الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
ثمة ليلة من كل سنة ليست مثل باقي الليالي، وساعاتها ليست كباقي الساعات؛ إنها ليلة يعم فيها الفضل، ويشع منها الخير، وتنهمر فيها البركات.. إنها خير من ألف شهر.
فيا ترى؛ أية ليلة هذه؟
إنها ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر؛ ليلة تتنـزل فيها الملائكة والروح باذن ربهم من كل أمر، ويفرق فيها كل أمر حكيم..
من هنا صار كل مؤمن يرتجيها بروح تهش إليها شوقاً، وبقلب يهتز إليها حنيناً، وبعيون ترنو مجيئها من على مسافة..
غير أنه من الملفت للنظر، إن هذه الليلة لا يمكن لها أن تتكرر في السنة إلاّ مرة واحدة؛ فمن تفوته لا يقدر على إدراكها حتى تعود في وقتها من السنة القادمة.
لذا يجدر بكل واحد منا أن يشدد حيازيمه بالعزم والإرادة، وأن ينتظر ليلة القدر بفارغ الصبر استعداداً لها، حتى يغنم منها مغانم كثيرة وسعة.
فمن سعادة المرء أن يوفق أولاً لمعرفة وقتها متى يكون، ومن ثم ماذا يجدر به أن يعمل فيها من الصالحات، وماذا يرتل فيها من القرآن آيات، وماذا يقرأ فيها من الدعاء، وماذا يصلي فيها لربه من الصلوات..
وهنا لابد من القول بصراحة؛ أنه لا يوفق كل إنسان للاستفادة من هذه الليلة، إلاّ إذا وفّر في نفسه مؤهلات تتماشى وشأنها ومنـزلتها، كأن يصب على نفسه ماء التوبة ليطهرها من أدران الذنوب والآثام، وأن يخلص لله رب العالمين نيته، وأن يجعل فعل الخيرات سجيته، وعمل الصالحات مهنته..
عند ذاك يستطيع أن ينهل من تلك الليلة الخير الوافر، والبركة العظمى..
فالله الله في ليلة القدر، لا تفوتنكم، فان في ضياعها خسراناً عظيماً.
ولأجل أن لا نغفل عن هذه الليلة، وما تنطوي عليه من فرص ثمينة، بادرنا الى تأليف هذا الكتاب، حيث جمعنا فيه جملة من أحاديث آية الله السيد محمد تقي المدرسي بما يخص هذا اليوم العظيم، بالاضافة الى تفسيره لسورة القدر، راجين من الله تعالى أن ينفع به القراء الكرام، وأن ينفعنا به يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم.
القسم الثقافي في مكتب
آية الله السيد محمد تقي المدرسي
14/ رجب/ 1423
بسم الله الرحمن الرحيم
« إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِن كُلِّ أَمْرٍ * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ» .
[1] عندما انهمر فيض الوحي على قلب الرسول صلى الله عليه وآله في ليلة القدر في شهر رمضان، وتنـزلت ملائكة الرحمة و الروح بالقرآن، رسالة السلام، وبشير الرحمة، عندئذ خلد الله هذه المناسبة المباركة التي عظمت في السماوت و الارض، وجعلها ليلة مباركة خيراً من ألف شهر .
إنها حقاً عيد الرحمة، فمن تعرض لها فقد حظى بأجر عظيم !! فقال الله سبحانه: «إِنَّآ انزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ»
وكذلك قال ربنا سبحانه: «إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» (الدخان/3-4)
كذلك نزل القرآن كله على قلب الرسول في تلك الليلة، ثم نزل بصورة تدريجية طيلـة ثلاث و عشرين عاماً، لتأخذ موقعها من النفوس، وليكون
كتاب تغيير يبني الرسول به أمة وحضارة، ومستقبلاً مشرقاً للإنسانية.
وكذلك قال ربنا سبحانه: «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي اُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْانُ» (البقرة/185)
ومعروف أن القرآن تنـزل بصورته المعهودة في أيام السنة جميعاً، فله إذاً نزلة أخرى جملة واحدة .
والسؤال: لماذا سميت هذه الليلة بليلة القدر؟
يبدو أن أهم ما في هذه الليلة المباركة تقدير شؤون الخلائق، وقد استنبط اللفظ منه، فهي ليلة الأقدار المقدرة، كما قال ربنا: «فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ».
وقال بعضهم: بل لأنها ليلة جليلة القدر، قد أنزل الله فيها كتاباً قديراً، ولأن الذي يحييها يكون عند الله ذا قدر عظيم.
[2] من ذا الذي يستطيع أن يدرك أبعاد تلك الليلة التي باركها الله لخلقه بالوحي، وجعلها زماناً لتقدير شؤون العالمين؟ من ذا الذي يدرك عظمة الوحي، وجلال الملائكة، ومعاني السلام الإلهي؟ إنها ليست فوق الإدراك بصورة مطلقة، ولكنها فوق استيعاب الإنسان لجميع أبعادها، وعلى الإنسان ألا يتصور أنه قد بلغ علم ليلة القدر بمجرد معرفة بعض أبعادها، بل يسعى ويسعى حتى يبلغ المزيد من معانيها، وكلما تقدم في معرفتها كلما استطاع الحصول على مغانم أكبر منها.
«وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ»
سبق القول من البعض: إن هذه الجملة وردت في القرآن لبيان أهمية الحقيقة التي تذكر بعدها.
بينما تترك الحقيقة مجملة إذا ذكرت عبارة وما يدريك .. هكذا قالوا، واعتقد أن كلتا الجملتين تفيدان تعظيم الحقيقة التي تذكر بعدها .
[3] كيف نعرف أهمية الزمان ؟ أليس عندما يختصر المسافة بيننا وبين أهدافنا، فاذا حصلت في يوم على ميلون دينار، وكنت تحصل عليه خلال عام أليس هذا اليوم خير لك من عام كامل ؟ كذلك ليلة القدر تهب للإنسان الذي يعرف قدرها ما يساوي عمراً مديداً؛ ثلاثاً وثمانين سنة وأربعة أشهر. وبتعبير أبلغ؛ ألف شهر.
«لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»
أجل الواحد منا مسمى عند الله، وقد يكون قصيراً، قد لا يبلغ الواحد منا معشار أهدافه فيه، فهل يمكن تحدي هذا الواقع ؟ بلى؛ ولكن ليس بالصورة التي يتخيلها الكثير، حيث يتمنون تطويل عمرهم، وقليل هم الذين يحققون هذه الأمنية، لأن عوامل الوفاة عديدة وأكثرها خارج عن إرادة الإنسان. فما هو إذاً السبيل الى تمديد العمر؟ إنما بتعميقه، ومدى الانتفاع بكل لحظة لحظة منه. تصور لو كنت تملك قطعة صغيرة من الارض، ولا تستطيع توسيعها فكيف تصنع ؟ إنك سوف تبني طوابق فيها بعضها تحت الأرض وبعضها يضرب في الفضاء وقد تناطح السحب. كذلك عاش بعض الناس سنين معدودات في الأرض، ولكنهم صنعوا عبرها ما يعادل قروناً متطاولة؛ مثلاً عمر رسولنا الكريم صلى الله عليه وآله لم يتجاوز الثلاث والستين، وأيام دعوته ثلاث وعشرون عاماً منها، ولكنها أبعد أثراً من عمر نوح المديد، بل من سني الأنبياء جميعاً. وهكذا خص الله أمته بموهبة ليلة القدر، التي جعلها خيراً من ألف شهر، ليقدروا على تمديد أعمارهم في البعد الثالث (أي بعد العمق) ولعل الخبر المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله يشير الى ذلك، فقد روي ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أري أعمار الأمم قبله فكأنه تقاصر أعمار أمته ألاّ يبلغوا من العمر مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيراً من ألف شهر . ([2])
وفي حديث آخر؛ أنه ذكر لرسول الله رجل من بني إسرئيل أنه حمل السلاح على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب من ذلك رسول الله عجباً شديداً، وتمنى أن يكون ذلك في أمته، فقال: يارب! جعلت أمتي أقصر الناس أعماراً، وأقلها أعمالاً. فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: «لَيْلَة الْقَدْرِ خَيْر مِّن ألْفِ شَهْر» الذي حمل الإسرائيلي السلاح في سبيل الله لك ولأمتك من بعدك الى يوم القيامة في كل رمضان. ([3])
إنك قد تحيي ليلة القدر بالطاعة فيكتب الله اسمك في السعداء، ويحرم جسدك على نار جهنم أبداً، وذلك بما يوفقك له من إصلاح الذات إصلاحاً شاملاً. من هنا جاء في الدعاء المأثور في ليالي شهر رمضان مجموعة من البصائر التي تتحول بتكرار تلاوتها الى أهداف وتطلعات يسعى نحوها المؤمن بجد ومثابرة، ويجتهد في طلبها من ربه.
"اللهم اعطني السعة في الرزق، والأمن في الوطن، وقرة العين في الأهل والمال والولد، والمقام في نعمك عندي، والصحة في الجسم، والقوة في البدن، والسلامة في الدين، واستعملني بطاعتك وطاعة رسولك محمد صلى الله عليه وآله أبداً ما استعمرتني، واجعلني من أوفر عبادك عندك نصيباً في كل خير أنزلته وتنـزله في شهر رمضان في ليلة القدر". ([4])
وهكذا ينبغي أن يكون هدفك في ليلة القدر تحقيق تحول جذري في نفسك، تحاسب نفسك بل تحاكمها أمام قاضي العقل، وتسجل ثغراتها السابقة، وانحرافاتها الراهنة، وتعقد العزم على تجاوز كل ذلك بالندم من إرتكاب الأخطاء، والعزم على تركها والالتجاء الى الله ليغفر لك ما مضى ويوفقك فيما يأتي .
وقد جاء في تأويل هذه الآية: أنها نزلت في دولة الرسول التي كانت خيراً من دول الظالمين من بني أمية، حيث نقل الترمذي عن الحسن بن علي عليهما السلام: "أن رسول الله صلى الله عليه وآله أري بني أمية على منبره فساءه ذلك، فنـزلت «إنَّا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَر» يعني نهراً في الجنة، ونزلت «إنَّا أنْزَلْنَا في لَيلة القَدْر وَمَا أدْرَاك مَا لَيْلة القَدْر * لَيْلَة القَدْر خَير مِّن ألْفِ شَهْر» يملكها بعدك بنو أمية"([5]) وكانت حكومة بني أمية ألف شهر لا تزيد ولا تنقص .
وهكذا فضيلة حكومة العدل وأثرها العظيم في مستقبل البشرية أكثر من ألف شهر من حكومة الجور .
لماذا أمست ليلة القدر خيراً من ألف شهر ؟ لأنها ملتقى أهل السماء بأهل الأرض، حيث يجددون ذكرى الوحي، ويستعرضون ما قدر الله للناس في كل أمر.
«تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ»
والكلمة أصلها تتنـزّل، وصيغتها مضارع تدل على الاستمرار، فنستوحي منها؛ إن ليلة القدر لم تكن ليلة واحدة في الدهـر، وإنما هـي في كل عـام مرة واحدة، ولذلك أمرنا النبـي صلى الله عليـه وآلـه بإحيائهـا .
فقد جاء في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه لما حضر شهر رمضان - وذلك في ثلاث بقين من شعبان - قال لبلال: "ناد في الناس" فجمع الناس، ثم صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " أيها الناس؛ إن هذا الشهر قد خصكم الله به، وحضركم، وهو سيد الشهور، ليلة فيه خير من ألف شهر". ([6])
وروي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لابن العباس: "إن ليلة القدر في كل سنة وإنه ينـزل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله. فقال ابن عباس من هم ؟ قال عليه السلام: " أنا وأحد عشر من صلبي". ([7])
«وَالرُّوحُ»
ما هو الروح ؟ هل هو جبرائيل عليه السلام أم هم أشراف الملائكة ؟ أم هم صنف أعلى منهم وهم من خلق الله، أم هو ملك عظيم يؤيد به أنبياءه ؟
استفاد بعضهم من الآية التالية، أن الروح هو جبرئيل عليه السلام، حيث قال «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَمِينُ». (الشعراء/193)
واستظهر البعض من الآية التالية، أن الروح هي الوحي، فإن الملائكة يهبطون في ليلة القدر به قال الله تعالى: «وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا». (الشورى/52)
وجاء في حديث شريف ما يدل على أن الروح أعظم من الملائكة، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل هل الروح جبرئيل عليه السلام؟ فقال: جبرئيل من الملائكة، والروح أعظم من الملائكة، أليس أن الله عز وجل يقول: «تَنَزَّلُ الْمَلآَئِكَةُ وَالرُّوحُ». ([8])
وقد قال ربنا سبحانه: «وأيَّدَه بِروح مِّنْهُ» مما يدل على أن الروح هو ما يؤيد الله به أنبياءه .
