بیشترلیست موضوعاتالمقدمةبحوث تمهيدية الفقه المقارنأصول المقارنةأصول الاحتجاجأصول الفقه المقارن الغاية من أصول الفقه المقارن مباحث الحكممنهج البحثالباب الاول:الكتاب العزيز القسم الثاني: السنّة تعريف السنة في اللغة ب ـ سنة الصحابة ج ـ سنة أهل البيتالطرق القطعية إلى السنة هـ ـ الطرق غير القطعية إلى السنة و ـ السنة وكيفية الاستفادة منها ز ـ السنة والكتابالقسم الثالث: الاجماع القسم الرابع: دليل العقل القسم الخامس: القياس القسم السادس: الاستحسان القسم السابع: المصالح المرسلة القسم الثامن: فتح الذرائع وسدها القسم التاسع: العرف القسم العاشر: شرع من قبلنا القسم الحادي عشر: مذهب الصحابي الباب الثانيالاستصحابالقسم الاول: البراءة الشرعية القسم الثاني: الاحتياط الشرعي القسم الثالث: التخيير الشرعيالقسم الاول: البراءة العقلية القسم الثاني: الاحتياط العقلي القسم الثالث: التخيير العقلي الباب الخامسالقرعةخاتمة المطافالقسم الاول: الاجتهاد ـ تعريفه الاجتهاد: أقسامه ومعداته الاجتهاد: تجزي الاجتهاد وعدمه الاجتهاد: مراتب المجتهدين الاجتهاد: بين الانسداد والانفتاح الاجتهاد: أحكام المجتهد الاجتهاد: التخطئة والتصويب الاجتهاد: نقض الاجتهاد وعدمه القسم الثاني: التقليد: مفهومه وحجيته التقليد: اعتبار الحياة في المقلد التقليد: اعتبار الاعلمية في المقلد التقليد: اعتبار العدالة في المقلد ختام الحديثطبيعة ما رجعت إليه من مصادر وظيفة الكتابالفهارستوضیحاتافزودن یادداشت جدید
الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 557 الي 602 خاتمة المطافالقسم الاول(الاجتهاد) تجزيء الاجتهاد وعدمه ملكة الاجتهاد ومنشؤها : وقد تبين لنا مما تقدم ان ملكة الاجتهاد إنما تنشأ من الاحاطة بكل ما يرتكز عليه قياس الاستنباط سواء ما وقع منه موقع الصغرى لقياس الاستنباط ، كالوسائل التي يتوقف عليها تحقيق النص وفهمه أو كبراه ، كمباحث الحجج والاصول العملية .وسالك طريق الاجتهاد لا يمكن ان يبلغ مرتبته حتى يمر بها جميعا ليكون على حجة فيما لو أقدم على إعمال هذه الملكة .فالذي يعرف ـ مثلاً ـ وسائل تحقيق النص وفهمه دون ان يجتهد في معرفة بقية الحجج والاصول على نحو يكوّن لنفسه فيها رأياً لا يتداخله الوهم أو الشك ، لا يسوغ له ادعاء الاجتهاد ولا استنباط حكم واحد لعدم المؤمّن له من قيام حجة يجهلها من الحجج الاخرى على خلاف ما استفاده من النص ، وقد تكون سمة هذه الجهة المجهولة لديه سمة الحاكم أو الوارد على ذلك النص .واذا صح هذا عدنا الى ما ذكروه حول إمكان تجزيء الاجتهاد وعدمه ، والضوابط التي جعلوها لكل منهما ، أعني المجتهد المطلق والمتجزي . الاجتهاد المطلق : وأرادوا به " ما يقتدر به على استنباط الاحكام الفعلية من أمارة معتبرة أو أصل معتبر عقلاً أو نقلاً في الموارد التي يظفر فيها بها " (37) .وهذا التعريف قريب من تعريفنا السابق عدا مؤاخذات شكلية لا تستحق التنبيه عليها . الاجتهاد المتجزئ : وقد عرفه في الكفاية بقوله : " ما يقتدر به على استنباط بعض الاحكام " (38) .وربما أوضح كلام الغزالي في المقام ما يمكن ان يراد من أمثال هذا التعريف حيث قال ـ بعد ان استعرض العلوم التي يراها ضرورية للمجتهد ، وهي قريبة في بعض خطوطها مما ذكرناه في معدات الاجتهاد ـ : " واجتماع هذه العلوم الثمانية إنما يشترط في حق المجتهد المطلق الذي يفتي في جميع الشرع .وليس الاجتهاد عندي منصباً لا يتجزأ ، بل يجوز ان يقال للعالم بمنصب الاجتهاد في بعض الاحكام دون بعض .فمن عرف طريق النظر القياسي فله ان يفتي في مسألة قياسية ، وإن لم يكن ماهراً في علم الحديث ، فمن ينظر في مسألة المشتركة يكفيه ان يكون فقيه النفس ، عارفاً بأصول الفرائض ومعانيها ، وإن لم يكن قد حصل الاخبار التي وردت في مسألة تحريم المسكرات او في مسألة النكاح بلا ولي ، فلا استمداد لنظر هذه المسألة منها ، ولا تعلق لتلك الاحاديث بها ، فمن أين تصير الغفلة عنها او القصور عن معرفتها نقصاً ؟ ومن عرف أحاديث قتل المسلم بالذمي وطريق التصرف فيه ، فما يضره قصوره عن علم النحو الذي يعرف قوله تعالى : ) وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم الى الكعبين ( (39) ؟ وقس عليه ما في معناه .و ليس من شروط المفتي ان يجيب عن كل مسألة ، فقد سئل مالك(رحمه الله) عن أربعين مسألة ، فقال في ستة وثلاثين منها : لا أدري ، وكم توقف الشافعي(رحمه الله)بل الصحابة في المسائل .فإذن لا يشترط إلا ان يكون على بصيرة فيما يفتي ، فيفتي فيما يدري ويدري أنه يدري ، ويميز بين ما لا يدري وبين ما يدري ، فيتوقف فيما لا يدري ويفتي فيما يدري " (40) .وهذا الكلام غير واضح لديّ وجهه لغرابة مضمونه ، إذ العالم الذي يعرف القياس وليست له الخبرة في علم الحديث ، كيف يسيغ لنفسه ان يستنبط حكماً واحداً من قياسه وينسبه الى الشارع المقدس ؟ مع انه يحتمل ان يكون في الاحاديث التي يتوقف تصحيحها على علم الرجال وفهمها على توفر وسائل الظهور ، وتقديهما على غيرها عند المعارضة على المرجحات السندية او الجهتية ، وتشخيص رتبتها على أصول الجمع بين الادلة والحجج على اختلافها . اقول : مع انه يحتمل ان يكون في هذه الاحاديث ما يوقف الاخذ بهذا القياس .وما يقال : من إمكان فرض اجتهاده في البعض ، والرجوع في البعض الاخر الى غيره من المجتهدين فيها لالتماس موقعها من الاصل ، أو القاعدة التي يريد الاجتهاد فيها ، لا يجدي في اعتباره مجتهداً ، لبداهة ان النتيجة تتبع أخس المقدمتين ، وما دامت بعض مقدماته التي اعتمدها في مقام الاستنباط مأخوذة عن تقليد ، فالنتيجة لا تخرجه عن كونه مقلداً ، والعلم في دفع تأثير بقية الادلة الذي يكون منشؤه غير الاجتهاد لا يجعل صاحبه مجتهداً بداهة .على أن في هذا النص خلطاً بين الاجتهاد كملكة واعمال الاجتهاد ، والامثلة التي ضربها كلها تنتظم في مجالات إعمال الملكة لا في تكوّن أصلها . الخلاف في تجزيء الاجتهاد وعدمه : و على أي حال ، فقد اختلف العلماء ، في إمكان كل من الاجتهادين وعدمه على أقوال بها لا تكاد تلتقي . فالذي يبدو من بعضهم إحالة الاجتهاد المطلق والاكثرون على إمكانه . إحالة الاجتهاد المطلق : وكأن وجهة نظر هؤلاء ما يلاحظونه من قصور البشر بما له من طاقات متعارفة عن استيعاب جميع الاحكام المجعولة لافعال المكلفين على اختلاف مواضعها ، حتى المستجدة منها ، ومثل هذا الاستيعاب ممتنع عادة على البشر .وقد فهموا من الاجتهاد المطلق ـ فيما يبدو ـ اعتبار فعلية الاستنباط فيه وفعلية الاستنباط لجميع الاحكام ممتنعة ، بينما يرى القائلون بـ : إمكان الاجتهاد المطلق : انه من قبيل الملكة ، التي توفر له القدرة على الاستنباط الاحكام وهي غير ممتنعة عادة .