مثل هذا الشخص يشارك - في الحقيقة - في حرق البيت لانه سيلهيك عن مشكلتك الحقيقية ، وهناك اناس في المجتمع يلهوننا ، ويجعلوننا نعيش بعيدين عن اوضاعنا ، وعن قضايانا الرئيسية ، ومشاكلنا اليومية ، عن اقتصادنا وسياستنا واخلاقنا وثقافتنا وثقافة ابنائنا ، ليجعلونا نصُب اهتمامنا فـي قضية من القضايا الثانويـة ، وفي
موضوعات بعيدة عن وقائع الحياة اليومية وعن حاجاتها .
وكما حدثت هذه الحالة في بلادنا فان هناك بلدانا اخرى عاشت مثل هذه الظروف ولكنها خرجت منها ، واستطاعت ان تكتشف اخطاءها ، لتبرمج لحياتها من جديد ، اما نحن فبقينا على تخلفنا .
ويبقى القرآن الكريم المصدر الرئيسي لتشريعنا ، وافكارنا ، وثقافتنا ، واخلاقنا ، وقيمنا ، وعلينا ان نستمد جميع مفردات ثقافتنا من القرآن ، فالمشاكل التي نعانــي منهـا منشأها ابتعادنا عن القرآن الذي يقــول عنه الخالق - تعالى - : « قَدْ جَآءَكُم بَصَآئِرُ مِن رَبِّكُمْ » (الانعام / 104 ) ، فهذه الثقافة مستمدة من اللـه ، فلنتشبع بها ، ولنتمثلها في حياتنا ، ولنستهديها في مسيرتنا الحياتية .
من خلال نظرة بسيطة وخاطفة نجد ان أية حركة لابد ان تدور حول محور ثابت ، كما ان العلاقة بين الحركة والثبات والمتحرك والثابت علاقة اصيلــة ، وهذه العلاقة قائمة فيما يتصل بالثقافة والفكر ، والقيم والاخلاق ، والنظرية والتطبيق . فكل حركة ثقافية لها جانبان ؛ الجانب الثابت الذي هو بمثابة المحور ، والجانب المتحرك الذي يشبه الى حد بعيد الاطار الذي يدور حول هذا المحور .
وعندما ننظر الى تاريخ الثقافات نجد ان الثوابت فيها تتواصل بين جيل وآخر ؛ وبين أمــة واخرى ، في حين ان المتغيرات هي التي تتطور وتتغيــر من جيل لآخر ، ومن منطقة لاخرى ، وبالتالي من عصر الى عصر آخر .
والمشكلة الرئيسية التي تعاني منها بعض الامم عدم وجود حالة التوازن والتعادل بين الثوابت والمتغيرات ، وعلى سبيل المثال فان الأمم التي عارضت وناهضت الرسالات السماوية كانت كل مظاهر حياتهم تعتبر من الثوابت ، فلم يكونوا يؤمنون بالمتغيرات حتى في ملابسهم ، و طريقة كلامهم ، وعاداتهم في الحرب والسلم ، وعباداتهم ، وطقوسهم ... فكانت جميع هذه المظاهر تعد عندهم من المقدسات والثوابت التي لا تقبل التغيير ، ومثل هذه المجتمعات كانت مجتمعات متحجرة ، ولذلك فانها عندما واجهت التغيير والتطوير فانها انهارت ، لانها لم تكن قادرة على امتصاص الصدمة .
وهكذا الحال بالنسبة الى أي مجتمع جاهلي آخر فان ثوابته اكثر من متغيراته ، ولذلك نجد ان مثل هذا المجتمع سرعان ما ينهار ويتحطم مع اول مواجهة مع الصعوبات .
ان نفـس هذه الظاهــرة مــازالت سائدة في مجتمعاتنا ، ولتوضيح ذلك نضرب مثلاً من واقع التعليم الديني في مجتمعاتنا ؛ فالتعليم الديني لدينا كان هو السائد ، فقديما كان المسلمون يتعلمون القرآن ثم الفقه والتفسير والحديث ... وقد كان هذا هو مجمـل التعليم السائد في مجتمعاتنا ، في حين ان العالم قد تطور ، ودخلت التعليم حقول جديدة مثل حقل التربية والاجتماع وعلم النفس والطب والاقتصاد والسياسة ... ولكن الاجهزة التعليمية في بلداننا الاسلامية بقيت متحجرة .
وعندمــا دخلت الثقافة الغربيــة بلادنا بكل معطياتهــا وتطوراتهــا
شعرت اجهزتنا التعليمية انها لا تستطيع ان تواجه النظم المعقدة والواسعة ، ولذلك فانها انهارت لانها كانت متحجرة لاتمتلك من المرونة والقدرة على استيعاب التطور ما يمكنها من التكيف مع ذلك التطور الهائل الذي حــدث في العملية التعليمية ، بل والتفوق عليه من خلال منافسته وتحديه .
وفي المقابل فاننا نجد مجتمعات اخرى نستطيع ان نصفها بانها مجتمعات ( متميعة ) ؛ اي ان متغيراتها اكثر من ثوابتها ، مثل بعض المجتمعات الاوروبية ، وبالتحديد المجتمع الاميريكي الذي يفتقر الى الثوابت الضرورية لان يكون المجتمع رصينا ومتينا على ضوئها . فهناك مجموعة متكاملة من القيم الثابتة لابد ان يقوم المجتمع على اساسها ، واذا ما تعرضت هذه القيم للتغير . والتطوير فلابد من ان يواجه المجتمع صدمة تنعكس في افرازات سلبية مثل الاباحية ، وتفكك العلاقات الاسرية .
