علماً)[27] و هذا الامر موجه الى النبي- صلى الله عليه وآله- مع انه كان أعلم الاولين و لآخرين.

و طلاب العلم يسلكون نفس هذا المسلك، و يسيرون في ذات الطريق، و نحن نعلم ان المعلومات التي كان الانسان في القرن التاسع عشر- مثلاً - يحصل عليها، تعد ضئيلة و ضحلة بالقياس الى المعلومات التي يحصل عليها و هو يعيش في القرن الحادي و العشرين بسبب التقدم الهائل الذي طرأ على وسائل الاعلام اليوم..

و هكذا نرى ان العلم يسبق الانسان الى درجة ان من المشاكل التي ظهرت للانسان اليوم متابعة نشرات الخبار.

فمن الصعب عليك بمكان متابعتها كلّها لكثرتها و تشعبها و لذلك نرى طالب العلم اليوم يقفز على جميع الحواجز التقليدية في دراسة العلم ، فالعلم اليوم بلغ افقاً لايمكننا ان نصل الى نهايته.

عدم الاهتمام بالعلم أساس التخلف:

ان من أحد أبرز أسباب تخلف المسلمين اليوم عدم اهتمامهم بالعلم، الاهتمام اللائق به، في حين ان المسلمين الاوائل كانوا يجدون في طلب العلم تطبيقاًَ للحديث الشريف: ( اطلبوا العلم ولو في الصين) ولكن المسلمين اليوم يجهلون حتى تلاوة القرآن الكريم، و ينتظرون الآخرين لكي يبينوا لهم كل شيء و يصنعوا لهم ما يحتاجونه.

و بفضل ذلك التقدم استطاع المسلمون الاوائل ان ينتشروا في آفاق الأرض، فمن الخطأ العقول ان الاسلام إنتشر بالسيف، في حين ان النبي- صلى الله عيه و آله- قال: ( مداد العلماء خير من دماء الشهداء) فكيف يكون مداد العالم خير من دم الشهيد ثم يكتفي المسلمون باستخدام السيف دون الاستفادة من المداد، اللهم إلاّ اذا استحال عليهم تحقيق هدف ما فانهم كانوا يعمدون الى التضحية بأرواحهم في سبيل تحقيق الاهداف السامية التي رسموها لأنفسهم.

و هكذا كان العلم من أبرز الأساليب التي إنتهجها المسلمون الاوائل؛ والحق ان العلم يعد من أفضل الوسائل للتخلص من أغلال الذات الشحيحة، و علينا أن نتأسى في هذا المجال بالامم الاخرى التي إستطاعت أن تحطم أغلال الجهل و التخلف لتصل الى ذروة العلم والتقدم كالشعب الياباني و الصيني.

فنحن عندما نعيش مع أنفسنا، و عندما نكون معزولين عن الشعوب المتقدمة الاخرى فلا نطّلع على مسيرتها التي استطاعت بها ان تنافس الشعوب الاخرى، نحسب أنفسنا عمالقة ولكننا سرعان ما سنشعر بتخلفنا و تقصيرنا في هذا المجال عندما نطّلع على إنجازات ومكاسب تلك الشعوب.

آفات طلب العلم:

و بالطبع فان هناك عقبات كثيرة تقف في طريق كسب العلم خصوصاً و ان للعلم آفات عديدة ومتنوعة تحول دون طلب العلم كإتباع الاهواء و الشهوات و الانقياد للملاهي التي تشغل الانسان عن طلب العم و البناء و يبقي الخاسر الوحيد هو الانسان إن لم يتحد و يقاوم تلك الأهواء و الشهوات ، و إن لم يوقف حياته في طلب العلم، خصوصاًَ وان العمر فرصة سريعة الفوات، و ان العلم سريع الزوال عن ذهن الإنسان إن لم نتعهده بالمراجعة والاستذكار بشكل دائم، فينبغي علينا أن نزيد من معلوماننا، و نستعيدها، و نضيف اليها معلومات جديدة، و إلا بقينا جهلاء طيلة حياتنا.

علينا ان نقدس الوقت:

و علينا في هذا المجال أن نقدس الوقت، و نستغله الاستغلال الأفضل، فكل شيء في هذا الكون يسلك طريقه دونما عودة معلناً أنّ الزمن يسير بخطى حثيثة، و ان عمر الانسان في حالة إنقضاء متواصل ، فنحن لا نمتلك سوى فرصة محدودة، و الزمن من شأنه أن ينسينا معلوماتنا، فاذا لم نتحداه و نقاومه فإننا سوف لا نحصل على أي شيء.

وفقهاؤنا - رحمهم الله- لم يصلوا الى ما وصلوا اليه الاّ بجدهم المتواصل ، وإستغلالهم الأمثل للوقت ، حيث كانوا ينامون سويعات قلائل من أجل ان يستغلوا الوقت المتبقي من أيامهم و لياليهم في طلب العلم، كما روي- مثلاً- عن الِشيخ جعفر كاشف الغطاء الذي يرى البعض انه كان أفقه علماء الشيعة آنذاك، حيث كان- رحمه الله- عندما يريد أن ينام يضع رأسه على ركبتيه للحظات قليلة مكتفياً بهذه الفترة القصيرة من الاستراحة.

