أصول العامة فی الفقه المقارن نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أصول العامة فی الفقه المقارن - نسخه متنی

السید محمدتقی الحکیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 391 الي 421 البابُ الاول

القسم الثامن

فتح الذرائع وسدها الذريعة لغة واصطلاحاً : للذريعة مدلولان : لغوي واصطلاحي ، فهي في اللغة الوسيلة التي يتوصل بها الى الشيء .

وفي الاصطلاح وقعت موضعاً لاختلافهم في مقام التحديد ، فالشاطبي يحددها بـ " التوسل بما هو مصلحة الى مفسدة " (1) .

وقريب منه ما ورد على ألسنة بعض المتأخرين في تحديدها فهي عنده " ما يتوصل به الى شيء ممنوع مشتمل على مفسدة " (2) .

ويرد على هذين التعريفين انهما غير جامعين لاقتصارهما على وسائل الامور المحرمة ، بينما تعم الذريعة ـ كدليل ـ جميع الوسائل سواء كانت وسائل لمحرمات أم واجبات أم غيرهما من الاحكام ، يقول القرافي : " الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها وتكره وتندب وتباح " (3) .

وقريب منه قول سلام : " الذرائع اذا كانت تفضي الى مقصد هو قربة وخير أخذت الوسيلة حكم المقصد ، واذا كانت تفضي الى مقصد ممنوع هو مفسدة أخذت حكمه ; ولذا فإن الامام مالكاً يرى انه يجب فتح الذرائع في الحالة الاولى لان المصلحة مطلوبة ، وسدها في الحالة الثانية لان المفاسد ممنوعة " (4) ، اللهم إلا أن يكون ذلك مجرد اصطلاح خاص لهم ولا حساب لنا معه .

ولعل أقرب تعاريفها الى السلامة ما ذكره ابن القيم من أن " الذريعة ما كان وسيلة وطريقاً الى الشيء " (5) ، وهو مأخوذ من مفهومها اللغوي ، إلا أن تعميم الشيء فيه يجعله غير مانع من الغير لدخول جميع الوسائل المفضية الى غير

الاحكام الشرعية ، وهو ما لا يتصل بحثه بوظيفة الاصولي ، فالانسب تعريفها بـ ( الوسيلة المفضية الى الاحكام الخمسة ) ليشمل بحثها كل ما يتصل بالذريعة وأحكامها من أبحاث سواء أفضت الى مصالح أم مفاسد أم غيرها ، على أن الذي ركّز عليه الباحثون من أقسامها هو الذريعة المفضية الى مفسدة وخصوها بأكثر أحاديثهم .

أقسام الذريعة : وقد قسمها ابن القيم الى أقسام أربعة :

1 ـ الوسائل الموضوعة للافضاء الى المفسدة ، ومثل لها بشرب المسكر المفضي الى مفسدة السكر ، والزنى المفضي الى اختلاط المياه وفساد الفراش ، وليس لهذه الافعال ظواهر غير الافضاء الى المفسدة .

2 ـ الوسائل الموضوعة للامور المباحة ، إلا أن فاعلها قصد بها التوسل الى المفسدة ، ومثالها فعل من يعقد النكاح قاصداً به التحليل ، أو يعقد البيع قاصداً به الربا .

3 ـ الوسائل الموضوعة للامور المباحة ، والتي لم يقصد التوسل بها الى المفسدة لكنها مفضية اليها غالباً ومفسدتها أرجح من مصلحتها ، ومثالها مسبة آلهة المشركين بين ظهرانيهم فيسبوا الله عدواً ، وتزين المتوفى عنها زوجها في زمن عدتها .

4 ـ الوسائل الموضوعة للمباح ، وقد تفضي الى المفسدة ومصلحتها أرجح من مفسدتها ، ومثلوا لها بالنظر الى المخطوبة والمشهود عليها ، وكلمة الحق عند سلطان جائر (6) .

حكمها : أما حكمها فقد اختلفوا فيه ، فالذي عليه ابن القيم وجماعة ان الوسيلة تأخذ حكمها مما تنهي اليه ، وقرّب ذلك بقوله : " لما كانت المقاصد لا يتوصل اليها إلا باسباب وطرق تفضي اليها ، كانت طرقها واسبابها تابعة لها معتبرة بها ، فوسائل المحرمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها بحسب افضائها الى غاياتها وارتباطاتها بها ، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والاذن فيها بحسب افضائها الى غاياتها ، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود ، وكلاهما مقصودٌ ، لكنه مقصود قصد الغايات ، وهي مقصودة قصد الوسائل .

فاذا حرّم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي اليه ، فإنه يحرّمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له ومنعاً أن يقرب حماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية اليه ، لكان ذلك نقضاً للتحريم وإغراء للنفوس به ، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الاباء " (7) .

ومن رأيه ـ أعني ابن القيم ـ تحريم جميع تلكم الاقسام التي ذكرها للوسيلة ، عدا القسم الرابع وهو ما كان موضوعاً للمباح ، وقد يفضي الى مفسدة ، ومصلحته أرجح من مفسدته (8) .

ولكن المالكية والحنابلة ركزوا في الحرمة على خصوص القسم الثاني منها ـ أعني الوسائل الموضوعة للامور المباحة ـ ويقصد فاعلها التوصل بها الى المفسدة (9) .

ولقد حررت هذه المسألة في كتب الشيعة الامامية من مبحث مقدمة الواجب من الاصول .

وقد كادت ان تطبق كلمتهم على اعتبار المقدمة تابعة في حكمها لذي المقدمة على اختلاف في معنى هذه التبعية وفي حدودها من حيث الاطلاق والتقييد .

وكلماتهم مختلفة في ذلك جداً ، وربما بلغت أقوال المسألة أكثر من عشرة .

