الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 365 الي 389 البابُ الاول
القسم السابع
المصالح المرسلة تحديدها : ولتحديد معنى المصالح المرسلة لا بد من تحديد معنى المصلحة أولاً ثم تحديد معنى الارسال فيها ليتضح معنى هذا التركيب الخاص .
يقول الغزالي : المصلحة هي : " عبارة في الاصل عن جلب منفعة أو دفع مضرة ـ وقال ـ : ولسنا نعني به ذلك ، فإن جلب المنفعة ودفع المضرة مقاصد الخلق وصلاح الخلق ، في تحصيل مقاصدهم ، لكنا نعني بالمصلحة المحافظة على مقصود الشرع ومقصود الشرع من الخلق خمسة : وهو ان يحفظ عليهم دينهم ، ونفسهم ، وعقلهم ، ونسلهم ، ومالهم ، فكل ما يتضمن هذه الاصول الخمسة فهو مصلحة ، وكل ما يفوت هذه الاصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة " (25) .
وعرفها الطوفي بقوله : هي " السبب المؤدي الى مقصود الشرع عبادة وعادة " (26) وأراد بالعبادة " ما يقصده الشارع لحقه " (27) والعادة " ما يقصده الشارع لنفع العباد وانتظام معايشهم وأحوالهم " (28) .
أما تعريفهم للارسال فقد وقع موقع الاختلاف لديهم ، فالذي يبدو من بعضهم ان معناه عدم الاعتماد على أي نص شرعي ، وإنما يترك للعقل حق اكتشافها ، بينما يذهب البعض الاخر الى ان معناها هو عدم الاعتماد على نص خاص وإنما تدخل ضمن ما ورد في الشريعة من نصوص عامة ، واستناداً الى هذا التفاوت في معنى الارسال تفاوتت تعاريف المصلحة المرسلة .
فابن برهان يعرفها بقوله هي : " ما لا تستند الى أصل كلي أو جزئي " (29) وربما رجع الى هذا التعريف ما ورد على لسان بعض الاصوليين المحدثين من " أنها
الوصف المناسب الملائم لتشريع الحكم الذي يترتب على ربط الحكم به جلب نفع أو دفع ضرر ، ولم يدل شاهد من الشرع على اعتباره أو إلغائه " (30) .
بينما يذهب الاستاذ معروف الدواليبي الى إدخالها ضمن ما شهد له أصل كلي من الشريعة يقول ـ وهو يتحدث عن الاستصلاح ـ : " الاستصلاح في حقيقته هو نوع من الحكم بالرأي المبني على المصلحة ، وذلك في كل مسألة لم يرد في الشريعة نص عليها ، ولم يكن لها في الشريعة أمثال تقاس بها ، وإنما بني الحكم فيها على ما في الشريعة من قواعد عامة برهنت على أن كل مسألة خرجت عن المصلحة ليست من الشريعة بشيء ، وتلك القواعد هي مثل قوله تعالى : ) إن الله يأمر بالعدل والاحسان ( (31) وقوله عليه الصلاة والسلام : " لا ضرر ولا ضرار " (32) .
وقد رادف بعضهم بينها وبين الاستصلاح (33) ، كما رادف آخر بينها وبين الاستدلال (34) .
وهو ما لم يتضح له وجه لبعده عما لهذه الالفاظ من مداليل لديهم ، فالاستصلاح ، كما هو صريح كلامهم ، هو بناء الحكم على المصلحة المرسلة لا أنه عينها ، كما ان الاستدلال إنما يكون بها لا انها عين الاستدلال .
وبما أن هذه التعاريف التي نقلنا نموذجين منها لا تحكي عن واقع واحد ليلتمس تعريفه الجامع المانع من بينها ، وربما اختلف الحكم فيها لديهم باختلاف مفاهيمها فلا جدوى بمحاكمتها .
والانسب ان تعرض أحكامها وتحاكم على أساس ما ينتظمها من الادلة نفياً أو اثباتاً على أسس من تعدد المفاهيم .
تقسيم الاحكام المترتبة على المصلحة : وقد قسموا أحكامها المترتبة عليها بلحاظ ما لمصالحها من رتب الى أقسام
ثلاثة :
1 ـ الضروري :
" وهو المتضمن لحفظ مقصود من المقاصد الخمس التي لم تختلف فيها الشرائع بل هي مطبقة على حفظها " (35) . يقول الغزالي : " وهذه الاصول الخمسة حفظها واقع في رتبة الضرورات فهي أقوى المراتب في المصالح ، ومثاله قضاء الشرع بقتل الكافر المضلّ ، وعقوبة المبتدع الداعي الى بدعته ، فإن هذا يفوت على الخلق دينهم ، وقضاؤه بإيجاب القصاص إذ به حفظ النفوس ، وإيجاب حد الشرب إذ به حفظ العقول التي هي ملاك التكليف ، وإيجاب حد الزنى إذ به حفظ النسل والانساب ، وإيجاب زجرالغصاب والسراق إذ به يحصل حفظ الاموال التي هي معاش الخلق وهم مضطرون اليها " (36) ; ثم يقول : " وتحريم تفويت هذه الاصول الخمسة والزجر عنها يستحيل ان لا تشتمل عليها ملة من الملل وشريعة من الشرائع التي أريد بها إصلاح الخلق ، ولذلك لم تختلف الشرائع في تحريم الكفر ، والقتل ، والزنى ، والسرقة ، وشرب المسكر " (37) .
2 ـ الحاجي :
وأرادوا به " ما يقع في محل الحاجة لا الضرورة " (38) كتشريع أحكام البيع ، والاجارة ، والنكاح لغير المضطر اليها من المكلفين .
3 ـ التحسيني :
وأرادوا به ما يقع ضمن نطاق الامور الذوقية ، كالمنع عن أكل الحشرات ، واستعمال النجس فيما يجب التطهر فيه ، أو ضمن ما تقتضيه آداب السلوك كالحث على مكارم الاخلاق ، ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات ، وقد
عرفه الغزالي بقوله هو : " ما لا يرجع الى ضرورة ولا حاجة ، ولكن يقع موقع التحسين والتزيين والتيسير للمزايا والمزايد " (39) .
