بیشترلیست موضوعاتالمقدمةبحوث تمهيدية الفقه المقارنأصول المقارنةأصول الاحتجاجأصول الفقه المقارن الغاية من أصول الفقه المقارن مباحث الحكممنهج البحثالباب الاول:الكتاب العزيز القسم الثاني: السنّة تعريف السنة في اللغة ب ـ سنة الصحابة ج ـ سنة أهل البيتالطرق القطعية إلى السنة هـ ـ الطرق غير القطعية إلى السنة و ـ السنة وكيفية الاستفادة منها ز ـ السنة والكتابالقسم الثالث: الاجماع القسم الرابع: دليل العقل القسم الخامس: القياس القسم السادس: الاستحسان القسم السابع: المصالح المرسلة القسم الثامن: فتح الذرائع وسدها القسم التاسع: العرف القسم العاشر: شرع من قبلنا القسم الحادي عشر: مذهب الصحابي الباب الثانيالاستصحابالقسم الاول: البراءة الشرعية القسم الثاني: الاحتياط الشرعي القسم الثالث: التخيير الشرعيالقسم الاول: البراءة العقلية القسم الثاني: الاحتياط العقلي القسم الثالث: التخيير العقلي الباب الخامسالقرعةخاتمة المطافالقسم الاول: الاجتهاد ـ تعريفه الاجتهاد: أقسامه ومعداته الاجتهاد: تجزي الاجتهاد وعدمه الاجتهاد: مراتب المجتهدين الاجتهاد: بين الانسداد والانفتاح الاجتهاد: أحكام المجتهد الاجتهاد: التخطئة والتصويب الاجتهاد: نقض الاجتهاد وعدمه القسم الثاني: التقليد: مفهومه وحجيته التقليد: اعتبار الحياة في المقلد التقليد: اعتبار الاعلمية في المقلد التقليد: اعتبار العدالة في المقلد ختام الحديثطبيعة ما رجعت إليه من مصادر وظيفة الكتابالفهارستوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 487 الي 520 البابُ الثالثالقسم الثالثالتخيير الشرعي تحديده : ويراد به جعل الشارع وظيفة اختيار إحدى الامارتين للمكلف عند تعارضهما وعدم إمكان الجمع بينهما ، أو ترجيح إحداهما على الاخرى بإحدى المرجحات التي عرضناها سابقاً . التخيير الشرعي وظيفة : وكون التخيير الذي نتحدث عنه وظيفة شرعية لا حكماً شرعياً ، يتضح أمره اذا علمنا ان جعل التخيير ، عند تعارض الامارتين ، لا يكشف عن وجود مصلحة في متعلق الجعل ليكون من سنخ الاحكام ، وإنما جعل لرفع الحيرة فقط ، واختيار المكلف لاحداهما لا يسري الى الواقع فيغيره عما هو عليه . التخيير والواجب المخير : وهذا التخيير غير الواجب المخير الذي سبق التحدث عنه في بحوث التمهيد ، لان ذلك من الاحكام لبداهة ان كلاً من فردي التخيير هناك ـ وهو الذي وجه اليه التكليف على سبيل البدل ـ فيه مصلحة توجب جعل الحكم على وفقها بخلافه هنا ، فإن كلاً من فردي التخيير لا يعلم وجود المصلحة فيه ، وإنما المصلحة في متعلق إحدى الامارتين فحسب ، لافتراض التناقض بينهما ، وصدور واحدة منهما دون الاخرى ، والمصلحة إنما هي في نفس الجعل لا في المتعلق ، وهي لا تتجاوز مصلحة التيسير . التخيير ومقتضى الاصل : وجعل التخيير هنا على خلاف مقتضى الاصل ، لاقتضائه التساقط في المتعارضين . لان دليل الحجية بالنسبة للخبرين المتعارضين لا يخرج عن أحد ثلاثة فروض :1 ـ ان يفترض شموله لهما معاً ، وهذا مستحيل بالبداهة ، لاستحالة ان يتعبدنا الشارع بالمتناقضين .2 ـ ان يفترض شموله لاحدهما دون الاخر ، وتعيينه بالذات ترجيح لاحد المتساويين على الاخر من دون مرجح .3 ـ ان يقال بعدم شموله لهما معاً ، وهذا هو الذي يتعين الاخذ به .وادعاء أن أحدهما حجة واقعاً لحكايته عن الواقع لا يخلو من مغالطة ، لان المدار في الحجية على العلم بها ، لان العلم مقوم للحجية ، كما سبق بيانه ، لا على وجودها الواقعي .ومع فرض جهالتنا به من بينهما لا يكون حجة علينا حتماً ، وقد تخيل بعض الاصوليين : " ان مقتضى الاصل عند التعارض هو التخيير ، لان كلاً من المتعارضين محتمل الاصابة للواقع ، وليس المانع من شمول دليل الاعتبار لكل منهما إلا لزوم التعبد بالمتناقضين .وهذا المحذور يندفع برفع اليد عن اطلاق دليل الاعتبار بالنسبة الى كل منهما بتقييده بترك الاخذ بالاخر " (1) .وأجيب على هذا بأن الاخذ بكل منهما عند ترك الاخر لا يرفع محذور التعبد بالمتناقضين ، لان لازم جعل الحجية لكل منهما عند ترك الاخر هو جعل الحجية لهما عند ترك الاخذ بهما معاً لصدق القيدين ، ومقتضاه هو التعبد بهما بما ينطويان عليه من التناقض .وهناك توجيه آخر للتخيير فحواه دعوى امكان تقييد الحجية في كل منهما بالاخذ به ، ونتيجة ذلك هو التخيير لتمكنه من الاخذ بأيهما شاء .ولكن لازم هذا التوجيه ان لا يكون كل منهما حجة عند عدم الاخذ بهما ، وهو ما لا يلتزم به الموجه حتماً .على ان علمنا بكذب احدى الامارتين بحكم ان الواقع الواحد لا يتحمل صدق حكايتين متناقضتين يحول التخيير الى تخيير بين حجة ولا حجة ، لو صح صدق التعبير بالحجة في هذا المجال . أدلة التخيير ومناقشتها : ولكن القائل بالتخيير استند الى روايات عدة جلها أجنبي عن مقام التعارض المصطلح ، على ان قسماً منها مناقش فيه سنداً ، نذكر نماذج منها :1 ـ ما رواه أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ، عن الحسن بن الجهم ، " عن الرضا(عليه السلام) قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ، ولا نعلم أيهما الحق . قال(عليه السلام) : فاذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت " (2) .