ولعل اسدّ هذه الاراء وأقواها أدلة هو ما ذهب اليه بعض المتأخرين من الحجج امثال : المرحوم الشيخ محمد حسين الاصفهاني(قدس سره) (10) ، والسيد محسن الحكيم(قدس سره) (11) ، والسيد ابوالقاسم الخوئي(قدس سره) (12) ، من انكار تبعيتها لذي المقدمة في حكمها ، وإنما لها حكمها المستقل المأخوذ من ادلته الخاصة .

الادلة على الحكم : أدلتها من الكتاب والسنة :

ولقد ذكر ابن القيم ما يقارب المائة بين آية وحديث استقرأها في مظانها ، فوجد فيها جميعاً اتحاد الحكم في الوسائل وما تفضي اليه ، مما يدل على ان الشارع يعطي الوسائل دائماً حكم ما تنهي اليه .

والامثلة التي ذكرها منصبة في الغالب على الوسائل المحرمة لديه ، امثال قوله تعالى : ) ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم ( (13) وقوله تعالى : ) ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن ( (14) .

ولكن ليس في هذه المواقع التي عرضها ما يصرح بأن التحريم فيها جميعاً انما كان من اجل كونها وسيلة الى الغير لا لمفاسد في ذاتها توجب لها التحريم النفسي ، كضربهن بأرجلهن والنظر الى الاجنبية ، وهكذا ...

واذا شككنا في كون الحرمة نفسية أو غيرية ، فمقتضى إطلاقها انها نفسية ، لان الحرمة الغيرية مما تحتاج الى بيان زائد ، ومع عدمه وهو في مقام البيان فالظاهر العدم .

على أنا لا نمنع أن يتخذ الشارع احتياطات لبعض ملاكات أحكامه التي

يحرص أن لا يفوتها المكلف بحال ، فيأمر أو ينهى عن بعض ما يفضي اليها تحقيقاً لهذا الغرض ، إلا أن ذلك لا يتخذ طابع القاعدة العامة ، ولعل الكثير من الامثلة التي ذكرها منصبة على هذا النوع .

ويكفينا أن لا يكون في هذه الامثلة من التعليلات ما يصلح لان يتمسك بعمومه أو إطلاقه لتحريم جميع المقدمات التي تقع في طريق المحرمات ، مهما كان نوعها ، وليس علينا إلا ان نتقيد بخصوص هذه المواقع التي ثبت لها التحريم .

أدلتها من العقل : وعمدة ما استدل به على التوافق في الحكم بين المقدمة وذيها ، ما أشار اليه ابن القيم وغيره من دعوى الملازمة بين حكم الشارع بوجوب أو حرمة شيء ، ووجوب أو حرمة وسائله وذرائعه " فاذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي اليه ، فإنه يحرّمها ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه وتثبيتاً له ومنعاً أن يقرب حماه ، ولو أباح الوسائل والذرائع المفضية اليه لكان ذلك نقضاً للتحريم وإغراء للنفوس به ، وحكمته تعالى وعلمه يأبى ذلك كل الاباء " (15) .

والظاهر ان هذه الدعوى لا مأخذ لها لان الاحكام الواقعية إنما هي وليدة مصالح أو مفاسد في متعلقاتها ، واذا كان في الشيء مفسدة توجب جعل الحرمة له من قبل الشارع فلا يلزم ان يكون في ذرائعها مفاسد أيضاً ليلزم وضع الحرمة على وفقها .

ودعوى ان المتلازمين يجب ان يأخذا حكماً واحداً لا مأخذ لها كما سبق شرحه ، إذ لا يلزم فيهما ان يكونا متحدين من حيث اشتمالهما على ملاك الحكم ليتحدا في الحكم ; وغاية ما تلزم به الملازمة ان لا يفترقا في حكمهما على نحو الوجوب والحرمة لتعذر امتثالهما معاً ، وفي هذا الحال تعود المسألة الى صغريات

باب التزاحم الامري الذي يدعو الى الموازنة في مقام الثبوت لدى الامر نفسه ، واختيار أصلحهما للمكلف .

نعم ، قد يقال بأن الهدف من جعل الاحكام ، هو جعل الدواعي في نفوس المكلفين لامتثال تكاليف المولى ، وإنما جعلت الاحكام على الذرائع توفيراً لدواعي امتثال ما تفضي اليه .

ولكن هذا القول أيضاً لا مأخذ له ، لان الدواعي الى الامتثال إن احدثها الامر بذي المقدمة أو النهي عنها ، فالامر بالمقدمة لا يصنع شيئاً ولا يولّد داعياً للزوم تحصيل الحاصل ، وإن لم يحدثها ـ لتمرد المكلف على مولاه ـ فألف أمر بالمقدمة لا يؤثر شيئاً ولا يحدث داعياً .

والظاهر أن هذه هي وجهة نظر اساتذتنا المتأخرين الذين ذهبوا الى عدم وجوب المقدمة كالسيد الحكيم(قدس سره) والشيخ الاصفهاني(قدس سره) والسيد الخوئي(قدس سره) (16) .

وقد ذكر الشيخ المظفر نسبة هذا الرأي اليهم ، واستدل له بقوله : " وذلك لانه إذا كان الامر بذي المقدمة داعياً للمكلف الى الاتيان بالمأمور به فإن دعوته هذه ـ لا محالة بحكم العقل ـ تحمله وتدعوه الى الاتيان بكل ما يتوقف عليه المأمور به تحصيلاً له ، ومع فرض وجود هذا الداعي في نفس المكلف لا تبقى حاجة الى داع آخر من قبل المولى مع علم المولى ، حسب الفرض بوجود هذا الداعي ، لان الامر المولوي ، سواء كان نفسياً أم غيريّاً ، إنما يجعله المولى لغرض تحريك المكلف نحو فعل المأمور به ، إذ يجعل الداعي في نفسه حيث لا داعي ، بل يستحيل في هذا الفرض جعل الداعي الثاني من المولى لانه يكون من باب تحصيل الحاصل " (17) .

وما يقال عن الوجوب يقال عن بقية الاحكام الاقتضائية لوحدة الملاك فيهما . يقول شيخنا النائيني : " لا يخفى أن ما ذكرنا من الوجوه والاقوال في مقدمة الواجب يجري في مقدمة المستحب " (18) . ويقول أيضاً : " وأما مقدمات المكروه

فحالها حال مقدمات الحرام " (19) .