وعلى هذا ، فالنزاع بينهما مبنائي وكلاهما ـ في حدود مبناه ـ على حق ، وإنما الخطأ واقع في أحد المبنيين ، وسيتضح ان اعتبار فعلية استنباط في مفهوم الاجتهاد ، لا وجه له . إمكان التجزيء ووقوعه : أما التجزيء فالاكثر ـ فيما يبدو من العلماء ـ هو القول بإمكانه ووقوعه ، وهو الذي تبناه الغزالي وقد مر رأيه ، وابن الهمام (41) والرازي (42) وجملة من أساتذتنا المتأخرين .وقد نسب الحجة الرشتي في شرحه للكفاية القول بعدم إمكانه الى الشذوذ (43) . لزوم التجزيء : وقد تفرد صاحب الكفاية ـ فيما نعلم ـ بالقول بلزوم التجزيء فضلاً عن إمكانه ووقوعه ، قال في الكفاية : " وحيث كان أبواب الفقه مختلفة مدركاً ، والمدارك متفاوتة سهولة وصعوبة عقلية ونقلية مع اختلاف الاشخاص في الاطلاع عليها ، وفي طول الباع وقصوره بالنسبة اليها ، فرب شخص كثير الاطلاع وطويل الباع في مدرك باب بمهارته في العقليات أو النقليات ، وليس كذلك في آخر لعدم مهارته فيها وابتنائه عليها .وهذا بالضرورة ربما يوجب حصول القدرة على الاستنباط في بعضها لسهولة مدركه ، ولمهارة الشخص مع صعوبته مع عدم القدرة على ما ليس كذلك ، بل يستحيل حصول اجتهاد مطلق عادة غير مسبوق بالتجزي للزوم الطفرة " (44) . القول بعدم الامكان وسببه : ولعل وجهة نظر القائلين بعدم إمكان التجزي هو أخذهم الملكة أو الاستنباط في تعريفه والتزامهم ببساطتهما وعدم إمكان التجزئة فيهما .وقد أجيب على وجهة النظر هذه بأن المراد " هو التبعيض في أجزاء الكلي لا التبعيض في أجزاء الكل ، إذ كما ان كل حكم من الاحكام الشرعية في مورد مغاير للاحكام الاُخر في موارد اُخر ، فكذلك استنباطه مغاير لاستنباطها ، فملكة استنباط هذه المسألة فرد من الملكة ، وملكة استنباط تلك المسألة فرد آخر منها ، وبساطة الملكة أو الاستنباط لا تنافي التجزي بهذا المعنى كما هو ظاهر .وحيث ان مدارك الاحكام مختلفة جداً فرب حكم بهذا المعنى يبتني استنباطه على مقدمات كثيرة فيصعب استنباطه ، ورب حكم لا يبتني استنباطه إلا على مقدمة واحدة فيسهل استنباطه ، ومع ذلك يمكن ان يقال : ان القدرة على استنباط حكم واحد لا تكون إلا مع القدرة على استنباط جميع الاحكام .وبالجملة ، حصول فرد من الملكة دون فرد آخر منها بمكان واضح من الامكان لا يحتاج تصديقه الى أكثر من تصوره .ولعل القائل بالاستحالة لم يتصور المراد من التجزي في المقام ، واشتبه تبعيض أفراد الكلي بتبعيض أجزاء الكل ، فإن الثاني هو الذي تنافيه البساطة ولا دخل له في المقام " (45) .والذي يبدو لنا من خلال تصورنا لمختلف وجوه المسألة هو : أقربية القول بعدم الامكان : لا لما ذكروه من بساطة الملكة وعدم بساطتها ليقال : " إن التجزئة هي في مصاديق الكلي ، لا في أجزاء الكل ، أو يقال بان الملكة توجد ضيقة على قدر استنباط بعض الاحكام ، ثم تتسع بعد ذلك تدريجاً " (46) بل لما قلناه في مدخل البحث : من ان حقيقة الاجتهاد هو التوفر على معرفة تلكم الخبرات أو التجارب على اختلافها ، فمع توفرها جميعاً توجد الملكة ، ومع فقد بعضها تنعدم ، لا أنها توجد ضيقة أو يوجد بعض مصاديقها ، كما يبدو ذلك من كلام الغزالي السابق .ولست اخال أن احداً من الاساتذة يلتزم بأن المجتهد في خصوص مباحث الالفاظ ـ مثلاً ـ مجتهد متجزئ لحصوله على بعض مصاديق ملكة الاجتهاد ، لان الملكة التي تحصل من دراسة مباحث الالفاظ لا تكون اجتهاداً اصطلاحياً ما لم تنضم اليها بقية الملكات ، فالاجتهاد في الحقيقة هو الوحدة المنتظمة لجميع تلكم الملكات .وكل واحدة من هذه الملكات أشبه ما تكون بجزء العلة لملكة الاجتهاد ، فما لم تنضم اليها بقية الاجزاء لا يتحقق معلولها اصلاً ، ومع انضمام البقية تتحقق الملكة " مطلقة " وإن لم يستنبط صاحبها مسألة واحدة .وصعوبة الاستنباط لابتناء بعض المسائل على مقدمات لا تنافي حصول الملكة في أولى مراتبها المستلزمة للقدرة على استنباط هذه الاحكام جميعاً .ونحن لا ننكر ان ملكة الاجتهاد ذات مراتب تقوى وتضعف تبعاً لدرجة إعمالها كأية ملكة أخرى ، ولكننا نؤمن ـ مع ذلك ـ بأن أدنى مراتبها بعد خلقها بتوفر أسسها ومعداتها كافية لصدق الاطلاق عليها لقدرة صاحبها على استنباط أية مسألة تعرض عليه ، وان كان الاستنباط في بعضها لا يخلو من صعوبة على المبتدئ لابتنائه على مقدمات طويلة يحتاج استيعابها والتأمل فيها الى جهد كبير .والذي اظنه ان الخلط بين الملكة وإعمالها هو الذي سبب الارتباك في كلمات بعضهم . والتجزي في مقام إعمال الملكة يكاد يكون من الضروريات ، بل لا يوجد في هذا المقام اجتهاد مطلق أصلاً .ودعوى امتناعه ـ اعني الاجتهاد المطلق ـ بهذا المعنى لا تخلو من أصالة لاستحالة إعمال الملكة في جميع المسائل ، حتى التي لم توجد موضوعاتها بعد ، فاستيعاب جميع مسائل الفقه أمر متعذر على بشر عادي بداهة .وحتى مع فرض امكان الاجتهاد المطلق ، فالتزام صاحب الكفاية بلزوم القول بالتجزي ووجوب وجوده عادة لا يخلو من وجه لامتناع إعمال الملكة دفعة واحدة في جميع المسائل ، بل لا بد في مقام استيعابها من التدرج فيها .واذا تمت هذه التفرقة بين الاجتهاد كملكة ، والاجتهاد في مقام إعمالها ، اتضح الجواب على كل ما استدل به في هذا المورد ، كاستدلال الاستاذ عمر عبدالله على لزوم التجزي بقوله : " لو لم يتجزأ الاجتهاد للزم ان يكون المجتهد عالماً بجميع الاحكام ، وذلك باطل قطعاً ; فقد سئل كثير من المجتهدين عن مسائل ، فأجابوا عن بعضها ولم يجيبوا عن البعض الاخر " (47) .وهذه الملازمة انما تتم اذا أراد من الاجتهاد إعمال الملكة ، ومن العلم بجميع الاحكام فعلية العلم ، وإلا فمع الالتزام بكون الاجتهاد ملكة لا يلزم المجتهد العلم بمسألة واحدة فضلاً عن جميع المسائل ، والطبيب ـ بعد تخرجه ـ طبيب وإن لم يداو واحداً من المرضى .وكذا لو أراد من العلم شأنية العلم ، إذ لا مانع من ان يكون لصاحب الملكة شأنية العلم بجميع المسائل .ومع تمامية الملازمة فاللازم لا يكون باطلاً لما ذكره من سؤال بعض المجتهدين وعدم إجابتهم للجهل بما سئلوا عنه ، لجواز ان يتسرب الشك الى اجتهادهم قبل ان يتسرب الى القاعدة ، فالانسب تعليل بطلان اللازم بامتناع الاحاطة بجميع الاحكام عادة .