ان من الخطير جداً ان لا تكون للانسان مقاييس لمعرفة الثوابت وتمييزها عن المتغيرات ، وفي الحقيقة فان هذه الظاهرة هي أخطر حالة من الممكن ان يعيشها المسلمون ، ومن أهم وظائف المشروع الحضاري الديني لمجتمعاتنا في العصر الراهن فرز هذين النوعين من القيم ؛ اي القيم التي ينبغي ان تكون ثابتة ، والقيم التي ينبغي ان تكون متغيرة .
النظرية الاسلامية :
ان القيم الاسلامية تعتمد بدورهـا على هذه النظرية ؛ فالاسلام يقرر ان هناك قيمة ثابتة لا يمكن ان تتغيــر تتمثل في وجود الخالق - سبحانـه - الذي هو باق أبدي سرمــدي ، وان كل ما يتصل به - تعالى - هو ايضا ثابت ، وكل ما اتصل بالخلق فهو متغير . فكل شيء هالك إلا وجهه ، وكل شيء فان والذي يبقى ويخلد هو وجه ربنا ذو الجلال والاكرام .
ان الطبيعة في حالة تغير مستمر ، ونظرية التغير والصيرورة في العالـم هي نظرية اسلامية اصيلة ؛ وعلى سبيل المثال فان القرآن الكريم يقرر ان كل شيء متغير حتى الجمادات . فالانسان يعتقد ان الجبـال بضخامتها وصخورها الهائلة ثابتة ، في حيــن ان القرآن يقول : «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ » ( النمل / 88 ) ، وكأنه يريد ان يفهمنا ان نظرتنا الى الحياة ، والطبيعة ، والمجتمع ، والى اي حقل من حقول الحياة يجب ان تنبع من مبدأ التغير في الطبيعة .
النظرة الثابتة هي المسؤولة عن السلبيات :
ولعل هناك من يتساءل قائـلاً : وما الضير في ان تكون نظراتنا ثابتــة ؟
هذا في حين اننا عندما نتدبر في حياة الانسان ، وبالذات في حالاته النفسية نجد ان النظرة الثابتة الى الحياة هي المسؤولة عن الكثير من الاخطاء الفكرية والنظرية لدى الانسان .
ومن اجل ان نوضح هذه الفكرة لنضرب مثالا من عالم الاخلاق ، وآخر من عالم السياسة، لان حديثنا يتصل في الواقع بالقضايا الستراتيجية الهامة ، والخطوط العريضة .
فمن واقع الاخلاق نجد ان الانسان الذي يزعم - مثلاً - ان صحتـه ثابتــة ستعتري حياته اشكاليتان همــا ؛ اولاً : انه سوف لا يشكر اللـه - تبارك وتعالى - على نعمة الصحة ، ثانياً : سوف لا يحافظ عليها استنادا الى اعتقاده انها ثابتة ، فتراه لا يبحث عن العوامل التي ادت الى صحته ، ولا عن العوامل التي تسبب مرضه .
وبناء على ذلك عوامل الصحة والمرض متغيرة ، وايمان الانسان بهذه العوامل المتغيرة سيدفعه الى ان يحافظ على عوامل الصحة .
اما المثال الذي اريد ان اضربه من عالم السياسة فيتمثل في تساؤلات من مثل : من هو المسؤول عن بقاء الانظمة الفاسدة ؟
للجواب عن هذا السؤال نقول ان السبب الرئيسي هو النظرة الجامدة تجــاه السلطة . فالانسان يعتقد بان السلطات باقية ، في حين ان الله - سبحانه وتعالى - يقول : « وَتِلْــكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَـــا بَيْنَ النَّاسِ » ( آل عمران / 140 ) ، والايــام هنا تعبير عــن السلطة ، واللـه - عز وجل - أبت سنته ان تبقى جماعة حاكمة الى الأبد ، وبناء على ذلك فان الانسان ليس هو السبب في اسقاطها ، بل ان لها اجلاً معيناً .
وهكذا فان مسؤولية بقاء الانظمة الفاسدة قائمة على اساس النظرة الشيئية والجامدة الى هذه الانظمة . فالنظام مثله كمثل كرسي قائم على قواعد ، فمادامت القواعد موجودة فان النظام موجود ايضاً ، اما اذا انهدت هذه القواعد فان النظام سينهد ويسقط ايضاً .
من هنا اذا أردنا ان نحظى بثقافة الحياة ، لا مناص لنا من ان نوازن بين الثوابت والمتغيرات في عناصر الثقافة .
جدل قديم ، ومتجدد بين علماء الاجتماع والفلاسفة ، حول دور الثقافة في حياة الأمم أهو دور التابع أو المتبوع ؟
يقول علماء الاجتماع : أن تطورات الحياة خاضعة لسفن معينة ، هي التي تقودها بصفة حتمية من مرحلة إلى أخرى ، وفي كل مرحلة تخضع جميع مناحي الحياة ومنها الثقافة لمجموعة سفن خاضعة لاستراتيجية المرحلة بصورة حتمية .
والثقافة عند الاجتماعيين ، بعض النجوم التي تدور فــي أفــق السفن الاجتماعية المحتومة .
ويذهب الشاعر العربي الى هذه الفكرة حينما يقول :
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
فالسيف عند شاعرنا أبي تمام لا يعدو أن يكون علامة لظاهرة اجتماعية هي الحرب ، وهو الذي يحدد وجهة الثقافة التي تتمثل في
الكتـاب .