واذا صح هذا اتضحت اوجه المفارقة في كلمات ابن القيم من دعواه الملازمة بين إباحة الذريعة ونقض التحريم ، لان اباحة الشيء لا تستلزم الاتيان به ليلزم نقض التحريم ، وتوقف امتثال التحريم على عدم الاتيان بالذريعة المفضية اليه توقف عقلي محض ، والاحكام العقلية لا تستلزم احكاماً شرعية دائماً لما سبق ان قلنا في مبحث العقل من امتناع ذلك احياناً كما هو الشأن في هذه المسألة بناء على ما قالوه من لزوم تحصيل الحاصل فيها ، وكما هو الشأن في أوامر الاطاعة وغيرها ; نعم الذي يفضي الى نقض التحريم هو جعل الوجوب للذريعة لا الاباحة ، وليس هناك ما يمنع من ان يبيح الشارع شيئاً ويلزم العقل به ما دامت أحكام الشارع وليدة مصالح أو مفاسد في المتعلقات ، فالذريعة التي لا مصلحة ولا مفسدة فيها لا معنى لجعل غير الاباحة لها ، وإلزام العقل بها ـ لتوقف امتثال ما تفضي اليه عليها ـ لا ينافي اباحتها الشرعية ، وحسب الشارع ان يتكل على حكم العقل في لزوم الاتيان بها أو الارتداع عنها لتحقيق غرضه .

وبهذا يتضح ان ما ورد على لسان الشارع مما هو صريح بالردع عن الاتيان بالمقدمات المحرمة انما هو من قبيل الارشاد الى حكم العقل والتأكيد له ، لا انها أحكام تأسيسية .

ومن هنا صح القول بأن الاوامر والنواهي الغيرية لا تستدعي ثواباً ولا عقاباً ، وبدا مثل هذا القول منطقياً ومنسجما على هذا المبنى ، وإلا فما معنى توجيه الامر المولوي أو النهي اذا كان وجوده كعدمه من حيث استحقاق الثواب والعقاب ؟

وفي حدود ما اطلعت عليه من كلماتهم أنهم متفقون على ان الثواب والعقاب انما هو على خصوص ذي المقدمة ، فالشخص الذي يترك الصلاة مثلاً لا يعاقب

على أكثر من تركها ، فالوجوب المقدمي المتوجه على التستر والاستقبال وغيرهما من المقدمات لا تستحق مخالفته عقاباً في مقابل ذي المقدمة ، وهكذا بالنسبة الى مقدمات الحرام .

نعم لا يبعد القول ان مخالفة بعض النواهي ـ التي جعلها الشارع سدّاً عن الوقوع في بعض المحرمات التي يبغض الشارع وقوعها بغضاً شديداً لكثرة مفاسدها ، كالاحكام المتعلقة بالدماء والاموال والفروج مما ثبت نهي الشارع عن اقتحام شبهاتها حذراً من الوقوع في مفاسدها ـ تستدعي عقاباً على المخالفة حتى مع عدم مصادفة الشبهة للواقع ، ولكن من باب التجري أو ما يشبهه ـ لو قلنا باستحقاق العقاب عليه ـ لا من باب مخالفة الحكم الواقعي إذ لا مخالفة كما هو الفرض .

خلاصة وتعقيب : والخلاصة ان جل من تعرفنا عليهم من الاصوليين ـ شيعة وسنة ـ باستثناء بعض محققيهم من المتأخرين ، هم من القائلين بفتح الذرائع وسدها وإن لم يتفقوا في حدود ما يأخذون منها وما يتركون ، يقول الاستاذ سلام : " الواقع ان الفقهاء جميعاً يأخذون بأصل الذرائع مع اختلاف في مقدار الاخذ به وتباين في طريقة الوصول الى الحكم ، إذ المشاهد في أحكام الفروع ان أكثر الفقهاء يعطي الوسيلة ـ الذريعة ـ حكم الغاية اذا تعينت الوسيلة لهذه الغاية ، أما اذا لم تتعين طريقاً لها ، فالمشهور عن الامام مالك انها تعتبر أصلاً للاحكام ، ويقرب منه في ذلك الامام احمد ، وتبعهما ابن تيمية وابن القيم " (20) .

والذي يقتضي التعقيب عليه ـ بعد التغافل عن صلاحية ما استدلوا به من الادلة على المبنى ـ هو اعتبار سد الذرائع وفتحها أصلاً في مقابل بقية الاصول مع

انها لا تعدو كونها من صغريات السنة أو العقل .

لان اكتشاف حكم المقدمة اما ان يستفاد من العقل بقاعدة الملازمة ، بمعنى ان العقل يحكم بوجود ملازمة بين الحكم على شيء والحكم على مقدمته ، فإذا علمنا ان الشارع قد حكم على ذي المقدمة بالوجوب فقد علمنا بحكمه على المقدمة كذلك ، وعندها تكون من صغريات حكم العقل وليست أصلاً برأسه ، واما ان يستفاد من طريق الملازمة اللفظية أي من الدلالة الالتزامية لادلة الاحكام ، كما هو مبنى فريق ، بدعوى ان اللفظ الدال على وجوب الصلاة هو بنفسه يدل على لازمه وهو وجوب مقدماتها ، وعليها يكون وجوب المقدمات مدلولاً للسنة ، فتكون المسألة من صغريات دليل السنة ، وقد عرفت ان الادلة السمعية التي ساقها ابن القيم على كونها أصلاً لا تعدو ان تكون إرشادية لحكم العقل بالملازمة .

فقول مالك واحمد وابن تيمية وابن القيم : انها من أصول الاحكام في مقابل بقية الاصول ، لا يتضح له وجه .

