وقد يعتقد أنّ استعمال ألفاظ الأداءء الأُخرى ك و و وأمثالها ، توجد بِقِلّةٍ ملحوظة في تلك الطبقات ، بينما هي مستعملة في الطبقات اللاحقة بكثرة ووفرة .
ومهما يكن فإنّ التركيز على لفظة في مقابل الألفاظ الأُخرى ، موجود في نصوص عريقة في القِدَم ، سواءء في الأسانيد ، أم في المناقشات حولها بين المحدّثين أو الأُصوليّين ، إليك منها 1 قيل لحفص بن غياث بن طلق القاضي ( ت 194 ه ) الراوي المعروف ما لكم حديثكم عن الأعمش ، إنّما هو ليس فيه ولا ? فقال حدّثنا الأعمش ، قال سمعت أبا عمّار ، عن حذيفة يقول لنا يكون أقوام يقرأون القرآن يقيمونه إقامة القِدْح ، لا يَدَعون منه أَلِفا ، ولا واوا ، ولا يُجاوز إيمانُهم حناجرهم(120) .
وهذا النصّ يدلّ على أُمور أوّلا على التفات المعترضين إلى استعمال العَنْعَنَة ، ووضعهم لها في مقابل و وهي العناية بالألفاظ في مراحلها الأُولى .
ثانيا على أنّ حفصا استنكر تلك العناية بشدّة ، حتّى طبّق عليهم حديث حذيفة ، الشديد اللهجة ، ممّا يدلّ على أنّ الالتزام بالألفاظ ، والتشديد عليها ، ومحاسبة الراوي من أجلها لم يكن أمرا مستقرّا حتّى ذلك العصر ، بالرغم من أنّ وضعها قد سبق تلك المرحلة ، كما أثبتنا ذلك في البحث عن الصيغ(121) .
2 ولأبي عمرو الأوزاعي ( ت 157 ه ) رأي في استعمال حيث سئل عن والقول فيها ب أو ? فقال إنْ كنتُ حدّثتُك فقل .
قيل فأقول ? قال لا .
قيل فكيف أقول ? قال قل أو (122) .
فالأوزاعي وهو من المتشدّدين في الالتزام بصيغ الأداءء المعيّنة يؤكّد على استعمال في طريقة وهي أن يعطي الشيخ لتلميذه كتابا معيّنا قد عرف صحّة نسبته وصحّة ضبطه ، وقد تُقْرَنُ بالإجازة ، فتكون من أخصّ أنواع الإجازة ، وأقواها ، بل لم يعتبر بعض المحدّثين الإجازة إلاّ إذا كانت مقرونةً بالمناولة(123) .
إلاّ أنّ الأوزاعي ليس ممّن يُتّبع رأيُهُ في باب الحديث ، لكونه فقيها وليس محدّثا(124) .
3 إنّ المفهوم من ترجمة البخاري ( ت 256 ه ) في كتابه الجامع ، في كتاب العلم لباب وإيراده تحته استعمال العلمأ لمختلف ألفاظ الأداءء ، وممّا جأ فيه قال أبو العالية ، عن ابن عبّاس ، عن النبيّ عليه السلام في ما يروي عن ربّه .
وقال أبو هريرة عن النبيّ عليه السلام يرويه عن ربّكم(125) .
فالمفهوم من صنيع البخاري بإيراده هذه الأمثلة هو التزامه بالأداءء بالعَنْعَنَة في جميع الطرق وعدم اختصاصها عنده بالإجازة بقرينة استعماله لكلمة مع اسم النبيّ عليه السلام ومع اسم الربّ جلّ وعلا .
مع أنّ البخاري إنّما التزم في صدر الباب بالتسوية بين الألفاظ ممّا يدلّ على تسامحه في الأداءء بها من دون تفرقة بين الطرق المختلفة ، وقد نقل عن ابن عيينة أنّه كان عنده واحدا(126) وإن كان البخاري قد اشترط في استعمال العلم باللقاء وعدم التدليس ، كما مرّ .
4 وأمّا مسلم بن الحجّاج القشيري ( ت 261 ه ) فقد بحث مفصّلاً عن ودافع عن الاحتجاج به بقوّة ، وردّ على المتشدّدين المانعين عن العمل به إلاّ بشروط ، واعتبرهم أُناسا وجعل قولهم (127) .
وقد ذكروا أنّ المشترِط المتشدد الذي عناه مسلم ، وردّ عليه ، هو البخاري وعليّ بن المديني ، وقد نقل الصنعاني إجماع الناظرين على أنّ مسلما أراد البخاري بذلك(128) .
وصرّح الذهبي بذلك فقال إنّ مسلما لحدّةٍ في خُلُقه ، انحرف أيضا عن البخاريّ ، ولم يذكر له حديثاً ، ولا سمّاه في صحيحه ، بل افتتح الكتاب بالحطّ على من اشترط اللُقيَ لمن روى عنه بصيغة ، وادعى الإجماعَ في أنّ المعاصرة كافية ، ولا يتوقّف في ذلك على العلم بالتقائهما ، ووبّخ مَن اشترط ذلك ، وإنّما يقول ذلك أبو عبد الله البخاري وشيخه علي بن المديني(129) .