وحتى الفلسفة ، يعتقد علماء الاجتماع انها بعض الافرازات الاجتماعية ، التي تدل على مرحلة معينة .. ومن أدوار المجتمع . فمثلا : فلسفة الثورة في أوربا ، لم تكن سوى ظاهرة واحدة من ملامح القرن الثامن عشر لمجتمع الثورة .. الذي أفرز هذه الظاهرة .
هكذا يعطي الاجتماعيون الاهمية للاجتماع بينما يجر الفلاسفة نار الاهمية الى قرصهم فيقولون ان العامل الحاسم في حياة الشعوب انما هي ثقافتهم ، فهي التي تحدد وجهة المجتمعات ، وتصبغها بلون الثورة أو الجمود ، العلم أم التقليد ، الحضارة أو التخلف .
يقولون : ما هو المجتمع .. ليس سوى الافراد ، ثم كيف يدير الافراد شؤونهم بارادتهم ؟ ولكن كيف يختلفون في الارادة أليس لانهم يحملون ثقافات مختلفة ؟
إذا فالثقافة رائدة الحياة وهكذا يختلف الرأي في أن الثقافة ام سفن الاجتماع هي التي تقود حياة الأمم ؟
وقد تنامى الشعور بخطورة دور السفن الاجتماعية في قيادة الثقافة وتوجيهها في العصر الحديث ، حتى تسنم علم الاجتماع بفروعه العديدة قمة العلوم الحديثة .
ولكن بالرغم من ذلك فان أنصار الثقافة لا يزالون يتمتعون بنفوذ واسع في الاوساط العلمية .
وخطورة هذا الجدل يأتي من ارتباطه المباشر بقضايا الامم المصيرية ، سواء كانت متقدمة أو متخلفة . فالشعوب المتخلفة لا تفكر بالتقدم الا ويصدها هذا السؤال : ما هو العامل الحاسم في تقدم الامم ، الثقافة الحية أم السفن الاجتماعية القوية ، فإذا كانت الاولى بدأنا بها وإن كانت الاخرى فلابد من إنتظار أمرها ؟
بينما الشعوب المتقدمة تخشى التخلف وتفكر في تجنب الموجبات النهائية له .
والواقع : أن الثقافة رائدة ووليدة فهناك ثقافة رائدة تفجر طاقات الإنسان ، وتبعثه مجتمعا حيا نشيطا ، وهناك ثقافة تولد مع هذا الانفجار كواحدة من افرازاتها العديدة وهذه ثقافة وليدة حياتها مرتبطة بحياة المجتمع وطاقاتها محدودة بقدرة الأمة .
وتسود هذه الثقافة الوليدة ما تسود افرازات المجتمع من سنن مقضية أبرزها سنة التناقض الطبيعي ، الذي تتعرض له كل إفرازات المجتمع .. كلما بعدت عنها اشتد الانفجار الاول .
وكالشمس حينما تتربع السماء تكون أشعتها أكثر دفئا وأشد ضياء عما اذا آلت إلى المغيب ، كذلك المجتمع ساعة إنطلاقه تكون ثقافته الوليدة أبهى واسمى من ساعات انهياره .
وفي تأريخنا الاسلامي تبدأ أمتنا في ساعة نزول القرآن الحكيم ، حيث كـانت ساعــة الانفجار الضخم لنا وكانت شمسنــا في رابعـة
السماء .
والثقافــة القرآنيــة كانت الرائدة التي ولدتنا وهي بالتالــي كانت " فكرة الحضارة " .. التي فجرت طاقات الإنسان في الجزيرة العربيـة .
وإشعاع هذه الثقافة تمثل في ثقافة الجيل الاول الذي تلقى الوحي من مهبطه الصافي ، وبالرغم من سمو ثقافة الجيل الاول ، فانها كانت وليدة المجتمع الاسلامي ومن موحياته الخيرة .
وحينما هبطت الحياة الاجتمـاعية .. هبط مستوى الثقافة الوليدة المستوحاة منه وتمثلت في ثقافة أمية التي انطبعت بطابع الحياة الاجتماعية تمامـاً .
بهـذا نستطيع تقسيم الثقافة الى نوعين : الاول - ما تولد الحضارة ، الثاني - ما يتولد منها ، ويرتبط في مسيرته مسيرة الحضارة وهي واحدة من افرازاته المختلفة .
وعلى الامم الناهضة التفتيش عن الثقافة الرائدة ، لتوظيفها في حياتها حتى تستطيع ان تقوم بدور الديناميت لتفجير طاقات الانسان الحضارية ، ولكن كيف نتعرف على هذه الثقافة حتى لا تتشابه علينا وتضيع النهضة بينها ؟.
من الطبيعي أننا لا نستطيع الاطمئنان الى سلامة جسم شخص دون اجراء كافة الفحوصات الطبية ، وتحقيق جميع الاختبارات في التحليلات لتؤكد لنا عن خلو الجسم من أي مرض وأي ميكروب قد يسببه في المستقبل .
كذلك لا نضمن سلامة الثقافة الا بعد التأكيد من خلوها من الامراض بل ومن بذورها الخفية .
إذن فلنبحث عن مقاييس تكشف لنا عن الامراض الثقافية قبل ان نحاول تحديد ملامح الثقافة السليمة ، فما هي هذه المقاييس ؟
كيف نكشف المرض الثقافي ؟
هنـاك طريقتان - في الطب - الحديث تكشف المريض الجسـدي : طريقة التحليل ، وطريقة الملاحظة .