البابُ الاول

القسم التاسع

العُرف تعريف العرف : ذكروا للعرف تعريفات متعددة ، لا يخلو أكثرها من بعد عن الفن نعرض نماذج منها :

فقد عرفه الجرجاني بقوله : " العرف ما استقرت النفوس عليه بشهادة العقول ، وتلقّته الطبايع بالقبول " (21) .

وعرّفه الاستاذ علي حيدر في شرحه للمجلة عندما عرّف العادة بقوله : " هي الامر الذي يتقرر بالنفوس ويكون مقبولاً عند ذوي الطباع السليمة بتكراره المرة بعد المرة ثم قال : والعرف بمعنى العادة " (22) .

وقريب منهما تعريف ابن عابدين له (23) .

ويرد على هذه التعاريف أخذها شهادة العقول وتلقي الطباع له بالقبول في مفهومه ، مع ان الاعراف تتفاوت وتختلف باختلاف الازمنة والامكنة ، فهل تختلف العقول والطباع السليمة معها أم ماذا ؟ ثم ان قسماً من الاعراف أسموها بالاعراف الفاسدة ، فهل ان هذه الاعراف مما تقبلها العقول والطباع السليمة ؟! وكيف يتسع التعريف لها وهي مجانبة للسليم من الطباع ؟ مع أنهم جميعاً يذكرون في تقسيماته انقسامه الى فاسد وصحيح ، الى غير ذلك مما يرد عليها .

ولعل أقرب تعريفاته التي ذكروها الى الفن ما ورد على لسان الاستاذ خلاف من ان " العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك ثم قال : ويسمى العادة " (24) .

الفرق بينه وبين الاجماع : ان الاجماع لا ينعقد إلا باتفاق الامة أو مجتهديها أو مجتهدي مذهب معين على اختلاف في المباني سبق عرضه ، ولكن عنصر الاتفاق مأخوذ فيه ، بينما لا يؤخذ في العرف هذا العنصر بل يكفي فيه سلوك الاكثرية ، ويشترك في هذا السلوك المجتهدون وغيرهم بما فيهم العامة والخاصة ، والقارئون منهم والامّيون ، فهو أقرب الى ما سبق ان سميناه بالسيرة .

تقسيماته : وقد ذكروا له تقسيمات متعددة نعرض أهمها :

أ ـ تقسيمه الى عام وخاص : 1 ـ العرف العام : ويراد به العرف الذي يشترك فيه غالبية الناس على اختلاف في أزمانهم وبيئاتهم وثقافاتهم ومستوياتهم ، فهو أقرب الى ما أسموه ببناء العقلاء . وينتظم في هذا القسم كثير من الظواهر الاجتماعية العامة وغيرها ، أمثال رجوع الجاهل الى العالم ، وعدم نقض اليقين بالشك ، وعادة التدخين .

2 ـ العرف الخاص : وهو العرف الذي يصدر عنه فئة من الناس تجمعهم وحدة من زمان معين أو مكان كذلك أو مهنة خاصة أو فن ، كالاعراف التي تسود في بلد أو قطر خاص ، أو تسود بين أرباب مهنة خاصة أو علم أو فن ; ويدخل في هذا القسم كثير من

عوالم استعمال الالفاظ وإعطائها طابعاً خاصاً له تميزه عند اهل ذلك العرف ، وقسم من المعاملات التي يتميزون بها عن غيرهم من اهل الاعراف الاخر ، كما ينتظم في هذا أنواع السلوك التي تتصل بآداب اللياقة وأصول المعاشرة .

ب ـ تقسيمه الى عرف عملي وقولي : 1 ـ العرف العملي : وأرادوا به العرف الذي يصدرون عنه في قسم من أعمالهم الخاصة ، كشيوع البيوع المعاطاتية في بعض البيئات .

2 ـ العرف القولي : وهو الذي يعطي الالفاظ عندهم معاني خاصة تختلف عن مداليلها اللغوية ، وعن مداليلها عند الاخرين من أهل الاعراف ، كاطلاق العراقيين لفظة الولد على خصوص الذكر بينما يطلق في اللغة على الاعم من الذكر والانثى .

ج ـ تقسيمه الى الصحيح والفاسد : 1 ـ العرف الصحيح : " وهو ما تعارفه الناس وليست فيه مخالفة لنص ولا تفويت مصلحة ولا جلب مفسدة ، كتعارفهم اطلاق لفظ على معنى عرفي له غير معناه اللغوي ، وتعارفهم وقف بعض المنقولات ، وتعارفهم تقديم بعض المهر وتأجيل بعضه ، وتعارفهم أن ما يقدمه الخاطب الى خطيبته من ثياب وحلوى ونحوها يعتبر هدية وليس من المهر " (25) .

2 ـ العرف الفاسد : وهو الذي يتعارف بين قسم من الناس ، وفيه مخالفة للشرع كتعارفهم بعض العقود الربوية ، أو لعب الشطرنج ، أو ارتياد الملاهي ، وشرب المسكرات وغيرها مما علم من الشارع المقدس الردع منه .

مجالات العرف : ومجالات العرف التي تقع ضمن نطاق حديثنا ثلاثة :

1 ـ ما يستكشف منه حكم شرعي فيما لا نص فيه ، مثل الاستصناع وعقد الفضولي .

وانما يكشف منه مثل هذا الحكم بعد إثبات كونه من الاعراف العامة التي تتخطى طابع الزمان والمكان لنستطيع ان نبلغ بها عصر المعصومين ونضمن إقرارهم لها لتصبح سنة بالاقرار ; ويدخل ضمن هذا المجال كل ما قامت عليه سيرة المتشرعة أو بناء العقلاء ، أو قل كلما كان من الاعراف العامة التي تتسع بمدلولها لمختلف الازمنة والامكنة بما فيها عصر المعصومين .

2 ـ ما يرجع اليه لتشخيص بعض المفاهيم التي أوكل الشارع أمر تحديدها الى العرف مثل لفظ الاناء والصعيد ، ونظائرها مما أخذ موضوعاً في ألسنة بعض الادلة .