و هكذا كان حال السيد البروجردي- رحمه الله- حيث روي عنه أنه كان يقرأ في حالة الوقوف لكي لا يستسلم للنعاس و النوم ، كما ويروى عن المرحوم السيد مهدي الشيرازي أنه لم يكن ينام سوى ساعتين اما الساعات الاخرى فقد كان يقضيها في الدراسة و التأليف، ويروى عنه أنه كان في أيام شيخوخته يحفظ الكثير مما ينبغي علىالعالم حفظه كالاًيات القرآنية، و الأحاديث، و الأشعار المختلفة.. في حين ان شبابنا اليوم نراهم لا يحفظون شيئا من القرآن الكريم رغم أهمية الحفظ و دوره في تنشيط الذاكرة و توسيعها و خصوصاً في مرحلة الشباب لأن هذه المحفوظات سوف تترسخ ف الذهن، فعلينا ان نستغل هذه الفترة في الحفظ، وإلا فإننا سوف لا نستطيع القيام بذلك في الشيخوخة.

وفي هذا المجال علينا أن نكون ذوي عزائم راسخة، و أن نكون جديين في طلب العلوم الدينية التي من شأنها إنقاذنا من هذا الجهل الذي نرسف فيه، ومن هذه الغفلة التي نعيش فيها، الغفلة التي كرستها فينا الإذاعات الشيطانية، و أبواق التظليل، و أولئك الدجالون الذين يجلسون وراء مكاتبهم ليسودوا أوراق التضليل و الخداع، أنهم في الحقيقة يذهبون بالناس الى نارجهنم.

نحن المكلفون بإنقاذ العالم:

و إزاء هذا الوضع المتردي نسائل أنفسنا، من المكلف بإنقاذ العالم و تنويره؟

الجواب؛ نحن بالتأكيد، فعلينا أن ننمي الشعور بالمسؤولية في أنفسنا، و أن نعتبر أنفسنا جزءاً من العالم الذي نعيش فيه، فنشارك المسلمين في ارجاء العالم الاسلامي همومهم و قضاياهم، و نساهم في رفع المحنة عنهم.. فنحن ما جئنا إلا لنتحدى هذا الظلم و الفساد المسيطرين على العالم الاسلامي، و نحن مسؤولون عن إنقاذ الناس من نارجهنم و دعوتهم الى الجنة .

و بذلك تصبح مسؤليتنا إجتماعية عامة بالإضافة الى مسؤولياتنا الذاتية.

الفصل الثالث

تكاملية العلم والدين

تكاملية العلم والايمان يصنعان المعجزات في حياة الانسان، ولابد ان تتم هذه العملية في المدارس العلمية الدينية وإلا فان مضاعفات ستحدث في مشاكل و ازمات الحياة الانسانية.

و هناك بعض الافكار و الحقائق قريبة من فكر الانسان و رؤيته باعتبار أنها افكار و حقائق بسيطة يستطيع ان يفهمها الانسان، و يبلغ عمق ابعادها، وفي مقابل هذه الحقائق هناك حقائق كبيرة و ضخمة لا يمكن للفكر البشري المحدود ان يبلغ مداها.

ومن هذه الحقائق حقيقة المزاوجة بين الايمان من جهة والعلم من جهة اخرى، فمثل هذه المزاوجة ستكون نتيجتها اسعاد المجتمع البشري برمته، و نحن نستطيع ان نفهم ذلك ولكننا لا نستطيع ان نتصوره فنحن بحاجة الى قدرة هائلة من التخيل لندرك معنى ان البشرية ستسعد برمتها.

مضاعفات الفصل بين العلم و الايمان:

ترى ماذا نعني بالمضاعفات الخطيرة التي تنجم بين عدم حدوث تلك المزاوجة؟ في هذا الفصل اريد ان استعرض هذه الحقائق لكي نصل الى نتيجتها المتمثلة في ان عقد هذه المزاوجة هي من ضمن المسؤوليات المترتبة على علماء الدين، و بالتالي فاننا نريد ان نحدد مسؤوليتنا نحن في الحياة، و نعرف مدى ضخامتها و أهميتها،ومن ثم ننوي معرفة الرسالة التي يجب ان تتحملها الامة الاسلامية في عصرنا هذا.

ولايصناح ذلك نقول ان من المعروف ان كمية القنابل النووية الموجودة بامكانها تدمير العالم احدى عشرة مرة، ترى ماذا تعني هذه المشكلة؟ ففي الساعات الاولى من الحرب العالمية الثالثة - إن حدثت لا سمح الله- سوف يموت مائة مليون انسان !!

و هذا العدد ليس بالامر الهين، فنحن نحترم الحياة ولو كانت متعلقة بطفل صغير لاننا نقدر هذه الحياة، ونعتقد أنها يجب ان تكون محترمة، بل نحن نحترم الجنين وهو في بطن أمه ، و نقيم الدنيا ونقعدها لكي لا يجهض او يقتل.