ودلالة هذه الرواية وافية جداً إلا أنها مرمية بالضعف لارسالها .2 ـ ومثلها مرسلة الكافي " بأيهما اخذت من باب التسليم وسعك " (3) استدلالاً وجواباً .3 ـ ما رواه الشيخ باسناده عن احمد بن محمد ، عن العباس بن معروف ، عن علي بن مهزيار قال : " قرأت في كتاب لعبد الله بن محمد الى أبي الحسن(عليه السلام): اختلف أصحابنا في رواياتهم عن ابي عبدالله(عليه السلام) في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : صلهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلهما إلا على الارض ، فوقّع(عليه السلام) : موسع عليك بأية عملت " (4) .وهذه الرواية لا دلالة لها على أكثر من التخيير في افراد الكلي ، لان كلاً من الصلاتين صحيحة ومحققة للغرض ، والتخيير بين أفراد الكلي سواء كان عقلياً أم شرعياً لا محذور فيه ، والمطلقات كلها من هذا القبيل .وإن شئت أن تقول ان هذه الانواع من الروايات ليست متعارضة في واقعها ، وإن تخيلها الرواي كذلك ، والامام لم يصنع اكثر من تنبيهه على إمكان الجمع بينها بمفاد ( أو ) ، والكلام إنما هو في الروايات المتعارضة .4 ـ ما رواه الكليني بسنده عن سماعة ، عن أبي عبدالله(عليه السلام) قال : " سألته عن رجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه ، احدهما يأمر بالاخذ والاخر ينهاه ، كيف يصنع ؟ قال(عليه السلام) : يرجئه حتى يلقى من يخبره ، فهو في سعة حتى يلقاه " (5) .وهذه الواقعة المسؤول عنها من قبيل دوران الامر بين المحذورين ( يأمر وينهى ) والمكلف بواقعه لابد ان يصدر عن أحدهما ، فالتخيير بينهما تخيير تكويني ، والتعبير بالسعة مساوق للتعبير بإسقاطهما ، والصدور عن أحدهما بحكم ما يقتضيه واقعه التكويني ، وربما سمي هذا النوع من التخيير بالتخيير العقلي ، فتكون الرواية إرشاداً له ، وسيأتي الحديث عنها . خلاصة البحث : والخلاصة ان أدلة التخيير ـ وهي لا تخرج عن الطوائف التي عرضنا نماذج منها ـ بين صحيح لا يدل بمضمونه ، ودال لا يصح سنداً ، فهي لا تنهض بإثبات ما سيقت له .على أن الحق يقتضينا ان نسجل ان القائلين بالتخيير لم نعرف لاحد منهم فتوى فقهية مستندها ذلك ، وربما وجدت في الموسوعات وضيعها علينا نقص الفحص .ثم ان هذه الادلة ـ لو تمت دلالتها ـ فهي لا تتعرض الى اكثر من التعارض بين الاخبار ، ولا صلاحية فيها لاستيعاب أبواب التعارض كلها ، فالدليل إذن أضيق من المدعى .ولذا لم نعرف من عمم أدلة التخيير الى جميع الابواب ، فالقاعدة تبقى محكمة ، ومقتضاها التساقط إلا في الاخبار ، بناء على تمامية هذه الادلة . البابُ الرابعالقسم الاولالبراءة العقليّة تحديدها : ويراد بها الوظيفة المؤمّنة من قبل العقل عند عجز المكلف عن بلوغ حكم الشارع أو وظيفته . دليلها : وقد استدل لها بالقاعدة العقلية المعروفة بقاعدة :" قبح العقاب بلا بيان واصل من الشارع " .بدعوى أن العقل يدرك قبح عقاب الشارع لعبيده إذا لم يؤذنهم بتكاليفه وخالفوها ، أو آذنهم بها ولم تصل اليهم مع فحصهم عنها واختفائها عنهم مهما كانت أسباب الاختفاء ويأسهم عن بلوغها .وهذه القاعدة مما تطابق عليها العقلاء على اختلاف مللهم ومذاهبهم وتباين أذواقهم ومستوياتهم وتشعب أزمانهم وبيئاتهم .وقد عبر عنها بعض المشرعين المحدثين بقوله : " لا عقاب بغير قانون " . وبالطبع ان مراده بالقانون هو خصوص القانون المبلغ بوسائل التبليغ المتعارفة ، وإلا فإن التشريع وحده لا يكفي في إيقاع المواطنين تحت طائلة العقاب .وربما كان غرض القائلين بأن " الاصل براءة الذمة " هو الاشارة الى هذه القاعدة العقلية . مناقشة القاعدة : وقد نوقشت هذه القاعدة بألسنة قسم من الفقهاء ، بكونها غير تامة لمعارضتها بقاعدة عقلية أخرى ، تفرض الالزام بالمحتمل والقاعدة هي " وجوب دفع الضرر المحتمل " : وجوب دفع الضرر المحتمل ومعارضتها لها : وهي كسابقتها مما تطابق عليها العقلاء بتقريب ان العقل متى احتمل الضرر في شيء مّا ألزم بتجنبه ، واستحق صاحبه اللائمة لو أقدم عليه وصادف وقوعه فيه .وموقع التعارض بينهما ان القاعدة الاولى مع احتمال التكليف وعدم تنجّزه بالوصول تنفي العقاب من الشارع وتمنعه ، والاخرى لا تمنعه بل تصحح صدوره منه وتلقي التبعة على المكلف ان قصر في امتثاله ، فالاولى مؤمّنة من الضرر ، والثانية غير مؤمنة وموضوعهما واحد .وأشكل على هذه المناقشة ان التعارض في الاحكام العقلية مستحيل ، لان العقل لا يتناقض على نفسه بإصدار حكمين متناقضين على موضوع واحد ، فلا بد من التماس محاولاتهم لرفع هذا التناقض . التوارد بين القاعدتين : وقد ذهب بعضهم الى أنهما ـ أعني القاعدتين ـ مختلفتان في الرتبة ، وقيام احداهما يكون مزيلاً لموضوع الاخرى ، وبهذا جعلوا " قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل " واردة على " قاعدة قبح العقاب بلا بيان " لادعائهم ان هذه القاعدة تصلح ان تكون بياناً يمكن للشارع ان يعتمد عليه ، ومع فرض كونها بياناً من قبله ، فقاعدة " قبح العقاب بلا بيان " لا يبقى لها موضوع .