والظاهر ان بعض الاحكام إنما وردت على موضوعات عرفية فتشخيص مثل هذه الموضوعات مما يرجع به الى العرف . وفي هذا القسم نرى تفاوت الاحكام بتفاوت موضوعاتها الناشئ من اختلاف الاعراف باختلاف الازمنة والبيئات ، فمصاريف الزكاة التي ذكرتها الاية المباركة أكثر مواضيعها عرفية .

فالفقير ـ وهو من لا يملك قوت سنة قوّة أو فعلاً ـ تتفاوت مصاديقه بتفاوت الاعراف في تحديد القوت ، وفي سبيل الله يتفاوت بتفاوت درجة حضارة الامة ومستواها ، فالامة التي تحتاج الى صنع مركبة فضائية ـ مثلاً ـ لضروراتها الحضارية التي لا تتنافى مع الشريعة ، أو التي تستخدم لخدمة الدين وتركيز مبادئه كالتي تستعمل في البث التلفزي اذا استخدمت برامجه في خدمة الانسان ورفع مستواه الخلقي والاجتماعي الى ما تريده له الشريعة في تعاليمها الخالدة ، أقول : هذه الامة ـ فيما أتخيل ـ لا تخرج في صنعها لها على موضوع ( سبيل الله ) المأخوذ في مصاريف الاموال الزكوية ، والمقياس فيه هو سد حاجة عامة مشروعة ، فما انتظم في هذا العنوان كان سبيلاً لله وهكذا ...

3 ـ المجال الذي يرجع اليه لاستكشاف مرادات المتكلمين عندما يطلقون الالفاظ سواء كان المتكلم هو الشارع أم غيره ، وينتظم في هذا القسم بالنسبة الى استكشاف مرادات الشارع ما يرجع الى الدلالات الالتزامية بالنسبة لكلامه اذا كان منشأ الدلالة الملازمات العرفية ، كحكم الشارع مثلاً بطهارة الخمر اذا انقلب الى خل الملازم عرفاً للحكم بطهارة جميع أطراف إنائه ، كما ينتظم فيها كلما يصلح ان يكون قرينة على تحديد المراد من كلامه ، وهكذا ...

أما بالنسبة الى استكشاف مرادات غيره فيدخل ضمن هذا القسم منه كلما يرجع الى أبواب الاقرارات والوصايا والشروط والوقوف وغيرها ، اذا استعملت بألفاظ لها دلالاتها العرفية ، سواء كان العرف عاماً أم خاصاً .

هل العرف أصل ؟ ومن هذه المجالات يستكشف أن العرف ليس أصلاً بذاته في مقابل الاصول .

أما ما يتصل بالمجال الاول فواضح لرجوعه الى السنة بالاقرار ، لان المدار في

حجيته هو إقرار الشارع له ، لبداهة أن العرف لا يكسبنا قطعاً بجعل الحكم على وفقه ، فلا بد من رجوعه الى حجة قطعية ، وليست هي إلا اقرار الشارع أو امضاءه له ، والامضاء إنما قام على أحكام عرفية خاصة لا على أصل العرف .

فالشارع أمضى الاستصناع أو عقد الفضولي مثلاً ، وهما حكمان عرفيان ، ولم يمض جميع ما لدى العرف من أحكام ، بل لم يمض أصل العرف كما يتوهم ليكون أصلاً في مقابل السنة لعدم الدليل على هذه التوسعة .

أما المجالان الاخران ، فلا يزيد أمرهما على تشخيص صغريات السنة حكماً أو موضوعاً ، وقد مضى القول منا أن كل ما يتصل بتشخيص الصغرى لمسألة أصولية ، فهو ليس من الاصول بشيء ، فعد العرف أصلاً في مقابل الاصول لا أعرف له وجهاً .

حجيته وأدلتها : وما ذكر من أدلة حجيته لا يصلح لاثبات ذلك ، والادلة التي ساقوها على الحجية هي :

1 ـ رواية عبدالله بن مسعود السابقة : " ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن "(26)، وقد استدل السرخسي بها في ( المبسوط ) على ذلك ، يقول : " وتعامل الناس من غير نكير أصل من الاصول كبير ، لقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : ( ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ) ، كما استدل ابن الهمام بها على ذلك " (27) .

ويرد على هذا الاستدلال : ما سبق ان أوردناه على الرواية من كونها مقطوعة ، واحتمال أن تكون كلاماً لابن مسعود لا رواية عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وهي لا تصلح للحجية ، بالاضافة الى ان العرف لا علاقة له بعوالم الحسن لعدم ابتنائه عليها غالباً ، وما أكثر الاعراف غير المعللة لدى الناس ، والمعلل منها ـ أي الذي

يدرك العقل وجه حسنه ـ نادر جداً ، فالاستدلال ـ لو تم ـ فهو أضيق من المدعى ، وحتى في هذه الحدود الضيقة ، لا يجعله أصلاً مستقلاً وإنما يكون من صغريات حكم العقل لما مرّ من أن هذا الحديث لا يزيد على كونه تأكيداً لحكم العقل ، أو أنه من أدلة الاجماع ، فتكون المسألة على تقديرها من صغريات حجية الاجماع .

2 ـ قولهم : " إن الشارع الاسلامي في تشريعه راعى عرف العرب في بعض أحكامه فوضع الدية على العاقلة واشترط الكفاءة في الزواج ... الخ " (28) .

والجواب عنه : إن الشارع لم يراع العرف بما أنه عرف ، وإنما وافقت أحكامه بعض ما عند العرف فأبرزها بطريق الاقرار ، ولذلك اعتبرنا إقراره سنة ، وفرق بين أن يقر حكماً لدى أهل العرف لموافقته لاحكامه وبين أن يعتبر نفس العرف أصلاً يرجع اليه في الكشف عن الاحكام الواقعية ، فما أقره من الاحكام العرفية يكون من السنة وليس أصلاً برأسه في مقابلها .