والغريب ان يقع بعض القائلين بامتناع التجزي بنفس المفارقة من الخلط بين الملكة وإعمالها ، فالاستاذ خلاف في الوقت الذي يعلل فيه عدم التجزي بقوله : " لان الاجتهاد ـ كما يؤخذ مما قدمناه ـ أهلية وملكة يقتدر بها المجتهد على فهم النصوص واستثمار الاحكام الشرعية منها ، واستنباط الحكم فيما لا نص فيه ، فمن توافرت فيه شروط الاجتهاد وتكونت له هذه الملكة لا يتصور ان يقتدر بها في موضوع دون آخر " (48) ، يعود فيقع في المفارقة نفسها عند ما يتم دليله فيقول : " وقد يكون هادي المجتهد في أحكام الزواج مبدأً او تعليلاً تقرر في أحكام البيع ، فلا يكون مجتهداً إلا اذا كان على علم تام بأحكام القرآن والسنة حتى يصل من مقارنة بعضها ببعض ومن مبادئها العامة الى الاستنباط الصحيح " (49) .وموضع المفارقة ان العلم بأحكام القرآن او السنة إنما يحتاج اليه المجتهد في مجالات إعمال الملكة لا مجالات تكونها .على أن هذا التعميم في العلم لجميع أحكامهما لا يحتاج اليه حتى في مجالات إعمال الملكة ، وإلا لتعذر عليه استنباط حكم واحد أو تعسر على الاقل ، وعلى الاخص اذا لاحظنا تشعب كتب السنة صحاحاً ومسانيد وسنناً .بل يكفيه منها فحصه عن مواضع الادلة من الايات والروايات وغيرهما من كتب الفقه والحديث ، وفحصها على نحو يحصل له العلم بكفاية ما وصل اليه لاستنباط الحكم الذي يريد استنباطه من أدلته . خلاصة الرأي : وخلاصة ما انتهينا اليه من رأي ، ان التوفر على معدات الاجتهاد جميعاً هو الذي يكوّن الاجتهاد كملكة ، ومع فقد بعضها والتقليد في البعض الاخر فإن صاحبها لا يخرج عن كونه مقلداً لاتباع النتائج أخس المقدمات بالضرورة . فملكة الاجتهاد إذن ، إما أن توجد مطلقة أو لا توجد أصلاً . خاتمة المطافالقسم الاول(الاجتهاد) مراتب المجتهدين الاجتهاد ومراتب المجتهدين : واذا عرفنا حقيقة الاجتهاد والمعدات التي يجب ان تتوفر في المجتهد لتشارك في تكوين ملكته ، أمكننا ان نقيم ما ذكروه من تقسيم الاجتهاد بلحاظ مراتب المجتهدين . وقد ذكروا ان للاجتهاد بهذا اللحاظ أقساماً خمسة هي : 1 ـ الاجتهاد المطلق : أو الاجتهاد المستقل ، وحددوه بـ " ان يجتهد الفقيه في استخراج منهاج له في اجتهاده " على نحو يكون مستقلاً في منهاجه وفي استخراج الاحكام على وفق هذا المنهاج ، أو هو " كما يعبر العلماء مجتهد في الاصول وفي الفروع " (50) . 2 ـ الاجتهاد في المذهب : ويريدون به ان يجتهد الفقيه المنتسب الى مذهب معين في الوقائع على وفق اصول الاجتهاد التي قررها إمام ذلك المذهب . " وقد يخالف الواحد منهم مذهب زعيمه في بعض الاحكام الفرعية ... ومن هؤلاء الحسن بن زياد في الحنفية ، وابن القاسم وأشهب في المالكية ، والبويطي والمازني في الشافعية " (51) .وقد أطلق الاستاذ ابو زهرة على الفقيه من هذا القسم اسم "المجتهد المنتسب " . 3 ـ الاجتهاد في المسائل التي لا رواية فيها : عن إمام المذهب وفق الاصول المجعولة من قبله ، وبالقياس على ما اجتهد فيها من الفروع ، كالخصاف والطحاوي والكرخي من الحنفية ، واللخمي وابن العربي وابن رشيد من المالكية ، والغزالي والاسفراييني من الشافعية (52) . 4 ـ اجتهاد أهل التخريج : وهو الاجتهاد الذي لا يتجاوز " تفسير قول مجمل من أقوال أئمتهم أو تعيين وجه معين لحكم يحتمل وجهين ، فإليهم المرجع في إزالة الخفاء والغموض الذي يوجد في بعض اقوال الائمة وأحكامهم كالجصاص واضرابه من علماء الحنفية (53) . 5 ـ اجتهاد أهل الترجيح : ويراد به الموازنة بين ما روي عن ائمتهم من الروايات المختلفة ، وترجيح بعضها على بعض من جهة الرواية أو من جهة الدارية ، كأن يقول المجتهد منهم : " هذا أصح رواية ، وهذا اولى النقول بالقبول ، أو هذا اوفق للقياس أو أرفق للناس ، ومن هؤلاء القدوري وصاحب الهداية وأضرابهما من علماء الحنفية (54) . مناقشة التقسيم : ويرد على هذا التقسيم :1 ـ خروجه على اصول القسمة المنطقية لخلطه بين قسم من الاقسام وبين مقسمها بجعلها قسيماً لمقسمها ، والانسب توزيعها ـ من وجهة منطقية ـ الى قسمين : مطلق ومقيد ، والمقيد الى الاقسام الاربعة الاخرى لوجود قدر جامع بينها وهو الاجتهاد ضمن إطار مذهب معين .2 ـ ان تسمية هذه الاقسام الاربعة بالاجتهاد وجعلها قسماً منه في مقابل الاجتهاد المطلق لا يلتئم مع الواقع الذي سبق ان ذكرناه من ان الاجتهاد ملكة لا توجد لصاحبها إلا بعد حصوله على تلكم الخبرات والتجارب ، ومعرفتها معرفة تفصيلية ، او كما قلنا ان الاجتهاد في الحقيقة لا يعدو الاجتهاد في أصول الفقه مع توفر بقية المقدمات ، وهو مناط جملة أحكامه الاتية من حرمة التقليد بالنسبة الى المجتهد ونفوذ قضائه ، وجواز رجوع الغير اليه في التقليد او لزومه احياناً .ومن الواضح ان المجتهد المقيد ليس مصداقاً للمجتهد بهذا المفهوم ، لعدم حصول المعرفة التفصيلية لاصول الفقه لديه واجتهاده فيها .إذ مع اجتهاده فيها وقيام الحجة لديه عليها ، كيف يسوغ له التقيد بأصول مذهبه والسير ضمن اطاره الخاص ، وربما اختلف مع إمام المذهب في أصل من الاصول ، وكان لديه مما لا يصلح الاحتجاج به ؟ وما الذي يصنعه إذ ذاك ؟ أيخالف إمام مذهبه فيخرج عن الانتماء الى ذلك المذهب أم يخالف رأيه فيعمد الى العمل بغير حجة ؟3 ـ ان جميع ما ذكروه للاجتهاد من تعاريف لا ينطبق على أي قسم من أقسام المقيد ، لاخذهم العلم او الظن بالحكم الشرعي او الحجة عليه على اختلاف في وجهة النظر في مفهومه .والمجتهد المقيد بأقسامه الاربعة لا ينتهي باستنباطه ـ إن صح إطلاق كلمة الاستنباط على عمل قسم منهم ـ الى الحكم الشرعي ، وغاية ما ينتهي اليه هو رأي إمامه فعلاً او تقديراً في كون ما انتهى اليه حكماً شرعياً ـ بحكم ما أعمل من قواعد هذا الامام وأصوله ـ .أما العلم او الظن بكونه حكماً شرعياً أو وظيفة كذلك ، فإن هذا لا يحصل إلا لمن قامت لديه الحجة التفصيلية على ذلك ، وهي لا تكون إلا لامام ذلك المذهب نفسه ، لا للمستنبط وفق قواعده وأصوله .والحقيقة أن هذا التقسيم اشبه بتقسيم الشيء الى نفسه والى غيره ، وما احسن ما صنعه الاستاذ خلاف حين عدَّ هذه الاقسام الاربعة في فصل عهد التقليد من كتابه " خلاصة التشريع الاسلامي " وإن كان قد أطلق كلمة الاجتهاد عليهم تسامحا (55) . اجتهاد الشيعة مطلق أو منتسب : من رأي ابي زهرة ان اجتهاد الشيعة ليس من قبيل الاجتهاد المطلق ، وإنما هو من قبيل الاجتهاد المنتسب لاعتقاده بأنه " رسمت له المناهج من بيان احكام النسخ والعموم ، وطريق الاستنباط والتعارض بين الاخبار وحكم العقل ، وإن لم يكن نص ، وكل هذا يقتضي ان يطبق في اجتهاده لا أن يرسم ويخطط ، فهو يسير في اجتهاده على خط مرسوم لا يعدوه ولا يبتعد عنه يمنة ولا يسرة ، وبهذا النظر يكون في درجة المجتهد المنتسب " (56) .