بیشترلیست موضوعاتالمقدمةبحوث تمهيدية الفقه المقارنأصول المقارنةأصول الاحتجاجأصول الفقه المقارن الغاية من أصول الفقه المقارن مباحث الحكممنهج البحثالباب الاول:الكتاب العزيز القسم الثاني: السنّة تعريف السنة في اللغة ب ـ سنة الصحابة ج ـ سنة أهل البيتالطرق القطعية إلى السنة هـ ـ الطرق غير القطعية إلى السنة و ـ السنة وكيفية الاستفادة منها ز ـ السنة والكتابالقسم الثالث: الاجماع القسم الرابع: دليل العقل القسم الخامس: القياس القسم السادس: الاستحسان القسم السابع: المصالح المرسلة القسم الثامن: فتح الذرائع وسدها القسم التاسع: العرف القسم العاشر: شرع من قبلنا القسم الحادي عشر: مذهب الصحابي الباب الثانيالاستصحابالقسم الاول: البراءة الشرعية القسم الثاني: الاحتياط الشرعي القسم الثالث: التخيير الشرعيالقسم الاول: البراءة العقلية القسم الثاني: الاحتياط العقلي القسم الثالث: التخيير العقلي الباب الخامسالقرعةخاتمة المطافالقسم الاول: الاجتهاد ـ تعريفه الاجتهاد: أقسامه ومعداته الاجتهاد: تجزي الاجتهاد وعدمه الاجتهاد: مراتب المجتهدين الاجتهاد: بين الانسداد والانفتاح الاجتهاد: أحكام المجتهد الاجتهاد: التخطئة والتصويب الاجتهاد: نقض الاجتهاد وعدمه القسم الثاني: التقليد: مفهومه وحجيته التقليد: اعتبار الحياة في المقلد التقليد: اعتبار الاعلمية في المقلد التقليد: اعتبار العدالة في المقلد ختام الحديثطبيعة ما رجعت إليه من مصادر وظيفة الكتابالفهارستوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 185 الي 228 البابُ الاولالقسم الثاني(السُّنّـة) الطرق القطعيّة إليها تمهيد : والسنة بما هي سنة ، وإن كانت حجيتها ـ كما قلنا ـ من الضروريات ، إلا أن مجالات الاستفادة منها لبحوثنا الفقهية موقوفة على ركائز أخر بالنسبة الينا .وقد نكون في غنىً عن هذه الركائز لو كنا على عهد المعصومين ، ولدينا من المؤهلات البيانية ما يرفعنا الى فهم كلماتهم والاستفادة منها .ولكن بُعدنا عن زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) ولَّد لنا بحوثاً لا بدّ من اعتمادها ركيزة من ركائز الاستنباط الاساسية بعد دراستها والخروج منها بالثمرة المتوخاة .وهذه البحوث ذات أقسام يقع بعضها في الطرق والوسائل المثبتة للسنة والموصلة اليها ; وتقع الاخرى في كيفية الاستفادة منها ، ثم معرفة مدى نسبتها للكتاب .ولعلنا نرى بعد حين أن أكثر ما أُثير من الشبه حول حجية السنّة على ألسنة بعض القدامى فإنما هو منصبّ على الطرق الموصلة اليها ، أو على كيفيات الاستفادة منها ، وإن ضاق ببعضهم التعبير فأداه بما يشعر بإنكار حجية أصل السنّة ، وسيتضح ذلك من عرض حججهم ومناقشتها .وعلى هذا ، فالبحوث ( حول السنة ) إنما تقع في مواقع :(1) الطرق المثبتة لها بطريق القطع .(2) الطرق المثبتة لها بغير القطع .(3) كيفيات الاستفادة منها .(4) موقع السنة من الكتاب .ولكل منها أقسام وفيه بحوث .تقسيم الطرق الى السنة :والذي ينبغي أن يقال جرياً على ما أصّلناه في مباحث الحجة : إن الطرق التي لها أهلية الايصال اليها ذات قسمين :1 ـ قطعية .2 ـ وغير قطعية .ولكل منها أقسام لا بدّ من استقراء المهم منها والتماس أدلّته وحججه ، وفحصها وتقييمها على أساس مقارن .الطرق القطعية :وقد ذكروا لها أقساماً أهمها ستة :1 ـ الخبر المتواتر .2 ـ الخبر المحفوف بقرائن توجب القطع بصدوره .3 ـ الاجماع الكاشف عن رأي المعصوم .4 ـ بناء العقلاء الكاشف عن رأي المعصوم فيه .5 ـ سيرة المتشرعة الكاشفة عن رأي المعصوم فيها .6 ـ ارتكاز المتشرعة .( 1 ) الخبر المتواتر : ويراد به إخبار جماعة يمتنع تواطؤهم على الكذب وصدورهم جميعاً عن خطأ أو اشتباه أو خداع حواس ، على ان يجري هذا المستوى في الاخبار في جميع طبقات الرواة ، حتى الطبقة التي تنقل عن المعصوم مباشرة .فلو تأخر التعدد في طبقة ما ، أو فقد أحد تلكم الشروط ، خرج عن كونه متواتراً إلى أخبار الاحاد ، لان النتائج ـ كما يقول علماء الميزان ـ تتبع دائماً أخسَّ المقدمات .ومثل هذا الخبر ـ أعني المتواتر ـ مما يوجب علماً بصدور مضمونه ; والعلم ـ كما سبق بيانه ـ حجة ذاتية لا تقبل الوضع والرفع . شروطه : وقد جعلوا له شروطاً اختلفوا في تعددها ، ويمكن انتزاعها جميعاً من نفس التعريف ، يقول المقدسي : " وللتواتر ثلاثة شروط :الاول : أن يخبروا عن علم ضروري مستند الى محسوس ، إذ لو أخبرنا الجم الغفير عن حدوث العالم وعن صدق الانبياء ، لم يحصل لنا العلم بخبرهم .الثاني : أن يستوي طرف الخبر ووسطه في هذه الصفة وفي كمال العدد ، لان كل عصر يستقل بنفسه فلا بد من وجود الشروط فيه ، ولاجل ذلك لم يحصل لنا العلم بصدق اليهود مع كثرتهم في نقلهم عن موسى(عليه السلام) تكذيب كل ناسخ لشريعته .الشرط الثالث : في العدد الذي يحصل به التواتر واختلف الناس فيه ، فمنهم من قال : يحصل بإثنين ، ومنهم من قال : يحصل بأربعة ، وقال قوم : بخمسة ، وقال قوم : بعشرين ، وقال آخرون : بسبعين ، وقيل : غير ذلك .والصحيح أنه ليس له عدد محصور " (148) .ويقول زين الدين العاملي الملقب بالشهيد الثاني في درايته وهو يعرّفه ويشير الى شروطه : " هو ما بلغت رواته في الكثرة مبلغاً أحالت العادة تواطؤهم على الكذب ، واستمر ذلك الوصف في جميع الطبقات حيث تعدد ، فيكون أوله كآخره ، ووسطه كطرفيه ، ولا ينحصر ذلك بعدد خاص " (149) .ومثلهما غيرهما من أعلام الشيعة والسنة على غموض في أداء بعضهم ربما أوهم خلاف ذلك .على أن هذه التحديدات ، ليست بذات ثمرة إلا في حدود تشخيص المصطلح للخبر المتواتر وتحديد مفهومه ، وكل ما كتب في هذا الشأن فإنما هو لتشخيص صغريات ما يقع به العلم عادة ، وهذه الشرائط وأشباهها من موجبات ما يحصل بها التشخيص ، وإلا فإن المدار على العلم ، فإن حصل منها فهو الحجة وإن لم يحصل احتجنا الى التماس دليل على الحجية ، وليس في هذه الشرائط ما يشير اليه .وأمثلة المتواتر كثيرة ، وقد عدوا منها كل ما يتصل بضروريات الدين ، كالفرائض اليومية وأعدادها وأعداد ركعاتها ، وصوم شهر رمضان ، وكالذي مرَّ في حديث الثقلين ، والغدير ، وأشباههما .واعتبروا منها قوله(عليه السلام) : " من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " (150) .( 2 ) الخبر المحفوف بالقرائن القطعية : ويراد به الخبر غير المتواتر ، سواء كان مشهوراً أم غير مشهور ، على ان يحتف بقرائن توجب القطع بصدوره عن المعصوم .والمدار في حجية هذا النوع من الاخبار هو حصول العلم منه كالخبر المتواتر ، والعلم بنفسه ـ كما سبق بيانه ـ حجة ذاتية ، فلا نحتاج بعده الى التماس أدلة على الحجية .( 3 ) الاجماع : والبحث في الاجماع له استقلاله ، وليس موضعه هنا نظراً لاعتباره لدى الاكثر مصدراً مستقلاً من مصادر التشريع في مقابل الكتاب والسنّة .نعم في بعض المباني ـ وبخاصة لدى الاكثر من علماء الشيعة ـ هو كشفه عن رأي المعصوم على نحو القطع ، فيكون من حقه على هذا المبنى ان يبحث عنه في هذا الموضع ، ولا يعتبر من الادلة المستقلة .وقد آثرنا تأخير البحث عنه الى موضعه جرياً على ما سلكه الاكثر في عدّه من مصادر التشريع .