3 ـ قولهم : " إن ما يتعارفه الناس من قول أو فعل يصير من نظام حياتهم ومن حاجاتهم ، فاذا قالوا أو كتبوا فإنما يعنون المعنى المتعارف لهم ، واذا عملوا فإنما يعملون على وفق ما تعارفوه واعتادوه ، وإذا سكتوا عن التصريح بشيء فهو اكتفاء بما يقضي به عرفهم ; ولذا قال الفقهاء : المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً . وقالوا : إن الشرط في العقد يكون صحيحاً اذا اقتضاه العقد وورد به الشرع أو جرى به العرف " (29) .

وهذا الدليل لا أعرف له محصلاً ، فكون ما يتعارفه الناس يصبح من نظام حياتهم لا يصلح دليلاً لاستكشاف الحكم الشرعي منه ، وليس عندنا من الادلة ما يسمى بنظام الحياة ، والذي نعرفه من أنظمة الحياة التي تعارف عليها الناس ان بعضها ممضىً في الاسلام فهو حجة ، وبعضها غير ممضىً فهو ليس بحجة ولا يسوغ

الركون اليه ، وكم من العادات والاعراف التي كانت سائدة في الجاهلية قد استأصلت في الاسلام وبعضها مجهول الحال لعدم الدليل عليه نفياً أو إثباتاً ، ومثل هذا محكوم بالاباحة الظاهرية .

هذا اذا أريد من العرف العرف في مجاله الاول ، أي العرف الذي يراد معرفة حكم الشارع منه ، أما اذا أريد منه العرف في مجاليه الاخرين ـ أعني ما أوكل الشارع تحديد موضوعاته إليه ، أو ما استكشف منه مرادات المتكلمين ـ فهو وان كان حجة ـ بمعنى انه المرجع لتحديد المراد أو تشخيص الموضوع ـ إلا أنه لا يشكل كبرى كلية تقع في طريق الاستنباط ليكون أصلاً في مقابل الاصول ، وإنما وظيفته تنقيح الصغريات لموضوع الحكم الكلي ، أو الصغريات لقياس الاستنباط ، وحال الثالث منه في بعض صوره حال مباحث الالفاظ في تنقيح الظهور للسنة أو الكتاب .

ولعل مراد العلامة الشيخ ابراهيم الرياحي التونسي من قوله : " والعرف المعتبر هو ما يخصص العام ويقيد المطلق " (30) ، هو هذا القسم ـ أعني خصوص الذي يستكشف منه مرادات الشارع فيما يصلح ان يكون قرينة عليها .

وبهذا ندرك أنه لا موضع للاطلاق في أمثال هذه الكلمات التي اشتهرت على ألسنة كثير من الفقهاء والحقوقيين :

" العرف في الشرع له اعتبار " .

" العرف شريعة محكمة " .

" التعيين بالعرف كالتعيين بالنص " .

" الثابت بالعرف كالثابت بالنص " .

" العادة محكمة " .

وأمثالها من التعميمات التي لا تستند بعمومها على أساس .

البابُ الاول

القسم العاشر

شرع من قبلنا تعريفه : يراد بشرع من قبلنا : هو خصوص الشرائع التي أنزلها الله عز وجل على أنبيائه وثبت شمولها في وقتها لجميع البشر ، كاليهودية والمسيحية .

الخلاف في حجيته : والذي يبدو من مجموع ما رأيته ان هناك فروضاً متعددة في المسألة ـ ولعلها أقوال أيضاً ـ بعضها يذهب الى انها شرع لنا مطلقاً إلا ما ثبت نسخه في شريعتنا منها ، وبعضها يرى أنها ليست بشرع لنا مطلقاً ، وأن النسخ مسلط عليها جملة وتفصيلاً " بحيث لو كان حكم في الشريعة اللاحقة موافقاً لما في الشريعة السابقة ، لكان الحكم المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلاً للحكم المجعول في الشريعة السابقة ، لابقاءً له ، فيكون مثل إباحة شرب الماء الذي هو ثابت في جميع الشرائع ، مجعولاً في كل شريعة مستقلاً ، غاية الامر أنها أحكام متماثلة " (31) .

وفحوى القول الثالث هو : " ان ما قصه علينا الله ورسوله من أحكام الشرائع السابقة ولم يرد في شرعنا ما يدل على انه مكتوب علينا كما كتب عليهم ، أو أنه مرفوع أو منسوخ ، كقوله تعالى : ) من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً ( (32) وقوله تعالى : ) وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس والعين بالعين والانف بالانف والاذن بالاذن والسن بالسن والجروح قصاص ( (33) ، شرع لنا وعلينا اتباعه وتطبيقه ما دام قد قص علينا ولم يرد في شرعنا ما ينسخه " (34) ، وقد حكي هذا القول عن

جمهور الحنفية وبعض المالكية والشافعية (35) .

أدلة المثبتين : وقد استدل المثبتون مطلقاً بآيات من كتاب الله تعالى فحواها : اعتبار الشرائع السابقة شريعة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، أمثال قوله تعالى : ) اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ( (36) ، وقوله تعالى : ) ثم أوحينا اليك ان اتبع ملة ابراهيم حنيفاً ( (37) ، وقوله سبحانه : ) شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً ( (38) ، وقوله تعالى : ) إنا أنزلنا التوراة فيها هدىً ونور يحكم بها النبيون ( (39) .

كما استدلوا باستشهاد النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في مقام التشريع بأحكام وردت في شريعة سابقة ، كاستشهاده في أثناء قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها اذا ذكرها " ، بقوله تعالى : ) وأقم الصلاة لذكري ( (40) ، وهو خطاب مع موسى(عليه السلام) ، إلى غير ذلك من الاحاديث (41) .

وهذه الادلة ـ لو تمت دلالتها ، وسلمت من مناقشات الغزالي لها حين عرضها في هذا المبحث ، وبعضها لا يخلو من أصالة ـ انها لا تدل على أكثر من إقرار أصل تلكم الشرائع .

ولكن إقرار أصل الشرائع لا ينفعنا في مجالاتنا الخاصة ، لان أصل الشرائع السابقة ليست موضعاً لابتلائنا اليوم لاختفاء معالمها الاساسية عنا .