ويبدو أن الروح خلق نوراني عظيم الشأن عند الله، وأن الله ليس يؤيد أنبياءه عليهم السلام به فقط، وإنما حتى الملائكة ومنهم جبرائيل يؤيدهم به. وبهذا نجمع بين مختلف الاحتمالات والأدلة، والله العالم .
«فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم»
عظيمة تلك الليلة التي تتنـزّل الملائكة فيها، وعظيمة لأن الأعظم منهم هو الروح يتنـزّل أيضاً، ولكن لا ينبغي أن نتوجه الى عظمة الروح بعيداً عن عظمة الخالق سبحانه، فإنهم عباد مكرمون، مخلوقون مربوبون، وليسوا أبداً بأنصاف آلهة، وليس لهم من الأمر أي شيء، ولذلك فإن تنـزّلهم ليس باختيارهم، وإنما بإذن ربهم.
«مِن كُلِّ أَمْرٍ»
قالوا: معناه لأجل كل أمر، أو بكل أمر. فالملائكة - حسب هذا التفسير- يأتون لتقدير كل أمر، ولكن أليس الله قد قدر لكل أمر منذ خلق اللوح وأجرى عليه القلم ؟ بلى؛ إذاً فما الذي تتنـزّل به الملائكة في ليلة القدر؟ يبدو أن التقديرات الحكيمة قد تمت في شؤون الخلق، ولكن بقيت أمور لم تحسم وهي تقدر في كل ليلة قدر لأيام عام واحد، فيكون التقدير خاصاً ببعض جوانب الأمور، وليس كل جوانبها. بلـى؛ فالتقديرات جميع الأمور، ولكن من كل أمر جانباً. وهكذا يكون حرف "من" للتبعيض وهو معناه الأصلي، وهو أيضاً ما يستفاد من النصوص المأثورة في هذا الحقل.
سأل سليمان المروزي الإمام الرضا عليه السلام وقال: ألا تخبرنـي عـن « إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَةِ القَدْر» في أي شيء نزلت؟ قال: "يا سليمان؛ ليلة القدر يقدر الله عز وجل فيها ما يكون من السنة الى السنة، من حياة أو موت, أو خير أو شر أو رزق. فما قدره الله في تلك الليلة، فهو من المحتوم ". ([9])
وهكذا تختلف بصائر الوحي عن تصورات البشر، فبينما يزعم الإنسان أنه مجبور لا أثر لمشيئته في حياته يعطيه الوحي قيمة سامية، حيث يجعله قادراً على تغيير مجمل حياته؛ من سعادة وشقاء، وخير وشر، ونفع وضر.. كل ذلك بإذن الله، وعبر الدعاء الى الله في ليلة القدر .
إن البشرية في ضلال بعيد عن حقيقة المشيئة، فهم بين من ظن أنه صاحب القرار، وقد فوض الله الأمور إليه تفويضاً مطلقاً، فلا ثواب ولا عقاب ولا مسؤولية ولا أخلاق، وبين من زعم أنه مضطر تسوقه الأقدار بلا حرية منه ولا اختيار .
ولكن الحق هو أمر بين أمرين؛ فلا جبر لأننا نعلم يقيناً أن قرارنا يؤثر في حياتنا، أولست تأكل وتشرب وتروح وتأتي حسب مشيئتك وقرارك؟ وكذلك لا تفويض لأن هناك أشياء كثيرة لا صنع لنا فيها؛ كيف ولدت، وأين تموت، وماذا تفعل غداً، وكم حال القضاء بينك وبين ما كنت تتمناه، وكم حجزك القدر عن خططك التي عقدت العزمات على تطبيقها ؟
بلى؛ إن الله منح الإنسان قدراً من المشيئة لكي يكون مصيره بيده، إما الى الجنة وإما الى النار، ولكن ذلك لا يعني أنه سيدخل الجنة بقوته الذاتية أو النار بأقدامه, وإنما الله سبحانه هو الذي يدخله الجنة بأفعاله الصالحة، أو يدخله النار بأفعاله الطالحة.
إذاً فالإنسان يختار، ولكن الله سبحانه هو الذي يحقق ما اختاره من سعادة وشقاء، وأن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وها هنا تتركز أهمية الدعاء وبالذات في ليلة القدر التي هي ربيع الدعاء، وقد تتغير حياة الإنسان في تلك الليلة تماماً، فكم يكون الإنسان محروماً وشقياً إن مرت عليه هذه الليلة دون أن يستفيد منها شيئاً.
ويتساءل البعض: أليس هذا يعني الجبر بذاته؟ فإذا كانت ليلة تحدد مصير الإنسان فلماذا العزم والسعي والاجتهاد في سائر أيام السنة؟!
كلا؛ ليس هذا من الجبر في شيء، ونعرف ذلك جيداً إذا وعينا البصائر التالية:
البصيرة الأولى: يبدو أن التقدير في هذه الليلة لا يطال كل جوانب الحياة، فهناك ثلاثة أنواع من القضايا:
نوع قدر في ليلة واحدة في تاريخ الكون، فقد روي عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أتدري ما معنى ليلة القدر ؟ فقلت: لا يا رسول الله ! فقال: إن الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة، فكان فيما قدر عز وجل ولايتك وولاية الأئمة من ولدك الى يوم القيامة". ([10])
والنوع الثاني: تقديرات تتم في السنة التي يعيشها الإنسان.
بينما النوع الثالث: تبقى مفتوحة تخضع لمشيئة الإنسان وهي الفتنة. مثلاً؛ أن الله يقدر للإنسان في ليلة القدر الثروة، أما كيف يتعامل الإنسان مع الثروة، هل ينفق منها أم يبخل بها ويطغى؟ فان ذلك يخضع لمشيئة الإنسان وبه يتم الابتلاء. كذلك يقدر الله للإنسان المرض، أما صبر المريض أو جزعه فانه يتصل بإرادته .