( 4 ) بناء العقلاء : ويراد به صدور العقلاء عن سلوك معين تجاه واقعة مّا صدوراً تلقائياً ، ويتساوون في صدورهم عن هذا السلوك على اختلاف في أزمنتهم وأمكنتهم ، وتفاوت في ثقافتهم ومعرفتهم ، وتعدد في نحلهم وأديانهم .وأمثلته كثيرة منها : صدور العقلاء جميعاً عن الاخذ بظواهر الكلام ، وعدم التقيد بالنصوص القطعية منه ، على نحو يحمِّل بعضهم بعضاً لوازم ظاهر كلامه ، ويحتج به عليه .ومنها : صدور العقلاء جميعاً عن الرجوع الى أهل الخبرة ـ فيما يجهلونه من شؤونهم الحياتية وغيرها ـ فالمريض يرجع الى الطبيب ; والجاهل يرجع الى العالم ، وهكذا ... .وحجية مثل هذا البناء إنما تتم اذا تمَّ كشفه عن مشاركة المعصوم لهم في هذا الصدور فيما تمكن فيه المشاركة ، أو إقراره لهم على ذلك فيما لم تمكن فيه .وسرُّ احتياجنا الى الكشف عن مشاركة المعصوم ، أو إقراره ولو من طريق عدم الردع فيما يمكنه الردع عنه مع اطلاعه عليه ، أن هذا البناء ليس من الحجج القطعية في مقام كشفه عن الواقع ، لجواز تخطئة الشارع لهم في هذا السلوك .والفرق بينه وبين حكم العقل ، أن حكم العقل فيما يمكنه الحكم فيه وليد اطلاع على المصلحة أو المفسدة الواقعية ، كما يأتي بيانه ، وهذا البناء لا يشترط فيه ذلك لكونهم يصدرون عنه ، ـ كما قلنا ـ صدوراً تلقائياً غير معلل ، فهو لا يكشف عن واقع متعلقه من حيث الصلاح والفساد ، ولعل قسماً كبيراً من الظواهر الاجتماعية منشؤه هذا النوع من البناء .ومع عدم كشفه عن الواقع فهو لا يصلح للاحتجاج به على المولى لكونه غير ملزم له ، ومع إقراره أو عدم ردعه أو صدوره هو عنه يقطع الانسان بصحة الاحتجاج به عليه .وسيأتي مزيد حديث عنه بما أسموه بـ ( العرف ) واعتبروه من الادلة المستقلة مع رجوع قسم كبير منه الى حجية هذا البناء .( 5 ) سيرة المتشرعة : وهي صدور فئة من الناس ينتظمها دين معين أو مذهب معين عن عمل مّا أو تركه ، فهي من نوع بناء العقلاء مع تضييق في نوع من يصدر عنهم ذلك البناء ، وحجية مثل هذه السيرة إنما تكون بعد اثبات امتدادها تأريخياً الى زمن المعصوم وإثبات مشاركته لهم في السلوك فيما يمكن صدوره منه أو إقرارها من قبله ، ولو من قبيل عدم ردعه عنها مع إمكان الردع والاطلاع عليها فيما لم يمكن صدورها منه .ومع عدم إثبات ذلك لا مجال للتمسك بها بحال ، وما أكثر السير المنقطعة من وجهة تأريخية لكونها حادثة ، أو لا يمكن إثبات امتدادها لذلك الزمن .والمقياس في حجيتها كشفها عن فعل المعصوم أو إقراره كشفاً قطعياً ليصح الاحتجاج بها .وبهذا ندرك قيمة ما يحتج به أحياناً من ادعاء قيام السيرة القطعية على فعل شيء أو تركه مع عدم إمكان إثبات امتدادها تأريخياً الى زمن المعصوم ، وقد يكون منشؤها فتوى سائدة يمر عليها جيل أو جيلان ، تتخذ طابع السيرة لدى الناس .وكثير من الاعراف والعادات التي تشيع في بلد ما أو بيئة معينة حسابها نفس هذا الحساب ، وإن أصبح لها في نفوس العوام طابع الشعار المقدس .وسيأتي في مبحث العرف ان قسماً من الفتاوى التي سادت في بعض المذاهب لا منشأ لها إلا هذا العرف المستحدث ، وهو ما لا يصلح ان يكون حجة .وربما عرضنا في مبحث العرف جملة من أقوال العلماء بما يكشف عن التقاء في وجهات النظر في مناشئ اعتبارالحجية لها وعدمها .وعلى أي حال فما كشف عن السنة منها قولاً أو فعلاً أو إقراراً كان حجة ، وإلا فلا دليل على حجيته قطعاً لما سبق ان قلنا في التمهيد الثاني من أن كل حجة لا تنهي الى القطع فهي ليست بحجة ، وان الشك في حجية شيء مّا كاف للقطع بعدمها .( 6 ) ارتكاز المتشرعة : وقد شاع استعمال هذا الاصطلاح على السنة عند بعض أساتذتنا المتأخرين ، والظاهر انهم يريدون به بالاضافة الى توفر السيرة على الفعل أو الترك ، بالنسبة الى شيء ما ، شعور معمق بنوع الحكم الذي يصدر عن فعله أو تركه المتشرعون لا يعلم مصدره على التحقيق . الفارق بينه وبين سيرة العقلاء أو المتشرعة : ان سيرة العقلاء أو المتشرعة بحكم كونها فعلاً أو تركاً لا لسان لها ، فهي مجملة من حيث تعيين نوع الحكم ، وإن دلَّت على جوازه بالمعنى العام عند الفعل أو عدم وجوبه عند الترك ، لكن ارتكاز المتشرعة يعين نوعه من وجوب أو حرمة أو غيرهما . حجيته : وحجية مثل هذا الارتكاز لا تتم الا اذا علمنا بوجوده في زمن المعصومين وإقرارهم لاصحابه عليه ، ومثل هذا العلم يندر حصوله جداً ، وتكوين الارتكاز في نفوس الرأي العام لا يحتاج من وجهة نفسية الى أكثر من إمرار فتوى مّا في جيلين أو ثلاثة على الحرمة مثلاً ، ليصبح ارتكازاً في نفوس العاملين عليها . البابُ الاولالقسم الثاني(السُّنّة) الطرق غير القطعيّة الطرق غير القطعيّة ونريد بها خصوص ما كان له قابلية الكشف عن السنة كشفاً ناقصاً ، وهي على قسمين :1 ـ ما قام على اعتباره دليل قطعي .2 ـ ما لم يقم على اعتباره دليل .ويكاد ينحصر الاول منهما بأخبار الاحاد على تفصيل فيها . خبر الواحد : وقد عرفوه بتعريفات متعددة ترجع في جوهرها الى ما يقابل الخبر المتواتر والخبر المحفوف بقرائن توجب القطع واحداً كان أو أكثر . الاختلاف في حجيته : وقد اختلفوا في حجيته على أقوال لا تكاد تلتقي ، فمنهم من منع العمل به مطلقاً ، ومنهم من أجازه (151) .والمانعون يختلفون في سبب المنع ، فمنهم من يعزوه الى حكم العقل ، وينسب ذلك الى ابن علية والاصم ، ومنهم من ينسبه الى الشرع كالقاشاني من أهل الظاهر (152) .والمجوزون مختلفون بدورهم أيضاً ، فمنهم من يستند في حجيته الى حكم العقل ، وينسب ذلك الى أحمد بن حنبل وابن شريح وأبو الحسن البصري والصيرفي من الشافعية (153) ; وزاد أحمد بن حنبل : " ان خبر الواحد يفيد بنفسه العلم ، وحكاه ابن حزم في كتاب الاحكام عن داود الظاهري والحسين بن علي الكرابيسي والحارثي المحاسبي ، قال : وبه نقول ; وحكاه ابن خوازمنداد عن مالك بن انس ، واختاره وأطال في تقريره " (154) .وأكثر علماء الاسلام على حجيته على اختلاف بينهم في شروط الحجية ومناشئها .ويعرف الوجه في حجيته وعدمها من عرض أدلتها إثباتاً ونفياً ، فلا حاجة الى الدخول في تفصيل الاقوال فيهما ومناقشتها بجميع ما لها من خصوصيات . أدلة المثبتين : وقد استدل المثبتون ـ على اختلاف أدلتهم ـ بعد ضم بعضها الى بعض بالادلة الاربعة : الكتاب ، السنة ، الاجماع ، حكم العقل .وأهم أدلتهم من الكتاب آيتان :أُولاهما : قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (155) .والظاهر من الاية بقرينة مورد نزولها أنها واردة مورد الردع عن بناء عقلائي قائم اذ ذاك ، وهو الاعتماد على خبر الواحد وان كان غير مؤتمن على النقل .وقد صبت الاية ردعها على خصوص الفاسق ، بما أنه غير مؤتمن على طبيعة ما ينقله بقرينة تعليقها التبيين على نبئه بالخصوص .وتخصيص التبين بخبر الفاسق ، يكشف بمفهوم الشرط عن إقرارهم على الاخذ بخبر غيره .وليست القضية هنا واردة لبيان الموضوع ـ كما قد يتخيل ذلك ـ لكون الجزاء معلقاً على المجيء ، وانتفاء التبين لانتفائه من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع ، وهي لا تدل على المفهوم .