ولهذا التقسيم ثمرات أهمها تقديم بعضها على بعض في مجالات التزاحم فهي مرتبة من حيث الاهمية ، فالاول منها مقدم على الاخيرين والثاني على الثالث ، ولعل قسماً من الاقوال القادمة يبتني في حجيته على الاخذ ببعض هذه الاقسام دون بعض .
الاختلاف في حجيتها : ذهب مالك واحمد ومن تابعهما " الى أن الاستصلاح طريق شرعي لاستنباط الحكم فيما لا نص فيه ولا اجماع ، وان المصلحة المطلقة التي لا يوجد من الشرع ما يدل على اعتبارها ولا على الغائها مصلحة صالحة لان يبنى عليها الاستنباط " (40) . وغالى فيها الطوفي ، وهو من علماء الحنابلة بينما ذهب الشافعي ومن تابعه : " الى أنه لا استنباط بالاستصلاح ، ومن استصلح فقد شرع كمن استحسن ، والاستصلاح كالاستحسان متابعة للهوى " وللغزالي وهو من الشافعية تفصيل فيها فهو يرى ان " الواقع في الرتبتين الاخيرتين لا يجوز الحكم بمجرده ان لم يعتضد بشهادة اصل إلا أنه يجري مجرى وضع الضرورات ، فلا بعد في ان يؤدي اليه اجتهاد مجتهد ، وان لم يشهد الشرع بالرأي فهو كالاستحسان ، فإن اعتضد بأصل فذاك قياس . أما الواقع في رتبة الضرورات فلا بعد في ان يؤدي اليه اجتهاد مجتهد ، وان لم يشهد له أصل معين ، ومثاله ان الكفار اذا تترّسوا بجماعة من اسارى المسلمين ، فلو كففنا عنهم لصدمونا وغلبوا على دار الاسلام وقتلوا كافة المسلمين ، ولو رمينا الترس لقتلنا مسلماً معصوماً لم يذنب ذنباً ، وهذا لا عهد به في الشرع ، ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين فيقتلونهم ، ثم يقتلون الاسارى ايضاً ، فيجوز ان يقول قائل : هذا الاسير مقتول بكل حال ، فحفظ جميع المسلمين اقرب الى مقصود الشرع ، لانا نعلم ان مقصود الشرع تقليل القتل كما يقصدحسم سبيله عند الامكان فإن لم نقدر على الحسم قدرنا على التقليل ، وكان هذا التفاتاً الى مصلحة علم بالضرورة كونها مقصودة لا بدليل واحد وأصل معين ، بل بأدلة خارجة عن الحصر ، لكن تحصيل هذا المقصود بهذا الطريق وهو قتل من لم يذنب غريب لم يشهد له اصل معين ، فهذا مثال مصلحة غير مأخوذة بطريق القياس على اصل معين "
وخلاصة ما انتهى اليه في ذلك اعتبار امور ثلاثة ان توفرت في شيء ما كشفت عن وجود الحكم فيه ، وهي :
1 ـ كون المصلحة ضرورية .
2 ـ كونها قطعية .
3 ـ كونها كلية (45) .
وهذا كله اذا وقعت في مرتبة الضروري " وان وقعت في مرتبة الحاجي فقد رأى في المستصفى ردها ، وفي شفاء الغليل قبولها " (46) .
أما الاحناف فالمنسوب اليهم أنهم لا يقولون بالمصالح المرسلة ، ولا يعتبرونها دليلاً ، وقد تنظّر الاستاذ خلاف في هذه النسبة ، واستظهر من عدة وجوه خلاف ذلك (47) .
وقد نسب الاستاذ الخفيف الى الشيعة واهل الظاهر " العمل بالمصالح المرسلة
لكونهم لا يرون العمل بالقياس " (48) وسيتضح الحال فيها .
ولعل الفصل في هذه الاقوال نفياً أو إثباتاً يتضح مما عرضوه للحجية من أدلة ، وقد آثرنا تحريرها على ترتيب ما ذكروه في التقديم والتأخير .
أدلة الحجية من العقل : وخلاصة ما استدل به للاستصلاح منها بعد إكمال نواقص بعضها ببعض هو :
1 ـ ان الاحكام الشرعية إنما شرعت لتحقيق مصالح العباد ، وان هذه المصالح التي بنيت عليها أحكام الشريعة معقولة ، أي مما يدرك العقل حسنها ، كما انه يدرك قبح ما نهى عنه ، فاذا حدثت واقعة لا نص فيها " وبنى المجتهد حكمه فيها على ما أدركه عقله من نفع أو ضرر ، كان حكمه على أساس صحيح معتبر من الشارع ، ولذلك لم يفتح باب الاستصلاح إلا في المعاملات ونحوها مما تعقل معاني أحكامها فلا تشريع فيها بالاستصلاح " (49) .
وهذا الاستدلال لا يتم إلا على مبنى من يؤمن بالتحسين والتقبيح العقليين ، والدليل ـ كما ترون ـ قائم على الاعتراف بإمكان إدراك العقل لذلك .
وقد سبق ان قلنا : ان العقل قابل للادراك ، ولو أدرك على سبيل الجزم كان حجة قطعاً لكشفه عن حكم الشارع ، ولكن الاشكال كل الاشكال في جزمه بذلك لما مر من أن أكثر الافعال الصادرة عن المكلفين ، اما ان يكون فيها اقتضاء التأثير أو ليس فيها حتى الاقتضاء ، وما كان منها من قبيل الحسن والقبح الذاتيين فهو نادر جداً ، وأمثلته قد لا تتجاوز العدل والظلم وقليلاً من نظائرهما .
وما فيه الاقتضاء يحتاج الى إحراز تحقق شرائطه وانعدام موانعه ، أي إحراز تأثير المقتضي وهو مما لا يحصل به الجزم غالباً لقصور العقل عن إدراك مختلف مجالاته ، وربما كان بعضها مما لا يناله إدراك العقول كما مر عرض ذلك مفصلاً .
