الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الهداة الميامين .
التوحيد صبغة الحياة ، وضمير العالم ، وغيب الوجود .. وحين يعي الانسان حقـائـق التوحيد ويتصل قلبه بنوره السني ، فانه يتواصل وكل سنن الحياة وانظمتها ، ويتناغم مع معاني العوالم ، ويتفاعل مع غيب الوجود ..
ولكن اذا يتجافى القلب عن هذا النور ، واحتجب عنه بالمخلوقات ، فانه يرتطم بالحواجز التي تمنعه عن ذلك الضمير ، ويعوق مسيرته التصاعدية الى ذلك النور .
واذا تأملت في آيات القرآن واحاديث الرسول وأهل بيته عليه وعليهم صلوات الله ، فانك تجد الهدف الاسمى لكل التعاليم والاحكام ، الارتفاع بك الى ذلك الافق المبين ، حيث يتصل قلبك عبر العمل بتعاليم الرب واحكام الشريعة ؛ يتصل بذلك النور البهي ، نور الله الساطع في كل شيء ، والمتجلي في كل افق .
وكم هي خسارة الانسان الذي يمد في عمره طويلا ، ويقضي آلاف الساعات في هذه الدنيا دون ان يحظى ولو في ساعة واحدة منها بلقاء ربه ، ويسعد بمجالسته ومحادثته ومناجاته ، ويشرب من ورد حبه ، ويصدر عن ريّ رضوانه .. ولكي لا نبقى - نحن ايضا - في ظلام البعد عن الرب ، ونشقى بعطش لقائه .. فعلينا ان نبادر بغسل افئدتنا بماء التوبة ، وتطهيرها عن الحجب بالذكر والشكر والتسليم والانطلاق في رحاب رضوانه بالسعي في سبيل معرفته .
وما هذا الكتاب الذي بين يديك الا نفحات في تجليات التوحيد في الحياة ، حيث نرجو ان يكون وسيلة للذكرى ، وبصيرة للمعـرفة ، وسبيلا الى الهدى بإذن الله سبحانه .
نسأل الله ان يوفقنا والقارىء الكريم الى ما يحقق رضاه ، ويزيدنا معرفة به ، وزلفى منه انه ولي التوفيق .
محمد تقي المدرسي
11/ ربيع الثاني / 1417 هـ
ترى هل خلق الانسان من أجل ان يأكل ويشرب ويعمل وينتج وينشغل بسائر الأمور المادية ، وهل ستسد هذه الممارسات فراغ النفس وحاجتها الى ان تعيش مستقرة ومطمئنة ؟
ان الناس على صنفين في هذا المجال ؛ اي في هدفية هذه الحياة ، فهناك من استطاع ان يشبع حاجاته فاطمأنت معيشته وعرف كيف يتعامل مع الحياة حتى يحين أجله ويمضي الى ربه مطمئنا بالحقيقة التي عرفها ، وهؤلاء هم المؤمنون بالله من الناس وهم الصنف الأول .
اما الصنف الثاني - ولعله هو الغالب في المجتمعات الانسانية - فانهم يبقون على تيههم وضلالهم ومعاناتهم من فراغ الحياة مهما وفرت لهم من ملاذها وبهارجها وما تشتهيه انفسهـم فيها ، فهم يبقـون فـي حاجة مستمرة الى اشباع الجانب الروحي من
حياتهم ، ويظلون يعيشون فراغا في حياتهم فلا يصلون الى الشعور بالسعادة واللذة الحقيقية ، 0ذلك لانهم غير مؤمنين في واقع انفسهم وان ادّعوا الايمان ، ومثل هؤلاء يظلون يعانون من القلق العميق في انفسهم ، وتبقى قلوبهم في توتر ، واضطراب حتى يسلموا انفسهم الى بارئها .
وعلى هذا فان الأموال والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والقصور الفخمة ... كلها لايمكن ان تسد الحاجة الاساسية في النفس الانسانية ، ولايمكن ان تشعل فيها شمعة السعادة والطمأنينة الحقيقية ، ومن المستحيل ان توقف اضطراب الروح وقلق القلب ، فالذي يفعل كل ذلك انما هو الايمان بالله الواحد الاحدي ، الأبدي السرمدي ، الرحمان الرحيم ، واللطيف الكريم ، فعنده - سبحانه وتعالى - تجد النفس برد اليقين وفيء الايمان .
وعندما تصل النفس الى شاطئ الايمان وتتنسم نسيم الوحدانية المطلقة فهناك يستشعر الانسان الراح[ض1] ة ، وعندما تجد النفس نور الايمان وتنعم بالاتصال الروحي باللـه - عز وجل - فحينئذ يزول القلق والاضطراب منها ، فتسعد وتطمئن بضالتها التي عثرت عليها كما يقول - عز من قائل - : « يَآ أَيَّتُهـَا النَّفسُ الْمُطْمَئِـَةُ * ارْجِعِي إِلى رَبُكِ رَاضِيةً مـَرْضِيهً » ( الفجر / 27 - 28 )
وفي دعاء عرفة يقول سيد الشهداء ابو عبد الله الحسين (عليه السلام ) وهو يناجي ربه : " ما فقد من وجدك ، وما الذي وجد من فقدك " ، فالذي لايعرف ربه ولايجده من خلال الايمان فان قلبه سيبقى خاويــا فارغا مليئا بالتوتر وان اعطيته الدنيا وما فيها ، ولعل في الحياة شواهد كثيرة تبرهن على صدق هذه الحقيقة .