وذلك لان الموضوع في القضية الشرطية إذا كان مؤلفاً من جزأين " أحدهما مما يتوقف عليه الجزاء عقلاً دون الاخر ، كما اذا قيل : إن ركب الامير ، وكان ركوبه يوم الجمعة ، فخذ بركابه ، فإنّ توقف الجزاء على أصل الركوب عقلي ، وعلى كونه في يوم الجمعة شرعي مولوي ، ففي ذلك يثبت لها المفهوم بالاضافة الى خصوص الجزء الذي لا يتوقف عليه تحقق الجزاء عقلاً ولا يكون لها مفهوم بالاضافة الى الجزء الاخر " (156) .والموضوع الذي ركز عليه التبين هنا كان مركباً من النبأ ومجيء الفاسق به ، فاذا انتفى مجيء الفاسق به انتفى لزوم التبين عنه ; فكأنه قال : النبأ الذي لا يجيء به الفاسق لا يجب التبين عنه ، وهو معنى حجية النبأ الذي يجيء به غير الفاسق ; والظاهر أن انطواء الاية على تخصيص الردع بقسم من الاخبار التي قام بناؤهم على الاخذ بها مطلقاً وإقرار الباقي مما لا ينبغي ان يكون موضعاً لكلام ، وظهورها في ذلك لا تزعزعه كثرة ما أورد عليها من إشكالات قد يخضع أكثرها لفلسفة لغوية ، ولكنه لا يقوى مهما كانت قيمته على زلزلة ما لها من ظهور عرفي وهو الاساس في الحجية ، وبخاصة اذا لاحظنا اسلوب عرضها للفكرة وألقينا عليها الاضواء من أسباب النزول .ولكن الاية في ظاهرها واردة لاقرار بناء عقلائي قائم ورادعة عن قسم منه ، وهو الاخذ بأخبار الفاسق ـ بما أنه غير مؤتمن على خبره كما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ، ويقتضيه التعليل ـ فهي من مكملات الدليل القادم ، أعني بناء العقلاء .الاية الثانية : وهي قوله تعالى : ( وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم اذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ) (157) .والذي يبدو لي من صدر الاية أن شبهة عرضت لبعض من هم خارج المدينة من المسلمين في أن لزوم التفقه المباشر من النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) انما هو من قبيل الواجبات العينية التي لا يسقطها قيام البعض بها عنهم ، ففكروا بالنفر جميعاً الى المدينة ليأخذوا الاحكام عنه مباشرة ، فنزلت هذه الاية لتفهمهم بأن هذا النوع من النفر الجماعي لا ضرورة له ، وليس هو مما ينبغي ان يكون لما ينطوي عليه من شلّ لحركتهم الاجتماعية وتعطيل لاعمالهم ، فاكتفى الشارع بمجيء طائفة من كل فرقة منهم للتفقه في الدين والقيام بمهمة تعليمهم اذا رجعوا اليهم .والظاهر من أمثال هذه الايات التي يقع فيها تقابل الجمع بالجمع انها واردة على نحو الجموع الانحلالية لا المجموعية ، بمعنى أن كل واحد من هذه الطائفة مسؤول عن تعليم بعض المكلفين لا ان المجموع مسؤولون عن تعليم المجموع ، ونظيره في تعبيراتنا المتعارفة ما لو أصدرت وزارة التعليم مثلاً بياناً الى المعلمين في الدولة في ان يكافحوا الامية بتعليم المواطنين الاميين ; فليس معنى ذلك ان يجتمع المعلمون جميعاً ليعلموا دفعة واحدة مجموع الاميين ، بل معناه أن على كل واحد ان يجند نفسه لتعليم غيره فرداً كان أو أكثر .والعمومات المجموعية نادرة فلا يصار اليها إلا بدليل .والذي أتصوره أن الطريقة السائدة في عصورنا من الهجرة الى مراكز التفقه كالنجف الاشرف ، وقم ، والقاهرة من بعض من يسكنون بعيداً عنها ، ثم العودة الى بلادهم ليعلموا إخوانهم أحكام دينهم هي نفس الطريقة التي دأبوا عليها في عصر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعت اليها الاية .وليس في هذه الطريقة اجتماع المبلغين والمرشدين في مقام الاداء ليكوّنوا لمستمعيهم مقدار ما يتحقّق به التواتر ، بل يكتفون بالواحد الموثوق به منهم ، فالاية على هذا واردة في مقام جعل الحجة لاخبار آحاد الطائفة ، وإن شئت ان تقول انها واردة لامضاء بناء عقلائي في ذلك كسابقتها .واذا صحت هذه الاستفادة لم تبق حاجة بعد الى استعراض ما يراد من كلمة ( لعل ) في الاية ، أو كلمة ( الحذر ) فيها ، لعدم توقف دلالة الاية عليها ، ويكفي في الالزام بالرجوع اليهم لاخذ الاحكام تشريع ذلك ، وان كان بلسان الترخيص ، ومن لوازم الترخيص في مثله جعل الحجية لما يحدثون به فلا يسوغ تجاهلها مع قيامها بداهة .واحتمال ان يراد بالطائفة ما يبلغ به حد التواتر على أن يجتمع الكل لتبليغ كل واحد منهم احتمال يأباه ظاهر الاية وكيفية الاستفادة من نظائرها ، كما يأباه الواقع العملي لما درج عليه المبلغون في جميع العهود بما فيها عهد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، على أن لفظ طائفة أوسع منه فتضييقها الى ما يخصه بالخصوص لا ملجأ له ولا شاهد عليه .وبهذا يتضح واقع ما أثاره الامدي وغيره من التشكيكات حول دلالة الاية على حجية خبر الواحد (158) ، فلا حاجة الى الدخول في تفصيلاته . أدلتهم من السنّة : وقد استغرقت أدلتهم من السنّة جوانبها الثلاث قولاً وفعلاً وتقريراً . السنّة القولية : أما السنّة القولية فهناك طوائف من الروايات عن أهل البيت(عليهم السلام) اذا لوحظت مجتمعة فهي متواترة المضمون .اولاها : ما ورد عنهم(عليهم السلام) من إرجاعهم بعض أصحابهم الى البعض كارجاعه(عليه السلام) (159) الى زرارة بقوله : " اذا أردت حديثنا فعليك بهذا الجالس " (160) وأشار الى زرارة وقوله(عليه السلام) : " العمري ثقة ، فما أدّى اليك ، فعنّي يؤدّي " (161) وكثير من أمثالها .ثانيها : ما دل على وجوب الرجوع الى الرواة كخبر الاحتجاج : " وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواة حديثنا ، فانهم حجتي عليكم ، وأنا حجة الله عليهم " (162) .ثالثها : ما ورد عنهم(عليهم السلام) من الحث على كتابة الحديث وإبلاغه كقوله(صلى الله عليه وآله وسلم) : " من حفظ على أمتي أربعين حديثاً ، بعثه الله فقيهاً عالماً " (163) وقوله(عليه السلام) (164) لاحد الرواة : " واكتب وبثّ علمك في بني عمك ، فإنه يأتي زمان هرج لا يأنسون إلا بكتبهم " (165) .رابعها : ما دل على ذم الكذب عليهم والتحذير من الكذابين ، مثل الحديث المتواتر عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) : " من كذب عليّ متعمداً ، فليتبوأ مقعده من النار " (166) مما يدل على المفروغية عن حجية خبر الاحاد ، اذ لو كانوا مقتصرين في مجال الحجية على خصوص الخبر المتواتر لما كان مجال للكذب عليهم ، ولما كان أثر لاولئك الكذابين يُخشى منه .خامسها : الاخبار الواردة في باب التعارض (167) من الاخذ بالمرجحات كالاعدلية ، والاصدقية ، والشهرة ، والقول بالتخيير عند التساوي ; ومع فرض عدم حجية خبر الاحاد لا يتصور فرض التعارض في أخبار المعصومين .سادسها : الاخبار الواردة في تسويغ الرجوع الى كتب الشلمغاني وبني فضال والاخذ بروايتها وترك آرائهم (168) .