2 ـ قولهم : " ان الوقائع تحدث والحوادث تتجدد ، فلو لم يفتح للمجتهدين باب التشريع بالاستصلاح ضاقت الشريعة الاسلامية عن مصالح العباد وقصرت عن حاجاتهم ، ولم تصلح لمسايرة مختلف الازمنة والامكنة والبيئات والاحوال مع انها الشريعة العامة لكافة الناس ، وخاتمة الشرائع السماوية كلها " (50) .
وقد أجبنا على نظير هذا الاستدلال في مبحث القياس ، وبيّنا أنّ أحكام الشريعة بمفاهيمها الكلية لا تضيق عن مصالح العباد ولا تقصر عن حاجاتهم ، وهي بذلك مسايرة لمختلف الازمنة والامكنة والبينات والاحوال ، وبخاصة اذا لوحظت مختلف المفاهيم بعناوينها الاولية والثانوية وأحسن تطبيقها والاستفادة منها . والحقيقة ان تأثير الزمان والمكان والاحوال انما هو في تبدل مصاديق هذه المفاهيم .
فالاية الامرة بالاستعداد بما يستطيعون له من قوة لارهاب أعداء الله قد لا نجد لها مصداقاً في ذلك الزمن الا بإعداد السيوف والرماح والتروس والخيول وأمثالها ، لان القوة السائدة هي من هذا النوع ; ولكن تبدل الزمان وتغير وسائل الحرب حوّل الاستعداد الى إعداد مختلف الوسائل السائدة في الامم المتحضرة للحروب كالقنابل النووية وغيرها ، فالمفهوم هو وجوب الاستعداد بما يستطاع لهم من قوة لم يتغير في الاية ، وإنما تغيرت مصاديقه وهكذا ...
فالتبدل في الحقيقة ، لم يقع في المفاهيم الكلية ، وإنما وقع في أفرادها ومصاديقها ، فما كان مصداقاً لمفهوم ما ربما تحول الى مصداق لمفهوم آخر .
ولقد وسع لنا الشارع المقدس بما شرحه لنا من العناوين الثانوية من جهة ، وبفتحه لنا أبواب الاجتهاد سواء في التعرف على أحكامه الكلية أم التماس مصاديقها بما سد حاجاتنا الاساسية الى تطوير أنفسنا ، ومسايرة عصورنا ضمن اطار ما جاء به من أحكام ، ولكن لا على ان نفسح المجال أمام أوهامنا وظنوننا
لنتحكم في مصائر العباد كيفما نشاء ، وما دام مقياس الحجية بأيدينا ـ وهو ما سبق ان عرضناه ـ فلا مجال لاعتماد ما يخالف هذا المقياس ، والاساس فيه هو تحصيل العلم بالحكم أو العلمي ، ولا أقل من تحصيل الوظيفة التي يأمن معها الانسان من غائلة العقاب .
الاستدلال بسيرة الصحابة : وكما استدلوا بالعقل فقد استدلوا عليها بسيرة الصحابة ، ومما جاء في دليلهم : " ان أصحاب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لما طرأت لهم بعد وفاته حوادث وجدت لهم طوارئ شرعوا لها ما رأوا أن فيه تحقيق المصلحة ، وما وقفوا عن التشريع لان المصلحة ما قام دليل من الشارع على اعتبارها ، بل اعتبروا ان ما يجلب النفع أو يدفع الضرر حسبما أدركته عقولهم هو المصلحة ، واعتبروه كافياً لان يبنوا عليه التشريع والاحكام ، فأبو بكر جمع القرآن في مجموعة واحدة ، وحارب مانعي الزكاة ، ودرأ القصاص عن خالد بن الوليد ، وعمر أوقع الطلاق الثلاث بكلمة واحدة ، ووقف تنفيذ حد السرقة في عام المجاعة ، وقتل الجماعة في الواحد ; وعثمان جدد أذاناً ثانياً لصلاة الجمعة... " (51) .
والغريب ان تنزل هذه التصرفات وأمثالها على القياس تارة والاستحسان اخرى والمصالح ثالثة ، وتعتبر على ألسنة البعض أدلة عليها ، وما أدري هل تتسع الواقعة الواحدة لمختلف هذه الادلة مع تباينها مفهوماً أم ماذا ؟!
ومهما يكن فإن النقاش في هذا النوع من الاستدلال واقع صغرى وكبرى .
أما الصغرى فلعدم إمكان تكوين سيرة لهم من مجرد نقل أحداث عن أفراد منهم يمكن ان تنزل على هذا الدليل أو ذاك ، ومن شرائط السيرة ان يصدر المجموع عنها في سلوكهم الخاص ، وكذلك لو أريد من هذا الدليل إجماعهم
السكوتي على ذلك بالتقريب الذي ذكروه بالقياس ، والذي عرفت ـ فيما سبق ـ مناقشته .
أما اذا أريد الاستدلال بتصرفاتهم الفردية فهي لا تصلح للدليلية على أي حال لعدم الايمان بعصمتهم أولاً ، واجتهادهم لا يتجاوز في حجيته أنفسهم ومن يرجع اليهم بالتقليد .
وأما المناقشة في الكبرى فلعدم حجية مثل هذه السيرة أو الاجماع على أمثال هذه الادلة ، لان هذه التصرفات غير معللة على ألسنتهم ، وما يدرينا أن الباعث على صدورها هو إدراك المصالح من قبلهم ، والسيرة مجملة لا لسان لها لنتمسك به ، وغاية ما يمكن ان تدل عليه هو حجية نفس ما قامت عليه من أفعال لو كانت مثل هذه السير من الحجج التي يركن اليها لا حجية مصادرها المتخيلة ، على أن هذه التصرفات ـ كما سبقت الاشارة اليها ـ جار أكثرها على مخالفة النصوص لامور اجتهادية لا نعرف اليوم عواملها وبواعثها الحقيقية ، وفيما سبق عرضه في مبحث القياس ما يغني عن إطالة الحديث .