ويرد على هذا الرأي الذي تبناه ـ وربما شاركه فيه غيره من الاعلام ـ ما ينطوي عليه من تغافل عن وظيفة الامامة لدى الشيعة ، فالذي يبدو أن الاستاذ أبا زهرة كان يرى في أئمة اهل البيت(عليهم السلام) ، انهم مجتهدون في كل ما يأتون به من أحكام ، وحسابهم حساب بقية أئمة المذاهب ، مع ان الشيعة لا يرون في أئمتهم ذلك ، وإنما يرونهم مصادر تشريع يرجع اليها لاستقاء الاحكام من منابعها الاصيلة ، ولذلك اعتبروا ما يأتون به من السنة ، وقد سبق أن عرضنا أدلتهم على ذلك في ( مبحث السنة ) فهم من هذه الناحية كالنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، والفارق أن النبي يتلقى الوحي من السماء ، وهؤلاء يتلقون ما يوحى به الى النبي من طريقه(صلى الله عليه وآله وسلم) وهم منفردون بمعرفة جميع الاحكام .فأقوال أهل البيت(عليهم السلام) إذن مصدر من مصادر التشريع لديهم ، وهم مجتهدون في حجيتها كسائر المصادر والاصول . ولا أقلّ من اعتبار اولئك الائمة الاطهار ، من قبيل الرواة الذين لا يتطرق اليهم الريب في الرواية ، وما اكثر تصريحاتهم ـ أعني الائمة(عليهم السلام) ـ بكون ما يأتون به من أحكام " فإنما هو من احاديث رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) التي لا يعدونها بحال وبعضه بإملائه(صلى الله عليه وآله وسلم) وبخط علي(عليه السلام) " (57) .وعلى هذا ، فالاصول التي خططوها ـ إن صح هذا التعبير ـ فإنما هي من تخطيطات الاسلام نفسه ، وقد وصلت اليهم من طريق النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ، وفي بعض هذه الاصول تصريح بذلك .أما بقية أئمة المذاهب فهم لا يعدون كونهم من المجتهدين الذين يجوز عليهم الخطأ، ولذا كان مايأتون به من أصول قابلاً للنظر فيه ، فلا يكون حجة على الغير .على أن أدلة الشيعة على الحجج ـ على اختلافها ـ لم تقتصر على أحاديث اهل البيت(عليهم السلام) ـ وهم عدل الكتاب ـ بل تجاوزتها الى الكتاب العزيز ، والسنة النبوية ، والسيرة القطعية ، وبناء العقلاء ، وحكم العقل ، وغيرها ـ على اختلاف في صلوح بعضها ـ للاستقلال بالدليلية او الانتظام ضمن غيره من الاصول .وقد مرت علينا نماذج من أصولهم وأدلتهم عليها في هذا الكتاب ، وليس في الكثير منها قول للامام لتصح نسبة تخطيطها اليه .ولهذا نرى ان مجتهدي الشيعة لا يسوغون نسبة أي رأي يكون وليد الاجتهاد الى المذهب ككل ، سواء كان في الفقه أم الاصول أم الحديث ، بل يتحمل كل مجتهد مسؤولية رأيه الخاص .نعم ما كان من ضروريات المذهب يصح نسبته اليه . والحقيقة ان تسمية الشيعة مذهباً في مقابل بقية المذاهب لا أعرف له أساساً ما داموا لا يعتبرون ما يأتي به أئمتهم عاكساً لارائهم الخاصة ، وإنما هو تعبير عن واقع الاسلام من أصفى منابعه ، فهم في الحقيقة مجتهدون ضمن اطار الاسلام ، وهو معنى الاجتهاد المطلق .وإنكار ابي زهرة لهذه الصفة في أئمتهم ، ومناقشته لبعض ما جاءوا به من أدلة على عصمتهم ، وكونهم من مصادر التشريع لا يخرج مجتهدي الشيعة عن كونهم مجتهدين مطلقين ـ حتى مع فرض الخطأ فيهم ـ كمجتهدين ـ لان اختلاف ابي حنيفة ـ مثلاً ـ مع الشافعي في بعض أصوله لا يخرجه عن كونه مجتهداً مطلقاً ، ما دام ابو حنيفة مؤمناً بمصدره التشريعي . خاتمة المطاف((الاجتهاد القسم الاولالاجتهاد بين الانسداد والانفتاح سد باب الاجتهاد : وأرادوا به حظر الاجتهاد بعد ان تم غلق أبوابه ـ على يد بعض السلطات على جميع المكلفين ـ وحصر الرجوع الى خصوص المذاهب الاربعة . بواعثه وعوامله : وقد أرجع الاستاذ عبد الوهاب خلاف ذلك الى عوامل أربعة (58) نشير الى اهم خطوطها وهي :1 ـ انقسام الدولة الاسلامية الى عدة ممالك ، وتناحر ملوكها ووزرائها على الحكم مما اوجب انشغالهم عن تشجيع حركة التشريع ، وانشغال العلماء تبعاً لذلك بالسياسة وشؤونها .2 ـ انقسام المجتهدين الى احزاب لكل حزب مدرسته التشريعية وتلامذتها ، مما دعا الى تعصب كل مدرسة لمبانيها الخاصة اصولاً وفروعاً وهدم ما عداها " حتى صار الواحد منهم لا يرجع الى نص قرآني او حديث إلا ليلتمس فيه ما يؤيد مذهب إمامه ولو بضرب من التعسف في الفهم والتأويل .وبهذا فنيت شخصية العالم في حزبيته ، وماتت روح استقلالهم العقلي ، وصار الخاصة كالعامة اتباعاً ومقلدين " (59) .3 ـ انتشار المتطفلين على الفتوى والقضاء ، وعدم وجود ضوابط لهم ، مما ادى الى تقبل سد باب الاجتهاد في اواخر القرن الرابع وتقييد المفتين والقضاة بأحكام الائمة حيث عالجوا الفوضى بالجمود .4 ـ شيوع الامراض الخلقية بين العلماء والتحاسد والانانية " فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد فتح على نفسه أبواب التشهير به ، وحط اقرانه من قدره ، وإذا افتى في واقعة برأيه قصدوا الى تسفيه رأيه وتفنيد ما افتى به بالحق وبالباطل ، فلهذا كان العالم يتقي كيد زملائه وتجريحهم بأنه مقلد وناقل ، لا مجتهد ومبتكر ، وبهذا ماتت روح النبوغ ولم ترفع في الفقه رؤوس وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم وثقة الناس بهم " (60) .وهناك عامل خامس ، كاد أن يسد باب الاجتهاد عند الشيعة الامامية بالخصوص في القرن الخامس الهجري ، وهو عظم مكانة الشيخ الطوسي وقوة شخصيته التي صهرت تلامذته في واقعها ، وأنستهم او كادت شخصياتهم العلمية ، فما كان احد منهم ليجرؤ على التفكير في صحة رأي لاستاذه الطوسي او مناقشته .وقد قيل : ان ما خلفه الشيخ الطوسي من كتب الفقه والحديث كاد أن يستأثر في عقول الناس فيسد عليها منافذ التفكير في نقدها ما يقارب القرن (61) .وقد كان لموقف ابن ادريس ـ وهو من اكابر العلماء لدى الامامية ـ فضله الكبير في إعادة الثقة الى النفوس وفسح المجال أمامها لتقييم هذه الكتب ونقدها والنظر في قواعدها .ولولا موقفه المشرف إذ ذاك ، لكان الاجتهاد اذ ذاك ضحية من ضحايا التقديس والفناء في العظماء من الناس .وهذه العوامل التي ذكرها الاستاذ خلاف ، وإن كان أكثرها لا يخلو من اصالة ، إلا انها لا تقوى على تكوين العلة التامة لهذا الحظر .والظاهر ان سياسة تلكم العصور كانت تخشى من العلماء ذوي الاصالة في الرأي والاستقامة في السلوك ، وهم لا يهادنون على ظلم ولا يصبرون على مفارقة ، فأرادت قطع الطريق على تكوين أمثالهم بإماتة الحركة الفكرية من أساسها ، وذلك بسدها لاهم منبع من منابعها الاصيلة وهو الاجتهاد . أدلة حجيته : والغريب ان نجد في المتأخرين عن ذلك العصر من يحاول التبرير الشرعي لجملة هذه التصرفات ، بالتماس أدلة توجب هذا الحظر وتلزم باستمراره .يقول صاحب الاشباه : " الخامس مما لا ينفذ القضاء به : ما اذا قضى بشيء مخالف للاجماع وهو ظاهر ، وما خالف الائمة الاربعة مخالف للاجماع ، وإن كان منه خلاف لغيره ، فقد صرح في التحرير ان الاجماع انعقد على عدم العمل بمذهب مخالف للاربعة ، لانضباط مذاهبهم وكثرة أتباعهم " (62) .