أما القنابل الذرية فانها لا تعرف هذه الحقائق ابداً، بل انها تحصد ملايين النفوس المحترمة، فمن هو المسؤول عن ذلك يا ترى؟

لا شك ان المسؤولية تقع على الطلاق الذي حدث بين العلم والايمان، فلقد أفرغ العلم من عقل الايمان فالعلم اشبه شيء بالسيارة التي فيها ما فيها من الطاقة والاندفاع والحركة، ولكنها فاقدة للقائد الذي يقودها فيكون مصيرها اما الارتطام بجبل، او ان يبتلعها البحر.

وهكذا الحال بالنسبة الى علم الانسان في عصرنا الراهن، انه علم يقود العالم الى الهاوية المحتومة، فالبشرية تعيش الان تحت مظلة الرعب النووي، فلقد وضعت نفسها في مخزن من البارود لا تستطيع ان تخرج منه نتيجة لسباق التسلح الجنوني الذي خلقته العقول التي زودت بالعلم ولم تزود بالايمان.

هذا عن الخطر المحتمل، اما عن الاخطار الموجودة حالياً، فالجميع يعرفون ما في العلم من حروب و مظالم و حرمان واستضعاف، فالاحصائيات تشير الى أن خمس اطفال العالم يموتون بسبب سوء التغذية ، ثلث البشرية يعيشون حالة المجاعة بسبب نهب ثروات الشعوب ومحاولة تدميرها.

إن هذه الاحداث نراها الان بام اعيننا، فهي ليست بالاحداث الجديدة، و منذ عشرين عاماً و حتى الآن نرى أن التخلف قد ازداد في الدول النامية بدلاً من ان يقل، وبذلك اتسعت الفجوة بينها و بين الدول الصناعية ، ذلك لان الاخيرة منهمكة في امتصاص ثروات البدان النامية لتصنع بها القنابل والمدافع والصواريخ، وبعد ان ينتهي دورها تبدأ هذه الصناعة مرة اخرى و هكذا ، فإن استخدمت هذه الاسلحة فالويل للبشر، و ان لم تستخدم فالفقر لهم، ذلك لانّ سباق التسلح هو المسؤول عن الاضطراب والتضخم الاقتصادي في العالم.

وتشير الاحصائيات في هذا المجال ان ميزانية دول العالم المخصصة للتسلح بلغت خمسمائة مليون دولار سنوياً في حين ان كل الف دولار بامكانه ان يمكن الانسان من بناء بيت، فكم من البيوت يمكن ان تبنى بالاستفادة من ذلك المبلغ، وكم محروماً في العالم بامكانه ان يترفه و يتمتع بالسعادة؟ ان تلك المبالغ الطائلة صرفت للاسف الشديد من اجل تحطيم الانسان.

و اذا ما القينا نظرة الى البلدان الصناعية فاننا سنرى المشاكل و المضاعفات مخيمة عليها ايضاً، فشعوبها مصابة بالامراض النفسية و الجسدية الناجمة من الازمات الروحية ، و سبب كل ذلك الطلاق الذي حدث بين العلم والايمان.

وقد اصدرت قبل فترة احصائية عن نسبة الذين يموتون بالسرطان في العالم ، و تشير هذه الاحصائية الى أن ما يقرب من مليون و اربعمائة الف انسان ماتوا بالسرطان في اوروبا فقط، والسبب في ذلك ان هذا المرض الخطير انما هو نتيجة طبيعية لحضارة الانسان المادية، هذا الانسان الذي اراد ان يمشي على قدم واحدة، اوعلى عكازة العلم فقط.

و السؤال المطروح هنا هو: من المسؤول عن انفصال العلم عن الدين، وكيف حدث هذا الانفصال؟

من المعروف ان الكنائس حاربت العلم، وابتعدت عنه، وتوغلت في الجهل ، و ادعت انها تمثل الدين، و لذلك فقد انفصل الناس عن الدين والكنائس، وقاموا بعبادة العلم.

وحتى في فرنسا عندما كانت تمر بما يسمونه بـ ( عصر الثورة)، بدؤوا يقيمون معابد لعبادة العلم الى درجة انهم كانوا يشيعون جنائزهم مرددين شعارات تقديس العلم لانهم كانوا يحملون عقداً و حساسيات تجاه الدين بسبب مواقف الكنيسة.

ترى من المسؤول الآن عن اعادة العلم الى حضيرة الدين، واعادة الدين الى معاقل العلم؟

أنها المدارس العلمية، فنحن في هذه المدارس نستطيع ان نكون متدينين من جهة، وعلماء من جهة اخرى ، فالعلم الصحيح هو الذي يؤدي بنا الى الايمان، و الدين الصحيح هو الذي ينتهي بنا الى العلم فالدين الحقيقي لا يمكن ان يدعوك الى الجهل، والعلم الحقيقي لا يمكن ان يدعوك الى الكفر و الالحاد.

ضرورة ان نكون علمّيين:


/ 11