الاستدلال بحديث لا ضرر : وقد تبناه الطوفي وقرب دلالته ـ بعد ان أطال الحديث في سنده ـ بقوله : " وأما معناه فهو ما أشرنا اليه من نفي الضرر والمفاسد شرعاً ، وهو نفي عام إلا ما خصصه الدليل ، وهذا يقتضي تقديم مقتضى هذا الحديث على جميع أدلة الشرع ، وتخصيصها به في نفي الضرر وتحصيل المصلحة لانا لو فرضنا أن بعض أدلة الشرع تضمن ضرراً ، فإن نفيناه بهذا الحديث كان عملاً بالدليلين ، وان لم ننفه به كان تعطيلاً لاحدهما وهو هذا الحديث ; ولا شك أن الجمع بين النصوص في العمل بها أولى من تعطيل بعضها " (52) .
ويقول : " ثم ان قول النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : لا ضرر ولا ضرار ، يقتضي رعاية المصالح إثباتاً والمفاسد نفياً إذ الضرر هو المفسدة ، فإذا نفاها الشرع لزم إثبات النفع الذي هو المصلحة لانهما نقيضان لا واسطة بينهما " (53) .
والذي يرد على هذا الاستدلال :
1 ـ اعتقاده أن نسبة هذا الحديث الى الادلة الاولية هي نسبة المخصص مع ان من شرائط المخصص ان يكون أخص مطلقاً من العام ليصح تقديمه عليه ، وقد سبق بيان السر في ذلك في بحوث التمهيد وغيرها .
والنسبة هنا بين حديث لا ضرر وأي دليل من الادلة الاولية هي نسبة العموم من وجه ، فوجوب الوضوء مثلاً ، بمقتضى إطلاقه شامل لما كان ضررياً وغير ضرري ، وأدلة لا ضرر شاملة للوضوء الضرري وغير الوضوء ، فالوضوء الضرري مجمع للحكمين معاً ، ومقتضى القاعدة التعارض بينهما والتساقط ، ولا وجه لتقديم أحدهما على الاخر لان نسبة العامين الى موضع الالتقاء من حيث الظهور نسبة واحدة .
والظاهر أن الطوفي ـ بحاسته الفقهية ـ أدرك تقديم هذا الدليل على الادلة الاولية وإن لم يدرك السر في ذلك .
والسر هو ما سبق ان ذكرناه من حكومة هذا النوع من الادلة على الادلة الاولية لما فيه من شرح وبيان لها ، فكأنه يقول بلسانه ان ما شرع لكم من الاحكام هو مرفوع عنكم اذا كان ضررياً ، فهو ناظر اليها ومضيق لها .
وما دام لسانه لسان شرح وبيان فلا معنى لملاحظة النسبة بينه وبين غيره من الادلة .
2 ـ اعتقاده أن بين الضرر والمصلحة نسبة التناقض ، ولذلك رتب على انتفاء احدهما ثبوت الاخر لاستحالة ارتفاع النقيضين مع ان الضرر معناه لا يتجاوز
النقص في المال أو العرض أو البدن وبينه وبين المصلحة واسطة ، فالتاجر الذي لم يربح في تجارته ولم يخسر فيها لا يتحقق بالنسبة اليه ضرر ولا منفعة ، فهما اذن من قبيل الضدين اللذين لهما ثالث ، ومتى حصلت واسطة بينهما فانتفاء أحدهما لا يستلزم ثبوت الاخر ، وعلى هذا المعنى يبتني ثبوت المباح ، وهو الذي لا ضرر ولا مصلحة فيه .
وإذن فانتفاء الضرر هنا لا يستلزم ثبوت المصلحة ، ومن هنا قلنا : ان حديث لا ضرر رافع للتكليف لا مشرع ، فهو لا يتعرض الى أكثر من ارتفاع الاحكام الضررية عن موضوعاتها ، اما اثبات احكام أخر فلا يتعرض لها ، وإنما المرجع فيها الى أدلتها الاخرى .
واذا اتضح هذا لم يبق أمام الطوفي ما يصلح للاستدلال به على المصالح المرسلة فضلاً عن الغلو فيها .
غلو الطوفي في المصالح المرسلة : وكان من مظاهر غلو الطوفي فيها تقديمه رعاية المصلحة على النصوص والاجماع ، واستدل على ذلك بوجوه :
" أحدها : ان منكري الاجماع قالوا برعاية المصالح ، فهو إذن محل وفاق ، والاجماع محل خلاف ، والتمسك بما اتفق عليه أولى من التمسك بما اختلف فيه " (54) .
ويرد على هذا الاستدلال عدم التفرقة بين رعاية المصلحة وبين الاستصلاح كدليل ، فالامة ، وإن اتفقت على ان أحكام الشريعة مما تراعى فيها المصالح ، ولكن دليل الاستصلاح موضع خلاف كبير لعدم إيمان الكثير منهم بإمكان إدراك هذه المصالح مجتمعة من غير طريق الشرع ، وقد سبق إيضاح ذلك في مبحث العقل .
فدليل الاستصلاح إذن ليس موضع وفاق ليقدم على الاجماع .
الوجه الثاني : ان النصوص مختلفة متعارضة فهي سبب الخلاف في الاحكام المذموم شرعاً ، ورعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه ، فهو سبب الاتفاق المطلوب شرعاً فكان اتباعه أولى ، وقد قال عز وجل : ) واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ( (55) ، ) إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء ( (56) ; وقال(عليه السلام) : " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم " (57) ، وقد قال عز وجل في مدح الاجتماع : ) وألَّف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الارض جميعاً ما ألَّفت بين قلوبهم ولكن الله ألَّف بينهم ( (58) ; وقال(عليه السلام) : " كونوا عباد الله إخوانا " .
ومن تأمل ما حدث بين أئمة المذاهب من التشاجر والتنافر ، علم صحة ما قلنا ، حتى أن المالكية استقلوا بالمغرب ، والحنفية بالمشرق ، فلا يقار أحد المذهبين أحداً من غيره في بلاده إلا على وجه ما ، وحتى بلغنا أن أهل جيلان من الحنابلة اذا دخل اليهم حنفي قتلوه ، وجعلوا ماله فيئاً حكمهم في الكفار ، وحتى بلغنا أن بعض بلاد ما وراء النهر من بلاد الحنفية ، كان فيه مسجد واحد للشافعية وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول : أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق ؟ فلم يزل كذلك ، حتى أصبح يوماً وقد سد باب ذلك المسجد بالطين واللبن فأعجب الوالي ذلك .