ومع ذلك؛ فإن لله البداء، إذ لا شيء يحتم على ربنا سبحانه، وقد قال سبحانه: «يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ اُمُّ الْكِتَابِ» (الرعد/39) وقد جاء في حديث مأثور عن الإمام الصادق عليه السلام قال: "إذا كانت ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة الى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من قضاء الله في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يقدم شيئاً أو يؤخره، أو ينقص أمر الملك أن يمحو ما شاء، ثم أثبت الذي أراد". قلت: وكل شيء هو عنده ومثبت في كتاب ؟ قال: "نعم". قلت فأي شيء يكون بعده ؟ قال: "سبحان الله ! ثم يحدث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالى". ([11])
هكذا تبقى كلمة الله هي العليا، ومشيئته هي النافذة، ولكن الاتكال على البداء، وتفويت فرصة ليلة القدر نوع من السذاجة، بل من السفه والخسران.
البصيرة الثانية: إن الله يقدر لعباده تبعاً لحكمته البالغة ولقضائه العدل، فلا يقضي لمؤمن صالح متبتل ما يقدر لكافر طالح، وما ربك بظلام للعبيد. وهكذا يؤثر الإنسان في مصير نفسه بما فعله خلال العام الماضي، وما يفعله عند التقدير في ليلة القدر، وما يعلمه الله من سوء اختياره خلال السنة. مثلاً؛ يقدر الله لطاغوت يعلم أن لا يتوب بالعذاب في هذه السنة لأنه سوف يظلم الناس خلالها، ولو افترضنا أنه وفق للتوبة ولم يظلم الناس خلالها، فإن لله البداء في أمره، ويمحو عنه السقوط ويمد في ملكه، وقد قال ربنا سبحانه: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ» (الرعد/11)
البصيرة الثالثة: إن الناس يزعمون أن هناك أحداثاً تجري عليهم، لا صنع لهم فيها كموت عزيز، والاصابة بمرض عضال، والابتلاء بسلطان جائر، أو بالتخلف، أو بالجفاف، ولكن الأمر ليس كذلك إذ أن حتى هذه الظواهر التي تبدو أنها خارج إطار مشيئة الإنسان إنما تقع بإذن الله وتقديره وقضائه، وأن الله لا يقضي بشيء إلاّ حسبما تقتضيه حكمته وعدالته، ومن عدله أن يكون قضاؤه وتقديره حسب ما يكسبه العباد، أولم يقل ربنا سبحانه: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ» (الروم/41)
وإن في ذلك لكرامة بالغة لمشيئة الإنسان أن يجعل الله تقديره وفق قرار ما، أليس كذلك؟
[5] السلام كلمة مضيئة تغمر الفؤاد نوراً وبهجة، لأنها تتسع لما تصبو إليه النفس، وتتطلع نحوه الروح، ويبتغيه العقل، فلا يكون الإنسان في سلام عندما يشكو من نقص في أعضاء بدنة، أو شروط معيشته، أو تطلعات روحه. فهل للمريض سلام، أم للمسكين عافية، أم للحسود أمن؟ كلا؛ إنما السلام يتحقق بتوافر الكثير الكثير من نعم الله التي لو افتقرنا الى واحدة منها فقدنا السلام. أولم تعلم كم مليون نعمة تتزاحم على بدنك حتى يكون في عافية، وكم مليون نعمة تحيط بمجمل حياتك وتشكلان معا سلامتها. وليلة القدر ليلة السلام، حيث يقول ربنا سبحانه: «سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ».
حينما تنسب هذه الموهبة الإلهية الى الزمن نعرف أنها تستوعبه حتى لتكاد تفيض منه. فالليل السلام كل لحظاته سلام لكل الأنام، كما اليـوم السعيد كله هناء وفلاح، بينما اليوم النحس تتفجر النحوسة مـن أطرافـه.
فماذا يجري في ليلة القدر حتى تصبح سلاماً الى مطلع الفجر ؟
لا ريب أن الله سبحانه يغفر في تلك الليلة لفئام من المستغفرين، وينقذهم - بذلك - من نار جهنم، وأي سلام أعظم من سلامة الإنسان من عواقب ذنوبه في الدنيا والآخرة .
من هنا يجتهد المؤمنون في هذه الليلة لبلوغ هذه الأمنية وهي العتق من نار جهنم، ويقولون بعد أن ينشروا المصحف أمامهم: " اللهم إني أسألك بكتابك المنـزل وما فيه، وفيه اسمك الأكبر، وأسماؤك الحسنى وما يخاف ويرجى أن تجعلني من عتقائك من النار". ([12])
كذلك يقدر للإنسان العافية فيها، وإتمام نعم الله عليه، وقد سأل أحدهم النبي صلى الله عليه وآله: أي شيء يطلبه من الله في هذه الليلة فأجابه - حسب الرواية - " العافية". ([13])
وقد تدخل على فرد هذه الليلة وهو من الأشقياء فيخرج منها سعيداً، أوليست الليلة سلاماً؟ من هنا ينبغي للإنسان أن يدعو فيها بهذه الكلمات الشريفة:
اللهم امدد لي في عمري، وأوسع لي في رزقي، وأصح لي جسمي، وبلغني أملي، وإن كنت من الأشقياء فامحني من الأشقياء، واكتبني من السعداء، فإنك قلت في كتابك المنـزل على نبيك المرسل صلواتك عليه وآله: «يَمْحُو الله ما يَشَاء وَيُثَبِّت وَعِنْدَه أمّ الكِتَاب». ([14])
وفي هذه الليلة يقدر الله الرزق لعباده، وهو جزء من السلام والأمن، وعلى الإنسان أن يطلب منه سبحانه التوسعة في رزقه.
كما يقدر الأمن والعافية والصحة والذرية، وكلها من شروط السلام.
حقاً؛ إن المحروم هو الذي يحرم خيرها كما جاء في حديث مأثور عن فاطمة الزهراء عليها السلام أنها كانت تأمر أهلها بالاستعداد، لاستقبال ليلة ثلاث وعشرين من شهر رمضان المبارك بأن يناموا في النهار لئلا يغلب عليهم النعاس ليلاً وتقول: " محروم من حرم خيرها ". ([15])
وقال البعض: إن معنى السلام في هذه الآية؛ أن الملائكة يسلمون فيها على المؤمنين والمتهجدين في المساجد، وأن بعضهم يسلم على البعض. وقيل: لأنهم يسلمون على إمام العصر عليه السلام وهم يهبطون عليه.