وفـي طريقة التحليل ينبغي ان نجزئ الشيء الواحد ، الى أصغر وحدة
ممكنة ، ثم نلاحظ اثار الوحدات وبجمعها وملاحظة النسبة بينها نكشف عن طبيعتها ، بينما في طريقة الملاحظة نرجع رأسا الى آثار المجموع دون تجزئته ؛ فمثلا في حالة إصابة الرأس بوجع شديد .. قد يستخدم الطبيب طريقة الملاحظة فيسأل المريض عن آثار العاهة ، ويكشف بها نوعية المرض ، بينما يستعين بطريقة التحليل في احيان اخرى فيحتاج الاستعانة بالمختبرات ، لتحليل دم المريض ، أو ادراره اذ بدون ذلك لا يمكنه تمييز طبيعة المرض .
وفهم هاتين الطريقتين أمر ضروري لمعرفة المرض الثقافي إذ قد نكتفي فيه بنظرة موضوعية الى الثقافــة كمجموع بينما نحتاج احياناً الى تفكيك الجهاز الثقافي الى جزئيات صغيرة لمعرفة الخلل الكامن فيه .
الملاحظة تكشف زيف المرض :
والملاحظـة العامة لمجموع الثقافة ، تستطيع ان تكشف لنا عن ذلك بطريق النظر العام فيها مع طرح دور العوامل الخارجية التي قد تؤثر فيها .
ان انطلاقة المجتمع الاسلامي في فجرها الباكر كانت أبرز سمات السلامة في الثقافة القرآنية .
بينما الجمود الذي ساد القــرن الرابع بعد الهجرة ، هو الاخر سمة
بارزة للمرض الثقافي الذي انطوى عليه ذلك المجتمع .
وكما ان طيب الزهرة افضل دليل على سلامتها ، فإن تقدم المجتمع هو الاخر اظهر دليل على سلامة ثقافته .
ولكن لا يمكن قياس الثقافات الاسلامية المستجدة بما نلاحظه من جمود الجماعات المسلمة ، لان العوامل الخارجية من استعمار وتخلف ورجعية ذات آثار عظيمة على مجتمعنا الراهن .
المجهر الثقافي :
وطريقة التحليل المتبعة في البيولوجيا يمكن اتباعها ايضاً في الثقافة الاجتماعية ، وذلك بتفكيك الثقافة ورصد العناصر المريضة فيها والتي تجمعهـا باللامسؤولية واللاالتزام فتلك الفكرة التي تؤله جهازاً اجتماعياً " كالساسـة ، او رجال الكهنوت ، او رجال الاقتصاد " فكرة مريضة .. لانها تشل الارادة البشرية ، وتقتل روح التحدي فيها . وابرز الامثلة الحديثة على ذلك : محاولات الصهيونية شل الارادة العربية عن طريق بث الافكار التعجيزية عبر اجهزتهم الاعلامية الخاصة ، فمثلا يضخمون قوة اسرائيل حتى يصلوا بها الى حد تصويرها أنها المالكة لقوى العالم كله .. ففي كتاب " تحطمت الطائرات عند الفجر " نجد نموذجا مفضوحاً للفكرة المريضة التي تحاول الصهيونية دسها في ثقافتنا العامة .. اذ يصور الكتاب الاستخبارات الاسرائيلية كأنها عفاريت من جن ، تتوغــل فـي كل الاجهزة المعاديــة وتحطمهــا ، ويستهدف كتاب " بروتوكولات حكماء صهيون " ذات الغاية حين يربط بين جميع تطورات العالم ، وبين ارادة الصهيونية العالمية .
ان هذه الافكار الجزئية الصغيرة يجب ألاّ تنفلت من مجهر الراصد ، الذي يريد تحليل الثقافة الى اجزاء ثم كشف الجراثيم المريضة فيها .
هكذا نستطيع كشف زيف الثقافة ، ولكن ما هي ملامح الثقافة السليمة ؟
دفعة عاطفية ومقاييس عقلية :
ابرز سمات السلامة في الثقافة قدرتها على توظيف جميع الامكانات البشرية في خدمة التقدم والرفاه .
فالعاطفة يجب ان تستمر جنبا الى جنب مع العقل ، اذ هما اعظم طاقتين في الانسان ، بيد ان الثقافة السليمة هي التي تعرف كيف تضع النفس البشرية في محور متوازن بين العقل والعاطفة .. حتى لا يلفها جمود العقل ، ولا تقتلها ثورة العاطفة .
والتوجيه الثقافي مسؤول هو الاخر عن مقدار استخدامه لاحدى الطاقتين بحيث لا تطغي على الثانية فتدمر الحياة .
لقد كانت الثقافة الالمانية قبيل الحرب العالمية الثانية مشبعة للتخمة بالعاطفة ، فاندفعت في اتجاه خطر ، ونشرت الدمار على الارض ، بينما كانت الثقافة الفرنسية بالعكس تماما ، فانهارت فرنسا هي الاخرى . ان العاطفة ضرورة بالغة لأمة تواجه خطراً داخلياً او خارجياً ، ولكنها ليست كافية ، اذ انها كالمياه المتفجرة اذا لم تجد لها مجاري فانها تتحول الى سيول عاتية ، والمقاييس العقلية هي التي تحفر المجاري الضرورية لاستيعاب تفجر العاطفة ، ثم توظيفها في الخير والرفاه .