ثم ان كلاً من اتباع الائمة ، يفضل إمامه على غيره في تصانيفهم ومحاوراتهم ، حتى رأيت حنفياً صنّف مناقب أبي حنيفة ، فافتخر فيها باتباعه ، كأبي يوسف ومحمد وابن المبارك ونحوهم ، ثم قال : يعرض بباقي المذاهب :
اولئك آبائي فجئني بمثلهم اذا جمعتنا يا جرير المجامع
وهذا شبيه بدعوى الجاهلية وغيره كثير ، وحتى ان المالكية يقولون : الشافعي غلام مالك ، والشافعية يقولون : احمد بن حنبل غلام الشافعي ، والحنابلة يقولون :
الشافعي غلام احمد بن حنبل .
وقد ذكره أبو الحسن القرافي في الطبقات من اتباع أحمد .
والحنفية يقولون : ان الشافعي غلام ابي حنيفة لانه غلام محمد بن الحسن ، ومحمد غلام ابي حنيفة ، قالوا لولا أن الشافعي من اتباع ابي حنيفة لما رضينا أن ننصب معه الخلاف . وحتى أن الشافعية يطعنون بان أبا حنيفة من الموالي ، وانه ليس من أئمة الحديث ، وأحوج ذلك الحنفية الى الطعن في نسب الشافعي وانه ليس قرشيّاً بل من موالي قريش ، ولا إماماً في الحديث لان البخاري ومسلماً أدركاه ولم يرويا عنه ، مع أنهما لم يدركا إماماً إلا رويا عنه ، حتى احتاج الامام فخر الدين والتميمي في تصنيفيهما مناقب الشافعي الى الاستدلال على هاشميته ، وحتى جعل كل فريق يروي السنّة في تفضيل إمامه ، فالمالكية رووا : " يوشك أن تضرب اكباد الابل ولا يوجد أعلم من عالم المدينة " . قالوا : وهو مالك ، والشافعية رووا : " الائمة من قريش ، تعلموا من قريش ولا تعالموها " ، أو " عالم قريش ملا الارض علماً " ، قالوا : ولم يظهر من قريش بهذه الصفة إلا الشافعي .
والحنفية ، رووا : " يكون في أمتي رجل يقال له النعمان هو سراج أمتي ، ويكون فيهم رجل يقال له محمد بن ادريس هو أضر على أمتي من ابليس " .
والحنابلة رووا : " يكون في أمتي رجل يقال له أحمد بن حنبل يسير على سنتي سير الانبياء " أو كما قال فقد ذهب عني لفظه .
وقد ذكر أبو الفرج الشيرازي في أول كتابه المنهاج : واعلم ان هذه الاحاديث ما بين صحيح لا يدل ، ودال لا يصح . أما الرواية في مالك والشافعي فجيدة لكنها لا تدل على مقصودهم لان عالم المدينة ان كان اسم جنس فعلماء المدينة كثير ولا اختصاص لمالك دونهم ، وان كان اسم شخص فمن علماء المدينة الفقهاء السبعة وغيرهم من مشايخ مالك الذين أخذ عنهم وكانوا حينئذ أشهر منه ، فلا وجه
لتخصيصه بذلك وإنما حمل أصحابه على حمل الحديث عليه كثرة أتباعه وانتشار مذهبه في الاقطار ، وذلك أمارة على ما قالوا ، وكذلك الائمة من قريش لا اختصاص للشافعي به ، ثم هو محمول على الخلفاء في ذلك ، وقد احتج به أبو بكر يوم السقيفة ، وكذلك ( تعلموا من قريش ) لا اختصاص لاحد به .
" أما قوله : ( عالم قريش يملا الارض علماً ) فابن عباس يزاحم الشافعي فيه ، فهو أحق به لسبقه وصحبته ودعاء النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) له في قوله : ( اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل ) (59) فكان يسمى بحر العلم وحبر العرب ، وإنما حمل الشافعية الحديث على الشافعي لاشتهار مذهبه وكثرة أتباعه ، على ان مذهب ابن عباس مشهور بين العلماء لا ينكر .
وأما الرواية في أبي حنيفة واحمد بن حنبل فموضوعة باطلة لا أصل لها ، أما حديث " هو سراج أمتي " فأورده ابن الجوزي في الموضوعات ، وذكر ان مذهب الشافعي لما اشتهر أراد الحنفية اخماله ، فتحدثوا مع مأمون بن أحمد السلمي وأحمد ابن عبدالله الخوشاري وكانا كذابين وضاعين ، فوضعا هذا الحديث في مدح أبي حنيفة وذم الشافعي ، ) ويأبى الله إلا ان يتم نوره ( .
وأما الرواية في أحمد بن حنبل فموضوعة قطعاً لانا قدمنا أن أحمد كان أحفظ الناس للسنة وأشدهم بها احاطة حتى ثبت انه كان يذاكر تأليف ألف حديث وانه قال : خرجت مسندي من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألف حديث ، وجعلته حجة بيني وبين الله عز وجل ، فما لم تجدوه فيه فليس بشيء .
ثم ان هذا الحديث الذي أورده الشيرازي في مناقب أحمد ليس في مسنده ، فلو كان صحيحاً لكان هو أولى الناس باخراجه والاحتجاج به في محنته التي ضيق الارض ذكرها .
فانظر بالله أمراً يحمل الاتباع على وضع الاحاديث في تفضيل أئمتهم وذم
بعضهم ، وما مبعثه إلا تنافس المذاهب في تفضيل الظواهر ونحوها على رعاية المصالح الواضح بيانها الساطع برهانها ، فلو اتفقت كلمتهم بطريق ما لما كان شيء مما ذكرنا عنهم .