ليلة القدر متى هي ؟
إذا كان القرآن قد نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر حسب آيتين في القرآن، فإن ليلة القدر تقع في هذا الشهر الكريم، ولكن متى ؟ جاء في بعض الاحاديث: "التمسوها في العشر الأواخر". ([16])
وروى عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال في تفسير «إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيْلَة مُبَارَكَة» قال: "نعم؛ ليلة القدر وهي في كل سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر، فلم ينـزل القرآن إلا في ليلة القدر". ([17])
وجاء في حديث آخر تحديد واحدة من ليلتين؛ إحدى وعشرين، وثلاث وعشرين. فقد روى أبو حمزة الثمالي، قال: كنت عند أبي عبد الله الإمام الصادق عليه السلام، فقال له أبو بصير: جعلت فداك ! الليلة التـي يرجى فيها ما يرجى ؟ فقال: "في إحدى وعشرين أو ثـلاث وعشرين". قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟ فقال: "ما أيسر ليلتين فيما تطلب". قلت فربما رأينا الهلال عندنا وجاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك من أرض أخرى؟ قال: "ما أيسر أربع ليال تطلبها فيها". قلت: جعلت فداك! ليلة ثلاث وعشرين ليلة الجهني؟([18]) فقال: "إن ذلك ليقال" ثم قال: "فاطلبها في ليلة إحدى وعشرين وثلاث وعشرين، وصل في كل واحدة منهما مائة ركعة، واحيهما - إن استطعت - الى النور، واغتسل فيهما". قال: قلت فإن لم أقدر على ذلك وأنا قائم؟ قال: "فصل وأنت جالس". قال: قلت فإن لم استطع؟ قال: "فعلى فراشك، ولا عليك أن تكحل أول الليل بشيء من النوم. إن أبواب السماء تفتح في رمضان، وتصفد الشياطين، وتقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر رمضان كان يسمى على عهد رسوله الله: المرزوق". ([19])
وقد استفاضت أحاديث النبي وأهل بيته في إحياء هاتين الليلتين، إلا أن حديثاً يروي عن رسول الله يحدده في ليلة ثلاث وعشرين، حيث يرجى أن تكون هي ليلة القدر، حيث قال عبد الله بن أنيس الانصاري المعروف بالجهني لرسول الله صلى الله عليه وآله: إن منـزلي ناءٍ عن المدينة فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث وعشرين. ([20])
ويبدو من بعض الأحاديث، أن ليلة القدر الحقيقية هي ليلة ثلاث وعشرين بينما ليلة التاسع عشر وواحد وعشرين هما وسيلتان إليها، من وفق للعبادة فيهما نشط في الثالثة، وكان أقرب الى رحمة الله فيها.
هكذا روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال لمن سأله عن ليلة القدر: "أطلبها في تسع عشر، وإحدى وعشرين، وثلاث وعشرين". ([21])
وجاء في حديث آخر، أن لكل ليلة من هذه الثلاث فضيلة وقدراً، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: "التقدير في ليلة القدر تسعة عشر، والإبرام في ليلة إحدى وعشرين، والإمضاء في ليلة ثلاث وعشرين". ([22])
وجاء في علامات ليلة القدر: "أن تطيب ريحها، وإن كانت في برد دفئت، وإن كانت في حر بردت فطابت". ([23])
وعن النبي صلى الله عليه وآله: إنها ليلة سمحة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع". ([24])
نسأل الله أن يوفقنا لهذه الليلة الكريمة ويقدر لنا السعادة فيها.
1/ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: من كان منكم ملتمساً ليلة القدر، فليلتمسها في العشر الأواخر، فإن ضعف أو عجز، فلا يغلبن على السبع البواقي. ([25])
2/ قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: في ليلة تسع عشرة من شهر رمضان التقدير، وفي ليلة إحدى وعشرين القضاء، وفي ليلة ثلاث وعشرين إبرام ما يكون في السنة الى مثلها، ولله عز وجل أن يفعل ما يشاء في خلقه. ([26])
3/ قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: نزلت التوراة في ست مضت من شهر رمضان، ونزل الإنجيل في اثني عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور في ليلة ثماني عشرة مضت من شهر رمضان، ونزل القرآن في ليلة القدر. ([27])
4/ عن حُمران أنه سأل أبا جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام عن قول الله عزّ وجل: «إنَّا أنْزَلْنَاهُ في لَيلة مُبَارَكة» قال: نعم؛ هي ليلة القدر، وهي في كلِّ سنة في شهر رمضان في العشر الأواخر. فلم ينـزل القرآن إلاّ في ليلة القدر، قال الله عز وجل: «فيهَا يفرق كُلّ أمْر حَكيمْ»قال: يقدر في ليلة القدر كلُّ شيء يكون في تلك السنة الى مثلها من قابل؛ من خير أو شر، أو طاعة أو معصية، أو مولود أو أجل، أو رزق؛ فما قدّر في تلك الليلة وقضي، فهو من المحتوم ولله فيه المشيّة. ([28])
5/ سأل رجل الإمام جعفر الصادق عليه السلام، فقال: أخبرني عن ليلة القدر، كانت أو تكون في كل عام؟ فقال: لو رفعت ليلة القدر لرفع القرآن. ([29])
6/ سئل الإمام جعفر الصادق عليه السلام؛ كيف تكون ليلة القدر خير من ألف شهر؟ قال: العمل الصالح فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر. ([30])
7/ قال سليمان المرزوي للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام: ألا تخبرني عن «إنَّا أنْزلْنَاه في لَيْلةِ القَدْر» في أيّ شيء اُنزلت؟ قال: يا سليمان؛ ليلة القدر يقدّر الله عز وجل فيها ما يكون من السنّة الى السنّة، من حياة أو موت، أو خير أو شرّ، أو رزق. فما قدّره في تلك الليلة فهو من المحتوم. ([31])