ومن استعراض جميع هذه الطوائف نرى أن الحجية مجعولة فيها لخبر الثقة بما أنه ثقة ، وليس لنحلته أو مذهبه أثر في الاخذ بحديثه أو تركه كما هو الشأن في كتب بني فضال والشلمغاني ، وهم من غير الشيعة الامامية ، ومناسبة الحكم والموضوع تقتضيه ، لذلك فلا خصوصية للعدالة أو غيرها من الشروط . السنّة العملية : وحسبنا منها " ما تواتر من انفاذ رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أمراءه وقضاته ورسله وسعاته الى الاطراف ، وهم آحاد ، ولا يرسلهم إلا لقبض الصدقات ، وحلّ العهود وتقريرها ، وتبليغ أحكام الشرع " (169) . وشواهده أكثر من ان تحصى . فلو كان خبر الثقة ليس بحجة لما كان معنى لهذا الارسال الملازم لتكليف المسلمين بالاخذ عنهم وإلزامهم بذلك ، ودعوى أن أحاديث أمثال هؤلاء مما يكتنفها من القرائن ما يوجب القطع بمطابقتها للواقع ، لا تعتمد على دليل ، لان رسله ليسوا كلهم بهذا المستوى ، ولا الاحاديث التي يحدثون بها كذلك . السنّة التقريرية : وهي قائمة بإقراره لبناء العقلاء على الاخذ بأخبار الاحاد اذا كانوا ثقات في النقل ; يقول شيخنا النائيني : " وأما طريقة العقلاء فهي عمدة أدلة الباب ، بحيث لو فرض أنه كان سبيل الى المناقشة في بقية الادلة فلا سبيل الى المناقشة في الطريقة العقلائية القائمة على الاعتماد بخبر الثقة ، والاتكال عليهم في محاوراتهم ، بل على ذلك تدور رحى نظامهم ، ويمكن ان يكون ما ورد من الاخبار المتكفلة لبيان جواز العمل بخبر الثقة من الطوائف المتقدمة كلها إمضاء لما عليه بناء العقلاء ، وليست في مقام تأسيس جواز العمل به لما تقدم من أنه ليس للشارع في تبليغ أوامره طريق خاص ، بل طريق تبليغها هو الطريق الجاري " (170) لدى الناس جميعاً ، وهم يعتمدون أخبار الاحاد ، ويرتبون عليها جميع آثار العلم وإن لم تكن علماً في واقعها .وامتداد هذا البناء الى زمن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من الواضحات ; وقد حكى الغزالي في المسلك الاول " ما تواتر واشتهر من عمل الصحابة بخبر الواحد في وقائع شتى لا تنحصر " (171) ، وقد ضرب لها بعشرات الامثلة ، وبالطبع انه لو كانت للنبي طريقة خاصة في تبليغ الاحكام لا تعتمد أخبار الاحاد لبيّنها ولردع صحابته عن العمل بغيرها ، وهذا ما لم يتحدث فيه التأريخ ، ومثله ما يشتهر عادة ويطول الحديث فيه . الاجماع : وقد حكاه في إرشاد الفحول عن الصحابة والتابعين (172) ، وحكاه الشيخ الطوسي عن الامامية ، وغيرهما .ولكن الاستدلال بالاجماع لا يتضح له وجه لعدم الطريق اليه بالنسبة الينا غير أخبار الاحاد ، لبداهة عدم إمكان تحصيله من قبلنا ، ولعدم إمكان استيعاب الصحابة والتابعين كما هو الشأن في الدعوى الاولى ، وعدم إمكان التعرف على آراء الامامية جميعاً بالنسبة للدعوى الثانية ، والاجماع المنقول متوقفة حجيته على حجية خبر الناقل له ، فلو كانت حجية خبر الناقل له موقوفة عليه لزم الدور ; وهناك مناقشات أخرى له لا داعي للاطالة في عرضها فلتراجع في المطولات (173) . العقل : وقد صوّر بصور عدة ، نذكر بعضها ، ونحيل البعض الاخر على الكتب المطولة لعدم الجدوى بعرضها ومناقشتها جميعاً :أولاها : ما ذكره الغزالي من أن " المفتي اذا لم يجد دليلاً قاطعاً من كتاب أو إجماع أو سنّة متواترة ، ووجد خبر الواحد ، فلو لم يحكم به لتعطلت الاحكام ، ولان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) اذا كان مبعوثاً الى اهل عصر يحتاج الى انفاذ الرسل إذ لا يقدر على مشافهة الجميع ، ولا إشاعة جميع أحكامه على التواتر الى كل أحد ، إذ لو أنفذ عدد التواتر الى كل قطر لم يفِ بذلك أهل مدينته " (174).وقد أجاب الغزالي على الشقّ الاول بأن " المفتي اذا فقد الادلة القاطعة ، يرجع الى البراءة الاصلية والاستصحاب ، كما لو فقد خبر الواحد أيضاً " (175) ; ولكن هذا الجواب غير واضح لان الرجوع الى البراءة الاصلية في غير ما يقطع فيه محق للرسالة من أساسها ، لبداهة أن الاحكام القطعية محدودة جداً إن لم تكن معدودمة .والاحكام المعروفة بضروريات الدين كالصوم ، والصلاة ، والحج ، وأمثالها ، وإن ثبتت لها الضرورة القطعية ، إلا أن ثبوتها لها إنما هو ثبوت في الجملة لا في جميع الخصوصيات ، ولو جردت من الخصوصيات الثابتة بالامارات المعتبرة لتحولت الى واقع لا تقرّه جميع المذاهب الاسلامية ، فضلاً عن إنكار كونه من الضروريات ، على أن الاسلام ليس هو هذه الضروريات فحسب كما هو ثابت بالبداهة .والرجوع الى الاستصحاب ، وهو في رتبة سابقة على البراءة كما سبق بيانه ويأتي ، مناقش صغرى وكبرى ; أما الصغرى فلاحتياجه الى حالة سابقة معلومة وشك طارئ عليها ، وهو نادر ما يقع في الاحكام الكلية الثابتة بالضرورة ، وفي غيرها لا علم بحالة سابقة ، كما هو الفرض ; وأما الكبرى فللشكّ في حجية مثل هذا الاستصحاب لرجوعه الى ما يدور أمره بين مقطوع البقاء ومقطوع الارتفاع ، لان الحكم المجعول إن كان واسع المنطقة الى هذا الزمان ، فهو مقطوع البقاء ، وإن كان ضيق المنطقة فهو مقطوع الارتفاع ، فما هو الحكم المعلوم اذن ليستصحب بقاؤه ؟ وأصالة عدم النسخ إن رجعت الى الاستصحاب فحسابها نفس هذا الحساب ; وسيأتي فيها الكلام مفصلاً .اللهم إلا ان يدّعي أن مراده هنا من الاستصحاب استصحاب عدم الجعل قبل البعثة ، أو استصحاب عدم الحكم المجعول في حقه حال الصغر ; ولكن الاشكال في جريان هذين الاستصحابين جار أيضاً إما لعدم الموضوع فعلاً وإما لعدم مشاهدتنا للحالتين : حالة ما قبل البعثة ، وحالة ما بعدها ، لنجري في حقنا استصحاب الحالة السابقة ، لو أُريد استصحاب العدم بالنسبة لحكمنا الخاص ، أمّا لو أُريد استصحاب عدم الجعل الكلي فهو مثبت بالنسبة الينا ، واستصحاب عدم الجعل حال الصغر يشكل جريانه للشك في تبدل الموضوع ، فنحن حال الصغر غيرنا عندما نقع تحت التكاليف ، وللاعلام في هذه الانواع من الاستصحابات حديث يأتي في موضعه ولعل لنا في بعضها رأيا .على أن استصحاب عدم الجعل هنا ، لا يجري في جميع المشكوكات للعلم الاجمالي بجعل الكثير منها لبداهة أن الاسلام لم يأتِ بهذه المقطوعات أو الضروريات فحسب ، ومع قيام العلم الاجمالي لا يمكن جريان الاستصحاب ولا البراءة الاصلية في أطرافه ، إما لعدم إمكان جريانها أصلاً ، أو انها تجري وتتساقط للمعارضة ; وسيأتي إيضاح ذلك في مبحث الاحتياط العقلي .والانسب ان يجاب عنه بأن هذا الدليل لو تم فهو لا يعين العمل بأخبار الاحاد إلا بضميمة مقدمات أجنبية عن حكم العقل لجواز ان تكون هناك طرق مجعولة من قبله تؤمن هذا الغرض الخاص أو الايكال الى الاحتياط فيها مثلاً .وأجاب عن الشقّ الثاني بقوله : " أما الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، فليقتصر على من يقدر على تبليغه ، فمن الناس في الجزائر من لم يبلغه الشرع فلا يكلف به ، فليس تكليف الجميع واجباً " (176) .وهذا الجواب غريب في بابه أيضاً لمنافاته للشمولية التي جاءت بها رسالة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وعمومها لجميع البشر ( وما أرسلناك الا كافة للناس ) (177) ولان فرض الاقتصار على البعض يوجب اختصاص الرسالة بهم وحرمان غيرهم مع فرض احتياجهم الى مثلها، وأين قاعدة اللطف منها إذن ؟ ولماذا لا يبعث لكل أمة نبياً يفي بحاجتها اذا تعذر قيام نبي واحد بهذه المهمة ؟فلا بد إذن أن يفرض ـ بعد ثبوت الجانب الشمولي فيها ـ أن طرق التبليغ المعتمدة لدى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كافية بإيصال صوته اليها بالوسائل المتعارفة ، وبذلك يتم ما قال المستدل .