وقد رأينا في المتأخرين من يوافقه على هذا الحكم كالشيخ محمد عبدالفتاح العناني رئيس لجنة الفتيا في الازهر الشريف وزملائه في اللجنة (63) .والادلة التي ذكرها صاحب الاشباه هي :1 ـ الاجماع .2 ـ انضباط المذاهب الاربعة وكثرة أتباعهم . 1 ـ الاستدلال بالاجماع ومناقشته : وقد نسب ابن الصلاح هذا الاجماع الى المحققين (64) لا الى المجتهدين ، وهذا طبيعي لافتراضه قيام الاجماع بعد انسداد باب الاجتهاد .وقد ناقش الشيخ المراغي ( وهو من دعاة حرية الفكر ) هذا الاجماع صغرى و كبرى .أما مناقشته من وجهة صغروية فقد شكك في امكان تحصيل هذا الاجماع ، وقال : " ان محققي العلماء يرون استحالة الاجماع ونقله بعد القرون الثلاثة الاولى نظراً لتفرق العلماء في مشارق الارض ومغاربها ، واستحالة الاحاطة بهم وبآرائهم عادة .وهذا رأي واضح كل الوضوح لا يصلح لعاقل ان ينازع فيه ، واذا كان هذا واضحاً بالنسبة لاجماع المجتهدين ، وهم أقل عدداً بلا ريب من المحققين ، فكيف عرف اجماع المحققين ؟ " (65) .ثم تساءل بعد ذلك عن قيمة ابن الصلاح ـ مدعي هذا الاجماع ـ ومدى صلاحيته للاخذ برأيه " ابن الصلاح هذا فقيه مقلد ، فكيف يؤخذ برأي فقيه مقلد ليس واحداً من الائمة الاربعة ؟ وكيف ينسخ الاجماع برأي واحد لا يصح تقليده والاخذ بقوله ؟ " (66) .وأما مناقشته من وجهة كبروية فقد انصبت على إنكار الدليل على حجية مثل هذا الاجماع ، يقول : " ليس لاجماع المحققين قيمة بين الادلة الشرعية ، فهي محصورة : كتاب الله وسنة رسوله ، واجماع المجتهدين ، والقياس على المنصوص ، ولم يعد أحد من الادلة الشرعية اجماع المحققين ، فكيف برز هذا الاجماع وأخذ مكانته بين الادلة ، وأصبح يقوى على نسخ اجماع المسلمين ؟ " (67) الى آخر ما جاء في بحثه القيم من مناقشات لقيمة هذا الاجماع .وخلاصة الرأي في ذلك أنَّا قد استقرأنا فيما سبق في ( مبحث الاجماع ) (68) أدلة العلماء على حجية الاجماع ، فلم نجد فيها ما يشير الى حجية اجماع المحققين . فالاستدلال اذن بالاجماع في غير موضعه ، لعدم قيام الدليل على حجية مثله ، على أن الشك في الحجية كاف للقطع بعدمها . 2 ـ انضباط المذاهب وكثرة الاتباع ومناقشتهما : وهاتان العلتان ـ سواء أراد بهما التعليل لاصل الحكم أم للاجماع ـ غريبتان عن الادلة جداً ، إذ متى كانت كثرة الاتباع وانضباط المذاهب من الحجج المانعة عن الاخذ بقول الغير ، وربما كان الغير أعلم وأوصل الى الحكم الواقعي ، وفتواه موجودة محررة يمكن الحصول عليها ، كما اذا كان معاصراً للمستفتي يمكنه الرجوع اليه بسهولة .على أني لا أكاد أفهم كيف تكون القابليات المبدعة وقفاً على فئة من الناس عاشوا في عصور معينة ( ولم يتميزوا في عصورهم بظاهرات غير طبيعية ) ؟ مع ان طبيعة التلاقح الفكري توجب خلق تجارب جديدة في مجالات الاستنباط ، والعقول لا تقف عند حد ، فكيف يمكن ان يقال لاصحاب هذه التجارب ـ الذين ملكوا تجارب القدماء ودرسوها وناقشوها وأضافوا عليها من تجاربهم الخاصة ـ : ان هؤلاء القدماء أوصل منكم وأعلم ، وعليكم تجميد عقولكم والاخذ بما يقولون وإن بدت لكم مفارقات ما جاءوا به من آراء ؟!!وما أحسن ما قاله الاستاذ المراغي ، وهو ينعى على دعاة الجمود موقفهم من حرية الفكر : " ليس مما يلائم سمعة المعاهد الدينية في مصر أن يقال عنها ان ما يدرس فيها من علوم اللغة والمنطق والكلام والاصول لا يكفي لفهم خطاب العرب ، ولا لمعرفة الادلة وشروطها ، وإذا صح هذا فيا لضيعة الاعمار والاموال التي تنفق في سبيلها " (69) ، ثم يقول : " واني مع احترامي لرأي القائلين باستحالة الاجتهاد أخالفهم في رأيهم ، واقول : ان في علماء المعاهد الدينية في مصر من توافرت فيه شروط الاجتهاد وحرم عليه التقليد " (70) .والشيء الذي لم أملك تماماً توجيهه في كلامه ـ بعد هذه الدعوة الهادفة ـ هو قوله : " والواقع أنه في اكثر المسائل التي عرضت للبحث وافتى الفقهاء فيها لم يبق للمجتهد إلا اختيار رأي من آرائهم فيها ، أما الحوادث التي تجد فهي التي تحتاج الى آراء محدثة " (71) .والذي يوحي به كلامه ، أنه فهم من الاجتهاد انه إحداث رأي جديد ، وهو لا يكون إلا في الامور المستحدثة لاستيعاب الفقهاء مختلف الاقوال في المسألة المبحوثة غالباً ، ووظيفة المجتهد بالنسبة اليها اختيار واحد منها .مع أن الاجتهاد ، كما سبق تحديده ، ملكة تحصيل الحجج على الاحكام الشرعية او الوظائف ، سواء كانت موافقة لاراء غيره أم مخالفة .وكونهم مستوعبين للاقوال في المسألة لا يسقط عنه وظيفة اعمال ملكته في مقابلهم ، حتى ينتهي الى الرأي الذي يراه موافقاً للحجة من بينها .ولماذا يختار رأياً من آرائهم ؟ ألانه يعتقد ان اولئك السابقين أوصل منه وأعرف ؟ كيف وأصولهم ومبانيهم بيده ، وفيها ما لا يرتضيه لعدم قيام الحجة عنده عليه ، ولماذا يفضّل رأياً على رأي إذا لم يعمل اجتهاده في مقام التفضيل ؟ الشيعة وفتح باب الاجتهاد : فالحق ـ كما ذهب اليه الشيعة ـ هو فتح باب الاجتهاد المطلق ، وهو الذي تقتضيه جميع الادلة التي ذكروها على وجوب المعرفة عقلية ونقلية . وهذه الاعتبارات التي ذكروها لعدم الحجية لا تصلح لايقاف تلكم الادلة ونسخها . خاتمة المطافالقسم الاول((الاجتهاد أحكام المجتهد أحكام المجتهد : والحديث حول أحكامه يقع في مواقع ثلاثة :1 ـ حجية رأي المجتهد بالنسبة الى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته .2 ـ جواز افتائه على وفق ما يرتئيه وعدمه .3 ـ جواز رجوعه الى الغير ـ فيما يبتلى به من المسائل ـ مع عدم إعمال ملكته وعدمه . 1 ـ حجية رأيه بالنسبة الى عمل نفسه فيما لو أعمل ملكته : والذي يبدو لي ـ في حدود ما رأيت ـ ان كلمة الاعلام تكاد تتفق على حجية رأيه ولزوم العمل به ، وعدم جواز رجوعه الى الغير في الجملة ، وذلك باستثناء ما مر من آراء ابن الصلاح ومن تبعه .والسر في ذلك واضح بعد ما اتضح من بحوثنا السابقة مفهوم الحجية وكونها من اللوازم العقلية القهرية لطريقية العلم . اذ المجتهد ـ بناء على ما انتهينا اليه من مفهوم الاجتهاد ـ اذا أعمل ملكته وانتهى الى رأي ، فهو إما عالم بالحكم الواقعي علماً وجدانياً أو علماً تعبدياً ـ بواسطة جعل الشارع للطريقية أو الحجية ـ أو يكون عالماً بإحدى الوظيفتين الشرعية أو العقلية على نحو ترتبها السابق .ومع فرض حصول العلم لا يبقى مجال للتصرف الشرعي ، فلا يمكن ان يقال للمجتهد العالم بالمسألة : إنك لا يسوغ لك ان تعمل بعلمك وعليك الرجوع الى الغير واستشارته فيما تراه حاصلاً لديك من الواقع . نعم للشارع ان يرفع بعض الحجج الموقوفة على جعله او إمضائه فيذهب عليه المستند اليها . أما مع بقائها وبقاء علمه المستند اليها ، فإن الشارع لا يمكن له ان يتصرف فيها لانها كما سبق بيانه غير واقعة تحت تصرفه كمشرع ، وان وقعت تحت قبضته كخالق ومكوّن .