8/ سئل الإمام محمد الباقر عليه السلام عن ليلة القدر، فقال: تنـزّل فيها الملائكة والروح والكتبة الى السماء الدنيا، فيكتبون ما هو كائن في أمر السنة وما يصاب العباد فيها. قال: وأمر موقوف لله تعالى فيه المشيّة، يقدم منه ما يشاء، ويؤخّر ما يشاء، وهو قوله تعالى: «يَمْحُو الله ما يَشَاء وَيُثَبّت وَعِنْده أمّ الكِتَابْ». ([32])
9/ قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله؛ يا علي أتدري ما معنى ليلة القدر؟ فقلت: لا يا رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال: إن الله تبارك وتعالى قدّر فيها ما هو كائن الى يوم القيامة، فكان فيما قدَّر عز وجل ولايتك وولاية الائمة من ولدك الى يوم القيامة. ([33])
10/ قال المفضل بن عمر: ذكر أبو عبد الله (الإمام جعفر الصادق) عليه السلام إنّا أنزلناه في ليلة القدر، قال: ما أبين فضلها على المشهود. قال: قلت وأي شيء فضلها؟ قال: نزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها. قلت: في ليلة القدر التي نرتجيها في شهر رمضان؟ قال: نعم؛ هي ليلة قدرت فيها السماوات والأرض، وقدرت ولاية أمير المؤمنين عليه السلام فيها. ([34])
11/ عن أبي جعفر الثاني (الإمام محمد الجواد عليه السلام) قال: إن أمير المؤمنين عليه السلام قال لابن عباس: إن ليلة القدر في كل سنة، وأنه يتنـزّل في تلك الليلة أمر السنة، ولذلك الأمر ولاة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله. فقال ابن عباس: من هم؟ قال: أنا وأحد عشر من صلبي أئمة محدثون. ([35])
12/ قيل لأبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام: تعرفون ليلة القدر؟ فقال: وكيف لا نعرف والملائكة تطوفون بنا بها. ([36])
13/ عن أبي الهذيل، عن أبي جعفر (الإمام محمد الباقر) عليه السلام قال: يا أبا الهذيل؛ أما لا يخفى علينا ليلة القدر، إن الملائكة يطيفوننا فيها. ([37])
14/ عن النبي صلى الله عليه وآله، أنه قال: قال موسى: إلهي اُريد قربك. قال: قربي لمن استيقظ ليلة القدر. قال: إلهي اُريد رحمتك. قال: رحمتي لمن رحم المساكين ليلة القدر. قال: إلهي اُريد الجواز على الصراط. قال: ذلك لمن تصدق بصدقة في ليلة القدر. قال: إلهي اُريد من أشجار الجنة وثمارها. قال: ذلك لمن سبّح تسبيحة في ليلة القدر. قال: إلهي اُريد النجاة من النار. قال: ذلك لمن استغفر في ليلة القدر. قال: إلهي اُريد رضاك. قال: رضاي لمن صلى ركعتين في ليلة القدر. ([38])
15/ قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: إذا كانت ليلة تسع عشرة من شهر رمضان، اُنزلت صكاك الحاج، وكتب الآجال والأرزاق، واطلع الله الى خلقه، فغفر لكل مؤمن، ما خلا شارب مسكر، ولا صارم رحم مؤمنة ماسّة. ([39])
16/ قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: صبيحة يوم ليلة القدر مثل ليلة القدر، فاعمل واجتهد. ([40])
17/ قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: ليلة القدر في كل سنة، ويومها مثل ليلتها. ([41])
في شهر رمضان وخصوصاً في الليالي العشر الأخيرة منه حيث يستقبل الإنسان المسلم الصائم ليلة القدر الشريفة المباركة، لابدّ أن تكون الطاعات التي وفّق لها، والعبادات التي أرهق نفسه في أدائها، معراجاً له إلى الله سبحانه وتعالى الذي لا يردّ سائله ولا يخيب آمله.
بعد ذلك يمهّد الإنسان المؤمن نفسه للدخول في ليلة القدر، واستقبال ما فيها من رحمة إلهيّة منشورة، وفضل ربّاني كبير استعداداً لتجاوز العقبات، وخصوصاً عقبة تغيير النفس.
إنّ ليلة القدر هي بلا شكّ ليلةٍ مباركة؛ فهي الوسيلة الى تكامل الشخصية، وتغيير النفس.
فرصة التغيير
ونحن عندما ندخل هذه الليلة الشريفة نمتلك الفرصة، ونعوذ بالله من أن تتحوّل هذه الفرصة الى غصّة، ونعوذ بالله من يوم لا ينفع فيه الندم. ففي خلال هذه الليلة ينتهي الجزء الأكبر من شهر رمضان ولا يبقى منه إلاّ القليل، فلنستعن بالله تعالى، ولنسأله التوفيق بإلحاح، ولنطلب منه أن يجعل أيّامنا في هذا الشهر وما تبقّى من أيّامه أيّام تغيير وإصلاح لأنفسنـا كما يقول عز وجـل: «إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَـا بِاَنفُسِهِمْ» (الرعد/11) وأن يجعلها أيّام غفران، وأيّام أملٍ وتطلع الى الدرجات العلى، وأيّام نسيان الذات والإحسان الى الآخرين، وأيّام إحداث تحوّل حقيقي في نفوسنا.
فقد خلق الله سبحانه وتعالى في كل واحد منّا طاقات كبيرة علينا أن لا نغفل أهميّتها، وأن لا ننظر إلى أنفسنا نظرة الآخرين إليها. فنحن قد خلقنا للبقاء لا للفناء، ولنكون عباد الله، لا لنكون عبيد الشيطان.
استراتيجية شاملة
ومن أهم الأفكار التي ينبغي أن أشير إليها فيما يتعلق بليلة القدر المباركة هي ضرورة أن يغيّر الإنسان رؤيته الى نفسه، وبتعبير آخر أن يضع استراتيجية شاملة لتحركه في الحياة، فالكثير من الناس للأسف الشديد لا يفكّرون إلاّ في كيفية قضاء حاجاتهم المادية، وإشباع أهوائهم وغرائزهم، فيقصرون تفكيرهم على أمور هامشيّة تافهة، ولكنّهم لا يفكّرون ولو للحظة واحدة في القضايا المصيرية الحساسة التي خلقوا من أجلها، ولا يعمدون الى رسم استراتيجية عامة وواضحة لأنفسهم في الحياة. وربما يشير الحديث الشريف القائل: "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة".([42]) إلى ضرورة أن يرسم الإنسان لنفسه الاستراتيجية الواضحة لحياته من خلال هذا التفكّر.