والانسان الذي لايريد بلوغ الحقيقة العظمى ، ولايريد لقلبـه برد اليقين والطمأنينة ،
ويصـر على ضلاله وغيـه ، فانـما هـو نمـوذج للانسان المغـرور الـذي خاطبـه اللـه
- عز وجل - قائلا : « يَآ أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ » (الإِنفِطَار/6-7(
ان ابن آدم لابد ان يبحث عن ربه - من حيث يدري او لايدري - ؛ فمرة يهتدي ، وتستقر روحه وتطمئن نفسه ويستريح قلبه المتعب ، ومرة يخطئ الطريق فيضل ، وقد يهتدي من بعد ذلك ان ابصر النور وفتح قلبه للهداية ، وقد يصر على الضلالة فيزداد تيها وخسرانا .
ولا توجـد ساعـة ألذ وأحلى عند اولئك المهتدين من ساعة يختلون فيها مع ربهـم فيدعونه ويناجونه ويتضرعون اليه بقلوب صهرها حب المعشوق السرمدي فازدادت تعلقا به - سبحانه - .
ولاشك ان ليس هناك مثل النبي ( صلى الله عليه وآله ) والائمة المعصومين (عليهم السلام) في دعائهم ومناجاتهم وانصرافهم الى ربهم ، وانشغالهم عن الدنيا الا عن ما أحل لهم الله - تعالى - من طيباتها واقتضته ضرورة الحياة ، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يصلي ليله ونهاره ، وانها لاكبر متعة واجمل لحظات عند رسول الله (صلى الله عليه وآله) والائمة (عليهم السلام) عندما يختلون بربهم الكريم يناجونه ويدعونه بقلوب ملؤها الخشوع ، وعيون تنساب منها الدموع ، وحناجر يزفر منها الانين ، وجوارح يهزها الحب والحنين .
وقد كانت الزهراء (عليها السلام) اذا وقفت ساعة الصلاة طال وقوفها حتى تتورم قدماها وكذلك ولداها الحسن والحسين (عليهما السلام) ؛ فاما المجتبى فقد كان اذا نهض وتهيـأ للصـلاة اصفر وجهه وارتعدت فرائصه حتى يكاد ينكره من عرفه من اصحابه .
ولو تعرضنا لحياة الامام زيـن العابديـن ( عليه السلام ) فيكفي ما أطلق عليه من الكنى والالقاب دليلا وشاهدا على عظيم عبادته ؛ فهو زين العابدين وسيد الساجدين
حتى غدت عبادته وانشداده الى اللـه - سبحانه وتعالى - مثلا في العالمين .
وهكذا فانك - ايها الانسان - لم تخلق لكي تأكل فتشبع ، وتشرب لترتوي ، ولا لتنام وتشبع غرائزك الحيوانية ، بل خلقت لتكون خليل الله وكليمه ولتكون كما قال الله - تعالى - في حديث قدسي : " عبدي اطعني تكن مثلي أقول للشيء كن فيكون وتقول للشيء كن فيكون " .
فالهدف - إذن - هو بلوغ الكمال والمعرفة الالهية ، وما الحياة وما فيها من حركة ونشاط وعمل الا وسيلة لبلوغ هذا الكمال ، واسباب للاستمرار في الحركة التكاملية للانسان ، وحقا فان الانسان - ساعة الموت - ينفض يديه من كل شيء ولايبقى له الا عمله ، وما بلغه من درجات في رحلة الكمال ، فأما ان يموت وهو لايعرف شيئا من الحقائق القدسية بل وهو غارق في التيه والضلال ، واما ان يموت بنفس مطمئنة ترجو رحمة وغفران ربها بما عرفته من القدس ثم عملت بحسب معرفتها هذه .
ان اللـه - سبحانه وتعالى - يريد من العبد حين يدعوه ويلهج بثنائه وحمده وذكره لأسمائه الحسنى والتوسل بها ان يرفع من شأنه وقدره ومنزلته عنده ، ولذلك فان أسمى الاهداف وأنبلها جميعا وأعظم نعم الله على الانسان في هذه الدنيا أن يبلغ هذا الانسان بايمانه وتقواه وورعه ومعرفته لربه مقام القرب منه - تعالى - إسمه .