واعلم ان من أسباب الخلاف الواقع بين العلماء تعارض الروايات والنصوص ، وبعض الناس يزعم أن السبب في ذلك عمر بن الخطاب ، وذلك ان اصحابه استأذنوه في تدوين السنة في ذلك الزمان فمنعهم من ذلك وقال : ( لا أكتب مع القرآن غيره ) مع علمه أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قال : " اكتبوا لابي شاه خطبة الوداع " (60) وقال : " قيدوا العلم بالكتابة " (61) قالوا : فلو ترك الصحابة يدون كل واحد منهم ما روى عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، لانضبطت السنة ، ولم يبق بين أحد من الامة وبين النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ; في كل حديث إلا الصحابي الذي دون روايته ، لان تلك الدواوين تتواتر عنهم الينا كما تواتر البخاري ومسلم ونحوهما " (62) .
ثم أورد بعد ذلك على نفسه بقوله : " فإن قيل : خلاف الامة في مسائل الاحكام رحمة وسعة ، فلا يحويه حصرهم من جهة واحدة لئلا يضيق بحال الاتساع ، قلنا : هذا الكلام ليس منصوصاً عليه من جهة الشرع حتى يمتثل ، ولو كان لكان مصلحة الوفاق أرجح من مصلحة الخلاف فتقدم .
ثم ما ذكرتموه من مصلحة الخلاف بالتوسعة على المكلفين معارض بمفسدة تعرض منه ، وهو ان الاراء اذا اختلفت وتعددت اتبع بعض رخص بعض المذاهب فأفضى الى الانحلال والفجور كما قال بعضهم :
فاشرب ولط وازن وقامر واحتجج في كل مسأله بقول إمام
يعني بذلك شرب النبيذ وعدم الحد في اللواط على رأي أبي حنيفة ، والوطأ في الدبر على ما يعزى الى مالك ، ولعب الشطرنج على رأي الشافعي .
وأيضاً فإن بعض أهل الذمة ربما أراد الاسلام فيمنعه كثرة الخلاف وتعدد
الاراء ظناً منه انهم يخطئون ، لان الخلاف مبعود عنه بالطبع ، ولهذا قال الله تعالى : ) الله نزّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً ( (63) أي يشبه بعضه بعضاً ويصدق بعضه بعضاً ، لا يختلف إلا بما فيه من المتشابهات وهي ترجع الى المحكمات بطريقها ، ولو اعتمدت رعاية المصالح المستفادة من قوله(عليه السلام) : " لا ضرر ولا ضرار " على ما تقرر ، لاتحد طريق الحكم وانتهى الخلاف ، فلم يكن ذلك شبهة في امتناع من أراد الاسلام من أهل الذمة وغيرهم " (64) .
ومع الغض عما في نصه هذا من خطابية وتطويل قد لا تكون له حاجة ، ان الاختلاف ضرورة لا يمكن دفعها عن البشر ، وهو لا يستدعي الصراع والخصام المذهبي ما دام أصحابه يسيرون ضمن نطاق الاجتهاد بموضوعية تامة ، وما دامت الاهواء السياسية وغيرها بعيدة عنه .
وهذا النوع من الصراع بين اتباع المذاهب كانت من ورائه دائماً عوامل لا ترتبط بالدين .
وكانت السياسة من وراء أكثرها وكثير من هؤلاء المصطرعين لم يكونوا من العلماء المجتهدين ، وإنما كانوا مرتزقة باسم الدين لانسداد أبواب الاجتهاد في هذه الفترات التي أرخ لها ، وحيث يوجد الغرض والهوى والجهل ومحاولات الاستغلال من تجار الضمائر والمبادئ توجد التفرقة والصراع ، وأمثال هؤلاء المفرقين من العلماء إنما هم دمى بيد السلطة تحركها كيفما تشاء .
وإلا فان العالم الصحيح لا يضره الاختلاف معه في مجالات استنباطه ، وربما سر لعلمه بقيمة ما يأتي به الصراع من تلاقح فكري وإنماء وتطور للافكار التي يؤمن بها .
والعلماء في مختلف المجالات العلمية يختلفون ، وما سمعنا خلافاً أوجب الصراع فيما بينهم باسم العلم فضلاً عن أن يدب الصراع الى أبناء شعوبهم فيقتتلون ، اللهم
الا اذا كانت السلطات من ورائه كما هو الشأن في موقف سلطة الكنيسة من بعض العلماء المكتشفين أمثال غاليلو .
والشيعة أنفسهم رأوا طوائف من علمائهم وهم بحكم فتح أبواب الاجتهاد على أنفسهم كانوا يختلفون ، وينقد بعضهم آراء البعض الاخر ، ومع ذلك كله نرى تقديسهم لعلمائهم يكاد يكون منقطع النظير .
وما استشهد به من الايات والروايات على المنع من الاختلاف اجنبي عن هذا النوع من الاختلاف الذي يقتضيه البحث الموضوعي ، لان المنع عن هذا النوع منه تعبـير آخـر عن الدعـوة الى الجمـود وإماتة الفكـر والنظر في شؤون الدين ، وهـو ما ينافـي الدعوة الى تدبر ما فـي القرآن والنظر الى آياته ، بل ينافي الدعوة الى تدبر ما في الكون والحث على استعمال العقل ، وهو ما طفحت به كثير من الايات والاحاديث ، لان طبيعة التدبر واستعمال الفكر تدعو الى اختلاف الرأي .
فالاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف الذي يدعو الى التفرقة وتشتيت كلمة الامة ، أي الاختلاف الذي يستغل عاطفياً لتفرقة الشعوب لا الاختلاف الذي يدعو اليه البحث الموضوعي وهو من أسباب الالفة والتعاطف بين اربابه ، ففي الاستدلال خلط بين نوعي الاختلاف .