إنّ الإنسان المؤمن ينال في هذا الشهر الكريم الأجر والثواب، والإنسان الغافل ينال العقاب. الإنسان المؤمن يصنع لنفسه وجوداً في الجنّة، والإنسان الغافل يبني لها سجوناً في النار، وكلّ ذلك يعود الى طبيعة الاستراتيجية التي يرسمها لنفسه في الحياة.
ما نطلبه في الدعاء
وعلى هذا؛ فإنّ المهمّ أن يتفكّر الإنسان، وأن يضع الاستراتيجية المستقيمة لنفسه، وأن يحدّد المطالب التي يريدها من الله سبحانه وتعالى القائل: « ... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (غافر/60)
هناك من الناس من يبكي في ليلة القدر، ويتوسّل الى الله عزّ شأنه، وتحصل عنده حالة الخشوع والخضوع، ولكن من أجل مطالب ثانوية بسيطة.
وبالطبع فإنّه لا بأس أن يدعو الإنسان الله تبارك وتعالى ليحقّق لـه بعض الأمور الدنيوية، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنه قال: "سلوا الله عز وجل ما بدا لكم من حوائجكم، حتى شسع النّعل فإنه إن لم ييسّره يتيسّر".([43]) ولكنّنا بالاضافة الى ذلك علينا أن نطلب من الخالق تحقيق الأمور المصيرية المهمّة، ومن جملتها العقل. فعقل الإنسان ضعيف ومحدود، ولذلك جاء في الدعاء عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: "الهي نفسي معيوب، وعقلي مغلوب، وهواي غالب".([44]) فلنطلب منه عز وجل الكرامة للعقل. فلو فكّر الإنسان في أموره وقام بها بتعقّل لمنحه ربّه خير الدنيا والآخرة، ولذلك جاء التأكيد على العقل في الكثير من الآيات القرآنية مثل:
«إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (الرعد/4)
«وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ» (الزمر/18)
ثبات الإيمان
وبعد العقل علينا أن نطلب من الله الإيمان، فنحن ندعي الإيمان ولكنّ إيماننا هذا سطحيّ، والمطلوب منّا أن نحوّله الى إيمانٍ راسخ يقاوم التحديات، ويبقى رغم ضغوط الحياة ويصمد أمام كلّ شهوة، ويتحدّى كلّ معصية، ويبقى مع الإنسان الى الأبد كما يقول تعالى: «وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ» (الححر/99).
إذاً علينا أن نطلب هذا الثبات في الإيمان بإلحاح من الله تعالى في ليلة القدر؛ وبعد الإيمان علينا أن نطلب من الله اليقين، فإيماننا يجب أن يبلغ درجة اليقين الذي ليس فوقه درجة أخرى.
إقرأوا "مكارم الأخلاق"
وأخيراً لنطلب من الله جل وعلا الأخلاق الحسنة الرفيعة، كالصدق والوفاء وطمأنينة النفس والسكينة أو الاستقامة... وما إلى ذلك من جذور وأسس للأخلاق الحسنة. وهنا أدعو الأخوة والأخوات إلى قراءة دعاء مكارم الأخلاق في ليلة القدر، والوقوف عند فقرات هذا الدعاء الشريف الذي يبتدئ بهذه العبارة: "اللهم صل على محمد وآله وبلّغ بإيماني أكمل الإيمان...".([45]) فعندما نقرأ هذه الفقرة مثلاً علينا أن نفكّر ونتدبّر فيها ثم نطلب بعد ذلك من الله حقيقة المعاني الواردة، وحينئذ سيعطينا الله تعالى ما نريد.
وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، أنه جاء في رسالة له إلى جماعة من شيعته وأصحابه: "أكثروا من الدعاء، فان الله يحب من عباده الذين يدعونه، وقد وعد عباده المؤمنين الاستجابة". ([46]) وبالطبع فانّ الله تعالى يسمعك بمجرّد ان تدعوه الدعوة الأولى، ولكنّه يحبّ أن يسمع صوت الإنسان وهو يدعو. فهو يحبّ أن يتضرّع العبد إليه وأن يسأله. وبالطبع فإنّ كل شيء بحسابه، فعندما يترك الله عز وجل الإنسان يدعوه لمرّات عديدة فانّه سيعطيه في النهاية ما يريد؛ بل ويزيد عليه كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَاسْاَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ» (النساء/32)
موسم الغفران
ومن المهم في هذه الليلة المباركة أن نطلب من الله غفران الذنوب بنيّة صادقة، وقلوب مخلصة. فمجرّد ترديد عبارات من مثل: "اللهم اغفر ذنوبي" لا يكفي، بل على الإنسان أن يحاول إحصاء ذنوبه التي ارتكبها خلال حياته لكي يستشعر الخجل والحياء من نفسه، وإلاّ فانّ عند الله سبحانه وتعالى قائمة بذنوبنا كلّها حتى تلك التي نسيناها والتي يشير إليها القرآن الكريم في قوله: «أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ» (المجادلة/6).
فمن المؤكد أنّنا قد نسينا وغفلنا عن الكثير من الذنوب التي ارتكبناها، ولكنّنا عادة ما نتذكّر أعمال الخير. فنتذكّر - على سبيل المثال كم مرّة صلّينا صلاة الليل، أما عدد المرات التي لم نصلّ فيها صلاة الصبـح مثلاً فهذا ما ننساه عادة، وكذلك اغتيابنا للآخرين..
وفي ليلة القدر المباركة ليحاول كلّ واحد منّا أن يسجّل جميع أعماله السيئة، وإن كانت قليلة، فكلّما تذكّرنا ذنباً من ذنوبنا، وندمنا عليه، وقرّرنا في أنفسنا أن لا نعود إليه، فلنعرف أنّه قد غُفر لنا. أمّا إذا ردّدنا عبارات الاستغفار وما زالت في نفوسنا الرغبة إلى أن نعود الى ذلك الذنب فإنّه لا يمكن أن يغفر.