وتأسيسا على ما سبق فان الحياة الدنيا وما فيها من مشاغل مادية ليست هي الغاية بل هي وسيلة لبلوغ الايمان ، ونيل رضا اللـه - عز وجل - بالشكر والحمد والثناء كما يشير الى ذلك - سبحانه - في قوله : « اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْـرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمـْرِهِ وَلِتَبْتَغـُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » ( الجاثية/12)
الشكر غاية الغايات : فالانسان - لوحده - غـير قادر على تسخير البحر ، بل ان الله - جلت قدرته -
هو الذي سخره له ، والهدف من هذا التسخير - كما هو واضح من الآية الكريمة - ان تجري الفلك بأمره اولا ، وان يبتغي الانسان من فضله ؛ اي لكي يستثمر هذا البحر بما فيه من ثروات هائلة ثانيا ، ولكي يشكر هذا الانسان ربه ثالثا ، وهذه هي الغاية العظمى ، فالهدف ليس هو التمتع بالملاذ الدنيوية ، وانما هو ارتقاء الانسان ، وسموه الى مستوى شكر الله - تبارك وتعالى - .
وفي الحقيقة فان الانسان ينسى الشكر اذا ما جاع وربما يكون الجوع في كثير من الأحيان سببا في كفرانه ان لم يكن على مستوى من الايمان يعينه على صيانة دينه ، اما اذا شبع فانه ينسى دعاء ربه ، ولذلك فان الحكمة الالهية اقتضت ان يمر المؤمنون في حياتهم بفترات يمرون فيها بظروف صعبة فيدعون ربهم ، وبأخرى موأتية لكي يشكروا نعمه .
فالحكمة من نزول المصائب والملمات الدعاء والضراعة كما قال - تعالى - :
« فاَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَآءِ وَالضّرَّآءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ» (الانعام/42) ، فهذه الضراعة هي التي تزيل قساوة القلب التي صنعتها الذنوب والمعاصي والغفلة ، وبذلك يكون نزول المصائب سببا في التطهر من الذنوب .
لقد كان باستطاعة اللـه - سبحانه وتعالى - ان يقضي على الطغاة والظلمة فيزيلهم
جميعا عن آخرهم خلال لحظة واحدة ، ويوفر للمؤمنين عناء الجهاد واعباءه ، ولكن حكمته اقتضت ان تجري الأمور في السنن التي خلقها ، فجعل الجهاد وكلف المؤمنين بخوض غماره من أجل رفع شأنهم وقدرهم عنده - سبحانه - ولكي يمحص ايمانهم واخلاصهـم وبالتالي يتيـح لهم الفرصة لأن يكونوا مع النبيـين والصديقين
والشهداء والصالحين .
ولذلك نجد الرغبات الملحة والدعوات الصادقة عنـد المؤمنـين الرساليين في ان
يختم اللـه حياتهم بالحسنى وحسن العاقبة ، وهي الغاية التي يتمناها كل مؤمن ، ولكن الافضل والاحسن من ذلك هو الشهادة ولذلك جاء في الدعاء : " وقتلا في سبيلك مع وليك فوفق لنا "
وعلى هذا فان الجهاد والشهادة في سبيل اللـه ، والصلاة والحج والصيام كلها ممارسات تطهر روح الانسان ، وتغسل أدران ذنوبه ان هو اداها خير اداء ، وبنية خالصة لله - عز وجل - فهذا هو الهدف من الفرائض الالهية ، وهذه هي غايتها وفلسفة إدائها .
فبالاضافة الى الفوائد الجمة للصلاة ولكن الهدف الأسمى منها يبقى تزكية الروح والقلب بالتقرب الى اللـه ، ولذلك كانت الصلاة معراج المؤمن ، وناهية عن الفحشاء والمنكر كما يقول رب العزة : « إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ » (العَنْكبُوت/45)
من ذلك كله نستنتج الحقيقة التي يجب ان لاتغيب عن أذهاننا ونحن نتحرك ونعمل في سبيل اللـه - تعالى - ونصارع الظلم والباطل والطغيان ، وهي اننا يجب ان نجعل رضى اللـه عنا نصب اعيننا ، وهدفنا الاول والاخير ، فنؤدي ما علينا بقلوب مطمئنة ، ونيات خالصة لله - عز وجل - ، واما قطف الثمار وبلوغ الاهداف المرسومة في التحرك ، فهذا أمر موقوف على اللـه بعد ان نؤدي ما علينا من السعي والبذل والعمل لكي نبلغ هذه الاهداف السامية .
اولا : ان يخلصوا النية لله قبل ان يقدموا على اي عمل ، لان النية - ان لم تترسخ
في النفس - فان هذا يعني ان اعمالنا وجهودنا ستكون مهددة بالسرقة والسلب من قبل الشيطان الرجيم الذي يتربص بنا الدوائر لكي يضلنا ويدخلنا جحيم الشرك والضلال برياء او غرور او كبر يدخله في انفسنا وما الى ذلك من مداخل الشيطان ومنافذه الى النفس .
ولقد جاء في الروايات ان العبد المخلص في صلاته تأتيه هذه الصلاة يوم القيامة بصورة انسان جميل الهيئة والمنظر ، اما الصلاة التي خالطها الرياء والعجب فانها تأتي لصاحبها بهيئة انسان قبيح المنظر ، تنفر منه الانظار ، وتزكم الانوف رائحته النتنة .
وهكذا الحال بالنسبة الى جميع اعمالنا الصالحة التي نقوم بها ، فلابد ان نخلص النية فيها .