ثم عقَّب ـ أعني الغزالي ـ بعد ذلك بقوله : " نعم لو تعبد نبي بأن يكلف جميع الخلق ، ولا يخلي واقعة عن حكم الله تعالى ، ولا شخصاً عن التكليف ، فربما يكون خبر الواحد ضرورة في حقه " (178) .وهذا الاستدراك عين ما أراده المستدل لتحدثه عن نبينا(صلى الله عليه وآله وسلم) بالخصوص ورسالته ، لانها موضع حاجتنا الفعلية .ومن البديهي ان شريعتنا عامة لجميع البشر ، وما من واقعة إلا ولها فيها حكم ، إلا أن قوله : " فربما يكون الاكتفاء بخبر الواحد ضرورة " لا يتم إلا بضميمة مقدمات أخرى تحصر الطريق فيه ، وهو ما لم يذكر في الدليل ، كما لم يذكره في استدراكه عليه .الصورة الثانية : ما ذكره صاحب الوافية " وحاصله إنا نعلم تفصيلاً ببقاء التكليف بالصلاة والصوم ونحوهما من الضروريات ، وليس لنا علم تفصيلي بأجزائها وشرائطها ، فإذا تركنا العمل بمؤديات الامارات ، واقتصرنا على خصوص ما علمناه من الاجزاء والشرائط ، خرجت هذه الامور عن حقائقها ، لان الضرورية من الاجزاء والشرائط ليست إلا أموراً معدودة ، بحيث نقطع بعدم العناوين المزبورة على ما هو المتفق دخله فيها . فلا مناص من الرجوع الى الاخبار المودعة في الكتب المعتبرة " (179) .ولكن هذا الدليل أضيق من المدعى لعدم اقتضائه اثبات الحجية لمطلق الاخبار بل لخصوص ما اثبت منها الاجزاء والشرائط للتكاليف المعلومة .أما الاخبار النافية التي ورد على خلافها عموم مثبت للتكليف أو اطلاق أو اصل عملي فلا تتعرض لها باثبات ، ومقتضاه عدم الحجية فيها ; والتحقيق ان العقل لا يلزم بأخبار الاحاد ، وحسبنا في ذلك ما مرّ من الادلة السمعية " فما ذهبت اليه الجماهير من سلف الامة من الصحابة والتابعين والفقهاء والمتكلمين ، إنه لا يستحيل التعبد بخبر الواحد عقلاً ، ولا يجب التعبد به عقلاً ، وإن التعبد واقع به سمعاً " (180) هو الحق في المسألة ، وهو الذي اختاره جلّ علماء الشيعة كما يظهر مما أوردوه في كتبهم المطولة . ادلة المانعين : أما المانعون فقد استدلوا على المنع بالادلة السمعية ، كالايات الناهية عن العمل بالظن أو بغير العلم ، باعتبار أن أخبار الاحاد لا تفيد علماً بمدلولها .والجواب على ذلك ان هذه الايات مخصصة بما دل على جواز العمل باخبار الاحاد لانها أخص منها إن لم تكن هذه الادلة حاكمة عليها .وقد اعتبروا هذه الايات أيضاً رادعة عن بناء العقلاء بعد التغافل عن تخصيصها بما دل على الجواز .وأجيب عن ذلك أيضاً بحكومة بناء العقلاء عليها لاعتبار العقلاء هذا النوع من أخبار الاحاد علماً من حيث ترتيب جميع آثار العلم عليه ، ومع اعتباره علماً ، فهو خارج عن الايات الناهية عن العمل بغير العلم موضوعاً ، فلا يكون مشمولاً لها بحال .واستدلوا أيضاً بالاجماع على المنع من العمل بها ، وهو مناقش صغرى وكبرى ; أما الصغرى فلعدم حصوله لما سمعت من أن جل العلماء يذهبون الى جواز العمل بها ، فأين موقع الاجماع منها ؟ وأما الكبرى فلمعارضته بمثله ، وهو ما سبق حكايته عن الشيخ الطوسي(قدس سره) ; على ان هذا النوع من الاجماع يستحيل أن يكون حجة لانه يلزم من اثبات حجيته عدمها بداهة أن معنى قيامه على عدم العمل بأخبار الاحاد أن لا يكون هو بنفسه حجة لانه منقول بأخبار الاحاد ، وما يلزم من وجوده عدمه لا يصلح للدليلية أصلاً .أما أدلتهم من العقل ، فأركزها ما سبق ان عرضناه من دعوى استحالة جعل الاحكام الظاهرية من قبل الشارع للزوم تناقضها أو تماثلها مع الاحكام الواقعية ، وقد عرفت في البحوث التمهيدية مناقشتها فلا نعيد .وكأن بعض المانعين لهذه الاسباب أو ما يشبهها أوهمت كلماتهم نفي الحجية عن نفس السنّة ، وهم لا يريدون ذلك قطعاً ، وكان ذلك من نتائج الضيق في الاداء كما يوحي به تفصيل كلماتهم وضم بعضها الى بعض (181) . شرائط العمل به : وقد اختلفوا في الشرائط المعتبرة للعمل بأخبار الاحاد ، وفي مقدار اعتبارها ، على أقوال قد لا يكون في عرضها وتعدادها والاستدلال عليها أي جدوى ، مادمنا قد انتهينا في استدلالنا السابق الى أن المدار في الحجية وعدمها هي وثاقة الراوي والاطمئنان بعدم كذبه ، كما هو مقتضى ما يدل عليه بناء العقلاء ، وبعض الادلة اللفظية التي تسأل عن وثاقة الراوي ، ومناسبات الحكم والموضوع ، وما سبق من إرجاع الائمة الى كتب بني فضال .فالظاهر أن الحديث في هذه الشرائط كالحديث عن اعتبار العدالة أو البلوغ أو الذكورية أو غيرها ، إنما هو من قبيل اتخاذ الاحتياطات من قبل بعض الاصوليين للحد من الفوضى والتسامح في قبول جميع الاخبار ، أو هي من قبل بعضهم اعتقاد بعدم إمكان تشخيص الصغريات لما هو حجة من الاخبار إلا من هذه الطريق .وعلى هذا فافتقاد بعض شرائط العدالة في الراوي وعلى الاخص فيما تختلف المذاهب في اعتباره منها ، لا يضر باعتماد الخبر اذا كان راويه من الثقات .واختلاف المذاهب في الرواة اذا عرف من حالهم عدم التأثر والانفعال بمسبقات مذهبهم في مجال النقل ، لا يمنع من اعتماد خبرهم والاخذ به ما لم تكن هناك قرائن أخر توجب التوقف عن العمل به .ومن هنا اعتبر الشيعة الامامية ـ خلافاً لما نقل عنهم من قبل بعض المتأخرين من الكتّاب غير المتورعين ـ أخبار مخالفيهم في العقيدة حجة اذا ثبت أنهم من الثقات ، وأسموا أخبارهم بالموثقات ، وهي في الحجية كسائر الاخبار ، وقد طفحت بذلك جلّ كتب الدراية لديهم ، فلتراجع في مظانها المختلفة .وما يقال عن اعتبار هذه الشرائط ونظائرها ، يقال عن تقسيماتهم للخبر غير المتواتر . تقسيمات : فقد قسموه الى : مشهور ، أو مستفيض ، وغير مشهور ; وقسموا غير المشهور الى : صحيح ، وحسن ، وموثق ، وضعيف ; ثم قسموه الى : مرسل ، ومقطوع ، ومرفوع ، ومسند .وجل هذه التقسيمات منصب على تشخيص صغريات ما يحصل به الاطمئنان بالصدور .وقسم منها لا يجدي إلا في مجال الترجيح عند تعارض الاخبار ، ولا يهم فعلاً الدخول في تفصيلاتها ما دمنا نملك المقياس في الحجية ، وهو التوثق والاطمئنان بصدور الخبر من قبل المعصوم .وحتى اعتبارهم هجر الاصحاب للخبر الصحيح من قبيل الموهنات له ، وعمل الاصحاب بالخبر الضعيف جابراً له انما هو من قبيل تشخيص الصغرى لما يوجب الثقة بالصدور لا للتعبد المحض بذلك .وعلى هذا فالدخول هنا في الاقسام وتحديدها لا يهم الان بحثه ، وهو من شؤون علماء الحديث ، وموضعها في كتب الدراية ، فلتراجع في مظانها الخاصة .( 2 )أما ما لم يقم عليه دليل قطعي فأهمه أمران ، أولهما : الشهرة : وربما عللت حجيتها بما لها من كشف عن رأي المعصوم مما اقتضى ان تعرض ضمن الادلة الكاشفة عن رأيه .ويراد من الشهرة انتشار الخبر ، أو الاستناد ، أو الفتوى ، انتشاراً مستوعباً لجلّ الفقهاء أو المحدثين ، فهي دون مرتبة الاجماع من حيث الانتشار ، وقد قسموها الى ثلاثة أقسام قد تختلف من حيث الحجية وعدمها :اولاها : الشهرة في الرواية .ومؤداها انتشار رواية ما ، تداولها بين الرواة على نحو مستوعب في الجملة ومقابلها الندرة والشذوذ .وقد اعتبروها من مرجحات باب التعارض بين الروايات ، وأدلتها من السنّة كثيرة ، بالاضافة الى ان كثرة النقل عن حس مما يوجب الوثوق بالصدور بخلاف الندرة والشذوذ ، فالقول بحجيتها وصلوحها للترجيح مما لا ينبغي ان يكون موضعاً لكلام .ثانيها : الشهرة في الاستناد .