وفي الثقافة الاسلامية منابع عديدة للعاطفة ، فقصص الجهاد الاسلامي منذ عهد النبي (صلى اللـه عليه وآله وسلم ) وحتى اليوم ، والسير المضيئة التي نجدها في التأريخ الاسلامي أفضل مولد للعاطفة لدى الامة ، ولكن هل تكفي العاطفة للنهضة الشاملة ؟ كلا بل في الاسلام ايضا مقاييس عقلية دقيقة جاء بها الوحي القرآني الحق ، ويتبعها المسلمون جميعاً .
معروف كيف يموت الحي بيولوجيا : ينقطع عن التنفس فيتوقف عن الحركة .. كذلك تموت الثقافة ؛ يتوقف فيها نبض الحركة فتتقلص ، وتنطوي .. وتموت .
وكما يمر الحي بعدة مراحل قبل ان يلفه الـمـوت ، كذلك الثقافة تمـر بنفـس المراحل فمن مرحلة الصحة و الشباب الى مرحلة الشيخوخـة .. الى المرض .. الى الـموت ، وفيما يلـي نحاول شرح مميزات كل مرحلـة .
1 - دور الشباب :
تتمــيز الثقافة الشابة التي لم تزل تحتفظ بكامل قواها الحركية والدفعية بنقطتين اساسيتين :
الاولى : ان هذه الثقافة تبرر دائما دور " المشيئة " البشرية في تحمل مسؤولياتها الكاملة أمام الحياة .
الثانية : انها تستوضح للفرد أهدافه البعيدة التي يتطلع اليها ، او ينبغي ان يتطلع اليها .
والقرآن الكريم من أبرز واروع الامثلة التي تجسد روح الثقافة الحية ، فهي من جانب تكرس كثيرا من توجيهاته نحو المشيئة الحرة التي يتمتع بها البشر ، وتعطيه جرعات كبيرة من الاحساس بالتحدي ازاء عوامل الحياة الضاغطة .
يقـول اللـه تعالى في القرآن الكريم : «وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَــى * وَأَنَّ سَعْيَــهُ سَوْفَ يُــرَى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى » (النجم / 39-41) .
ويقـول أيضاً : «فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ » (الفجر / 25-26) .
ويقول سبحانــه : «إِنَّ اللـه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَــوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ » (الرعد / 11) .
كل هذه الايات تشير الى دور الارادة الانسانية لعله ينتبـه ذاتـياً ، ويقـوم بخلق حياة أفضل .
والقرآن من جانب آخر يقوم بشرح القيم التي ينبغي للانسان ان يتطلع نحو تحقيقها في حياته ، ومنطق القرآن في هذا المجال واضح جداً ، انما هي دنيا وآخرة ، والثانية خير من الاولى ، ولكن ينبغي ألاّ ننسى نصيبنا منها أيضاً ... إن اهداف البشر لدى الثقافــة الاسلاميــة
واضحة جداً ، والدعوة الى تحقيقها مؤكدة جداً .
يقول اللـه تعالى في القرآن الكريم : « تِلْكَ الدَّارُ الاَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الاَرْضِ وَلاَ فَسَاداً » (القصص /83) .
ويقول اللـه تعالى : « وَإِنَّ الدَّارَ الأَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ » (العنكبوت / 64) .
ويقول سبحانه : «وَابْتَغِ فِيمَآ ءَاتَاكَ اللـه الدَّارَ الاَخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِــن كَمَآ أَحْسَنَ اللـه إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الاَرْضِ إِنَّ اللـه لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ » (القصص / 77) .
2 - دور الشيخوخة :
أيام الشيخوخة في الانسان تزيد صاحبها ضعفا وتشاؤما ، كذلك أيام الشيخوخة في الثقافة تتسم بضعف القيم الدافعة نحو التقدم والحركة والانطلاق .
في هذه الايام تلعب السياسات التوافقية التي تنشأ من الاتحادات السطحية دورا بارزا في تقرير مصير الامم ، وهذه السياسات ناشئة من لون خاص من الثقافة هي :
" ثقافة التوفيق " وهذا النوع من الثقافة خالية من حماس القيم . انها ثقافة تبحث عن حلول وسط لجميع المشاكل ، وتحاول تجنب الاوجــه الحادة من الافكار ، وتكرس نشاطها لمعرفة اوجـه الوفــاق
حتى بين النظريات الشديدة التناقض .
وبالرغم من اتسام هذه المرحلة من عمر الثقافة بطابع " العلمية " إلاّ ان دافعها هو الشعور بالضعف ، والبحث عن الراحة . وفي الامة الاسلامية ترى هــذه الثقافة بين جمهرة كبيرة من مؤلفي القرن الثاني الذين ضعف فيهم الاحساس الديني واخلدوا الى الهدوء ، باحثـين عن الحلـول الوسطـى .
عند هؤلاء المؤلفين ذهبت روعة آيات القرآن الكريم والروح الحركية الدافعة التي تكمن فيها .. من هنا اقتصر تفسير القرآن الكريم على مجموعة بحوث لغوية واعرابية وكلامية عقيمة .
ويكفيك ان تلقي نظرة على أي تفسير من تفاسير القرن الثاني وما بعده حتى تجد فيها الفراغ الروحي والجدل البيزنطي حيث يتبادل المفسرون الاراء والردود ، ويحاربون انفسهم بسيوف من خشب ، والغريب ان الكثير من هذا الجدل كان يستخدم من أجل دعم مركز السلطات الديكتاتورية الحاكمة ، او تأييد بعض المذاهب العتيقة بغرض الحصول على مكاسب سياسية آنية .