واذا أردنا ان نتكلم ـ باسم الفن ـ قلنا ان طرو :

العلم الاجمالي بالتحريف : عليها يمنع من الاخذ بظواهرها جميعاً ، وتقريبه انا نعلم أن هذه الشرائع المتداولة ليست هي الشرائع بكامل خصوصياتها لتناقض مضامين كل شريعة

على نفسها ، وانتشار السخف في قسم من محتوياتها ، وابتعاد أكثرها من كونها نظاماً للحياة ، وهو الاساس لكل رسالة سماوية مما يدل إجمالاً على طرو التحريف عليها .

والعلم الاجمالي بالتحريف يمنع من الاخذ بظواهرها جميعاً ، لان كل طرف نمسكه نحتمل طرو التحريف عليه ، وأصالة عدم التحريف لا تنفع في هذا المجال لعدم جريان الاصول في أطراف العلم الاجمالي المنجز كما يأتي تقريبه في مباحث الاحتياط ، أو لتساقطها ، وليس لهذا العلم ما يحله لدينا لنرجع اليه .

نعم ، اذا تم ذلك الاستدلال ـ أعني استدلال المثبتين ـ وتمت مناقشاتنا له فإن رأي جمهور الحنفية السابق يكون من أمتن الاراء وأقواها ، لان ما حكي من الشرائع في الكتاب العزيز لا يحتمل فيه التحريف ، فهو صحيح النسبة لها ، واذا تمت حجيتها ـ بالاقرار من قِبل شريعتنا لاصل الشرائع ـ فقد تم حجية ما صح عنها ، وعلينا اتباعه على كل حال .

أدلة النفاة : وأهم ما استدل به نفاة حجية الشرائع السابقة ثلاثة أدلة :

أولها : حديث معاذ السابق وهو : " أنه(صلى الله عليه وآله وسلم) لما بعث معاذاً الى اليمن ( قال له : بم تحكم ؟ قال : بالكتاب والسنّة والاجتهاد ) ولم يذكر التوراة والانجيل ، وشرع من قبلنا ، فزكاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وصوبه ، ولو كان ذلك من مدارك الاحكام لما جاز العدول الى الاجتهاد إلا بعد العجز عنه " (42) .

وهذا الاستدلال متين جداً لو لم تكن رواية معاذ من الموضوعات عليه ، وقد سبق أن ناقشناها ونظائرها في مبحث القياس فلا نعيد (43) .

ثانيها : " ان ذلك لو كان مدركاً لكان تعلمها ونقلها وحفظها من فروض

الكفايات كالقرآن والاخبار ، ولرجعوا اليها في مواضع اختلافهم ، حيث أشكل عليهم كمسألة العول ، وميراث الجد ، والمفوضة ، وبيع أم الولد ، وحد الشرب ، والربا في النسيئة ، ومتعة النساء ، ودية الجنين ، وحكم المكاتب إذا كان عليه شيء من النجوم ، والرد بالعيب بعد الوطء ، والتقاء الختانين ، وغير ذلك من أحكام لا تنفك الاديان والكتب عنها ، ولم ينقل عن واحد منهم مع طول أعمارهم وكثرة وقائعهم واختلافاتهم مراجعة التوراة ، لا سيما وقد اسلم من احبارهم من تقوم الحجة بقولهم ، كعبدالله بن سلام ، وكعب الاحبار ، ووهب ، وغيرهم ، ولا يجوز القياس إلا بعد اليأس من الكتاب ، فكيف يحصل القياس قبل العلم ؟" (44) .

وهذا الاستدلال كسابقه من أمتن الادلة التي يمكن ان تساق في هذا المجال للقطع بمضمونه ، بل ربما حوّل المسألة الى كونها من الضروريات ، إلا أنه لا ينفي إقرار أصل الشرائع السابقة كما لا ينفي صحة ما ذهب اليه جمهور الحنفية ، وغاية ما ينفيه عدم الرجوع الى الكتب المتداولة للشرائع وهي مما يعلم بدخول التحريف عليها ، فلا تكون حجة . نعم اذا تم ما ادعاه بعد ذلك من " اطباق الامة على ان هذه الشريعة ناسخة لها " بطل القولان السابقان ، إلا ان الاشكال في تحقق هذا الاجماع مع كثرة الخلاف في المسألة من أفراد الامة ، ولا أقل من جمهور الحنفية وغيرهم المانع من انعقاد اجماعها .

الاصل العملي : وهو إنما يرجع اليه عند العجز عن تحصيل الادلة الكاشفة عن الحكم الواقعي وتركز الشك ، وقد تمسك بعضهم بالاستصحاب عند الشك في ارتفاع حكم ثبت في الشريعة السابقة بادعاء العلم بثبوته ، والشك بارتفاعه بالنسخ بالنسبة الينا ، فحكم ببقائه أخذاً بالرواية الشريفة : " لا تنقض اليقين بالشك " (45) .

وأهم ما ذكر في مناقشته ما عرضه بعض أساتذتنا " من ان النسخ في الاحكام الشرعية إنما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحكم ، لان النسخ بمعنى رفع الحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقه سبحانه وتعالى .

وقد ذكرنا غير مرة ان الاهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت غير معقول ، فإما ان يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره الى الابد وإما ان يجعله ممتداً الى وقت معين .

وعليه فالشك في النسخ شك في سعة المجعول وضيقه من جهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور ، وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة ، فإن الشك في نسخها شك في ثبوت التكليف بالنسبة الى المعدومين لا شك في بقائه بعد العلم بثبوته ، فإن احتمال البداء مستحيل في حقه تعالى ، فلا مجال حينئذ لجريان الاستصحاب .