ويراد بها انتشار الاستناد في مقام استنباط الحكم الى رواية مّا من قبل أكثر المجتهدين .وهذه الرواية قد لا تكون مستوفية لشرائط القبول ، الا ان استناد الفقهاء اليها يكون جابراً لضعفها ، كما ان إعراضهم عن رواية ما ، وان كانت صحيحة ، يكون من موجبات تركها وعدم العمل بها .وهذا النوع من الاستناد أو الاعراض لا دليل على اعتباره من المرجحات ، اللهم الا ان يولد وثوقاً للانسان بصدور ما استندوا اليه وعدم صدور ما هجروه أو صدروه لا لغاية بيان الحكم الواقعي باعتبار أن إصرار أكثرية الفهاء على الاخذ برواية مع ضعفها ، أو هجر رواية وهي بأيديهم مع صحتها ، لا يكون بلا مستند جابر أو موهن عادة .وعلى أي فالمدار ـ كما سبقت الاشارة اليه ـ في ذلك كله على حصول الوثوق بالصدور وعدمه ، ولا خصوصية للاستناد أو الهجران ، ولا يبعد ان يكون الوثوق بالصدور حاصلاً في أكثر ما استندوا اليه وبعدم صدوره فيما هجروه من الروايات وهو العمدة في مقام الحجية للاخبار وعدمها .ثالثها : الشهرة في الفتوى .ومضمونها انتشار فتوى ما بين الفقهاء انتشاراً يكاد يكون مستوعباً دون ان يعلم لها أي مستند .وقد استدلوا على حجيتها بأدلة ثلاثة : الكتاب ، والسنّة ، والقياس . أدلتهم من الكتاب : وأهمها التعليل الوارد في آية النبأ السابقة ( ان جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ان تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) (182) حيث ركزت الاية في وجوب التبيّن على التعليل بإصابة قوم بجهالة ، ومقتضى ذلك دوران هذا الحكم مدارها وجوداً وعدماً ، وبما أن الاستناد الى الشهرة الفتوائية لا يعد من الجهالة والسفه ، فلا يجب التبيّن معه في هذا الحال وهو معنى حجيته .والجواب على ذلك : أن دوران حكم مع علة ما وجوداً وعدماً لا يكون إلا مع فرض انحصار العلة ، ولا دليل على انحصارها في أمثال هذه التعابير ; فاذا قال الشارع ـ مثلاً ـ : حرّمت الخمرة لاسكارها ; فغاية ما يدل عليه هذا التعبير تعميم العلة في الحرمة الى غير الخمر من المسكرات لا ارتفاع الحرمة عن شيء عند ارتفاع الاسكار لجواز ثبوتها له لعلة أخرى كالنجاسة ، أو الغصبية ، أو غيرهما من موجبات التحريم ; وانما التزمنا بدوران التبيّن مدار خبر الفاسق وجوداً وعدماً في صدر الاية لدلالة مفهوم الشرط عليها لا أخذاً بهذا التعليل ، فارتفاع السفاهة هنا لا يدل على ارتفاع التبيّن لجواز ثبوته بعلة أخرى غيرها . أدلتهم من السنّة : وهي كثيرة ، وقد وردت رواياتها في باب تعارض الخبرين كمرفوعة زرارة ، قال : " قلت : جعلت فداك ! يأتي عنكما الخبران أو الحديثان المتعارضان ، فبأيهما آخذ ؟ قال(عليه السلام) : خذ بما اشتهر بين أصحابك ، ودع الشاذ النادر " (183) .وقد قربوا الاستدلال بها أن الموصول في قوله : " ما اشتهر " مبهم ، وصلته معرفة له ، وبما أن الشهرة التي اعتبرت في الصلة مطلقة ، فهي شاملة للشهرة في الفتوى بمقتضى ذلك الاطلاق .وقد أجيب عليها بأن المراد من الشهرة هنا الشهرة بمدلولها اللغوي ، وهي الوضوح والابانه ، أخذاً من شهر السيف إذا جرده من غمده وأبانه ، وهي مختصة بهذا المعنى بما علم صدوره من الشارع ، لا ما ظن أو شك فيه ، فكأنه قال (عليه السلام) : خذ بما وضح وبان انتسابه الينا لدى أصحابك ; على أن طبيعة السؤال والجواب تقتضي أن يكون الجواب على قدر السؤال ولا يتجاوزه الى غيره ، والمسؤول عنه هنا هو خصوص الخبرين المتعارضين ، فلا معنى للاجابة بما يعمهما ويعم الشهرة الفتوائية ، لانها غير داخلة في السؤال ، ومن شرائط الاطلاق أن يعلم أن الشارع كان في مقام البيان من هذه الجهة ولم يقم قرينة على الخلاف ليصح التمسك به ، فكونه في مقام البيان من حيث التعميم لها ، تأباه طبيعة التطابق بين السؤال والجواب الذي يقتضي السنخية بينهما حتى مع فرض التعميم لغير المورد .ولو تنزلنا فلا محرز له إن لم نقل ان التطابق يصلح للقرينية على الخلاف . ثالثها ـ القياس : وقد قربوه بما ادعي استفادته في خبر الواحد من كون العلة في حجيته هو حصول الظن بمدلوله ، وهي متوفرة في الشهرة الفتوائية ، بل هي فيها أقوى منها في خبر الاحاد .وهذا الاستدلال من أمتنها لو كان المنشأ في حجية أخبار الاحاد هو الظن الحاصل منه .ولكن سبق لنا ان استعرضنا جلّ أدلة أخبار الاحاد ، فلم نجد فيها ما يشير الى هذه العلة ، وهي اعتبار الظن ، لذلك عممنا حجيته الى ما لم يفد الظن منه ، ولم نجعل الظن مقياساً لنلجأ اليه ، فأركان القياس إذن لم تتوفر في هذا الموضع ليصح الاخذ به .وعلى هذا ، فالشهرة الفتوائية لا مستند لها ليؤخذ بها ، فهي ليست بحجة كما ذهب الى ذلك الكثير من الفقهاء .( 3 ) حجية مطلق الظن بالسنّة : ويراد به العمل بكل ظن يتولد للانسان من أي سبب كان ، اذا كان متعلقاً بحكم شرعي يظن انه ثبت بالسنّة .وقد استدل له بأدلة كلها عقلية ، وليس فيها ما ينهض بالدليلية ; وجل أدلته مما ترجع الى ما يسمى بدليل ( الانسداد الكبير ) وقد عرضناه وناقشناه في مبحث القياس لاستدلال بعضهم به على حجيته باعتباره من مصاديق ما يحصل به الظن ; والذي يرتبط من أدلته ببحوثنا هذه ما ذكره صاحب الحاشية من عده في جملة ما تثبت به السنّة بمقتضى فحوى دليله ، وحاصل ما استدل به : " إنا نعلم علماً قطعياً بلزوم الرجوع الى السنّة بحديث الثقلين وغيره مما دل على ذلك ، فيجب علينا العمل بما صدر عن المعصومين ، فإن أحرز ذلك بالقطع فهو ، وإلا فلا بدّ من الرجوع الى الظن في تعيينه ، ونتيجة ذلك وجوب الاخذ بما يظن بصدوره " (184) ; ومن الواضح ان الظن هنا لم يقيد بكونه حاصلاً من الاخبار ليكون دليلاً على حجية ما يفيد الظن منها كما أفيد ، بل أطلق لما يشمل كل ظن بالسنّة ومن أي سبب كان ، لذلك آثرنا عده من أدلة مطلق الظن بالسنّة .والجواب على هذا أن دعوى القطع بالعمل بمطلق الظن بالسنّة مع عدم إحرازها بالقطع ـ كما هو مقتضى مفاد دليله ـ لا تخلو من مصادرة ، لان الظن بما هو ظن ليس من الحجج الذاتية التي لا تحتاج الى جعل أو إمضاء ، وهذا الدليل لا يثبت جعلاً ولا إمضاءً شرعياً له بل لا تعرض فيه لهذه الجهة أصلاً .ووجوب العمل بالسنّة ـ وإن كان ضرورياً ـ إلا أنه لا يتنجز على المكلف إلا بعد إحرازها بمحرز ذاتي أو مجعول ، وهذا الترديد الذي ورد في الدليل لا يتم إلا اذا ثبت من الخارج أن الظن محرز للسنة في عرض القطع أو في طوله على الاقل ، وإثبات محرزيته بهذا الدليل دوري كما هو واضح .