والجواب على هذه الدعوى :1 ـ ان الالتزام لها مساوق لانكار قاعدة " قبح العقاب بلا بيان " إذ لا يبقى لها موضوع دائماً ، لان العقل إنما اعتبرها عند الشك في التكليف ، ومع الشك فيه فإن احتمال الضرر قائم حتماً ، ومع قيامه تقوم القاعدة المرتكزة عليه فيزول موضوع تلك القاعدة ، وقد افترضنا في القاعدة انها مما تطابق عليها العقلاء ، فهل تطابق العقلاء على قاعدة من دون موضوع ؟!2 ـ إمكان عكس الدعوى عليهم ، والنقض بورود القاعدة الاولى على الثانية .بتقريب : ان قاعدة " قبح العقاب بلا بيان واصل " بنفسها مؤمّنة ورافعة لاحتمال الضرر ، فمع قيامها لا احتمال للضرر ليلجأ الى القاعدة الثانية ، وبهذا يتضح ان قيام القاعدة الاولى يكون رافعاً لموضوع القاعدة الاخرى ووارداً عليها . فالقاعدتان اذن متواردتان ، والاشكال يبقى قائماً ينتظر . الرأي الاخير : والرأي الذي نراه أقرب الى حل المشكلة هو الرأي الذي تبناه بعض مشايخنا العظام على غموض نسبي في أداء بعض مقرري بحثه .والظاهر انه يريد هذا المضمون في دفع الاشكال ـ فإن لم يكنه فهو قريب منه في أكثر خطوطه ـ وهو اعتبار القاعدتين منفصلتين عن بعضهما مورداً ، ولكل منهما مجال .وفي هذه الحدود لا التقاء بينهما ليلزم التعارض ، وبشيء من التحديد للمراد من كلمة الضرر يتضح هذا المعنى .يطلق الضرر ويراد به النقص الذي يدخل على الانسان بسبب عمل أو ترك شيء مّا سواء كان روحياً أم مادياً ، وهو على قسمين : دنيوي وأخروي ، ولكل من هذين القسمين حساب بالنسبة الى موضع بحثنا .1 ـ احتمال الضرر الدنيوي .وهذا الاحتمال اذا كان على درجة من الاهمية كبيرة ، وكان الضرر مما لا يتسامح فيه عادة ، يمكن ان يدرك العقل لزوم الاحتياط على وفقه ، ومنه يدرك رأي الشارع بإلزامه به ـ أعني الاحتياط ـ ابعاداً للمكلف عن الوقوع فيما يبغضه .وقد سبق ان قلنا ان للشارع ان يجعل الاحتياط للمحافظة على بعض التكاليف التي يعلم مبغوضية فعلها من قبل المكلف على درجة لا يريد وقوعها في الخارج بأية كيفية كانت ، كما هو الشأن في الدماء والفروج والاموال على قول .وفي مثل هذا الحال صححنا جعل الاحتياط الشرعي من قبله ، وقلنا ان العقاب إذ ذاك ـ على تقدير مخالفة الاحتياط وعدم مصادفة الواقع ـ انما هو على التجرّي أو ما يعود إليه ـ بناء على حرمته ـ لا على مخالفة التكليف لعدم مصادفته الواقع كما هو الفرض .وعلى هذا ، فقاعدة " وجوب دفع الضرر المحتمل " قائمة هنا ، ومنها يكتشف البيان الشرعي ، فتكون واردة على قاعدة " قبح العقاب بلا بيان واصل " إذ لا تبقي لها موضوعاً ليرد الحكم العقلي عليه .2 ـ احتمال الضرر الاخروي ـ أي العقاب ـ .وهذا الاحتمال لا يستتبع جعلاً شرعياً للاحتياط على وفقه ، لبداهة أن كل ما يتصل بشؤون الاطاعة والعصيان مما هو في طول التكاليف لا تكون أوامره ـ لو وجدت ـ من قبيل الاوامر المولوية ، لاستحالة صدور هذا النوع من الاوامر عنه .وقد سبق أن تحدثنا في مبحث " دليل العقل " (6) عن أن بعض الاحكام العقلية لا تستتبع أوامر شرعية لوجود موانع عقلية عن ذلك ، وضربنا المثل بأوامر الاطاعة .وما قلناه هناك نقوله هنا ، لان احتمال العقاب ـ بل القطع به ـ لا يستطيع أن يوجه الشارع نهياً عن الوقوع فيه فضلاً عن جعل الاحتياط ، كأن يقول لك : لا تقع في العقاب للزوم التسلسل الواضح ، بداهة ان مخالفة هذا النهي إما ان توجب عقاباً فهي مردوع عنها ، وهذا الردع إن أوجبت مخالفته العقاب فهو مردوع عنه ، وهكذا الى غير نهاية .فإذا كان احتمال الضرر الاخروي لا يستتبع جعل الاحتياط الشرعي على وفقه ، فمن الواضح أن قاعدة " وجوب دفع الضرر المحتمل " لا تكشف عنه ـ أعني الاحتياط ـ لعدم امكان جعله من قبله ، فهي لا تصلح ان تكون بياناً شرعياً له ، فقاعدة " قبح العقاب بلا بيان " تبقى قائمة ومع قيامها يقطع بعدم الضرر الاخروي ، فلا يبقى مجال لوجوب دفع الضرر المحتمل ، إذ لا احتمال للضرر حتى يجب دفعه .وإذن فالقاعدتان لا تعارض بينهما ولا تناقض في حكم العقل .وعلى هذا فقاعدة " وجوب دفع الضرر المحتمل " إنما تختص في المواقع التي يمكن للشارع ان يجعل تكاليفه عليها ، ولو كانت التكاليف احتياطية .وهي لا تشمل غير قسم من الاحتمالات لاضرار دنيوية بالغة ، يعلم من الشارع بغض وقوعها من العبد ، وما عداها فقاعدة " قبح العقاب بلا بيان " تبقى قائمة ، وهي هادمة بقيامها للقاعدة الاخرى لتحصيلها القطع بالمؤمّن الرافع لاحتمال العقاب .نعم في الموارد التي لا تصلح للمؤمّنية فيها ، كما في موارد الشبهات البدوية قبل الفحص ـ بالتقريب الذي ذكرناه سابقاً ـ تجري هذه القاعدة ـ أعني قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ـ لعدم المؤمّن العقلي ، كما هو واضح . البراءة العقلية وظيفة عقلية لا حكم : وكونها وظيفة لا يحتاج الى حديث لبداهة افتراضها عند اختفاء الاحكام الشرعية ، وليس فيها جنبة نظر للواقع ولا حكاية عنه ، بل ليس فيها ما يكشف عن رأي الشارع حتى في هذا الحال لاستحالة ذلك ، ومن هنا قلنا : إنها وظيفة عقلية لا شرعية . البابُ الرابعالقسم الثانيالاحتياط العقليّ تحديد الاحتياط العقلي : وهو حكم العقل بلزوم الخروج عن عهدة التكليف المنجز اذا كان ممكناً .