ومع التغافل عن هذه الناحية فان دعواه بأن رعاية المصالح أمر حقيقي في نفسه لا يختلف فيه ـ فهو سبب الاتفاق ـ لا أعرف لها وجهاً ، لان المصالح الحقيقية التي يتطابق عليها العقلاء محدودة جداً ، وما عداها كلها موضع خلاف بل هي نفسها موضع لخلاف كبير في مواقع تطبيقها كما سبق بيانه في مبحث العقل ، فكيف يكون النظر فيها موضعاً لاتفاق الكلمة وبخاصة اذا وسعنا الامر الى عوالم الظنون بها والاوهام ؟ وهل تكفي مواضع الاتفاق منها لاقامة شريعة اذا تجردنا عن
النصوص ؟
وبهذا يتضح الجواب على ما أورده على نفسه من اشكال وأجاب عليه ، فكون الاختلاف رحمة وسعة مما لا اشكال فيه أصلاً اذا كان في حدود البحث الموضوعي ، والذي يدل عليه كل ما يدل على وجوب المعرفة المستلزمة حتماً للاختلاف من آيات وأحاديث ، ومعارضتها بمفسدة الاخذ بالرخص لا تعتمد على أساس .
فالاخذون بالرخص اما ان يكونوا معتمدين على حجة ، كأن يكون هناك مرجع مستوف لشرائط التقليد يسيغ لهم ذلك ، فالاخذ بها لا يشكل مفسدة وأصحابها معذورون ، واما ان لا يكونوا على حجة ، وهؤلاء لا حساب لنا معهم لتمردهم على أصل الشريعة في عدم الركون في تصرفاتهم على أساس ، وكونهم يستغلون الرخص لتبرير أعمالهم أمام الرأي العام ، فانما هو من قبيل الخداع والتمويه ، ولو لم تكن هناك رخص لارتكبوا هذه الاعمال والتمسوا لها مبررات غير هذه .
وكون الاختلاف مانعاً من دخول أهل الذمة الى الاسلام هو الاخر لا يخلو من غرابة ، فان هؤلاء ان كانوا على درجة من الثقافة عرفوا ان هذا المقدار من الاختلاف مبرر في جميع الشرائع ، بل هو مما تقتضيه الطبيعة البشرية لاستحالة اتفاق الناس في فهم جميع ما يتصل بشؤون شرائعهم ، بل جميع ما يتصل بشؤونهم الحياتية وغيرها ، ومتى منع الاختلاف أحداً من الدخول في الاسلام ؟!
وهناك أدلة أخرى له لا تستحق ان تعرض ويطال فيها الحديث وأجوبتها تعرف مما سبق ان عرضناه في مبحث القياس .
فغلو الطوفي في استعمال المصالح المرسلة وتقديمها على النصوص والاجماع لا يستقيم أمره بحال .
نفاة الاستصلاح وأدلتهم : أما نفاة الاستصلاح ـ وفي مقدمتهم الشافعي ـ فأهم ما استدلوا به :
1 ـ ايمانهم بكمال الشريعة واستيفائها لحاجات الناس " ولو كانت مصالح الناس تحتاج الى أكثر مما شرعه ومما ارشد الى الاهتداء به لبيّنه ولم يتركه ، لانه سبحانه قال على سبيل الاستنكار : ) أيحسب الانسان ان يترك سدى ( (65) " (66) .
والجواب على هذا الاستدلال : ان مثبتي الاستصلاح لا ينكرون وفاء الشريعة بحاجات الناس وان انكروا وفاء النصوص بها ، فهم يعتبرون العقول من وسائل ادراكها كالنصوص على حد سواء ، واهتداء العقول اليها انما هو بهداية من الله عز وجل لها ، فالعقول اذن كاشفة وليست بمشرعة .
2 ـ ما يستفاد من قول الغزالي وهو يرد على من يريد اعتبار الاستصلاح أصلاً خامساً : " من ظن انه أصل خامس فقد أخطأ لانا رددنا المصلحة الى حفظ مقاصد الشرع ، ومقاصد الشرع تعرف بالكتاب والسنة والاجماع ; فكل مصلحة لا ترجع الى حفظ مقصود فهم من الكتاب والسنة والاجماع وكانت من المصالح الغريبة التي لا تلائم تصرفات الشرع فهي باطلة مطروحة ، ومن صار اليها فقد شرع ، كما ان من استحسن فقد شرع ، وكل مصلحة رجعت الى حفظ مقصود شرعي علم كونه مقصوداً بالكتاب والسنة والاجماع فليس خارجاً من هذه الاصول ، لكنه لا يسمى قياساً بل مصلحة مرسلة ، اذ القياس أصل معين ، وكون هذه المعاني مقصودة عرفت لا بدليل واحد ، بل بأدلة كثيرة لا حصر لها من الكتاب والسنة وقرائن الاحوال وتفاريق الامارات تسمى لذلك مصلحة مرسلة ، واذا فسرنا المصلحة بالمحافظة على مقصود الشرع فلا وجه للخلاف في
اتباعها ، بل يجب القطع بكونها حجة " (67) .
والجواب الذي يصلح ـ لمثبتي الاستصلاح ـ التمسك به : ان حصر معرفة المصلحة التي تحفظ مقاصد الشرع بالكتاب والسنة والاجماع لا دليل عليه ، لما سبق من إثبات كاشفية العقل وإدراكه للمصالح والمفاسد المستلزم لادراك حكم الشارع بها .
ومع إمكان الادراك فليس هناك ما يمنع من وقوعه أحياناً ، وعلى أي حال فالمسألة مبنائية .
3 ـ ما ذكره الامدي في كتابه الاحكام من ان " المصالح على ما بيّنا ، منقسمة الى ما عهد من الشارع اعتبارها ، والى ما عهد منه إلغاؤها ، والمرسلة مترددة بين ذينك القسمين ، وليس إلحاقها بأحدهما أولى من إلحاقها بالاخر ، فامتناع الاحتجاج بالمرسل دون شاهد بالاعتبار يبين انه من قبيل المعتبر دون الملغى " (68) .
وموضع الفجوة في هذا الاستدلال اعتبار المصلحة مترددة بين القسمين اذا أريد من ترددها ترددها بين ما دلّ على الاعتبار من النصوص ، وما دلّ على الالغاء ، لافتراض القائلين بالاستصلاح ان النصوص غير متعرضة لها اعتباراً أو إلغاء ، وإنما اكتشفوا اعتبارها من قبل الشارع بدليل العقل ، فهي إذن معتبرة من الشارع ولكن من غير ما عهد منه ، فهي قسم ثالث في عرض ذينك القسمين .
