أصول العامة فی الفقه المقارن نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

أصول العامة فی الفقه المقارن - نسخه متنی

السید محمدتقی الحکیم

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الاصول العامة للفقه المقارن - صفحه 263 الي 286 البابُ الاول

القسم الرابع

دليل العقل الاختلاف في تحديد العقل : والحديث حول العقل واعتباره من القواعد التي يستند اليها المجتهدون في مجالات استنباط أحكامهم كثر لدى الاصوليين ، إلا أنه لم يتحدد المراد منه عند الجميع .

وكلماتهم في ذلك مختلفة جداً ، وفي بعضها خلط بين العقل كمصدر للحجية في كثير من الاصول المنتجة للحكم الشرعي الفرعي الكلي أو الوظيفة ، وبين كونه أصلاً بنفسه يصلح أن يقع كبرى لقياس استنباط الاحكام الفرعية الكلية كالكتاب والسنة على حد سواء .

وقد عقدت في كتب بعض الشيعة والسنّة أبواب لما أسموه بدليل العقل ، وعند فحص هذه الابواب تجد المعروض فيها التماس العقل كدليل على ما ينتج الوظائف أو الاحكام الظاهرية ، أي أنك تجده دليلاً على الاصل المنتج ، لا أنه بنفسه أصل منتج لها .

يقول الغزالي في مبحث دليل العقل ، وهو الاصل الرابع لديه : " دل العقل على براءة الذمة عن الواجبات وسقوط الحرج عن الخلق في الحركات والسكنات قبل بعثة الرسل(عليهم السلام) ، وتأييدهم بالمعجزات ، وانتفاء الاحكام معلوم بدليل العقل قبل ورود السمع ، ونحن على استصحاب ذلك إلى أن يرد السمع " (76) .

فالعقل عنده هنا من الادلة على البراءة ، وهي أصل منتج للوظيفة ، فهو دليل على الاصل لا دليل على الوظيفة مباشرة .

وفي الحدائق الناضرة : " المقام الثالث : في دليل العقل ، وفسّره بعض بالبراءة

والاستصحاب ، وآخرون قصروه على الثاني ، وثالث فسّره بلحن الخطاب وفحوى الخطاب ودليل الخطاب ، ورابع بعد البراءة الاصلية والاستصحاب بالتلازم بين الحكمين المندرج في مقدمة الواجب ، واستلزام الامر بالشيء النهي عن ضده الخاص ، والدلالة الالتزامية " (77) .

والذي يتصل من كلامه هذا بدليل العقل كأصل ، هو خصوص ما يتصل بالتلازم بين الحكمين وإن كان اتصاله من حيث تشخيص الصغريات له ، أما الباقي منها فحسابه حساب ما ذكره الغزالي وغيره .

ما يصلح منها لان يكون أصلاً : وعلى أي حال فان الذي يرتبط ببحوثنا هذه من المدركات العقلية ، هو الادراك الذي يتعلق بالحكم الشرعي مباشرة ، وقد عرفه في القوانين المحكمة بأنه " حكم عقلي يوصل به الى الحكم الشرعي ، وينتقل من العلم بالحكم العقلي الى العلم بالحكم الشرعي " (78) .

والذي يؤخذ على هذا التعريف من وجهة شكلية تعبيره بالحكم العقلي مع أنه ليس للعقل أكثر من وظيفة الادراك وهو مقصوده حتماً ، وأظن ان التعبير بالحكم وانتشاره هو الذي أوجب ان يلتبس على بعض الباحثين في ان القائلين باعتبار العقل من الاصول يرونه هو الحاكم في مقابل الله عز وجل .

العقل مدرك وليس بحاكم : والتعبير بالحكم العقلي ـ في المجالات التشريعية ـ وان أوهم ذلك إلا اننا لا نعرف من يذهب الى القول به من المسلمين على الاطلاق ، وقد نسب ذلك على ألسنة بعض المشايخ الى المعتزلة ، ففي مسلّم الثبوت " لا حكم إلا من الله تعالى

باجماع الامة ، لا كما في كتب بعض المشايخ ان المعتزلة يرون ان الحاكم هو العقل ، فان هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الاسلام " (79) .

وفي محيط الزركشي " ان المعتزلة لا ينكرون ان الله هو الشارع للاحكام والموجب لها ، والعقل عندهم طريق الى العلم بالحكم الشرعي " (80) نعم هناك مدركات عقلية لا تكشف عن حكم شرعي لاستحالة جعله من قبله وستأتي الاشارة اليها .

والخلاف الذي وقع في الحقيقة انما هو في قابلية العقل لادراك الاحكام الشرعية من غير طريق النقل ، أي ان الخلاف واقع في خصوص المستقلات العقلية لا غير ، ولايضاح هذا الجانب نعرض المسألة بشيء من الحديث .

تقسيم المدركات العقلية : لقد قسموا مدركات العقل الى : مستقلة وغير مستقلة ، وأرادوا بالمستقلة ما تفرد العقل بإدراكه لها دون توسط بيان شرعي ، ومثلوا له بادراك العقل الحسن والقبح المستلزم لادراك حكم الشارع بهما ، وفي مقابلها غير المستقلة وهي التي يعتمد الادراك فيها على بيان من الشارع ، كإدراكه وجوب المقدمة عند الشارع بعد اطلاعه على وجوب ذيها لديه ، أو إدراكه نهي الشارع عن الضد العام بعد اطلاعه على إيجاب ضده ، الى ما هنالك مما ذكروه من الامثلة وأكثرها موضع نقاش .