ومع هذا الفرض وتماميته لم نعد بحاجة الى التماس أدلة على الحجية .وربما استدل على جواز تقليده لغيره في هذه الصورة بشمول أدلة التقليد له .ويرد على هذا الاستدلال خروجه عن هذه الادلة بالتخصص لبداهة ان موضوعها قد أخذ فيه عدم العلم ) فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون ( (72) والسيرة العقلائية إنما قامت على رجوع الجاهل الى العالم لا العالم الى مثله .ولا يفرق في هذا الحكم بين رجوعه الى مثله في المعرفة أو الاعلم منه ، لان الاعلمية المفروضة ان أوجبت له تشكيكاً في صحة مستنده ، كأن يكون قد اطلع على وجهة نظره فأقرها ، أو أثارت لديه الشكوك ، فهو خارج عن الفرض لعدم وصوله الى الحكم ، والكلام إنما هو فيمن أعمل ملكته ووصل الى الحكم من طريقها ، وان لم توجب له التشكيك فيما وصل اليه وبقي مصراً على وجهة نظره ، فهو في الحقيقة يرى نفسه أوصل منه في هذه المسألة ، فكيف يسوغ له الرجوع اليه . فما أوهم هذا التفصيل في كلمات البعض لا يبدو له وجه .نعم ، هناك تفصيل يذكر بالنسبة الى المتجزئ وعدمه . التفصيل بين المتجزّي وعدمه : والذي يظهر ان القائلين بالتجزي مختلفون على أنفسهم ، فبعضهم يرى لزوم رجوع المتجزئ الى غيره من المجتهدين ، كصاحب المعالم(قدس سره) ووالده(قدس سره) وجده(قدس سره) إذا صحت استفادة ذلك من كلامهم ، بينما خالفهم العلامة(قدس سره) والشهيد(قدس سره) وصاحب الكفاية(قدس سره) وغيرهم .وقد استدل صاحب الكفاية بعدم اختصاص أدلة المدارك بالمتصف بالاجتهاد المطلق ، وأضاف الحجة الرشتي على ذلك بأنه " كيف يرفض ظنه ويأخذ بظن المجتهد المطلق مع انه يخطئه في ظنه ؟ وهل هذا إلا رجوع العالم الى الجاهل ؟" (73) .والحقيقة انه بعد تسليم إمكان التجزي ووقوعه لا يبقى مجال للقول بعدم الحجية لنفس ما قلناه سابقاً من أنه بعد فرض الالتزام بكونه عالماً بما قامت عليه الحجة ، كيف يمكن ان يقال له : ان علمك ليس بحجة عليك ، مع ان الحجية من لوازم العلم القهرية ؟والذي يظهر من اطلاق الاتفاق في كلمات الغزالي ان عدم جواز رجوعه الى الغير مطلقاً مفروغ عنه ، يقول في المستصفى : " وقد اتفقوا على انه اذا فرغ من الاجتهاد وغلب على ظنه حكم ، فلا يجوز له ان يقلد مخالفه ويعمل بنظر غيره ويترك نظر نفسه " (74) . وكذلك الامدي (75) . 2 ـ جواز افتائه على وفق ما يرتئيه وعدمه : أما جواز افتائه على وفق ما وصل اليه من رأي ، فهو أيضاً لا يقتضي ان يكون موضعاً لاشكال ، لما تقدم بيانه من ان من لوازم الحجية العقلية جواز نسبة مؤدى ما قامت عليه الى مصدرها من شارع او عقل . وليس المراد من الفتوى إلا الاخبار عما يراه من حكم او وظيفة .والظاهر أن جميع ما ورد من الادلة على جواز الافتاء يكون من قبيل الارشاد الى هذا اللازم العقلي ، إذ مع فرض كونه من اللوازم العقلية للحجية لا يكون قابلاً للوضع أو الرفع . 3 ـ جواز رجوعه الى الغير مع عدم إعمال ملكته وعدمه : اختلف الاعلام في جواز الرجوع الى الغير مع جهله بالحكم لعدم إعمال ملكته للوصول اليه .فالجبائي لا يسوغ الرجوع لغير الصحابي ، ويرى ان تقليده مع ذلك خلاف الاولى ، وبه قال الشافعي في رسالته القديمة وجوز بعضهم الرجوع الى الصحابة والتابعين دون من عداهم (76) ، وفصّل محمد بن الحسن بين الاعلم وغيره ، فأجاز تقليد الاعلم دون غيره ممن هو دونه او مثله ، كما فصَّل قوم بين ما يخصه وما يفتي به ، فأجازوا في الاول ومنعوا في الثاني ، وهناك تفصيل آخر فيما يخصه بين ما يفوت وقته لو اشتغل بالاجتهاد ، وما لا يفوت حيث أجيز في الاول ومنع في الثاني (77) ، بينما اطلق الجواز كل من : احمد بن حنبل ، واسحاق بن راهويه ، والثوري ، ولابي حنيفة روايتان (78) .والعمدة في هذا المجال التماس أدلة جواز التقليد والنظر في عمومها او اطلاقها لشمول مثله .وعمدة الادلة كما يأتي بناء العقلاء الممضى قطعاً من قِبل الشارع ، ولعل في أمثال آيتي النفر (79) وسؤال أهل الذكر (80) ، ما يكفي لاثبات ذلك الامضاء .والظاهر ان بناء العقلاء ، إنما يفرق بين خصوص القادر على اعمال ملكته وعدمه . فالقادر على اعمالها لسعة الوقت وتوفر أدوات البحث لا يرى معذراً له في ترك اعمالها لعدم انطباق عنوان الجاهل عليه ، وهو إنما يقر رجوع الجاهل الى العالم لا غير . ولكنه يجيز لغير القادر ذلك ، فالطبيب الذي يصاب ببعض العوارض ويخشى على نفسه من فوات الفرصة فيما لو أراد ان يعمل ملكته لفقده بعض أدوات عمله ، يرجع عادة الى استشارة طبيب آخر يثق بمعارفه . وهكذا بالنسبة الى المتدرج في إعمال ملكته ولنفرضه جديد عهد بالملكة .فلو قدر لمثل هذا ان لا يصدر إلا عن هذه الملكة ، لتعذر عليه استيعاب جميع تكاليفه ، وبخاصة اذا كان هو لا يرى جواز الاحتياط في بعض المسائل ، او كانت مما يتعذر فيها الاحتياط .فالذي يقتضيه بناء العقلاء على هذا الرجوع الى الغير لتحصيل المؤمّن فيما يقدم عليه او يتركه من اعمال .وممن اختار هذا التفصيل المحقق القمي(قدس سره) صاحب " القوانين المحكمة " حيث قال ـ بعد ان عرض رأي المانعين مطلقاً ـ : " ودليل المانع وجوب العمل بظنه اذا كان له طريق اليه اجماعاً ، خرج العامي بالدليل وبقي الباقي ، ( وفيه ) منع الاجماع فيما نحن فيه ، ومنع التمكن من الظن مع ضيق الوقت ، فظهر ان الاقوى الجواز مع التضييق ، واختصاص الحكم به " (81) .والظاهر من الجواز هنا الجواز بالمعنى العام في مقابل المنع لا الاباحة ، لتعين الرجوع الى الغير في هذا الفرض .واذا صح هذا اتضحت أوجه المناقشة في جميع تلكم الاقوال ، إذ لا دليل عليها ، وغاية ما يدل عليه دليل الجواز هو هذا المقدار وليس في الادلة كل هذه التفصيلات التي ذكروها ، فلا حاجة الى الاطالة بردها . خاتمة المطافالقسم الاول((الاجتهاد التخطئة والتصويب الخلاف في مسألة التخطئة والتصويب : وقد اختلفوا في ان المجتهد مصيب دائماً في كل ما تنهي اليه حججه ، أو انه قابل للخطأ . والاقوال في التخطئة والتصويب ثلاثة : قول بالتصويب ، وقول بالتخطئة ، وثالث أخذ منهما معاً بعض جوانبها . 1 ـ القول بالتصويب والخلاف فيه : والمصوّبة اختلفوا على أنفسهم ، فالذي عليه محققو المصوبة كما يقول الغزالي : " انه ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بل الحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه ، وهو المختار واليه ذهب القاضي وذهب قوم من المصوبة الى ان فيه حكماً معيناً يتوجه الى الطلب ، إذ لا بد للطلب من مطلوب ، لكن لم يكلف المجتهد اصابته ، فلذلك كان مصيباً وإن أخطأ ذلك الحكم المعين الذي لم يؤمر باصابته ، بمعنى أنه أدى ما كلف فأصاب ما عليه " (82) .