ثانيا : علينا ان لانضيع جهـودنا وتضحياتنا بأسف نظهره او ندم نبديه او بمنة نمنها
على اللـه - جل وعلا - ، او بعجـب وافتخار ومبـاهاة ، فلا تقل اني قدمت كذا وكذا ، واني جاهدت في الميدان الفلاني ، ولا تظهر الأسى والأسف على جهاد شاركت فيه ثم لم تنل ثماره ، او تحقق اهدافه المرجوة منه ، فمثل هذا الاحساس قد يضيع عملك وأجرك ، وربما يسخط اللـه عليك ويجعل عاقبة أمرك الى سوء ، فنحن عنــدما قدمنـا وبذلنا المهجة والمال فان كل ذلك انما كان صفقة عقدناها مع ربنا لنشتري منه رضوانه وجنتــه .
ثالثا : احـذّر المؤمنين هنا مـرة اخرى من الرياء ومخاطر الشرك ، ولذلك فان من
الأفضل لهم ان يعملوا ويجاهدوا في السر .
وبكلمة ؛ فليعمل الجميع بنية خالصة ، وجهد متواصل دون كلل او ملل ، وليحاولوا ان يدرؤوا عن انفسهم ما يفسد أعمالهم وجهودهم من مكدرات الاعمال وشوائبها كالرياء والعجب والافتخار والأنانية والعصبية الحزبية والفئـوية ، ويا حبذا لو كانوا مجاهديـن مجهولين لايعرف الناس أقدارهـم بقـدر ما يعرفهم اللـه - تبارك
وتعالى - لطيب نياتهم وعظيم اخلاصهم .
ولنعمل بكل طمأنينة لان العمل الخالـص لايمكن ان يضيع أجره وثوابه عند الله :
« وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَل َكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ » (التوبة/
105)
الموت هو النهاية المحتومة التي تنتظر الجميع ، ولكن الانسان غالبا ما يغفل عنها ولو زار هذا الانسان المقابر ورأى الحفر المتراصة التي يرقد فيها العشرات بل المئات من بني جنسه ، ولو اجال النظر في المغتسل ورأى كيف تقلب اجساد الموتى بين الايدي وكيف يعتصر الألم قلوب الآخرين الذين يتمنون في تلك اللحظات لو يستطيعوا رد احبائهم الى الحياة ... لو انتبه الانسان الى كل ذلك لأدرك بشكل عملي انه هو الآخر لابد وان يصل الى هذه النهاية الحتمية .
واذا كان الأمر كذلك فما الذي ينبغي ان نفعله ؟
ان كل شيء في الحياة لايمكن ان يعرف حق معرفته الا اذا عرفنا نهاية ذلك ، لان
بداية كثير من الأشياء حسنة ولكن نهايتها سيئة ؛ واذا لم نُعـرف النهاية فكيف يكون
بإمكان الانسان ان يشرع في البداية ؟
ولذلك لا مناص لنا من ان ندرس الحياة بجميع جوانبها من منظار نهايتها المتمثلة في الموت الذي ما بعده أدهى وأعظم ، اذ ان الحساب عسير والناقد بصير والجزاء شديد وخالد لانهاية له ابدا .
ومن الحقائق المرتبطة بمرحلة ما بعد الموت وهي - الحقائق الخافية على الكثير من الناس - العلاقة التي ستربطنا بالله - سبحانه وتعالى - في هذه المرحلة . فهناك من يزعم ان الروح بمجرد ان تفارق البدن فان الحقائق ستتكشف للانسان ويتصل علمـه بالغيب فيعرف ظاهر الأشيـاء وباطنها ، وبالطبع فان المسألة ليست بهذه السهولة ؛ فمعرفة الانسان بالله - جل وعلا - والغيب وبالتالي معرفته بالحياة في الآخرة تكون بمقدار معرفته في الدنيا ، فمن يموت جاهلا بربه يبقى على جهله هذا وان انتقل الى الآخرة فسوف يكون محجوبا عن خالقه ، وممنوعا عليه التحدث معه بل وحتى دعاؤه وطلب الحاجات منه ، وبالعكس فمن مات وهو على معرفة من ربه فانه سيرى كل شيء على حقيقته أي ليس هناك ما يحجبه من الحقائق .
ولذلك فان من أعظم النعم الالهية التي يتمتع بها الانسان في الدنيا فسح المجال أمامه لمعرفة خالقه ، ومن سلبت منه هذه النعمة فان سيحرم من نعمة عظيمة لايمكن ان تعوض عنها نعمة اخرى ، وفي هذا المـجال يقـول الامام علـي ( عليه السلام ) : " معرفة الله سبحانه أعلى المعارف " .
وحتى في الآخرة تبقى هذه النعمة محتفظة بمستواها من العظمة ، لان نعمة المعرفة هي غذاء الروح والحاجة التي تستشعرها النفس دائما ، فالمؤمنون لايجدون لذة أعظم من لذة المناجاة ، ولا حلاوة أحلى من حلاوة الاتصال الروحي بين قلوبهم وبين أنوار القدس الالهيـة ، لذلك تراهـم يبادرون الـى العبادة والتبتل والمناجاة ليـلا
والناس نيام .