وغرضنا من ذكر قيد الامكان إخراج بعض صور العلم بالتكليف ، كما في بعض صور دوران الامر بين المحذورين مما لا يمكن الجمع بينهما بحال ، وسيأتي الحديث عنها .ويدخل ضمن هذا التحديد أقسام ثلاثة :1 ـ الشبهة البدوية قبل الفحص .2 ـ العلم الاجمالي بتكاليف إلزامية اذا كان الاحتياط ممكناً ولو بالاتيان بجميع المحتملات أو تركها .3 ـ العلم التفصيلي بتكليف مّا ، والشك في الخروج عن عهدته بالامتثال لبعض الجهات . دليله : ودليله هو القاعدة التي تطابق عليها العقلاء من ان شغل الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً .ولبيان استيعاب الدليل لجميع ما انتظم في هذا التعريف ، ثم لتحديد صغريات ما يمكن ان تنتظم في الكبرى الكلية المستفادة منه . يقتضينا ان نقف عند كل واحدة منها فنتحدث عنها بشيء من الايجاز ، ونحيل في استيعابها حديثاً وصوراً الى الموسوعات الشيعية (7) لتوفرها على بحث هذه المواضيع . 1 ـ الشبهة البدوية قبل الفحص : ووجوب الاحتياط في الشبهات البدوية قبل الفحص سبق أن ذكرنا أدلته في مبحث " الاستصحاب " ، ولعل أهمها العلم الاجمالي المنجز بوجود تكاليف إلزامية ، وبهذا المعنى فإنها تكون من صغريات مسألة العلم الاجمالي القادمة والحديث فيه يأتي .أما اذا فرض أن هذا الدليل غير تام وأخذنا بالادلة الباقية ، فإن قاعدة " شغل الذمة اليقيني " لا تكون دليلاً على وجوب الاحتياط فيها ، لبداهة عدم اليقين فيها إذ ذاك بالشغل لتكون نتيجة للقاعدة المذكورة ، ولا بد من الاستدلال عليها بأدلة أخرى أهمها القاعدة السابقة " وجوب دفع الضرر المحتمل " لا لاكتشاف الجعل الشرعي له من هذه الطريق لانحصار الاكتشاف باحتمال الاضرار الدنيوية البالغة منها ، والشبهات البدوية ليست مختصة بهذه الاحتمالات دائماً ، بل لعدم وجود المؤمّن ، وذلك لعدم جريان البراءة الشرعية فيها لقصور أدلتها عن شمولها لكونها مقيدة عرفاً بما بعد الفحص ، كما سبق تقريبه ، ولان البيان الواصل المأخوذ في موضوع البراءة العقلية ـ اعني قاعدة قبح العقاب بلا بيان واصل ـ لا يراد به فعلية الوصول بداهة ، بل يراد به معرضية الوصول لما مر شرحه من أن الشارع غير مسؤول عن إيصال التكاليف الى كل واحد من المكلفين ، وانما عليه أن يبلغ بالطرق المتعارفة وعليهم السعي الى معرفتها .فدليل الاحتياط العقلي فيها هو هذه القاعدة ، إذ لا دافع هنا لاحتمال الضرر ليلجأ اليه . 2 ـ العلم الاجمالي : والحديث حوله يقع في جهات متعددة أهمها جهتان :1 ـ قابليته لتنجيز ما تعلق به ، وما يتفرع من بحوث عليها .2 ـ حل العلم الاجمالي . قابليته لتنجيز متعلقه : والمراد بالقابلية هنا صلوحه لان يكون بياناً يتكل عليه الشارع في إيصال تكاليفه ـ من دون حاجة الى جعل منه ـ وحاله حال العلم التفصيلي في تنجيز متعلقه .والذي يبدو ان القول بقابليته موضع اتفاق الجميع ، وإن ذكرت بعض الوجوه لنفي القابلية ، إلا انه لا قائل بها ; وغاية ما قرب به نفي القابلية من أنه " ربما يقال انه يعتبر في موضوع حكم العقل بقبح مخالفة المولى ان يكون المكلف حين العمل عالماً بالمخالفة تفصيلاً ، وأما الاتيان بأمور لا يعلم حين الاتيان بكل واحد منها بمخالفته للمولى ، ولكن بعد الاتيان بالجميع يعلم بتحقق المخالفة في الخارج ، فلا يحكم العقل بقبحه .وبعبارة اخرى : القبيح مخالفة التكليف الواصل، لاتحصيل العلم بالمخالفة " (8) .وأُجيب على هذا التقريب بأن فيه " مغالطة ناشئة من الخلط بين الوصول والتمييز ، فإن وصول التكليف الفعلي هو الموضوع لحكم العقل بقبح المخالفة ، ولا ربط لهذا بتمييز المكلف به أصلاً ، ولذلك لا ريب في حكم العقل بقبح ارتكاب جميع أطراف العلم الاجمالي دفعياً كالنظر الى امرأتين يعلم بحرمة النظر الى إحداهما كما في ارتكاب المحرم تفصيلاً ، مع ان موضوع التكليف الواقعي غير مميز فلا يعتبر في القبح إلا وصول التكليف الفعلي ، وهو متحقق في محل الكلام " (9) .فالشبهة في قابليته للتنجيز شبهة في مقابل البديهة ، وهي لا تستند ـ كما يقول استاذنا الخوئي(قدس سره) ـ على غير المغالطة ، ولذا لا نجد عاقلاً من العقلاء يقدم على شرب إناءين يعلم إجمالاً بوجود السم في أحدهما بدعوى عدم تمييزه للاناء الذي وجد فيه السم من بينهما .ولكن ـ بعد ثبوت القول بالقابلية ـ يقع الكلام في منشأ المنجزية فيه ، فقيل : ان منشأها ذاتي في كل ما يتصل به ، وحاله حال العلم التفصيلي في كونه علة تامة لتنجيز متعلقه ; وقيل : ان العلم الاجمالي ليس فيه اكثر من اقتضاء التنجيز ، وتنجيزه موقوف على عدم جعل المرخص في أطرافه ، وعلى كلا القولين فقد وقع الكلام في إمكان جعل المرخص على خلافه كلاً او بعضاً وعدمه ، وعلى تقدير الامكان فقد اختلفوا في الوقوع وعدمه ايضاً .فالكلام إذن يقع في مسائل ثلاث :أ ـ منشأ تنجيزه .ب ـ إمكان جعل المرخص على خلافه وعدمه .