وقد عرف القسم الاول من التصويب على ألسنة بعض الباحثين من الاصوليين بالتصويب الاشعري ، كما عرف القسم الثاني بالتصويب المعتزلي (83) . التصويب الاشعري ومناقشته : وقد أطال الغزالي بتقريبه ودفع ما أورد عليه من الشبه ، وكل ما جاء به لا يخلو من خلط بين الاحكام في مرحلة الجعل والاحكام في مرحلة التبليغ وبينهما وبين الاحكام في مرحلة الفعلية .كما وقع في مفارقة ان احكام الشارع هي خطاباته ، مع ان الخطابات احدى مبرزات احكامه لا انها عين الاحكام ، ولا منافاة بين ان يكون هناك حكم ولا يكون خطاب به .وبهذا ندرك أوجه المفارقة في كلامه الذي لخص به وجهة نظره حيث قال : " والكلام الكاشف للغطاء عن هذا الكلام المبهم هو أنّا نقول : المسائل منقسمة الى ما ورد فيها نص والى ما لم يرد .أما ما ورد فيه نص ، فالنص كأنه مقطوع به من جهة الشرع ، لكن لا يصير حكماً في حق المجتهد إلا اذا بلغه وعثر عليه ، او كان عليه دليل قاطع يتيسر معه العثور عليه إن لم يقصر في طلبه ، فهذا مطلوب المجتهد وطلبه واجب ، واذا لم يصب فهو مقصر آثم .أما اذا لم يكن اليه طريق متيسر قاطع ، كما في النهي عن المخابرة وتحويل القبلة قبل بلوغ الخبر ، فقد بينّا ان ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه ، لكنه عرضة ان يصير حكماً فهو حكم بالقوة لا بالفعل ، وإنما يصير حكماً بالبلوغ او تيسر طريقه على وجه يأثم من لا يصيبه ، فمن قال : في هذه المسائل حكم معين لله تعالى ، وأراد به انه حكم موضوع ليصير حكماً في حق المكلف اذا بلغه ، وقبل البلوغ وتيسر الطريق ليس حكماً في حقه بالفعل بل بالقوة فهو صادق ، وإن أراد به غيره فهو باطل .أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم انه لا حكم فيها ، لان حكم الله تعالى خطابه ، وخطابه يعرف بأن يسمع من الرسول او يدل عليه دليل قاطع من فعل النبي(عليه السلام) او سكوته ، فإنه قد يعرفنا خطاب الله من غير استماع صيغة ، فإذا لم يكن خطاب لا مسموع ولا مدلول عليه فكيف يكون فيه حكم ؟ فقليل النبيذ إن اعتقد فيه كونه عند الله حراماً فمعنى تحريمه انه قيل فيه لا تشربوه ، وهذا خطاب والخطاب يستدعي مخاطباً ، والمخاطب به هم الملائكة او الجن او الادميون ، ولا بد ان يكون المخاطب به هم المكلفون من الادميين ، ومتى خوطبوا ولم ينزل فيه نص ، بل هو مسكوت عنه غير منطوق به ولا مدلول عليه بدليل قاطع سوى النطق ، فإذن لا يعقل خطاب لا مخاطب به ، كما لا يعقل علم لا معلوم له وقتل لا مقتول له ، ويستحيل ان يخاطب من لا يسمع الخطاب ولا يعرفه بدليل " (84) .ولايضاح مواقع المفارقة في كلامه هذا نضرب المثل في القوانين التي تشرعها الدول والمراحل التي تمر بها وهي ثلاث :1 ـ مرحلة التشريع ، وهي المرحلة التي ينتزع فيها القانون شرعيته بتصديق البرلمان او أية جهة مسؤولة عنه ، وربما اقتضت المصلحة تأجيل تنفيذه وإبلاغه للمواطنين .2 ـ مرحلة التبليغ ، أي مرحلة مخاطبة المواطنين به وإلزامهم بالسير على وفقه .3 ـ مرحلة الفعلية ، اي مرحلة وصول القانون اليهم وتبلغهم به .ومرحلة تنجز التكاليف التي عرض لها القانون هي مرحلة الفعلية ، وعلى اساسها يكون الثواب والعقاب ، وإلا فمرحلة التشريع او التبليغ إذا لم يصل الحكم الى المكلف مع فحصه عنه وعجزه عن العثور عليه ، لا تستوجب العقاب لما مرّ بيانه من حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل ، وهي قاعدة تطابق عليها العقلاء جميعاً ، وإذا تم هذا المثل ، عدنا الى تطبيقه على احكام الشارع ، فالحديث القائل بما مؤداه : " ما من واقعة إلا ولله فيها حكم حتى أرش الخدش " (85) ، تشير الى مقام الثبوت ، اي الى المرحلة الاولى .ومن البديهي ان جميع افعال المكلفين حاضرة لديه تعالى وعالم بما فيه المصلحة منها مما ليس فيه ، ومع حضورها لديه في مقام الثبوت ، فلا بد وان يكون قد جعل لها حكماً .ومرحلة بعث الرسل مرحلة تبليغ لما هو مشرع في مقام الثبوت ، وقد تقتضي مصلحة التدرج في التبليغ تأخير تبليغ بعض الاحكام كما وقع ذلك في أول البعثة .أما مرحلة الفعلية فهي مرحلة وصول التكاليف .وبهذا يتضح ان ظنون المجتهدين ـ لو تمت حجيتها ـ فهي لا تتعدى دور تنجيز الاحكام وإيصالها الى المكلفين ، اي إعطاء الاحكام صفة الفعلية والوصول ، لا أن الشارع يخلق أحكاماً على وفقها كما يريد ان يقول الغزالي .ومن هنا تتبين أوجه المفارقة في كلامه ، فقوله : " إن ذلك حكم في حق من بلغه لا في حق من لم يبلغه " ، إذا أراد به الحكم في مرحلة الفعلية فهو صحيح ، وإن أراد به ـ كما هو ظاهر كلامه ـ الحكم بما هو حكم صادر من الشارع في مرحلة التشريع فهو مستحيل لاستحالة اخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم نفسه ، للزوم الدور لبداهة ان العلم يستدعي معلوماً سابقاً في الرتبة عليه ، إذ لا يعقل ، كما يقول هو ، ان يكون علم لا معلوم له ، فإذا افترضنا ان العلم موقوف على وجود معلومه ، وهو الحكم ، وافترضنا ان الحكم لا يوجد إلا بعد بلوغه ـ أي بعد العلم به ـ لزم الدور بداهة لتوقف كل منهما على الاخر المستلزم لتوقف الشيء على نفسه ، وذلك بإسقاط المتكرر منهما . فقولنا : العلم موقوف على الحكم ، والحكم موقوف على العلم به ، ينتج بعد اسقاط المتكرر ان العلم موقوف على العلم ، او الحكم موقوف على الحكم . ومن هنا قالوا باستحالة تقييد الاحكام بخصوص العالمين بها .وما يقال عن العلم يقال عن الظن ، لان الظن يستدعي افتراض مظنون سابق في الرتبة عليه ، فاذا افترض ان الحكم لاحق له كما افترضه الغزالي ـ حين قال : " ليس في الواقعة التي لا نص فيها حكم معين يطلب بالظن بالحكم يتبع الظن ، وحكم الله تعالى على كل مجتهد ما غلب على ظنه " ـ لزم الدور بنفس التقريب السابق .كما تتضح أوجه المفارقة بقوله : " أما المسائل التي لا نص فيها فيعلم أنه لا حكم فيها ، لان حكم الله خطابه " وذلك لان مرحلة الخطاب ليست هي مرحلة الجعل ، وإنما هي مرحلة إبراز للمجعول .