وقد مضى المحدّثون على هذه السيرة ، باستعمال العَنْعَنَة من دون تحرج ، ومن دون التخصيص بطريقة معيّنة من طرق التحمّل ، مساوية لبقيّة الألفاظ ، لأدائها نفس الهدف لغة واصطلاحا مع الاختصار الملحوظ ، حتّى أحدث المتأخّرون وهم مَنْ بعد الخمسمائة التفريقَ بينها ، فالتُزِم لكلّ واحد من الطُرق بلفظٍ أو أكثر محدّد من ألفاظ الأداء ، لأدأ أدوار معيّنة وبأغراض خاصّة ، منها رعاية الحديث بمزيد من الدقّة والضبط والمحافظة ، ومعرفة أحوال الرواة مع المراقبة الأتمّ ، خصوصا بعد الكشف عن عنصر الوضع والدسّ والتزوير ، بعد أن كثرت طرق الأحاديث واختلطت واختلفت .
ولقد بقيت الحاجةُ إلي ألفاظ الأداء ماسّةً ، لأدأ الأغراض الثانية التي وُضعت لأجلها(130) .
إلاّ أنّ الحاجة الأساسية والغرض الأوّل من الألفاظ وهو التوصّل إلى المراد من المتون ، وفقه الحديث ، والاستناد إليه للعمل وتحديد الأحكام ، كان هو الأهمّ دائما ، فلذا لجأوا إلى اختزال طرق الإسناد ، بالاختصارات لألفاظ الأداء تارةً ، وبالتعليق للأسانيد على غيرها أُخرى ، وباستعمال بدل الألفاظ الصريحة ، ثالثةً .
ومن أجل هذا اكتفوا بالعَنْعَنَة ، كما هي سيرة القدمأ ، ولم يتقيّدوا باصطلاح متأخّر محدَث ، بل كما قال أحمد بن حنبل فقد خلّصتُه وخلّصتُ نفسي >(131) فقد جعلها أحوط .
فلنستعرض التراث الإسلاميّ ، لنقف على هذه الحقيقة
فإنّ ما بأيدينا من التراث الحديثيّ الضخم نتّخذه محورا للعمل ، ومجالا للبحث عن تاريخ العَنْعَنَة ، فلنحاول متابعة عيّنات من هذا التراث حَسَبَ
وهو مجموع من بسند واحد ، وأحاديثه مسندة بطريق أهل البيت عليهم السلام (132) سُمّي بذلك لكونه من رواية الإمام جعفر الصادق عليه السلام .
وعُرف بعنوان لكونه بسندهم أبٍ عن جدّ حتّى يُرفع إلي جدّهم رسول الله عليه السلام .
واشتهر باسم باعتبار تمحور روايته عن المحدّث محمّد بن محمّد بن الأشعث المصري أبي علي الكوفي ، الذي رواه سنة 313 و 314 ، ورواه عنه مجموعة من الرواة ، منهم أبو محمّد ، سهل بن أحمد بن سهل الديباجي .
وهارون بن موسى التلّعُكبري البغدادي .
وعبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عثمان أبو محمّد ابن السقّأ ، وهو راوي النسخة المتداولة منه .
وعبد الله بن أحمد بن عديّ .
وأبو الحسن عليّ بن جعفر بن حمّاد بن رزين الصيّاد ، بالبحرين(133) .
وابن الأشعث روى الكتاب عن موسى بن إسماعيل بن الإمام الكاظم موسى بن جعفر 8 .
ولابن الأشعث متابع وهو في ما رواه الصدوق القمّي بسنده عن محمّد بن يحيى الخزّاز ، قال حدّثني موسى بن إسماعيل .
وموسى هذا يروي عن أبيه إسماعيل ، عن أبيه الإمام موسى الكاظم عليه السلام ، عن أبيه الإمام جعفر الصادق عليه السلام (134) .
وعُنِيَ الخاصّة برواية هذا الكتاب ، وتداولوا نسخه ، وجأ ذِكره في الفهارس والمشيخات والإجازات ، وسمّاه كثير منهم ب كما مرّ .
وبهذا الاسم أيضا عُرف عند الطائفة الإسماعيلية ، كما رأيت في بعض مؤلّفات القاضي النعمان المصري صاحب .
كما أسند العامّة في مؤلّفاتهم إلى بعض أحاديثه(135) وسُمّي عندهم باسم .
تبدأ النسخة المطبوعة بالسند التالي أخبرنا القاضي أمين القضأ أبو عبد الله محمّد بن علي بن محمّد قيل له حدّثكم والدكم أبو الحسن علي بن محمّد بن محمّد ، والشيخ أبو نعيم محمّد بن إبراهيم بن محمّد ابن خلف الحجازي ، قالا أخبرنا الشيخ أبو الحسن ، أحمد بن المظفّر العطّار ، قال أخبرنا أبو محمّد ، عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن عثمان المعروف بابن السقّأ ، قال أخبرنا أبو عليّ ، محمّد بن محمّد بن الأشعث الكوفي ، من كتابه سنة أربع عشرة وثلاثمائة ، قال حدّثني أبو الحسن ، موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، قال حدّثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه جعفر بن محمّد ، عن أبيه ، عن جدّه عليّ بن الحسين ، عن أبيه ، عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، قال قال رسول الله عليه السلام (136) .
واختصر هذا السند في ما تلاه من الكتب الفقهية المتتالية ، في أبوابها المختلفة المعنونة في الكتب ففي أوّل باب بعنوان جأ السند هكذا أخبرنا محمّد ، قال حدّثني موسى حدّثنا أبي ، عن أبيه ، عن جدّه جعفر ، عن أبيه ، عن عليّ عليه السلام .
وأضاف في بعض المواضع في بداية هذا السند