وحسبنا من الادلة الرادعة عن العمل بالظن حجة في الردع عن مثله ما دام لم يثبت لنا بهذا الدليل ما يخصصها أو يحكم عليها لعدم تماميته وصلوحه لاثبات ما أُريد له . البابُ الاولالقسم الثانيالسُّنّة السنة وكيفية الاستفادة منهاالسنّة كلها تشريع : والحديث حول كيفيات الاستفادة منها يدعونا ان نمهد له بالحديث عن تشخيص نفس السنة التي تقع موقع التشريع ، فهي وإن اتفقوا على تعريفها بقول المعصوم وفعله وتقريره إلا أنهم قيدوا حجيتها بما أحرز أنها واردة مورد التشريع ، ولذا قسموها الى أقسام . يقول في سلم الوصول ـ وهو كلام جار نظيره على ألسنة الكثير ـ : " ليس كل ما روي عن الرسول عليه الصلاة والسلام من أقواله وأفعاله وتقريراته تشريعاً يطالب به المكلفون ، لان الرسول بشر كسائر الناس اصطفاه الله رسولاً لهداية الناس وإرشادهم ; قال تعالى : ( قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى اليّ ) (1) فما صدر منه ينتظم الاقسام الاتية :1 ـ ما صدر منه بحسب طبيعته البشرية كالاكل ، والشرب ، والنوم ، وما الى ذلك من الامور التي مرجعها طبيعة الانسان وحاجته .2 ـ ما صدر منه بحسب خبرته وتجاربه في الحياة وفي الامور الدنيوية ، وبحسب تقديره الشخصي للظروف والاحوال الخاصة ، وذلك مثل شؤون التجارة والزراعة والمسائل المتعلقة بالتدبيرات الحربية ، وما الى ذلك من الامور التي يعتمد فيها على مقتضيات الاحوال ومراعاة الظروف .وهذان القسمان ليسا تشريعاً ، لان مرجع القسم الاول الطبيعة والحاجة البشرية ، ومرد القسم الثاني الخبرة والتجارب في الحياة والتقدير الشخصي للظروف الخاصة من غير ان يكون هناك دخل للوحي الالهي ولا للنبوة والرسالة .3 ـ ما صدر منه على وجه التبليغ عن الله تعالى ، بصفته رسولاً يجب الاقتداء به والعمل بما سنَّه من الاحكام مثل تحليل شيء أو تحريمه ، والامر بفعل أو النهي عنه ، وكبيان العبادات ، وتنظيم المعاملات ، والحكم بين الناس .فهذا القسم الاخير تشريع عام يجب على كل مكلف العمل به . والاحاديث الواردة في هذا القسم تسمى بأحاديث الاحكام .وبالجملة فإن أقوال الرسول وأفعاله وتقريراته إنما تكون دليلاً من الادلة ، ومصدراً من المصادر التشريعية التي تستمد منها الاحكام الشرعية إذا صدرت منه بمقتضى رسالته لسنّ القوانين وتشريع الاحكام أو بيانها " (2) .ولكن هذه التفرقة بين أقسام ما يصدر عنه من قول أو فعل أو تقرير ، لا تخلو من غرابة اذا علمنا أنه ما من واقعة إلا ولها حكم في الشريعة الاسلامية كما هو مقتضى شموليتها ، ولا يفرق في ذلك بين ما تقتضيه طبيعته البشرية كالاكل والشرب وغيره ، اذا كان صادراً منه عن إرادة ، وبين غيره من تجارب .واذا تمَّ ما سبق أن عرضناه من أدلة العصمة له ، فإن كل ما يصدر عنه بطبيعة الحال يكون موافقاً لاحكام الشريعة ومعبّراً عنها ، و ما دام الاكل والنوم والشرب من أفعاله الارادية ، فهي محكومة حتماً بأحد الاحكام ، فأصل الاكل محكوم بالجواز بالمعنى العام ، وأكله لنوع معين يدل على جوازه ، كما أن تركه لانواع أخرى يدل على جواز الترك لها ، فالقول بأن ما كان من شؤون طبيعته البشرية لا يعبر عن حكم ، لا يتضح له وجه .كما أن ما يتصل بالقسم الثاني من شؤون خبرته وتجاربه هو الاخر معبر عن حكمه ، وحكمه هنا جواز التعبير عنه ـ وإن أخطأ الواقع ـ لو صحّ جواز خطئه في الموضوعات ، ولنا التأسي به في الاخبار عن تجاربنا وخبراتنا في حدود ما نعلم منها ، و حتى قوله ـ لو صح عنه ـ : " أنتم أعلم بشؤون دنياكم " (3) فهو إمضاء لهم على جواز إعمال تجاربهم وخبراتهم الخاصة ، فهو لا يخرج عن الدلالة على التشريع .نعم ما كان من مختصات النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) كالزواج بأكثر من أربع ، أو ما كان من أفعاله الطبيعية غير الارادية ، فهو لا يعبر عن حكم عام .والخلاصة ان تقييد السنة بما صدر عنه على وجه التشريع كما صنع غير واحد في غير موضعه ، لان كل ما يصدر عنه من أفعاله الارادية فهو تشريع عام عدا مختصاته الخاصة ، اللهم الا ان يريدوا به الايضاح لا الاحتراز وهو بعيد عن مساق كلامهم . اقصاه ان بعض افعاله تختلف عن البعض الاخر من حيث دلالتها على الحكم بعنوانه الاوليّ أو العنوان الثانوي ، ودلالتها أحياناً على جواز العمل بالحكم الظاهري ، وهكذا ...( 2 ) كيفيات الاستفادة منها : وما دمنا قد علمنا أن السنة هي القول والفعل والتقرير ، فلا بد من التحدث عن مدى دلالة كل منها .دلالة القول : واستفادة ما له من دلالة انما تكون بحسب ما تدل عليه الالفاظ بمفاهيمها اللغوية ـ أو الاصطلاحية فيما ثبتت فيه الحقيقة الشرعية من قبله ـ لما سبق ان أكدناه من أن الشارع لم يخترع لنفسه ولاتباعه طريقة جديدة خاصة للتفاهم ، وانما جرى على وفق ما عند العرب منها .وهذه الالفاظ إن كانت نصّاً في مدلولها أو ظاهرة فيه أخذ بها ، وإلا فلا بدّ من الاستعانة ـ في غوامض اللغة وغرائبها ـ بالرجوع الى اهل الفن في ذلك كاللغويين في المفردات اللغوية ، والنحويين ، والصرفيين ، والبلاغيين في الهيئات وتراكيب اللغة وخصائص الاساليب ، واستشارتهم في هذه الجوانب والصدور عما يقولون .حجية أقوال أهل الفن : والظاهر أن المنشأ في حجية أقوالهم ، هو البناء العقلائي في رجوع الجاهل الى العالم الممضى من قبل الشارع قطعاً ، وربما اعتبره بعضهم من الاحكام العقلية التي تطابق عليها العقلاء بما فيهم الشارع المقدس .نعم يعتبر في هؤلاء ان يكونوا خبراء في فنهم ، وأن يكونوا موثوقين في أداء ما ينتهون إليه ، لانه هو المتيقن من ذلك البناء أو الحكم العقلي .فالتشكيك اذن في حجية أقوال اللغويين أو غيرهم من أهل الفن في غير موضعه .الاصول اللفظية : وهناك أصول لفظية يرجع اليها عند الشك في المراد بسبب بعض الطوارئ التي تولد احتمالاً على خلاف الظاهر كأصالة عدم التخصيص عند الشك في طرو مخصص على العام ، وأصالة عدم التقييد عند الشك في طرو المقيد على المطلق ، وأصالة عدم القرينة عند الشك في إقامتها على خلاف الحقيقة وتجمعها اصالة الظهور ; وهذه الاصول ونظائرها ، انما تجري لدى أهل العرف ـ وهم منشأ حجيتها مع العلم باقرار الشارع لهم عليها ، لما قلناه من عدم اختراعه طريقة للتفاهم خاصة به ـ عند الشك في تعيين المراد ، ولا تجري فيما اذا علم المراد وشك في كيفية الارادة ، فأصالة عدم القرينة ـ مثلاً ـ لا تجري فيما اذا علم باستعمال لفظة ما في أحد المعاني ، وشكّ في كون الاستعمال كان على نحو الحقيقة أو المجاز لتثبت أنه على نحو الحقيقة باعتبار أن المجاز مما يحتاج الى قرينة ، وأصالة عدم القرينة تدفعها بل تجري اذا احتملنا إرادة أحد معنيين حقيقي ومجازي ولم نستطع تعيينه بالذات ; فأصالة عدم القرينة تعيّن المعنى الحقيقي منهما .دلالة الفعل : وقد اختلفوا في مقدار ما يستفاد من افعاله ، فالذي عليه أبو اليسر هو التفصيل بين أن يكون الفعل معاملة فالاباحة إجماعاً ، وبين ان يكون قربة فهو محل الخلاف ، والذي نقل عن مالك : " الوجوب عليه وعلينا ، وقال الكرخي : مباح في حقه لتيقنها بالفعل ، وليس للامة اتباعه إلا بدليل ، وقال جمع من الحنفية : الاباحة في حقه ، وليس لنا اتباعه إلا بدليل " (4) ." وهذان المذهبان ، يعكران على نقل أبي اليسر الاجماع على الاباحة في المعاملات ، فانهما لم يفرقا بين قربة ومعاملة ، وقال المحققون : إن الخلاف إنما هو بالنسبة الى الامة ، فمن قائل بالوجوب ، ومن قائل بالندب ، ومن قائل بالاباحة ، ومن قائل بالوقف " (5) .والذي عليه من نعرف من محققي الشيعة عدم دلالته على أكثر من الاباحة بالمعنى العام لا الاباحة في مقابل الوجوب والحرمة ، باستثناء ما كان قريباً منه ، لان التقرب يصلح للقرينية على رجحان ما أتى به ، ولا يعيّن نوعه من وجوب أو استحباب إذ لا معنى للتقرب بالمكروه أو المباح .