وكذلك الأمـر في المؤلفات التي تتناول التأريخ الاسلامي ، حيث يتناول المؤلفون الجانب الجامد من ذلك التأريخ : دفاع مستميت عن بعـض الشخصيات التأريخيــة ، دون البحث في تلك " القيم " التــي صاغت تلك الشخصيات ، وذلك من أجل تكوين شخصيــات
اخـرى مماثلــة .
3 - دور المرض الثقافي :
لكي نستطيع تحقيق نهضة متينة شامخة لابد ان نتعرف على جراثيم المرض التي تهدد الثقافة من اجل القضاء عليها الان والتحصن ضد تجددها في المستقبل .
لقد حددنا العنصر المريض في الثقافة بأنه الذي يدعو الى الاسترخاء والتفرقة والخنوع ، ولكن يجب الا تفوتنا هذه الملاحظة وهي ان دعوة الفكرة المريضة لا تأتي صريحة ومكشوفة حتى نستطيع تحديد ابعادها بسهولة ، والصعوبة البالغة تنشأ من اشتراك الالفاظ غالبا بين معنيين ؛ احدهما مريض والثاني صحيح ، ولذلك فان حاجتنا ماسة الى وضع مقاييس ثابتة لكشف العنصر المريض ، وسنأتي على ذكر طائفة منها في نهاية الحديث ، اما الآن فسنعــرض عدة أمثلة من عناصر المرض في الثقافة ، ونستشهد بثقافتنا الاسلامية لانها أقرب إلينا .
الاستسلام للواقع :
من عناصر المرض الاستسلام للواقع اعتقادا بأنه افضل ما كان يمكن حدوثه ذلك لان هذا الاستسلام يميت التحفز البشري نحو التطوير .. وتطلعه نحو حياة أفضل ، وبالرغم من ان الاعتراف بالواقع من مظاهر الصحة في الثقافة ، فان الرضا به من أسباب المرض .
ولكي يكون الاعتراف بالواقع - مظهراً صحياً - في ثقافة الامة ، لابد ان يتم بمساوئه ومحاسنه جميعا . نؤمن بسيئات الواقع لانه الخطوة الاولى لتغييرها ، ونؤمن بحسناته لانه بدون هذا الايمان نسقط في بؤرة اليأس حتى الاذقان ، وكثيرون أولئك الذين تعمى فيهم عين الرضا فلا يبصرون سوى السواد والظلام ، ولا يشعرون بغير القلق واليأس ، هؤلاء الرجال يفقدون القدرة على تطوير الواقع ، لانهم فاقدون للأمل بذلك .
بين الخوف .. والرجاء :
لذلك ، فان الثقافة الحقة هي التي تعترف بالواقع كله ؛ حسناته وسيئاته ، لتجعل الانسان في محور الخوف والرجاء ، وتدفع به قدما الى القمة .
وفي توجيهاتنا الدينية نجد هذا الحديث : " .. قال أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) : الا اخبركم بالفقيه حقاً ؟
قالوا : بلى يا أمير المؤمنين .
قــال : من لم يقنط الناس مـن رحمة اللـه ، ولم يؤمنهم من عذاب
اللـه ، ولم يرخص لهم في معاصي اللـه " (1) .
وغريب جــداً ان يفسر فريق من الامة بعض مظاهر الصحة في ثقافتنا بطريقة تتحول الى عوامل المرض .
1 - فمثلا : الشكـر لله عمل شريف وواجب ، وخلفية الشكر الايمان بما في الواقع من عناصر ايجابية ، ويحتوي على شحنة كبيرة من الأمل بجانب شحنة مماثلة من الخوف ، اذ انه يجعلك تعتقد ان النعمة المخولة اليك قد تزول عنك فيما اذا قصّرت في اداء حقها ، كما انها تزداد اذا اديت حقوقها .. وهذا التوجيه افضل وسيلة ثقافية تفك طوق اليأس عن الفرد من جهة الايمان بوجود النعمة - له - وتحصنه ضد الترهل من جهة الاعتقاد بانه ستزول عنه النعمة اذا قصّر في حقها . ولكن هذا الشكر يتحول الى عنصر سالب في الثقافة عند فريق من أبناء الامة ، اذ انه اصبح لديهم وسيلة للاستسلام للفساد.. والخنوع للظلـم وذلك بتركيـز النظر الى الجوانب الايجابية في الواقع دون التفكير في الجوانب السلبية منه .مـن هنا جـاءت امثالهم الخانعــة تقول : اليــد التي لا تستطيع ان تقطعهـا قبلها .
ان هذه النظرة الى الشكر بعيــدة جدا عن النظرة الواقعية التي دعا إليها االاسلام . فالقرآن الحكيم يقول : «اعْمَلُوا ءَالَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيــلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُــورُ » (سبأ / 13) انه يدعونـا الى العمــل ( شكراً ) لا الى الكسل ( شكراً ) ، وهو اروع صيغة للشكر اذ انه تركز على أهم عناصره وهو العمل .
الصبر على المكاره :
2 - ومثل ذلك الصبر ، انه يعني احتمال الصعوبات التي يحتاج اليها الجهاد ولا يعني بحال ، الخنوع للأذى ، وانتظار التغيير الطبيعي .
الصبر هو تربية عالية على التضحيات الضرورية من اجل التقدم .. الصبر عن الرغبات المستعصية حتى تبلغ النفس تطلعاتها الكبرى ، وليس الصبـر عملاً سلبياً ، يعني الانتظار الجبـان للمستقبل الافضل . « إِنَّ اللـه لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ » (الرعد/ 11) .