ولذلك فان علينا ان لانفوت هذه اللذة العظيمة ؛ فلو اتصل قلب الواحد منا ولو لمدة ساعة بنور ربه واضيء بشعاع معرفة الله - عز وجل - لكفت هذه الساعة حاجة الانسان الى الاتصال بالله في العمر كله .
ومثل هذا الهدف لايمكن ان يتحقق الا بعد ان تتساقط ذنوب الانسان ، لان هذه الذنوب تفصل بين القلب والرب ، فاذا زالت اتصل القلب بخالقه ، فمن وجد نفسه منشغلا عن ذكر الله بالدنيا فليعلم ان الذنوب هي التي تحجبه وتمنعه من اقامة هذا الاتصال ، وبالتالي فان عليه في هذه الحالة ان يتوسل الى خالقه وبارئه لان يعينه على اسقاط تلك الحجب ، وحينئد سيستنير القلب بنور الايمان ، وسيشتاق دوما الى لقاء الله .
وهكذا فان الانسان اذا فقد المعرفة بالله - جل وعلا - في الدنيا الى ان جاءه الأجل المحتوم فعليه ان ييأس من معرفة الله في الآخرة ، وهذا يعني انه سيدخل الجحيم - والعياذ بالله - لان الجنة هي دار ضيافة الله ، ولايمكن ان يدخل هذه الدار الا من كان عارفا به - سبحانه - .
والنتيجة الطبيعية لعدم معرفة الله هي البعد عنه ؛ فمن نسي نفسه لابد ان ينساه الله كما يقول القرآن الكريم : « قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءَايَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى » (طه/125-126) ، ومع ان الله - تعالى - لاينسب اليه النسيان الا ان الانسان الذي يلقى في نار جهنم يكون حكمه حكم من نسي .
وعلى هذا الاساس فان النعمة الكبرى التي نحصل عليها في هذه الدنيا هي معرفة الله فنحن لدينا اله عزيز رحيم هو أنيس المحبين وقادر مقتدر ، ولكنه - تعالى - مع
ذلك سينسانا ان نحن نسيناه في الدنيا .
ومع ذلك فان الله يتجلى الى قلوبنا بين الفترة والاخرى ويدعونا الى نفسه ، وعلى سبيل المثال فعند قراءة الادعية يتجلى الله - سبحانه وتعالى - لعبده ويطلب منه ان يأتيه ويناجيه .
والآيات التالية من سورة الانبياء هي دعوة الى الله من خلال آياته في الكون حيث يقول - عز وجل - في هذه الآيات المباركة :
« أَوَ لـَمْ يـَرَ الَّذِيــنَ كَفــَرُوا أَنَّ السَّمــَاوَاتِ وَالاَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُـمَا
وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الاَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ * وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفإِيْن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ * وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ * خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ * وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَـن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ * وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُســُلٍ مِــن قَبْلِكَ فَحَـاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون » (الانبياءِ/30-41)
وفيما يتعلق بالآية الاولى فقد اكدت الابحاث العلمية الحديثة على ان الكواكب والمجرات والمنظومات وكل الوجــود كان في يوم من الايام كتلة متراصة ومتداخلة حجمها اقل مـن حجـم الفضـاء بملايين المرات ، فكانت - حسب تعبير القرآن الكريم - رتقا اي متصلة ببعضها البعض ، ثم حدث لها انفجار قبل آلاف الملايين من السنين ، وربما توحي الآية الكريمة التي تقول : « وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَآءِ » (هود/7) بأن المادة الاصلية لهذا الكون شبيهة بالماء .
والملاحظ ان كل شيء في هذا الوجود يكون متصلا بشيء آخر في بداية أمره ثم ينفصل ، وحتى الانسان فانه كان متصلا بوالديه ثم انفصل عنهما بالولادة ، وهذه هي سنة الحياة ، والتعمق في هذه الناحية من شأنه ان يزودنا بالمعرفة بالله - سبحانه وتعالى - وذلك من خلال معرفتنا في كيفية فصل المتصل وفتق الرتق بهذا الاسلوب الدقيق اللطيف ، بل ان الانسان لو فكر اساسا في كيفية حمل الله - تعالى - للسحاب والرياح وهذه الاطنان الهائلة من المياه لينزلها الى الارض ثم يخزنها داخل الجبال من خلال تحويلها الى ثلج ، وكلما احتاجت الارض الى المزيد من الامطار قامت الشمس بصهر هذه الثلوج واحالتــها الى ماء تسـقى به الارض ، ان الانسان لو تأمل كل ذلك لازدادت - لاريب - معرفته بالله - عز وجل - .
ثم يقول - تعالى - عارضا لنا آية اخرى من آيات عظمته في الكون : « وَجَعَلْنَا فِي الاَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ »
ان ارضنا هذه مشبعة بسلسلة من الصخور تمتد الجبال فيها من تحت الارض لتتصل ببعضها البعض ، ولـو لم يكن ترتيب الجبال بهذه الصورة لكان بإمكان الرياح
العاصفة ان تحرك وتهز الارض بشكل مستمر ، ولكثرت الزلازل والهزات ، وبناء على ذلك فان الجبال وامتداداتها في باطن الارض هي بمثابة الدروع التي تحفظ الارض من الميلان والتحرك والاهتزاز .