وعمدة ما يصلح للدليلية لهم هو كون الفعل مجملاً بنفسه لا لسان له ليتعبد بمقتضى ما يدل عليه لسانه ; وغاية ما تدل عليه أدلة العصمة أن المعصوم لا يرتكب الذنب ، فمجرد صدور الفعل منه ، يدل على أن ما أتى به ليس بمحرم عليه وإنما هو مباح بالمعنى الاعم للاباحة ، وأوامر الاقتداء به تدل على مشاركتنا له في جميع الاحكام إلا ما كان من مختصاته ، فهو إذن مباح لنا أيضاً ، ودعوى أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لا يصدر منه إلا ما كان راجحاً ، فلا يعمل المكروه ولا المباحات مع توفر العناوين الثانوية التي يمكن أن تحول ما كان مباحاً بالاصل إلى مستحب بالعنوان الثانوي ـ وإن كان مما يقتضيها مقام النبوة ـ إلا أن أدلة العصمة لا تلزم بها أصلاً .واستدلال بعضهم على الوجوب علينا بأوامر الاقتداء ـ الدالة على لزوم متابعته(صلى الله عليه وآله وسلم) في كل ما يفعله حتى المباحات حيث تتحول مباحاته الى واجبات في حقنا بحكم لزوم المتابعة ـ لا يخلو من غرابة ، لان أوامر الاقتداء لا تقتضي أكثر من الاتيان بالافعال على الوجه الذي أتى به ، فاذا افترضناها مباحة أو مستحبة ، فتحويلها الى الوجوب في حقنا ينافي طبيعة الاقتداء والالتزام بما التزم به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) لان معنى اقتدائنا به في المباحات هو كوننا مخيرين بين الفعل والترك كما هو مخير بينهما ، فاضفاء صفة الوجوب عليها ، ينتهي بنا الى الخلف طبعاً .والظاهر ان الامدي ، وابن الحاجب ، والخضري من المتأخرين ، ممن تبنوا هذا الرأي الذي انتهى اليه المحققون من الشيعة ; يقول الخضري : " ومختار الامدي وابن الحاجب ما ذكرنا أولاً وهو الظاهر ، لان المتيقن من صدور الفعل منه اباحته فلا يثبت الزائد على ذلك إلاّ بدليل .وظهور قصد القربة دليل على أن الفعل مطلوب ، والمتيقن من الطلب الندب ، فلا يثبت ما زاد عنه .أما ادعاء ان الفعل يثبت بنفسه مع جهل صفته حكماً شرعياً فوق الاباحة ، فهو قول بلا دليل ، وكل ما ذكروه من أدلتهم إنما يتجه اذا علمت صفة الفعل ، وفرض المسألة انها مجهولة " (6) .إلا أن الذي يؤخذ على الخضري عدم تقييده الاباحة بكونها بالمعنى العام مما يوهم ارادة الاباحة الاصطلاحية ، أي تساوي الطرفين ، وهي لا معين لها أيضاً ، كما ان تعبيره بعد ذلك ان المتيقن من الطلب الندب ، لا يخلو من مسامحة أيضاً ، لان الندب نوع من أنواع الطلب في مقابل الوجوب وله فصله الخاص ، فتعيينه بالذّات يحتاج الى معين لان نسبة الطلب اليهما نسبة واحدة ما دام معتبراً من قبيل الجنس لهما .نعم لو كان هو مرتبة من الوجوب لامكن ان يقال بالقدر المتيقن بالنسبة له ، ولكنه ليس كذلك بداهة ، بل هو نوع في مقابله له حدوده الخاصة فلا معنى لاعتباره قدراً متيقناً له .دلالة الترك : ولا يستفاد منها أكثر من عدم الوجوب ، أما تعيين الحرمة أو الاستحباب أو الكراهة أو الاباحة فلا معين لها ، لان القدر المتيقن من أدلة العصمة انه لا يرتكب الذنب ، فتركه للشيء إذن لا يكون تركاً لواجب كما هو مقتضى ما تدل عليه وتلزم به ، وإن كان في ما يقتضيه مقام النبوة ان لا يواظب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) على ترك مستحب ، كما سبقت الاشارة اليه .دلالة التقرير : والظاهر أن ما يفيده الاقرار على الشيء لا يدل على أكثر من الجواز بالمعنى العام سواء كان متعلقه فعلاً عابراً ، أم عادة متحكمة ، أم عرفاً خاصاً ، أم بناء عقلائياً ; اللهم إلا ان يكون البناء أو العرف قائماً على حجة ملزمة فإقراره يستلزم ثبوت حجيتها عند الشارع المساوق للالزام بها في مواقع الالزام كما هو الشأن في الاخذ بأخبار الثقات وبالبناء العقلائي على الاخذ بالظواهر والعمل بالاستصحاب وأمثالها .هذا اذا لم تكن هناك قرينة تبين نوع الحكم المقر ، كما لو كانت بعض العادات مثلاً قد اتخذت طابع الحكم الالزامي عندهم ، فإقرارهم عليه يدل على الالزام به ، أما الاقرار على عدم الفعل فهو لا يدل على أكثر من عدم وجوبه .والقول بأن التقرير يدل على الاباحة (7) إذا أُريد من الاباحة تساوي الطرفين مشكل إذ لا معين لها من بين أنواع الجواز والتقرير كالفعل لا لسان له فهو مجمل ، والقدر المتيقن منه الاباحة بالمعنى العام فتعيين فصلها يحتاج الى معين .وقد اشترط غير واحد اعتبار القدرة على الانكار في حجية التقرير وهو شرط سار في جميع أنواع السنّة ، لان القدرة على التبليغ شرط فيها جميعاً .نعم يستفاد من السكوت مع عدم القدرة على الانكار أن ذلك ـ أعني السكوت ـ مشروع للتقية ، بل هو من أدلة مشروعية التقية التي لا مدفع لها .(148) روضة الناظر : ص50 .(149) الدراية : ص12 مطبعة النعمان ، النجف .(150) بحار الانوار : 2 / 160 ، الحديث : 10 وصحيح البخاري : كتاب العلم ، الحديث : 107 و1209 و3202 .(151) ارشاد الفحول : ص49 .(152) ارشاد الفحول : ص49 .(153) المصدر السابق .(154) المصدر السابق .(155) سورة الحجرات : الاية 6 .(156) دراسات الاستاذ المحقق الخوئي(قدس سره) : ص97 .(157) سورة التوبة : الاية 122 .(158) راجع : ما كتبه الامدي : 1/171 من الاحكام وما ورد في الكفاية وشروحها ورسائل الشيخ حول = = هذه التشكيكات . ( المؤلف ) .(159) أي الامام جعفر الصادق(عليه السلام) .(160) وسائل الشيعة : 27 / 143 .(161) المصدر السابق : 27 / 138 . والحديث هكذا : " العمري ثقتي ، فما أدى إليك عنّـي فعنّـي يؤدي " .(162) المصدر السابق : 27 : 140 . والحديث هكذا : " من حفظ على امتي اربعين حديثا ينتفعون بها بعثه الله يوم القيامة فقيها عالماً " .(163) المصدر السابق : 27 / 99 .(164) أي الامام الصادق(عليه السلام) .(165) وسائل الشيعة : 27 / 81 . باب 8 ـ وجوب العمل بأحاديث النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) والائمة(عليهم السلام)والحديث = = هكذا: " اكتب وبثّ علمك في إخوانك ، فإن متّ فأورث كتبك بنيك ، فإنه يأتي على الناس زمان هرج لا يأنسون فيه إلاّ بكتبهم " .(166) المصدر السابق : 12 / 249 .(167) المصدر السابق : 27 / 106 باب 9 ـ وجوه الجمع بين الاحاديث المختلفة .(168) المصدر السابق : 21 / 448 و 25 / 31 و27 / 102 و142 .(169) المستصفى : 1/96 .(170) فوائد الاصول : 3/68 .(171) المستصفى للغزالي : 1/95 .(172) إرشاد الفحول : ص49 .(173) راجع : حقائق الاصول : 2 / 136 وغيره .(174) المستصفى : 1 / 94 .(175) المصدر السابق .(176) المستصفى : 1/94 .(177) سورة سبأ : الاية 28 .(178) المستصفى : 1/94 .(179) دراسات الاستاذ المحقق الخوئي(قدس سره) : ص125 .(180) المستصفى : 1/95 .(181) راجع : تاريخ الفقه الاسلامي ، لمحمد يوسف موسى : ص227 وما بعدها .(182) سورة الحجرات : الاية 6 .(183) مستدرك الوسائل : 17 / 303 .(184) الدراسات : ص125 .(1) سورة الكهف : الاية 110 .(2) سلم الوصول : ص262 وما بعدها .(3) صحيح مسلم : كتاب الفضائل باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي وفيه : " أنتم اعلم بأمر ديناكم " .(4) أصول الفقه للخضري : ص232 وما بعدها .(5) المصدر السابق .(6) أصول الفقه : ص233 .(7) أصول الفقه : ص233 .