والتوجيه القرآني يضع الصبر في موقعه المناسب على صعيد الثقافة الحية فيقول :
«يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ » ( التحريم / 9 ) .. ان الصبر هنا يعني تجاوز الصعوبات التي تعترض مسيرة الجهاد البنّاء ولا يعني - حسبما يتصوره الجاهلون - التسليم والرضا لنواقص الحياة ، ومساوئـه . كلا ، اذ ان اللـه سبحانه قدر وقضى .
النظام سنة الحياة :
3 - والايمــان بالقضاء والقدر وجه صحي آخر لثقافتنا وهي تعني ؛ عقلانيــة قرارات الفرد ضرورة بالغــة الخطورة لقدرته على - التقدم - ولن يكون الفرد عقلاني القرار الا بالايمان بعقلانية الكون المحيط به . فالايمان بوجود نظم كونية ، هو الخطوة الاولى لمعرفة هذه النظم ثم توظيفها في خدمة الاهداف . أرأيت الذي يزعم فوضوية دولة ، هل يمكن ان يفهم ضرورة تقيده بنظامها ؟ اجل الذي يؤمن بوجود دستور منفذ في دولة يعرف انه لن يتقدم إلاّ بتطبيق ذلك الدستور .
كذلك الايمـان بان الحياة ذات سنن متقنة يجريها رب قدير حكيم .. فانـه يجعلنـا نفتش عن تلك السنن ، ونعمل وفقها في سبيل الحصول على اهدافنا .
فهم خاطىء :
وبالتالي يجعلنا عقلانيين في قراراتنا .. فالايمان بالقدر والقضاء جزء من حضارة الانسان ، وعامل في سبيل تقدمه ، ولكن تلقي الامة لهذا الايمان بشكل معكوس تماما .. عاد مبررا للتقاعس ، وطريقاً الى الهروب عن تحمل المسؤوليات ، فترى احدهم ينام على أمل الخير الذي يرجو ان يزجيه له القدر ، ويستيقظ من خوف الشر الذي يستبطنه له القدر . فأين الارادة وأين السعي ، وأين قوله سبحانه :
«وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزَآءَ الأَوْفَى » (النجم / 39-41)
لاحظوا ( الا ما سعى ) والسعي عملية ارادية هادفة ، دونها ليس له من الامر شيء اليس كذلك ؟
فلماذا نعكس في تفسير الحقائق ؟
ان التوجيه الثقافي الخاطىء هو الذي يحول فكرة القدر من عامل موجب الى عامل سالب ، ثقيل الارادة ، ويكبت الحرية ويحوله من سبب للعقلانية في القرار الى سبب للطوباوية والفوضى .
وهكذا تكون الثقافة الاسلامية عاملا بنّاء في سبيل البناء الحضاري ولكنهــا تنقلب عند الامة المريضة الى عامل سالب ضد كل بناء حضـاري .
لانزال في اطار حديثنا المسلسل عن دور الثقافة في نهضة الامم ، وقد حددنا بوضوح المرض الذي يتسرب الى الثقافة فيحولها الى عنصر وبيل على الانسان .
وبينا طائفة من الامثال المنتزعة من واقعنا الاسلامي ، وكيف أمسى فكرنا الديني المتحضر الى فكر متخلف .
والان نتابع سرد الامثلة الاخرى على هذه الحقيقة بالذات ، لسبب معين هو ان بعض الاقلام الاستعمارية والدخيلة تخلط بصورة متعمدة ومخططة بين الفكر الاسلامي وبين تفكير المسلمين وتنسب الى الاسلام ما تجده في المسلمين وتخرج بنتيجة باطلة وماكرة هي : ان اولى ضرورات الامة الاسلامية التخلص من الفكر الاسلامي بينما العكس هو الصحيح ، اذ أن الضرورة هي العودة الى الفكر الاسلامي الصحيح ونبذ الافكار الدخيلة التي وفدت الينا مع رياح الغرب او الشرق، ذلك لان الفكر الاسلامي الصافي هو الضمان الوحيد لتفجير
نهضة حضارية شاملة فينا .
وهنا يجب ان أقف لحظة لاقول ان الاستعمار يدير لعباته بذكاء بالغ .. فمثلا يتهجم على فريق واحد من المسلمين من خلال اقلام مستشرقة مأجورة تنصب نفسها محامية على الاسلام والمسيحيين ضد هذا الفريق الشاذ (!) ولان المسلمين لا يزالون مختلفين على انفسهم ، ولا تزال توجد بينهم حزازات واضغان ، فان الاستعمار يهدف من وراء ذلك ان يتعاون سائر المسلمين معه ، حتى يتم ذبح الامة على مراحل ، وربما بيدها هي .
ومع الأسف .. انه ينجح فعلا في تدبير خطته ، وفعلا يتلقى بعض المغفلين من ابناء الامة افكار الغرب ضد بعض المذاهب الاسلامية ، ويحاولون النفخ فيها وينجم من ذلك ضرران :
1 - تفرقة المسلمين عن بعضهم ، وتقويض الثقة المتبادلة التي نحن اليوم بحاجة ماسة إليها .
2 - نشر الافكار الخرافيـة بين الامة التي تؤدي الى تخلخل ثقافتهم ، وتحطيم صرح فكرهم المتكامل ، وقديما قالوا اذا كثر الجواب خفى الصواب .
وبعد كل هذا نستعرض مثلين من واقعنا الثقافي نعرف كيف شوهه الدخلاء .. وكيف ادى هذا التشويه الى افكار بعيدة عن روح الثقافة الاسلامية الحقة .