ولقد حدد علم الجغرافيا والجيولوجيا مواقع الجبال على الارض ، واثبت انها مواقع دقيقة جدا ؛ فلو ان جبال الألب - مثلا - أزيحت من مكانها الى اندونيسيا ، او نقلت قمة (افرست) الى مكان آخر ، او تحركت جبال الهملايا الى بلد آخر غير الهند لتغيرت كل الارض وسادتها الفوضى ولهزتها الزلازل بصورة مستمرة .
ثم يستأنف - عز وجل - قائلا : « وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ» ، فلو ان الله - تعالى - كان قد جعـل الجبال كجدران السجون لأصبح من غير الممكن التنقل بين مناطق الارض المختلفة ، ولكنه - جلت قدرته - خلقها بحيث فصل بينها بوديان ، وجعل فيما بينها فجاجا وطرقا على الانسان ان يهتدي الى ربه من خلال هذه الآيات العظيمة .
ويستعرض لنا القرآن الكريم آية اخرى من آيات الخلق والابداع فيقول :
« وَجَعَلْنَا السَّمَآءَ سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ ءَايَاتِهَا مُعْرِضُونَ » ، فالغلاف الغازي الذي يحفظ الارض من ملايين الشهب والنيازك المتجهـة كل يـوم الى الارض ، هو الذي يقي الارض من تلك القذائف ومن الامواج والاشعة الخطيرة التي من شأنها ان تبيد وتفني الحياة ان هي وصلت الى الارض .
فالى متى اللهو واللعب ، والى متى عدم الشعور بالمسؤولية ؟
ان الآيات السابقة جاءت في إطار الحديث عن المسؤولية ، وان الحياة حق ، وان
كل شيء فيها يحقق هدفا محددا ويتحرك وفق ميزان . فاللهو لايوجد في الكون لان
الدقـة والهدفية هما اللتان تسودانـه كما يقول - عز وجل - : « لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَتَّخِذَ
لَهواً لاَتَّخَذْنَاهُ مِن لَدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ » (الانبياءِ/17)
فمن جملة ما بينه القرآن في هذه الآيات انه قد حدثنا عن ظاهرة الاستهزاء بالحقائق لدى الانسان وذلك في قوله - تعالى - : « وَإِذَا رَءَاكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَتَّخِــذُونَكَ إِلاَّ هــُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ ءَالِهَتَكُمْ وَهُم بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ » .
والله - سبحانه وتعالى - يحذر الانسان بشدة من هذه الصفة السلبية وينهاه عن الاستهزاء بالحقائق ، فحتى الجرثومة الصغيرة التي يستهزئ الانسان بها كفيلة بالقضاء عليه ، والمرض البسيط الذي قد يستصغره الانسان من الممكن ان يتعاظم ويتنامى حتى يتحول الى وبال عليه .
ان الحياة مليئة بالحقائق الدالة على عظمة وقدرة الخالق - تعالى - ، وقد استعرض القرآن الكريم جوانب منها في الارض وفي السماء ، بغية ان يقف الانسان اجلالا لخالقها فيؤمن به ، ويجعل منها اهدافا لتحركه وسعيه في هذه الارض .
ثم يقول - عز من قائل - مشيرا الى طبيعة الانسان الميالة الى الجهل والعجلة وسرعة اصدار الاحكام دون تأمل وتريث :
« خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُوْرِيكُمْ ءَايَاتِي فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ »
فمن طبيعة الانسان الجهل ، والجهل بدوره يدعو الى العجلة ، ذلك لان الانسان العارف ينظر الى المستقبل في حين ان الانسان الجاهل لايرى الا لحظته التي يعيش فيها ، ولذلك ترى الانسان الكافر يستعجل العذاب على نفسه قائلا :
« وَيَقـُولُونَ مَتـَى هَذَا الْوَعـْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ
لاَ يَكُفــُونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلاَ عَن ظُهُورِهـِمْ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ * بَلْ تَأْتِيهِم
بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ »
ان جميع الآيات القرآنية السابقة موجهة الينا بالأساس ، وهي تمسنا قبل ان تمس غيرنا ، فلنسع من أجل تطبيقها ، ولنكن اكثر جدية في الحياة ، ليتسنى لنا الحصول على نعمة معرفة الله في الدنيا قبل الآخرة .