ج ـ وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه على تقدير إمكانه . أ ـ منشأ تنجيزه : وقد ذكرنا أن في المسألة قولين : قولاً بالعلية وقولاً بالاقتضاء ، ولعل وجهة نظر القائلين بالعلية هو ان العلم الاجمالي كالعلم التفصيلي في كشفه عن الواقع ، فإراءته له إراءة كاملة لا قصور فيها ، بل هو في الحقيقة علم تفصيلي بوجود التكليف ، ولما كان العلم التفصيلي علة تامة لتنجيز متعلقه لما سبق في بحوث التمهيد ، كان العلم الاجمالي كذلك ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة أصلاً .والتردد في مقام تطبيق الحكم على كل من الاطراف لا يسري الى التردد في أصل الحكم ، فأصل الحكم واصل على كل حال .أما القائلون بالاقتضاء ; فوجهة نظرهم مبنية على ان هذا التردد في مجال التطبيق يضعف تأثير العلم الاجمالي ، وينزل رتبته عن العلم التفصيلي ، فهو لا يزيد على ان يكون فيه اقتضاء التأثير ، وتأثير المقتضي فيه موقوف على عدم وجود المانع ، أي عدم وجود المرخص من قبل الشارع في ارتكاب الاطراف .وعلى هذا فالتنجيز عند هؤلاء الاعلام يتضح من وجهة نظرهم في المسألة التالية من إنكار امكان جعل المرخص في الاطراف كلا أو بعضاً . ب ـ إمكان جعل المرخص وعدمه : أما على مبنى من يذهب الى علية العلم الاجمالي للتنجيز ، فاستحالته واضحة للزوم الترخيص في مقطوع المعصية اذا جعل في تمام الاطراف أو الترخيص في محتملها اذا جعل في بعضها دون بعض ، ويستحيل على الشارع المقدس ان يرخص في مقطوع المعصية أو محتملها مع تنجز التكليف بالعلم لقبح ان يصرح بجواز معصيته بالضرورة ، وان جاز له ان يعفو بعد صدور المعصية من العبد ، على ان شؤون الاطاعة والعصيان راجعة الى العقل كما سبق بيانه ، وليس للشارع دخل في وضعهما أو رفعهما بداهة .وأما على مبنى من يقول بأن فيه اقتضاء التنجيز في كل من الاطراف ، فكذلك فيما يلزم منه المخالفة القطعية ، ولكن بملاك آخر غير ذلك الملاك .والملاك الذي ينتظم جميع أنواع ما يقع به الترخيص سواء كان أمارة أم أصلاً ، هو ان جعل الشارع الترخيص في تمام الاطراف يلزم منه الترخيص في مقطوع المعصية لانتهائه الى جواز المخالفة القطعية ، وقد سبق ان قلنا أن التصريح بجواز المعصية من قبله قبيح ينزه عنه سبحانه ، وجعله في بعض الاطراف دون بعض ترجيح بلا مرجح .وذهب بعضهم الى إمكان جعله في الجميع على أن يقيد كل مرخص منها بصورة عدم ارتكاب الطرف الاخر فينتج التخيير بينهما . وهذا النوع من التقييد مستحيل أيضاً ، لانتهائه الى التعبد بهما معاً عند ارتكابهما ـ أي الى الترخيص في مقطوع المعصية ـ لتوفر الشرط في كل منهما ، وهو عدم الارتكاب .بالاضافة الى أن الاطلاق والتقييد إنما هما من قبيل الملكة والعدم ، فالمحل الذي لا يكون قابلاً لاحدهما لا يكون قابلاً للاخر ، وحيث افترضنا استحالة الاطلاق في مقام الثبوت فلا بد أن يكون التقييد مستحيلاً فيه ايضاً ، فالترخيص على هذا في جميع صوره لا يمكن جعله في مقام الثبوت .هذا إذا كانت نسبة المرخص الى الجميع نسبة واحدة ، أما اذا اختلفت النسبة في الاطراف بأن كان بعضها موضعاً لامارة او اصل دون الباقي ، أمكن جعلها والتعبد بها بالنسبة الى ذلك الطرف ، ولا محذور في ذلك ، وسيأتي ان هذا القسم من جملة ما يحل به العلم الاجمالي .هذا كله في مقام الثبوت ، أما في مقام الاثبات فهو متفرّع بالبداهة على مقام الثبوت ، فإذا افترض استحالة الجعل والتعبد بالمرخص فيه ، فإن الادلة المعبرة عنه لا يمكن أن تكون شاملة لهذه الاقسام بداهة ، لان التمسك بظهورها في شمول هذه الاقسام إنما يلجأ اليه عند الشك ، ومع العلم بعدم الشمول لا مجال لحجية مثل هذا الظهور .وإذا كان ولا بد من التغاضي عن مقام الثبوت والتماس ما تقتضيه الادلة بنفسها . 3 ـ في وقوع مثل ذلك الجعل وعدمه : ثم مدى ما تدل عليه أدلة الترخيص ـ أمارة او أصلاً ـ فالظاهر ان الحال يختلف فيها باختلاف ما تفيده ألسنة جعلها ، واعتبارها من قبل الشارع . الامارة والعلم الاجمالي : أما الامارة فالظاهر ان أدلتها غير وافية بالشمول لجميع الاطراف لانتهائها الى التكاذب ، لان ما دل على وجود الحكم في كل من الاطراف يدل بالدلالة الالتزامية على نفيه في الاخر للعلم بوحدة الواقعة ، كما هو الفرض ، ومقتضى ذلك تكاذبهما .فالخمرية المرددة بين إناءين اذا قامت البينة على وجودهما في الاناء الاول فقد دلت بالالتزام على عدم وجودها في الاناء الثاني وتكذيب من يدعي وجودها فيه ، واذا قامت الثانية على وجودها في الاناء الثاني فقد دلت على عدم وجودها في الاناء الاول بالالتزام ، كما دلت على تكذيب من يدعي وجودها فيه ، ونتيجة ذلك هي التكاذب بينهما ، بالاضافة الى عدم إمكان الاخذ بهما معاً لانتهائهما الى جمع النقيضين في الاناء الواحد ، أعني وجود الخمر وعدمه .واعتبار الحجية في إحدى الامارتين دون الاخرى ترجيح بلا مرجح ، واعتبارها لاحداهما غير المعينة لا تجدي ، لعدم الاستفادة منها في مجالنا الخاص ، وتقييد احداهما بعدم ارتكاب الطرف الثاني مما ينتج التخيير ، غير معقول ، لعدم معقولية الاطلاق ، وهما من قبيل الملكة والعدم ، مع ان لازم ذلك هو جعل الحجية لهما معاً عند عدم ارتكاب الطرفين ، كما قدمنا .وأما الاصول ، فالحال فيها يختلف أيضاً ، فإن كانت على وفق المعلوم بالاجمال فلا محذور لدى الاكثر في جريانها في تمام الاطراف ، وترتيب الاثار عليها ثبوتاً ، والادلة شاملة لها .