بين الفداء والشفاعة :
نظرية الفداء نظرية عميقة الجذور من الناحية الفلسفية ، وهي تنطوي على شرك ظاهر وقد دخلت في الديانة المسيحية ، عندما احتوت هذه الاخيرة على الفلسفة الاغريقية ، ومزجتها بالدين في محاولة لتعزيز سلطان الدين ودعم مركزه في الاوساط الثقافية .
ونظرية الفداء هي في اصلها ناشئة من فكرة تعدد الالهة مصبوغة بخيالات شاعرية ، وهي تقول ان هناك عدة آلهة ينافس بعضهم بعضا في ادارة الحياة ، فقد يريد احدهم الرحمة بعبـاده ، بينما يمنعه الثاني ، وهكذا ينزل احدهم ليصلح بين الناس فيأتي الثاني ويفسد ما اصلحه الاول .
وحينما دخلت هذه النظرية في الديانة المسيحية تغيرت شيئا ما ، فكان الاب والابن وروح القدس هي الالهة الثلاثة المتنافسة على ادارة الكون ، والاب بما يتمتع من نفوذ وعنف يمثل جناح اليسار المتعنت ، بينما يمثل الابــن جناح اليمين المعتدل ، وبينهما الروح القدس ؛ لذلك يعتزم الاب تأديب عبــاده فيمنعه الابن ، وهكذا يكون الابن فداء العباد والوسيلة المؤدية الى الرحمة بهم .
نظرية مرفوضة :
هــذه نظرية مرفوضــة عند المسلمين كافة ، ذلك لاننا نؤمن بإلـه
واحــد قوي مقتدر لا يسأل عما يفعل وهم يسألـون . نحن نعتقد في اللـه سبحانه «لَــوْ كَانَ فِيهِمـَآ ءَالِهَةٌ إِلاَّ اللـه لَفَسَدَتَا » (الانبياء / 22) ، وهذه النظرية لا تمت بأية صلة بنظرية الشفاعة ، ذلك لان الشفاعـة انمـا هـي دعوة مستجابة .
ولكن اللـه سبحانه رحيم بعباده ، ورحمته وسعت كل شيء ومن موجبات رحمته انه يقبل التوبة من عباده ، ويستجيب دعائهم ، بل ويدعوهم الى نفسه فيقول : «وَإِذَا سَاَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَاِنِّي قَرِيبٌ اُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِيْ وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُــدُونَ » (البقرة / 186) ، «وَقَــالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » ( غافر / 60) ، بل واكثر من ذلك انه يستجيب دعاء شخص لغيره ، و يأمر بهذا الدعاء في كتابه العزيز حيث يقول : «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُـل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيــراً » ( الاسراء / 24 ) .
فاللـه - اذا - قريب ومجيب دعوة الداع في حدود المصالح الكونية العامة ، ولأنه كذلك فقد يغفر ذنب شخص تكريماً لشخص آخر ورحمة به . فبسبب من دعاء الولد لوالده وتكريمـاً لمكانة الولد ، وجزاء له على اعماله الصالحة ، قد يغفــر اللـه للوالد ويمسح على ذنوبه يد التوبة الشاملة ، وقد يغفر للصديق بدعاء صديقه الذي له مكانة عند ربه ، وهذه هي الشفاعة .
احتمالات الاجابة :
وكلمـا سمت مكانة الداعي ، كلما زادت احتمالات الاستجابة للاغاثة ، ولكن دون ان تصل هذه الاحتمالات الى 100% لان اللـه سبحانه اكبر من ان يبرمه الحاح الملحين ، وتجبره دعوة عبد من عبيده مهما كان تقياً .
ان لله تعالى الكلمة الحاسمة في تقدير العباد وفي استجابة الدعاء لله وليس لاحد حتى ولو كان نبيا أن يحتم عليه شيئاً ، انما له الدعاء والمسألـة انه يسأل ولله ان يستجيب له او لا يستجيب بقول اللـه لرسولـه :
«اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللـه لَهُمْ » ( التوبة / 80 ) ، «سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللـه لَهُمْ » ( المنافقون / 6 ) .
إذاً تتلخص نظرية الشفاعة الاسلامية ، في ثلاث نقاط :
1 - اللـه واحد احد عزيز جبار .
2 - اللـه واسع الرحمة ، ومن رحمته استجابة دعاء عباده لانفسهم او لبعضهم البعض .
3 - وهو لا يجبر على استجابة دعاء احد لاحد ، مهما كانت درجة هذا الاخير وشأنه عند اللـه .
وأين هـذه الحقيقة من نظرية الفداء الوثنية ، أين هي من جبر الإلــه
الصغير للإله الكبير على الرحمة بعباده ، الفرق بينهما هو الفرق بين التوحيد الخالص والشرك البعيد .
فكرة الشفاعة :
والان لنستمع الى بعض هؤلاء الدخلاء كيف يصور لنا فكرة الشفاعة حتى يتخيل الينا انها نسخة مطابقة لفكرة الفداء يقول :
" والوسيلـة على هذا النحو جاءت الى الجماعة الاسلامية عن طريق مدرسة الافلاطونية الحديثة فقد حددت هذه المدرسة العالم الرفيع في الوجود بثلاثة موجودات ، وحي الاول والعقل والنفس الكلية " (1) .
ولكن هل يمكننا ان نؤمن بأن فكرة الشفاعة ( او الوسيلة ) دخلت الامة من ناحية الفلسفة ؟ بصراحة كلا ، لان الشفاعة مذكورة في القرآن الكريم ذاته حين يقول اللـه تعالى :
«مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِاِِذْنِهِ » ( البقرة / 255 )