هنالك ثلاثة اسئلة مترابطة تشكل بمجموعها محور استفهام رئيسي ، هي :
1- ما المسافة التي تفصل بين الانسان وربه ؟
2- كيف يمكن للانسان الضعيف المحدود ان يقطع هذه المسافة ؟
3- لماذا كلف الانسان ان يقطعها لبلوغ هدفه المتمثل في لوصول الى رحاب رب عزيز كريم هو جبار السماوات والارضين ؟
وقبـل ان نبدأ بالاجابة على هـذا الاستفهـام باسئلته الثلاثة وما قـد يتفرع عنه من اسئلـة اخـرى لابد ان نشـير الى حقيقــة ينبغـي ادراكها ؛ وهـي ان الدنيـا ليست دار
امتحان وتمحيص فحسب يجتازها الانسان نحـو عالم الآخـرة والحياة الابدية بل هي ايضا مدرسة تكاملية يتكامل فيها الانسان ليبلغ بعدها الكمال الاخروي ، فمن استطاع ان يبلغ أعلى قدر من الكمال الدنيوي فقد حظي برحمة الله ونعمته ورضوانه بقدر تلك الدرجة من الكمال التي بلغها في الدنيا ، اما الذين يستوفون ما قدر لهم من الحياة ثم يبلغون أجلهم دون ان ينالوا شيئا من الكمال ودرجاته فان ملف هؤلاء سيغلق ولن يكون بامكانهم التكامل في الآخرة .
ولعل أهم المحاور التي يتكامل الانسان من خلال الالتزام بها هو محور معرفة الله والتقرب منه . فلو ان الانسان المؤمن سعى ليبلغ الكمال في صلاته وصيامه وكل عباداته فان فضل الكمال هذا وثوابه يبقيان وقفا على درجة معرفته بربه الكريم ، وقد جاء التأكيد في الاحاديث الشريفة عن اهل بيت العصمة والطهارة على اهمية المعرفة بالله - عز وجل - منها ما جاء عن ابي عبد الله (عليه السلام) قال : " من صلى ركعتين يعلم ما يقول فيهما ، انصرف وليس بينه وبين الله ذنب " (1)
وهكذا فان كمال الانسان وقيمة عمله يرتبطان بمقدار معرفته بربه لابحجم وكثرة اعماله ، ولذلك كانت معرفة الله - سبحانه وتعالى - اهم الدرجات المعنوية التي ينبغي على الانسان ان يجهد لبلوغ ما أمكنه بلوغه منها والا فان الأجل هو المحطة الاخيرة لهذه الرحلة التكاملية في الدنيا من حيث التزود بالمعرفة . فمن لم يستطع التزود ولو باليسير منها فلن يمكنه التزود بعد ذلك في الآخرة ذلك لان الدنيا هي مزرعة الآخرة .
وان مــن اعظـم العـذاب الالـهـي الذي يعـذب به الاشـرار والملحـدون والكفـار
والمشركون والمتمادون في غيهم وعصيانهم هو ان الله - تعالى - يحرمهم في يوم القيامة من معرفته والاتصال به ، وهذا ما يشير اليه دعاء كميل المعروف : " الهي فهبني صبرت على حر نارك فكيف اصبر عن النظر الى كرامتك " ، فمن شديد عقاب الله - عز وجل - لهؤلاء هو انه يحرمهم من خطابه ودعائه فليس باستطاعة اهل النار مخاطبة ربهم مباشرة ، ولايجوز لهم يومئذ ان يلهجوا بأسمه المبارك ، فالعلاقة مقطوعة ابدا والنداء غير مسموع .
وهكذا فان الدنيا هي فرصة التكامل بالمعرفة الالهية ، فلابد من ان نقطع المسافة التي تفصلنا عن ربنا - سبحانه - بالمسير اليه من خلال معرفته ، فما أشد حرمان ذلك المغبون الخائب الذي يحيى عشرات السنين في حياته الدنيا ثم يموت ولا يستثمر فرصة العمر الطويل حيث أبواب الرحمة الالهية مفتوحة أمامه ، وقد دعاه ربه الى نفسـه قائلا : « وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » (البقرة/186).
وفي الروايات تأكيد على ان الله - جل وعلا - يبعث في اول كل ليلة جمعة ، وقيل في منتصف كل ليلة ملكا الى السماء الدنيا يدعو الناس الى دعوة الله ، ويقول عن لسان الله - تعالى - ان يا عبادي ادعوا ، اطلبوا ، فما اخسر وما اكثر حرمان ذلك الذي يصم اذنه ويسد عينيه ويحجب قلبه عن ذكر الله ودعوته رغم هذه ألابواب الواسعة المفتحة في هذه الدنيا .
فأين نحن من دعوات ربنا الرؤوف الرحيم لنا ؟! انه - سبحانه - يحب دعوة عبده ويحب الالحاح منه في دعائه ، ومن ذلك نفهم انه لاينبغي للمؤمنين ان ييأسوا ويقنطوا من روح الله وواسع رحمته حين يبطأ الجواب ، فربما لايستجاب لهم لمصلحة وخير لهم فالله - جلت قدرته - أعلم بعباده ومصلحتهم وبما ينفعهم ويضرهم فهو - تعالى - يحب ان يرى عبده وهو في تلك الحالة من الذوبان في قدسه ورحابه ، والخضوع والتذلل والتوجه له .
بعد هذه المقدمة الضرورية نعود الى محور استفهامنا الرئيسي ، ومجموعة اسئلته المترابطة ، ونحاول ان نجيب عليها بما يلي :
ان الله - سبحانه - ليس ببعيد عن عباده ولكن العباد هم البعيدون عنه ، وبأمكان الانسان بالايمان والورع والتقوى ان يطوي المسافة المعنوية بينه وبين ربه ، كما ان بامكانه في نفس الوقت بالعصيان والتمرد والتمادي في الأثم والفجور ان يعمق الهوة فتنأى ، وتتسع المسافة بينه وبين الخالق حتى يكاد ينقطع عنه ، فينساه ربه بعد ان نسيه هو ببغيه وعصيانه وتمرده .