وإن كانت على خلاف المعلوم بالاجمال وكان الحكم المعلوم إلزامياً ، فإن لزم من جريانها مخالفة عملية لم يكن الجريان للزوم الترخيص بالمعصية ، وهو ممتنع عقلاً ، والادلة لا بد من ان تتقيد في غير هذه الصورة في إطلاقاتها العامة ، فلا تكون شاملة لها ، كما لا تكون شاملة لاحدها المعين للزوم الترجيح بلا مرجح ، ولا غير المعين لعدم ترتب ثمرة عملية عليه ، والتخيير غير ممكن لما مر في الامارة من امتناع التقييد لامتناع الاطلاق .وأما اذا لم تلزم مخالفة عملية كما في صورة دوران الامر بين محذورين ، فالظاهر لدى البعض أنه لا مانع من الجريان لعدم تحقق الترخيص في المعصية ، ما دام المكلف ملزماً في واقعه بالصدور عن أحدهما والمخالفة الالتزامية التي تكون بسبب جريان الاصلين معاً ، والايمان بالاباحة الظاهرية استناداً اليها وهي مخالفة للمعلوم بالاجمال لا محذور فيها ولا دليل على حرمتها إذا لم تنته الى عالم تكذيب المعصومين ، فالادلة تكون شاملة لهذه الصورة .هذا اذا كان المعلوم بالاجمال حكماً إلزامياً ، وأما اذا لم يكن حكماً إلزامياً . وكانت الاصول الجارية أصولاً مثبتة لحكم إلزامي ، فالظاهر أنه لا محذور من جريانها لعدم لزوم الترخيص في المعصية وليس ما يمنع من أن يجعل الشارع الاحتياط مثلاً في محتمل الالزام ، كما هو الشأن في كل من الطرفين .والمقياس الذي ذكرناه في الجريان وعدمه جار في جميع الاصول ، اذا كانت نسبتها الى الاطراف نسبة واحدة من حيث النفي والاثبات ، ومن حيث عدم وجود خصوصية تستوجب الجريان في أحد الاطراف دون بقيتها .أما اذا اختلفت في النفي والاثبات ، فإن كان في أحد الاطراف خصوصية تستوجب اختصاصه بجريان الاصل ، فالظاهر أنه لا مانع من الجريان وحل العلم الاجمالي به كما يأتي الحديث في ذلك .نعم ، ان هناك تفرقة بين الاصول الاحرازية وغيرها ، ذكرها شيخنا النائيني(رحمه الله) ، وفحواها ان الاصول الاحرازية لا تجري في أطراف العلم الاجمالي على كل حال ، اذا كانت قائمة على خلاف المعلوم بالاجمال حتى لو قلنا بجريان غيرها من الاصول سواء استلزم جريانها المخالفة القطعية أم لم يستلزم .وكأن وجهة نظره ما استفاده من لسان جعل الاصول التنزيلية من اعتبار البناء العملي والاخذ بأحد طرفي الشك على أنه هو الواقع .وهذا النوع من البناء يستحيل اعتباره في مجموع الاطراف لانتهائه الى التنزيل على خلاف الواقع مع العلم به .والظاهر أن ما انتهى اليه متين جداً ، وليس المنشأ فيه هو إثبات لوازمه ليلزم التكاذب في نظره ليقال في رده : ان الاصل إنما يثبت مؤداه في مورده بلا نظر الى النفي عن غيره ، وغاية ما يترتب على ضم بعض الاصول الى البعض هو العلم بمخالفة بعضها للواقع ، ولا ضير فيه بناء على عدم وجوب الموافقة الالتزامية .وإنما المنشأ لديه ـ فيما يبدو ـ هو امتناع جعل الشارع في مقام الثبوت حجية الاصول التنزيلية لجميع الاطراف مع انتهائها الى طلب اعتبار غير الواقع واقعاً ، مع حضور الواقع لدى المكلف بالوجدان .فكما يستحيل على الشارع أن يقول للمكلف اعتبر غير الواقع واقعاً في المعلوم تفصيلاً ، كذلك يستحيل في حقه ذلك في كل ما ينتهي اليه .فالمحذور إنما هو صدور الجعل المستوعب لجميع الاطراف منه وهو عالم بانتهائها الى طلب اعتبار غير الواقع واقعاً حتماً لا في إباء الادلة عن شمولها جميعاً للتكاذب .فالاشكال عليه بعدم إثبات لوازمها ـ أعني الاصول التنزيلية ـ لم يتضح لي وجهه ، والظاهر أن فيه خلطاً بين مقامي الثبوت والاثبات ، فالشيخ النائيني(رحمه الله)ناظر الى مقام الثبوت ، والايراد ناظر الى مقام الاثبات .والخلاصة التي انتهينا اليها :ان الامارات لا تجري في أطراف العلم الاجمالي لتكاذبها ، والاصول الاحرازية لا تجري للمانع الثبوتي ، وبقية الاصول لا تجري إذا لزمت منها المخالفة العملية لتكليف إلزامي معلوم ، وتجري اذا كانت موافقة للمعلوم بالاجمال ، أو لم يلزم فيها إلا المخالفة الالتزامية .ومن هذا يتضح وجوب الموافقة القطعية وحرمة المخالفة القطعية للحكم الالزامي المعلوم بالاجمال على المبنيين معاً .أما على القول بأن العلم الاجمالي علة تامة في تنجيز متعلقه ، فلان مقتضى عليته وجوب موافقته وحرمة مخالفته ، إذ ليس وراء وصول الحكم لدى العقل إلا لزوم الاطاعة وعدم العصيان .وأما على المبنى الثاني ـ أعني دعوى وجود اقتضاء التنجيز فيه ـ فلان العقل لا يسوغ الخروج على هذا المقتضي إلا بوجود مؤمّن وهو مفقود هنا ، ومع عدمه فالعقل يلزم بالاتيان به ولا يسوغ مخالفته ، فوجوب الموافقة وحرمة المخالفة حكمان عقليان يجريان في رتبة واحدة ، وهما من آثار منجزية العلم الاجمالي ، فما ذهب اليه بعض المشايخ العظام من ترتب وجوب الموافقة على حرمة المخالفة لا ملزم به . حل العلم الاجمالي : ومما ذكرناه تبين ان المقياس في تأثير العلم الاجمالي هو احتمال انطباق التكليف المعلوم على كل واحد من الاطراف ، على نحو لو انطبق عليه لكان مولداً للتكليف فيه .ولذا لو قدر انطباق المعلوم على بعض الاطراف التي لا يتولد فيها تكليف ، انحل العلم الاجمالي وفقد تأثيره ، ولم ينجز مدلوله على من قام لديه .