وتوهم أن جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية ينافي اختصاصها بالموجودين ، مدفوع بأن جعل الاحكام على نحو القضايا الحقيقية معناه عدم دخل خصوصية الافراد في ثبوت الحكم لا عدم اختصاص الحكم بحصة دون حصة ، فإذا شككنا في أن المحرم هو الخمر مطلقاً أو خصوص الخمر المأخوذ من العنب ، كان الشك في حرمة الخمر المأخوذ من غير العنب شكاً في ثبوت التكليف ، ولا مجال لجريان الاستصحاب معه .

والمقام من هذا القبيل ، فإنا نشك في أن التكليف مجعول لجميع المكلفين ، أو هو مختص بمدركي زمان الحضور فيكون احتمال التكليف بالنسبة الى غير المدركين شكاً في ثبوت التكليف لا في بقائه " (46) .

وكذلك الامر بالنسبة الى من لم يدرك منا زمان ما قبل رسالتنا أي زمن ( شرع من قبلنا ) .

الخـلاصة : والخلاصة ان الادلة اللفظية لو تمت حجيتها على إقرار الشرائع السابقة فهي إنما تدل على أصلها لا على كتبها المتداولة ، والعلم الاجمالي في طرو التحريف على الاصل يمنع من التمسك بظواهر جميع أطرافها لاحتمال طروّ النقص أو الزيادة على كل منها ، ولا مدفع لهذا الاحتمال من أصل أو غيره لعدم جريانها في أطراف العلم الاجمالي أو جريانها وتساقطها للمعارضة على اختلاف في المبنى .

نعم لا يبعد تمامية ما ذهب اليه جمهور الحنفية وغيره لجمعه بين ما دل على أصل الامضاء للشرائع السابقة وما يقتضيه العلم الاجمالي من عدم حجية ظواهر ما دل على أحكام الشرائع السابقة من كتبها المنزلة ، لان ما نقل منها في الكتاب العزيز لا تدخله شبهة التحريف فيكون هو الحجة وحده .

وعلى أي حال ، كون هذه الكتب المتداولة ليست حجة بالنسبة الينا يقتضي ان يكون من الضروريات فلا حاجة لاطالة الكلام فيها .

ملاحظة : لاحظنا أن أكثر الباحثين في شرع من قبلنا بدأوا أحاديثهم في التساؤل عن ان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) هل كان متعبداً بشريعة من الشرائع التي سبقته ؟ وأيها هي ؟

وأطالوا التحدث في الاجابة على هذا التساؤل والتماس الادلة له ـ كل من زاويته الخاصة ـ ولكننا رأينا أن الدخول في هذا الحديث لا يرتبط برسالتنا ـ كمقارنين ـ لعدم ترتب أية ثمرة عملية على هذا الاختلاف ، وما أصدق ما قاله إمام الحرمين :

" هذه المسألة لا تظهر لها فائدة بل تجري مجرى التواريخ المنقولة " (47) ، ووافقه المازري والماوردي وغيرهما ، يقول الشوكاني : " وهذا صحيح ، فإنه لا يتعلق بذلك فائدة باعتبار هذه الامة ، ولكنه يعرف به في الجملة شرف تلك الملة التي تعبد بها وفضّلها على غيرها من الملل المتقدمة عى ملته " (48) وهي كما ترون ، ثمرة غير عملية بالنسبة الينا .

(1) الموافقات : 4/199 .

(2) المدخل للفقه الاسلامي : ص266 .

(3) المصدر السابق .

(4) المصدر السابق .

(5) اعلام الموقعين : 3/147 .

(6) اعلام الموقعين : 3/148 .

(7) المصدر السابق : 3/147 .

(8) المصدر السابق : 3/148 .

(9) المدخل للفقه الاسلامي : ص269 .

(10) نهاية الدراية : 1 / 212 .

(11) حقائق الاُصول : 1 / 241 وما بعدها .

(12) اجود التقريرات : 1 / 174 وما بعدها .

(13) سورة الانعام : الاية 108 .

(14) سورة النور : الاية 31 .

(15) أعلام الموقعين : 3/148 .

(16) راجع : ص58 من هذا الكتاب .

(17) أصول الفقه : 2/85 .

(18) أجود التقريرات : 1/248 .

(19) المصدر السابق : 1/250 .

(20) المدخل للفقه الاسلامي : ص270 .

(21) سلم الوصول : ص317 .

(22) المصدر السابق .

(23) المصدر السابق .

(24) علم أصول الفقه لخلاف : ص99 .

(25) مصادر التشريع الاسلامي : ص124 .

(26) مسند أحمد : مسند المكثرين من الصحابة ، الحديث : 3418 . وفيه : " فما رأى المسلمون ... " .

(27) سلم الوصول : ص322 نقلا عنهما .

(28) مصادر التشريع : ص124 .

(29) المصدر السابق ، والظاهر أن الاستدلال به كسابقه للاستاذ خلاف .

(30) مصادر التشريع : ص125 .

(31) مصباح الاصول : ص149 .

(32) سورة المائدة : الاية 32 .

(33) سورة المائدة : الاية 45 .

(34) علم أصول الفقه لخلاف : ص105 .

(35) المصدر السابق .

(36) سورة الانعام : الاية 90 .

(37) سورة النحل : الاية 123 .

(38) سورة الشورى : الاية 13 .

(39) سورة المائدة : الاية 44 .

(40) سورة طه : الاية 14 .

(41) اقرأ ذلك في المستصفى : 1/134 وما بعدها .

(42) المستصفى : 1/133 .

(43) راجع : ص287 وما بعدها من هذا الكتاب .

(44) المستصفى : 1/134 ، والامثلة التي ذكرها لا يخلو بعضها من مناقشة لورود النص فيه ، اقرأ ما كتبه المؤلف عن المتعة في كتابه ( الزواج الموقت ودوره في حل مشاكل الجنس ) طبعة دار الاندلس ، وما كتبه الامام شرف الدين في النص والاجتهاد . ( المؤلف ) .

(45) وسائل الشيعة : 1 : 245 ، الحديث 631 .

(46) مصباح الاصول : 148 تقريراً لاراء المحقق الخوئي(قدس سره) .

(47) إرشاد الفحول : ص239 .

(48) المصدر السابق .

/ 19