ان الله - سبحانه - لايحده زمان ولا مكان ، وليس وجوده بمزاولة ولا استيعاب ولا بأحاطة وانما هو الرب القيوم الحي الذي تقوم به السماوات والارضون ، والذي يمتلك غيب الغيوب ، والشاهد على كل شيء .
وعلى هذا فان تقصير المسافة بين الانسان وربه او زيادتها يتوقفان على الانسان ذاته ، وكل له عوامله واسبابه ؛ فالغفلة والامعان في العصيان ، والشرك بالله بكل أشكاله وألوانه وغير ذلك مما يسخط الله ورسوله ... كل ذلك عوامل واسباب تجعل المسافة طويلة وبعيدة ، وبهذا الابتعاد عن الله - تعالى - يظلم الانسان نفسه أشد الظلم ، وفي الدعاء الشريف تعبير رائع في هذا الصدد حيث جاء : " وانك لاتحتجب عن خلقك الا انه تحجبهم الاعمال دونك ، وان الراحل اليك قريب المسافة " .
ويروى في هذا المجال ان الامام علي ( عليه السلام ) سئل عن طول المسافة بين السماء والارض فقال ( عليه السلام ) : " انها دعوة مستجابة " ، وفعلا فان القلب الذائب الذي يعيش اللوعة والحنين الى الله وخاصة اذا كان قلب عبد مظلوم ، فان مثله عندما يهتف باسم الله فان هذه الكلمة النابعة من هذا القلب ذي النية الصافية الخالصة ستعدم كل بعد ومسافة بين هذا العبد الداعي وربه المجيب ، فحينما يكون القلب زكيا نقيا ، والنية خالصة فلا حجاب حينئذ بين العبد وربه انما النور الالهي هو الرابط بين هذا القلب وبارئه .
واذا كانت هناك حجب وظلمات حالكة فانما هي من صنع النفوس التي خضعت للشيطان ووساوسه ، ولايمكن تحطيمها الا بمعول الارادة الايمانية ؛ فبإرادة الانسان وتقواه وورعه يمكن اسقاط كل ما يفصل بينه وبين ربه ، ولعل حجاب الشرك الخفي ، والخضوع للمخلوقين ، وإتخاذهم أربابا وأندادا من دون الله - سبحانه - يقف على رأس هذه الحجب .
فالاجدر بالانسان المؤمن - اذن - ان يزيل عن نفسه حجب الخلق ، ولايجعل في اعتقاده ان موجودا ما له قدرة مستقلة ذاتية ، فمثل هذا الاعتقاد هو منزلق الشرك الذي لا غفران له ، فليقطع أمله بكل ما هو غير الله ، ولايخشى احدا سوى ربه ، ولايخف فيه لومة لائم ، وحين تجتمع هذه الميزات والخصائص الايمانية في المؤمن فانه سيشعر ويلمس كيف تتجلى الانوار الالهية البهية في قلبه .
ان الانبياء ، والائمة والاولياء والصالحين لم يبلغوا ما بلغوه من درجات العلو والسمو في القدس الالهي الا بما امتازوا به من ميزات التوحيد والتقوى ، ولذلك كان معراجهم الى ربهم التسبيح والتنزيه والثناء والحمد وكل سبل ووسائل العرفان الاخرى .
فالتسبيح محطة من محطات الانطلاق نحو عالم العرفان عندما يعي الانسان هذا التسبيح ويبلغ مستواه ويستلهم من آفاقه الرحبة ، والتسبيح وحده غير كاف من دون التقديس والتنزيه العمليين في حياتنا ؛ فهو يعني ان نطرد من اذهاننا كل الاوهام والتخيلات والتصورات عن الله والتي تؤدي الى الشرك ، فكل تصور او تخيل شكلي سواء كان زمانيا او مكانيا عن اللـه - تعالى - معناه اننا جعلنا اللـه موجودا من الموجودات الممكنة ، الناقصة ، المحتاجة ، ويمكننا ان نصف أثر هذه التصورات التي تقود الى الشرك شيئا فشيئا بانها اول الحجب بيننا وبين الله ، فلابد من إزالتها قبل تراكمها واستفحالها .
ان الانسان المؤمن عندما يسبح بحمد ربه بكل جوانحه ومن اعماق قلبه وضميره ومشاعره فان هذا معناه انه يعمل على اسقاط حجاب الكبر والعجب الذي لايكاد يخلو منه انسان ، وهاتان الصفتان تمثلان واحدا من أخطر الحجب الفاصلـة بين العبد وربه ، بل هما مبعث السخط الالهي على الانسان فأية قوة يمتلكها الانسان إزاء القـوى والطاقات الهائلة التـي تملأ هـذا الكون بكل آفاقه ؟ كما يشير الـى ذلك - تعالى - في قوله : « وَلاَ تَمْشِ فِي الاَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الاَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً » (الاسراء/37)