والسر في ذلك هو : ان العلم الاجمالي لا يزيد في منجزيته على العلم التفصيلي ، فلو قدر توجه شك الى ذلك العلم التفصيلي على نحو يسري اليه لفقد ذلك العلم تنجيزه لمتعلقه وايصاله الى المكلف بداهة .وعليه فمع عدم وصول التكليف بالعلم أو العلمي هنا لا مانع من جريان الاصول في بقية الاطراف ، إذ العلم بالتكليف على هذا التقدير غير واصل لاحتمال انطباقه على ذلك الطرف الذي لو قدّر له الانطباق عليه لما ولد تكليفاً فيه .ونظراً لهذا ، فقد اعتبر العلماء الامور التالية من موجبات حل العلم الاجمالي وهي :1 ـ خروج بعض الاطراف عن محل الابتلاء كما لو فرض العلم بتوجه تكليف إلزامي باستعمال دواء ما ـ مثلاً ـ مردد بين دواء متداول في السوق وآخر موجود في دولة أخرى لا يمكن وصول المكلف اليه ، فمثل هذا المعلوم لو انطبق على ذلك الخارج عن محل الابتلاء لما ولد تكليفاً باستعماله لعبثية مثل هذا التكليف بعد فرض تعذر وصول المكلف اليه ، والدواء الاخر غير معلوم الانطباق عليه ، واذن فلا علم بتكليف ملزم للمكلف على كل حال ، وحيث لا علم ، فان جريان الاصول في الشبهات التي لا تكون طرفاً له لا محذور فيها ولا معارض لها .2 ـ الاضطرار الى ارتكاب بعض الاطراف أو الاكراه عليه أو خروجه عن القدرة ، وبما ان هذه الامور رافعة للتكليف لو كان موجوداً ، فانطباق المعلوم على ذلك الطرف لا يولد تكليفاً على وفقه فيذهب العلم بتوجه التكليف به ، ويتحول الى شك بالنسبة للطرف الاخر بالضرورة ، وعندها تجري الاصول بلا معارض أو محذور .3 ـ ان لا يكون بعضها محكوماً قبل مجيء العلم الاجمالي ، او عند مجيئه بحكم على وفقه ، إذ لا يولد تكليفاً في ذلك الطرف لو قدر له الانطباق عليه فيفقد تنجيزه ، وهكذا .هذا كله في طروّ هذه الامور عند مجيء العلم الاجمالي او قبله ، أما لو طرأت بعد تنجز العلم الاجمالي ووصول التكليف به ، كأن يكون قد طرأ على أحدها ما يخرجه عن محل الابتلاء او تولد اضطرار للمكلف اليه ، فمثل ذلك لا يوجب انحلال العلم الاجمالي لعدم المؤمّن في ارتكاب الاطراف الاخرى ; أما على مبنى علّية التنجيز فواضح ، إذ لا مجرى للاصل في تلكم الاطراف بعد تنجز التكاليف بالعلم ، وأما على المبنى الاخر فلسقوط الاصول بالتعارض ، ومع سقوطها فلا مؤمّن للمكلف في جواز الارتكاب .بينما لا يتأتى هذا المعنى قبل تنجز العلم ، لان وجود أحدها مانع من تنجز التكليف ابتداء ، فلا مسقط لجريان الاصول في الاطراف المشكوكة .وعلى هذا المقياس من حل العلم الاجمالي ركز بعض الاعلام تحديده للشبهات غير المحصورة ، ولاهمية البحث فيها نتحدث عنهابشيء من الكلام . الشبهة محصورة وغير محصورة : وقد اختلفوا في تحديد كل منهما ، ومن استعراض أقوالهم في الشبهة غير المحصورة يتضح تحديد المحصورة ايضاً بحكم المقابلة . الشبهة غير المحصورة وحكمها : وأهم ما ذكروا لها من تحديدات ثلاثة ، وربما رجعت بقية التحديدات اليها :1 ـ ان تكثر أطرافها كثرة يعسر معها العد ، ومثل له في العروة الوثقى بنسبة الواحد الى الالف (10) ، وربما رجع الى هذا المعنى ما ذهب اليه الشيخ الانصاري(قدس سره)من ضعف انطباق الاحتمال على كل واحد منها لكثرة الاطراف (11) .2 ـ ما اختاره المحقق النائيني(رحمه الله) : " من ان الميزان في كون الشبهة غير محصورة ، عدم تمكن المكلف عادة من المخالفة القطعية بارتكاب جميع الاطراف ، ولو فرض قدرته على ارتكاب كل واحد منها " (12) .ومن هنا تختص الشبهة غير المحصورة لديه بخصوص الشبهات التحريمية أما الوجوبية منها فإن الاطراف ، وإن بلغت كثرتها ما بلغت ، فإن المكلف يتمكن من مخالفتها بتركها جميعاً .3 ـ أن يكون بعض الاطراف خارجاً عن محل الابتلاء ، أو تكون الاطراف مما يعسر مخالفتها جميعاً ، او يكون المكلف مضطراً الى بعضها ، الى غير ذلك مما يوجب انحلال العلم الاجمالي .وقد تبنّى صاحب الكفاية(رحمه الله) (13) هذا الرأي وجلاه واكد عليه بعض اساتذتنا الاعلام .وهذا الرأي ، وإن انطوى على إنكار الشبهة غير المحصورة لشموله حتى للشبهة ذات الطرفين ، إذا كان واحداً منهما خارجاً عن محل الابتلاء أو كان مضطراً الى ارتكابه ، إلا ان التعبير بالشبهة غير المحصورة ليس من التعبيرات الشرعية الواردة على لسان المعصوم حتى يتقيد بمدلوله .والظاهر أن غرض اساتذتنا الذين تبنّوا هذا الرأي بيان أن العلم الاجمالي إذا كان متوفراً على عوامل تنجزه فإنه يؤثر اثره ، سواء كانت الاطراف قليلة أم كثيرة ، وان لم يتوفر عليها فهو منحل قلّت اطرافه او كثرت ، والمقياس هو التنجيز وعدمه .وإلا فإن ضعف الاحتمال ـ وهو الذي تبناه التحديد الاول ـ لكثرة أطرافه لا يصلح لرفع اليد عن العلم الاجمالي المنجز ، ما دمنا نحتاج الى المؤمّن في ارتكاب أي طرف وان كان موهوماً ، وكون العقلاء لا يعتنون بالاحتمالات الضعيفة لا نعرف له مأخذاً ، على انه محتاج الى إقرار من الشارع لو كان مثل هذا البناء موجوداً لما قدمناه من أن البناء وحده لا يصلح للدليليّة .والمؤمّن هنا غير متوفر لما سبق بيانه من عدم جريان الاصول في أطراف العلم أو جريانها وتساقطها .