وان شئت ان تقول : ان الاعتبار على قسمين : معهود من الشرع بطريق النصوص ، ومعهود منه بطريق العقل ; وهذه من القسم الثاني وليست بأحد القسمين اللذين ذكرهما الامدي ليقال : " وليس إلحاقها بأحدهما أولى من إلحاقها بالاخر " .
تلخيص وتعقيب : وخلاصة ما انتهينا اليه ان تعاريف المصالح المرسلة مختلفة ، فبعضها ينص على استفادة المصلحة من النصوص والقواعد العامة ، كما هو مقتضى استفادة الدواليبي والطوفي .
ومقتضى هذا النوع من التعاريف إلحاقها بالسنة ، والاجتهاد فيها إنما يكون من قبيل تحقيق المناط بقسمه الاول ، أي تطبيق الكبرى على صغراها بعد التماسها ـ أعني الصغرى ـ بالطرق المجعولة من الشارع لذلك ، ولا يضر في ذلك كونها غير منصوص عليها بالذات ، إذ يكفي في إلحاقها بالسنة دخولها تحت مفاهيمها العامة ، ومتى اشترطنا في السنة ان تكون خاصة لتكون مصدراً من مصادر التشريع ، فعدها ـ بناء على هذه التعاريف ـ في مقابل السنة لا يعرف له وجه .
وأما على تعاريفها الاخر فينحصر إدراكها بالعقل . والذي ينبغي ان يقال عنها انها تختلف من حيث الحجية باختلاف ذلك الادراك ، فإن كان ذلك الادراك كاملاً ـ أي إدراكاً للمصلحة بجميع ما يتعلق بها في عوالم تأثيرها في مقام جعل الحكم لها من قبل المشرع ـ فهي حجة ، إذ ليس وراء القطع ، كما سبق تكراره ، مجال لتساؤل أو استفهام .
يقول المحقق القمي : " والمصالح اما معتبرة في الشرع وبالحكم القطعي من العقل من جهة إدراك مصلحة خالية من المفسدة كحفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل ، فقد اعتبر الشارع صيانتها وترك ما يؤدي الى فسادها (69) ... الخ " .
ولكن القول بحجيتها هنا لا يجعلها دليلاً مستقلاً في مقابل العقل ، بل هي نفس ما عرضناه سابقاً في مبحث حجيته .
وإن لم يكن إدراكه لها كاملاً بأن كان قد أدرك المصلحة ، واحتمل وجود مزاحم لها يمنع من جعل الحكم ، أو احتمل انها فاقدة لبعض شرائط الجعل كما هو
الغالب فيها ، بل لا يتوفر الادراك الكامل إلا في حالات نادرة وهي التي تكون المصلحة ذاتية ـ كما سبق ـ فإن القول بحجيتها ـ أعني هذا النوع من المصالح المرسلة ـ مما يحتاج الى دليل ، وليس لدينا من الادلة ما يصلح لاثبات ذلك ، لما قلناه من أن الادراك الناقص ـ وهو الذي لا يشكل الرؤية الكاملة ـ ليست حجيته ذاتية ، بل هي محتاجة الى الجعل والادلة غير وافية بإثباته .
والشك في الحجية كاف للقطع بعدمها لتقومها بالعلم ، وقد مرّ إيضاح ذلك كله .
وبهذا يتضح ان الشيعة لا يقولون بالمصالح المرسلة إلا ما رجع منها الى العقل على سبيل الجزم ، كما هو مقتضى مبناهم الذي عرضناه في دليل العقل وما عداه فهو ليس بحجة ، فنسبة الاستاذ الخفيف القول بها الى الشيعة ليس بصحيح على اطلاقه .
(25) المستصفى : 1/140 .
(26) رسالة الطوفي المنشورة في مصادر التشريع : ص93 .
(27) المصدر السابق .
(28) المصدر السابق .
(29) إرشاد الفحول : ص242 .
(30) سلم الوصول : ص309 .
(31) سورة النحل : الاية 90 .
(32) المدخل الى أصول الفقه : ص284 .
(33) أصول الفقه للخضري : ص302 .
(34) ارشاد الفحول : ص242 .
(35) ارشاد الفحول : ص216 .
(36) المستصفى : 1/140 .
(37) المصدر السابق .
(38) ارشاد الفحول : ص216 .
(39) المستصفى : 1/140 .
(40) مصادر التشريع : ص73 .
(41) المصدر السابق : ص80 .
(42) مصادر التشريع : ص81 وما بعدها .
(43) المصدر السابق : ص74 .
(44) المستصفى : 1/141 .
(45) المستصفى : 1/141 .
(46) محاضرات في أسباب الاختلاف للخفيف : ص244 .
(47) مصادر التشريع : ص74 .
(48) محاضرات في أسباب الاختلاف : ص244 .
(49) مصادر التشريع : ص75 .
(50) المصدر السابق .
(51) مصادر التشريع : ص75 .
(52) رسالة الطوفي : ص90 .
(53) المصدر السابق : ص91 .
(54) رسالة الطوفي : ص109 .
(55) سورة آل عمران : الاية 103 .
(56) سورة الانعام : الاية 159 .
(57) صحيح مسلم : كتاب الصلاة ، الحديث : 654 .
(58) سورة الانفال : الاية 63 .
(59) مسند أحمد : مسند بني هاشم ، الحديث : 2274 و2731 .
(60) صحيح البخاري : كتاب اللقطه ، الحديث 2254 .
(61) بحار الانوار : 61 / 124 .
(62) رسالة الطوفي : ص109 الى 113 .
(63) سورة الزمر : الاية 23 .
(64) رسالة الطوفي : ص116 .
(65) سورة القيامة : الاية 36 .
(66) مصادر التشريع : ص78 .
(67) المستصفى : 1/143 وما بعدها .
(68) مصادر التشريع : ص79 نقلا عنه .
(69) القوانين المحكمة : 2/92 .