طلبات دنيوية
وبالإضافة إلى تلك المطالب الروحيّة والمعنويّة التي يجب علينا أن نطلبها من الخالق عز وجل، لا بأس في أن ندعوه تعالى أن يحقّق لنا بعض الأمور الدنيويّة التي من شأنها أن تخدم الأمور الروحيّة، ومنها:
1- الصحّة؛ فعلينا أن نطلب من الله جلّت قدرته دوماً الصحـة والعافية، لأن العافية بتمامها وكمالها توفّر للإنسان الفرصة لأن يقوم بالكثير من الأعمال. وعلينا لكي ندرك قيمة هذه النعمة أن ننظر إلى أولئك الراقدين في المستشفيات، والذين يعانون من الأمراض والآلام في أجسامهم حيث لا يستطيعون القيام بالأعمال التي يستطيع الأصحّاء القيام بها. فعلينا أن نشكر الله تعالى على تمام العافية وسلامتها، وأن نبرمج حياتنا على أن لا نقوم بالأعمال التي تضرّ بصحّتنا؛ أي أن ننظّم حياتنا بشكل نحافظ فيه على صحّتنا.
2- علينا أن نطلب من الله عز وجل أن يرزقنا الزوجة الصالحة، والأولاد الصالحين. ففي كثير من الأحيان يبتلى الإنسان بقلّة الراحة، فيكون معذّباً طيلة حياته، وحتّى لو كنّا متـزوّجين فإنّ من الواجب علينا أن نطلب من الله تعالى أن يصلح ما بيننا وبين أزواجنا وأولادنا.
3- كذلك يجدر بنا أن ندعو الله تعالى ليمن علينا بالأمن والأمان، وأن يحفظنا من كل مكروه.
4- وأيضاً ندعو الله تبارك وتعالى ليمنحنا الغنى دون بطر وطغيان.
إن هذه صور من التطلّعات المشروعة في حياتنا، فلنطلب من الله تبارك وتعالى الأمور المهمّة تاركين الأمور الهامشيّة والجزئيّة، وعلينا أن نطلب ذلك بإلحاح ضمن يقين مسبق بأننا لا نتوجّه الى باب مغلق، بل الى رحمة واسعة وربّ غفور كريم، لا يزيده العطاء إلاّ جوداً وكرماً، فهو يعطينا ويزيد في عطائنا.
وعلينا أن لا ننسى في دعائنا المؤمنين والمؤمنات كما ورد التأكيد على ذلك في الأدعية الشريفة.
ولندع الله عزّ شأنه ملحّين أن يوفّقنا لأن ينصر دينه بنا، وأن يجعلنا مّمن ينتصر بهم لدينه الحنيف. وهذا توفيق عظيم لا يناله إلاّ المخلصون في العبادة والدعاء، فأن يكون الإنسان جندياً من جنود الله تعالى، فهو شرف عظيم ووسام رفيع.
وبعد؛ فقد ذكرت نماذج مّما ينبغي للانسان المؤمن أن يطلبه من الله جلّت قدرته، في ليلة القدر، وأنا أرجو أن يجعل تعالى هذه الليلة بالنسبة إلينا ليلة نقفز فيها قفـزات حقيقية، ونرتفع في المستويات الإيمانية.. فمن المفروض أن نجعل شهر رمضان المبارك شهر التقدّم نحو الأمام، وشهر العروج والتكامل والتغيير، وأن لا ندعه يمرّ كما يمرّ أيّ شهر آخر، وهذا كلّه يرتبط بهمّتنا، وإرادتنا، ومدى صدقنا في هذه الهمّة والإرادة.
تبلغ دقائق ولحظات ونفحات ليلة القدر المباركة قمّة العظمة والجلال، ونحن قد تعوّدنا الحديث عنها بما يربطنا بحـظيرة القدس المباركة من خلال حمده وتسبيحه والشكر له والثناء عليه وتهليله وتكبيره جل وعلا، ومن ثمّ الخضوع والتبتّل والخشوع والتوسّل والطلب ممّا نطمع في عطائه ورحمته ورزقه وممّا لا ينتهي من النعم والخيرات. ويظلّ هذا الطمع مادام سبحانه غنيّاً حميداً وعظيماً قديراً، وهو إلى الأبد كذلك، فنبقى نتوسّل إليه بوسائله المتمثّلة في أنبيائه ورسله، وبعميدهم وخاتمهم وسيّدهم محمد صلى الله عليه وآله الأئمة الهداة الميامين عليهم السلام، فهم الوسيلة وبهم الشفاعة، وهذا هو حقّ هذه الليلة المباركة وحدودها في الحديث وما يلهج به اللسان.
الساعات المباركة تحدّد مصير الإنسان
وقد يعجز الإنسان عشرين أو خمسين أو سبعين أو مائة عام أو أقلّ من ذلك أو أكثر، ولكنّ ساعة أو ربّما دقائق ولحظات في حياته قد تحدّد مصيره. نعم؛ إنّها ساعة واحدة قد تهديك الى سبيل الجنّة والمغفرة والرضوان، وقد تسوقك والعياذ بالله إلى العذاب النار. فلا ريب أن مثل هذه الساعات من هذه الليلة الربّانية، ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر هي الساعات الأكثر قرباً من تلك الساعة.
فإنك حين تعدّ ألف شهر، وتصبّها في قالب السنين، تجد أنّ هذه الشهور تساوي بعدّتها ما يقارب اثنين وثمانين عاماً، فليلة واحدة من هذه الليالي العطرة المباركة بالرحمة والمغفرة تعادل كفّتها في الميزان كفّة العمر كلّه، بل وتزيد عنه خيراً، كما يقول تعالى: «خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» (القدر/3) ولست أبالغ إذا قلت إنّ ساعة من هذه الليلة التي تبدأ من غروب الشمس الى طلوع خيط الفجر إذا ما نظر إليك فيها الربّ الكريم الرؤوف الرحيم من فوق عرشه الذي استوى عليه، نظرةً ملؤها الرحمة والرأفة، فسوف تصبح حينئذ أسعد إنسان، ويحقّ لي أن أغبطك على بلوغ هذه الدرجة، إذ ستنتقل بوثيقة الرحمة الإلهية من صفّ المطرودين المنبوذين الآيسين من روح الله ورحمته إلى صف أولئك المحصّنين بحصن الله الذي لا حصن أقوى منه.
ففي تلك الساعة تكون قد دخلت عالم رحمة الله الواسعة من الباب الذي فتحه لك سبحانه ودخلت من خلاله في حصنه المنيع.