ومبنى شيخنا النائيني(رحمه الله) هو الاخر غير واضح لابتنائه على ان يكون وجوب الموافقة القطعية وليد حرمة المخالفة القطعية ، فاذا لم تحرم المخالفة القطعية لعدم تمكن المكلف منها لم تجب الموافقة القطعية لعدم ما يوجبها ويلزم بها ، وقد سبق ان قلنا ان العلم الاجمالي بالنسبة اليهما لا يختلف حاله ; فكما يمنع من المخالفة القطعية فانه يوجب الموافقة القطعية وكلاهما بالنسبة اليه في رتبة واحدة ، كما تقتضيه علّية تنجيزه أو اقتضاؤه مع فقد المؤمّن بالنسبة الى جميع الاطراف .على ان ارتكاب بعض الاطراف لو كان ممكناً لاحتاج الى مرخّص من أصل أو غيره ، وإجراء الاصول أو غيرها بالنسبة الى بعض الاطراف دون بعض ترجيح بلا مرجح ، فالقول بعدم وجوب الموافقة القطعية فيه لا يعرف له وجه .وعلى هذا فتقسيم الشبهة الى محصورة وغير محصورة لا اساس له ما دام المقياس في تنجيز العلم الاجمالي متوفراً فيهما معاً ، ومع عدم توفره فالعلم الاجمالي منحل كثرت أطرافه أو قلت ، وتسميته بالعلم اذ ذاك لا تخلو من تجوز ومسامحة .ولقد اثيرت حول توفر هذا المقياس من التنجيز وعدمه أحاديث في قسم من مسائل العلم الاجمالي ، لعل أهم ما يتصل منها بأحاديثنا المقبلة مسألة : دوران الامر بين التعيين والتخيير : وذلك فيما اذا علم اجمالاً بتوجه تكليف وشك في كونه معيناً او مخيراً بينه وبين غيرهوصور هذه المسألة ثلاثة :أولاها : ما اذا دار الامر بين التعيين والتخيير في أصل الشريعة ومرحلة الجعل في الاحكام الواقعية ، كأن يفرض صدور تشريع من الشارع ويجهل أمره في أنه كان معيناً على المكلف او كان مخيراً بينه وبين غيره .ثانيتها : دوران الامر بين التعيين والتخيير في مقام الجعل والتشريع في الاحكام الظاهرية ، أي دوران الامر في ان تكون الحجة المجعولة معينة او مرددة ، كالشك في ان حجية جواز الرجوع الى المجتهد هل هي مختصة بخصوص الاعلم من المجتهدين ، او هي عامة له ولغيره على نحو يكون المكلف مخيراً بين الرجوع اليه والى غيره من المجتهدين ممن يفضلهم في الخبرة بأصول الاستنباط ؟ثالثتها : دوران الامر بين التعيين والتخيير في مجالات الامتثال كما في صور باب التزاحم المأموري ، وهو ما لو كان كل من المتزاحمين مصداقاً لتكليف فعلي ، واحتمل وجود الاهمية في أحدهما .وقد وقع الخلاف بين الاعلام في بعض هذه الصور ، وذكرت لها تشقيقات كثيرة ربما يعود تحقيق أكثرها الى صميم البحوث الفقهية ، ومجالات الاستفادة من الادلة في مواقعها المخصوصة ; والذي يرتبط ببحوثنا هذه هو خصوص القسم الثاني ، أعني ما اذا دار الامر بين التعيين والتخيير في جعل الحجية لبعض الاحكام الظاهرية .والظاهر هو الاتفاق على ان المرجع فيه هو الاحتياط ، أي الاخذ بمحتمل التعيين ، وذلك لما مرَّ تأكيده اكثر من مرة من أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها .ولما كان محتمل التعيين مقطوع الحجية ـ اما لانه هو الحجة المعينة وحدها ، أو لانه طرف في التخيير ، والطرف الاخر مشكوك الحجية لاحتمال ان تكون الحجة هي خصوص المعين ، أعني تقليد الاعلم في المثال ـ فانه يتعين الاخذ بمقطوعها ، وترتيب الاثار عليه ، وترك ما كان مشكوك الحجية لعدم قاطعية العذر فيه ، وعدم إحراز كونه مبرئاً للذمة ، وشغل الذمة اليقيني يستدعي فراغاً يقينياً ، كما مر الحديث فيه . 3 ـ الخروج من عهدة التكليف المعلوم : وهذا أظهر موارد الاحتياط ، فمن علم تفصيلاً بتوجه تكليف اليه ، وشك في تحقق الامتثال بما أتى به ، وليس لديه محرز لتماميته من أمارة او أصل ، فالعقل يحكم بضرورة الاتيان به من باب الاحتياط لقاعدة الشغل ، وإلا فلا معذورية له لو أقدم على مخالفة الاحتياط وأخطأ الواقع وكان مستحقاً للعقاب بنظر العقل . الاحتياط العقلي وظيفة عقلية : وبهذا يتضح ان الاحتياط هنا لا يتجاوز عن كونه وظيفة جعلت من قبل العقل تحرزاً من مخالفة أحكام المولى المنجزة ، وليس فيه حكاية عن واقع شرعي ، ولا وظيفة مجعولة من قبله لتكون حكماً او وظيفة شرعية ; إذ المصدر فيها " قاعدة الشغل " او " قاعدة دفع الضرر " وهما قاعدتان ناظرتان الى عوالم استحقاق العقاب وانهما لا يستتبعان حكماً شرعياً ولا يكشفان عنه ، لما قلناه غير مرة من أن شؤون الثواب والعقاب لا يمكن ان يتعلق بها حكم شرعي للزوم التسلسل ، فهي إذن وظيفة عقلية لا غير .( 1 ) مصباح الاصول : ص366 .( 2 ) التحفة السنية : ص14 ، وراجع : مصباح الاصول : ص423 .( 3 ) الكافي : 1 / 66 ، باب اختلاف الحديث ، ح7 .( 4 ) تهذيب الاحكام : 3 / 228 ، ح92 . مصباح الاصول : ص424 .( 5 ) الكافي : 1 / 66 ، ح7 . وراجع : مصباح الاصول : 224 ، ويحسن الرجوع اليه للتوسع في هذا البحث .( 6 ) راجع : ص263 وما بعدها من هذا الكتاب .( 7 ) راجع : حقائق الاصول : 2 / 238 وما بعدها ، وفوائد الاصول 3 / 239 وما بعدها ، والدراسات ، وغيرها ، ( مباحث الاحتياط ) .( 8 ) الدراسات : 3/52 .( 9 ) الدراسات : 3/53 .(10) العروة الوثقى : 1 / 41 ( فصل : الماء المشكوك نجاسته المسألة 2 ) .(11) فرائد الاصول : 1 / 434 .(12) الدراسات : ص242 .(13) كفاية الاصول : ص 408 ط . جامعة المدرسين ـ قم .