والحقيقة ان دعوى ان أحكام الله تابعة لظنون المجتهدين دعوى لا يمكن تقبلها بحال اذا أريد منها ظاهرها ، وحسبها ـ بالاضافة الى ما قدمناه ـ نسبة تبني كل ما يقع فيه المجتهدون من تناقضات في الاحكام الى الله عز وجل ، واعتبارها أحكاماً مجعولة من قبله ، على ما في الكثير منها من البعد عن المصالح أو المفاسد الواقعية التي تخطئها ظنون المجتهدين في الكثير من الوقائع عادة . التصويب المعتزلي ومناقشته : وهو الذي نسب اليهم في المصدر السابق (86) كما نسب الى الشافعي في المستصفى حيث يقول : " أما المصوبة فقد اختلفوا فيه فذهب بعضهم الى إثباته ، وإليه تشير نصوص الشافعي(رحمه الله) ، لانه لا بد للطالب من مطلوب ، وربما عبرو عنه بأن مطلوب المجتهد الاشبه عند الله تعالى والاشبه معين عند الله " (87) ، " لكن المجتهد لم يكلف بإصابته ، فلذلك كان مصيباً وان أخطأ ذلك المعين الذي لم يؤمر بإصابته " (88) .وقد وجهت هذه الاصابة بان الامارة عند ما تقوم على حكم تخلق في متعلقه مصلحة مزاحمة لمصلحة الواقع أو مفسدة كذلك ، وتتغلب عليها على نحو يرتفع حكم المصلحة الواقعية للمزاحمة ، ويبقى الحكم الناتج عن الامارة ، ويكون مفاد الحجية المجعولة للامارة هو اعتبارها سبباً في تبديل الواقع المستلزم لتبدل الحكم تبعاً له .وهذا القول ـ بناء على هذا التوجيه ـ يرجع الى القول الاول لانتهائه الى القول بعزل الاحكام الواقعية من طريق المزاحمة .ويرد عليه :1 ـ ان الامارة يستحيل ان تكون سبباً في خلق مصلحة في متعلقها ، لان الظنون ـ وهي من الحالات النفسية ـ لا تسري الى الواقع الخارجي فتغيره لاختلاف مجاليهما ، وليس الظن أكثر من العلم ، والعلم بالاشياء ـ اذا لم يصب الواقع ـ لا يبدل من حقيقة ما قام عليه ، فعلمي بعدم وجود زيد مثلاً لا يجعله غير موجود اذا كان في واقعه موجوداً ، وكذا الظن بوجود مفسدة في شيء لا يجعلها موجودة اذا كانت في واقعها غير موجودة ، وهكذا .2 ـ ان أدلة الطرق والامارات ـ كما سبق فحصها ـ لا تفيد اكثر من اعتبارها بمنزلة العلم من حيث ترتيب الاثار عليها ، والعلم لا يزيد في نظر العقلاء عن كونه كاشفاً عن متعلقه ، وفوائد جعلها لا تتجاوز المنجزية او المعذرية . القول بالتخطئة وحجيته : وهو الذي ذهب اليه الشيعة وجمهور من المسلمين من غيرهم ، وربما كان هو الرأي السائد اليوم .وفحواه ، ان الاحكام الواقعية المجعولة من قبل الشارع لما كانت مستوعبة لجميع أفعال المكلفين ـ وكانت الطرق والامارات والاصول المحرزة المجعولة من قبله لا وظيفة لها إلا تنجيز متعلقها ، او التماس المعذرية لمن قامت عنده ـ كان قيام الامارة وغيرها كعدمه لا يبدل في الواقع ولا يغير ، والواقع يبقى على حاله ، فإن أصابه المجتهد كان مصيباً وإلا فهو مخطئ معذور .وتسمية ما قامت عليه الامارة او الاصل بالحكم الظاهري إنما هي " لمكان احتمال مخالفة الطريق والاصل للواقع وعدم إيصاله اليه ، وإلا فليس الحكم الظاهري إلا هو الحكم الواقعي الذي قامت عليه الامارات والاصول مطلقاً ، محرزة كانت الاصول او غير محرزة ، وهذا هو الذي قام عليه المذهب ، ويقتضيه أصول المخطئة " (89) .والظاهر ان أدلة الامارات والاصول التي سبق عرضها هي التي تقتضي ما ذهب اليه المخطئة ، إذ لا تدل على اكثر من المنجزية او المعذرية . القول بالمصلحة السلوكية ومناقشته : وهو الذي أخذ من التخطئة والتصويب معاً ، وقد ذهب اليه الشيخ الانصاري(قدس سره) حيث التزم بالطريقية بالنسبة الى مفاد أدلة حجية الطرق والامارات من دون ان يكون هناك أي تصرف في المتعلق يزاحم به الواقع المجعول بحق الجاهلين والعالمين على السواء ، كما التزم بسببية الامارة لخلق مصلحة في نفس السلوك لا في المتعلق " وتلك المصلحة مما يتدارك بها ما يفوت من مصلحة الواقع " (90) .فهو آخذ من المخطئة التزامهم بجعل الطريقية للطرق والامارات ، ومن المصوبة كونها سبباً في خلق المصلحة .وأهم ما يورد به على هذه الفكرة عدم نهوض الادلة بها ، لان هذه الادلة التي تقدم الحديث عنها في أكثر الابواب السابقة ليس فيها ما يشير الى اكثر من جعل الطريقية او الحجية لما قامت عليه ; أما خلق مصلحة في السلوك فلم تتعرض له بقليل او كثير ، وقد قرب بعض الاساتذة رجوعها الى التصويب المعتزلي وحملها بعض مفارقاته ، وليس المهم تحقيق ذلك بعد ان كانت الادلة ليست ناهضة بأكثر من جعل الطريقية لها .(37) كفاية الاصول : ص529 ـ 530 طبعة جامعة المدرسين ـ قم .(38) كفاية الاصول : ص530 .(39) سورة المائدة : الاية 6 .(40) المستصفى : 2/103 .(41) المراغي في رسالة الاسلام : س 1 / 3 /352 .(42) سلم الوصول : ص342 .(43) حاشية الرشتي على الكفاية : 2/350 .(44) كفاية الاصول : ص533 ط . جامعة المدرسين ـ قم .(45) مصباح الاصول : ص421 وما بعدها .(46) الرشتي في شرح الكفاية : 2/342 .(47) سلم الوصول : ص342 .(48) علم أصول الفقه لخلاف : 262 .(49) علم أصول الفقه لخلاف : 262 .(50) الامام الصادق لابي زهرة : ص537 .(51) خلاصة التشريع الاسلامي لخلاف : ص342 .(52) خلاصة التشريع الاسلامي : ص343 .(53) المصدر السابق .(54) المصدر السابق .(55) راجع : ص324 وما بعدها من هذا الكتاب .(56) الامام الصادق : ص540 .(57) راجع : رجال النجاشي : ص455 ترجمة محمد بن عذافر . ( المؤلف ) .(58) خلاصة التشريع الاسلامي : ص341 وما بعدها .(59) المصدر السابق .(60) خلاصة التشريع : ص342 .(61) محمود الشهابي ، مقدمة فوائد الاصول .(62) الاجتهاد في الشريعة للمراغي : ص357 من مجلة رسالة الاسلام : س 1/ ج 3 نقلا عنه .(63) عبد المتعالي الصعيدي في كتابه ( من أين نبدأ ) : ص114 .(64) الاجتهاد في الشريعة للمراغي : ص357 من رسالة الاسلام : س 1/ ج 3 نقلا عنه .(65) الاجتهاد في الشريعة للمراغي : ص357 من رسالة الاسلام : س 1/ ج 3 نقلا عنه .(66) المصدر السابق .(67) المصدر السابق .(68) راجع : ص241 وما بعدها من هذا الكتاب .(69) المراغي في بحثه السابق في رسالة الاسلام : س1 /ج 3/ ص350 وما بعدها .(70) المراغي في بحثه السابق في رسالة الاسلام : س1 / ج3 /ص350 وما بعدها .(71) المصدر السابق .(72) سورة النحل : الاية 43 .(73) الكفاية وشرحها للشيخ الرشتي : 2/351 .(74) المستصفى : 2/121 .(75) أحكام الاحكام : 3/158 .(76) اقرأ هذه الاقوال في احكام الاحكام للامدي : 3/158 .(77) اقرأ هذه التفصيلات في المستصفى : 2/122 .(78) الامدي في الاحكام : 3/158 .(79) ( فلو لا نفر من كل فرقة طائفة ليتفقّهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلّهم يحذرون )] سورة التوبة : الاية 122[ .(80) ( فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ] سورة النحل : الاية 43 [ .(81) القوانين المحكمة : 2/163 .(82) المستصفى : 2/109 .(83) فوائد الاصول : 1/142 .(84) المستصفى : 2/116 .(85) الكافي : 1 / 241 ، ح5 ، وفيه: "وليس من قضية إلاّ وهي فيها ] الصحيفة الجامعة[ حتى ارش الخدش ".(86) فوائد الاصول .(87) المستصفى : 2/116 .(88) أصول الفقه للخضري : ص336 .(89) فوائد الاصول : 1/142 .(90) المصدر السابق : ص37 .