والظاهر ان ما يدركه العقل من اللوازم على اختلافها من بينة بالمعنى الاخص أو الاعم ، أو غير بينة اذا كانت لازمة لدليل لفظي ، أي ان ما لا يستقل العقل به من المدركات ، لا موضع لخلاف فيه لدى علماء الاسلام لا من حيث قابلية الادراك العقلي ، ولا من حيث حجية مدركاته .

واذا كانت هناك خلافات فإنما هي في تشخيص صغريات القاعدة ، كما يستفاد ذلك من عرضهم لمباحث غير المستقلات العقلية ، وانتهائهم في الكثير منها الى إثبات هذه اللوازم واعتبارها حجة من دون مناقشة في صلاحية العقل لهذا الادراك .

والخلاف بعد ذلك إنما هو في خصوص المستقلات العقلية ، أو قل في خصوص مسألة التحسين والتقبيح العقليين ، والظاهر أنها هي المصدر الوحيد لجل المدركات العقلية المستتبعة لادراك الاحكام الشرعية .

والامثلة التي أوردوها " كوجوب قضاء الدين وردّ الوديعة ، والعدل والانصاف ، وحسن الصدق النافع ، وقبح الظلم وحرمته ، والكذب مع عدم الضرورة ، وحسن الاحسان واستحبابه ... " (81) ، انما هي من صغريات هذه القاعدة .

وبما أن الحديث في هذه القاعدة ، صغرى وكبرى يشكل أهم ما يتصل بمبحث العقل كدليل ، فلا بد من صرف الحديث اليها وتشخيص مواقع النزاع فيها ، ثم البحث عن حجيتها وعدمها .

أقسام الحسن والقبح : يطلق الحسن والقبح على معاني ثلاثة ، اثنان منها موضع اتفاق الكلاميين والفلاسفة من المسلمين في إمكان إدراك العقل لها ، وواحد منها موضع الخلاف .

اتفاق واختلاف : أما موضع الاتفاق منهما فيهما :

1 ـ الحسن بمعنى الملاءمة للطبع ، والقبح بمعنى عدمها ، فيقال مثلاً : هذا المنظر

حسن جميل وذلك المنظر قبيح ، أو هذا الصوت حسن وذلك قبيح ، ويريدون بذلك أنها ملائمة للطبع أو غير ملائمة .

2 ـ الحسن بمعنى الكمال ، والقبح بمعنى عدمه ، فيقال بأن العلم حسن وأن الجهل قبيح ، يعني أن العلم فيه كمال للنفس بخلاف الجهل .

وهذان المعنيان ، هما اللذان كانا موضع الاتفاق ، فالاشاعرة والمعتزلة وغيرهما ، يؤمنون جميعاً بإمكان إدراك العقل لهما .

وموضع الخلاف بعد ذلك هو في المعنى الثالث وهو :

3 ـ الحسن بمعنى إدراك أن هذا الشيء أو ذاك مما ينبغي ان يفعل ، بحيث لو أقدم عليه الفاعل لكان موضع مدح العقلاء بما هم عقلاء ، والقبح بخلافه ، ولا ينافي ذلك أن يكون منشأ هذا الادراك ـ أعني ـ إدراك أن هذا مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل هو أحد الادراكين السابقين ، بمعنى أن العقل بعد أن يدرك ملاءمة الشيء للنفس أو مجافاته لها أو يدرك كمال الشيء أو نقصه ، يدرك مع ذلك انه مما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل .

والادراك بالمعنى الثالث ، هو الذي يسمّى على ألسنة الفلاسفة بـ " العقل العملي " ويقابله ما يسمى بـ " العقل النظري " كإدراك العقل أن الكل أعظم من الجزء ، وان النقيضين لا يجتمعان ولا يرتفعان ، وهما من حيث انتمائهما للعقل متحدان ، إلا أنهما يختلفان بلحاظ متعلق إدراكهما ، فإن كان مما ينبغي أن يعلم سمي بالعقل النظري ، وإن كان مما ينبغي أن يعمل سمي بالعقل العملي (82) .

رأي الاشاعرة ; أدلة ونقاش : من رأي الاشاعرة أنه " ليس للفعل نفسه حسن ولا قبح ذاتيان ولا لصفة توجبهما ، وإنما حسنه ورود الشرع بالاذن لنا فيه على سبيل الوجوب أو الندب

أو الاباحة ، وقبحه وروده بحظر من الشارع لنا منه على سبيل التحريم أو الكراهة ، واذا ورد الشرع بإطلاق الفعل لنا أو منعنا منه ، فقلنا : إن ما أذن لنا فيه الشارع فحسن وما منعنا عنه فقبيح ، فإن هذا الوصف بالنسبة لافعال المكلفين ليس منشؤه العقل إنما منشؤه حكم الشارع ، فمقياس الحسن والقبح عندهم هو الشرع لا العقل .

فالصلاة والصوم وأمثالهما مما أمر الله به حسن ، وليس حسنه إلا من جهة أمر الشارع به فقط ; والزنى والسرقة والقتل عدواناً بغير حق ، وأكل أموال الناس بالباطل ، كل ذلك قبيح لنهي الشارع عنه فقط ; فلو لم يكن أمر الشارع بما أمر ، ونهي الشارع عما نهى ، لما كان حسناً أو قبيحاً " (83) .

وهذا الرأي الذي تبناه الاشاعرة يشبه الى حدّ بعيد مذهب بعض علماء الاخلاق في دعواهم بأن الخير والشر لا مقياس لهما غير القانون ، فما منع منه القانون كان شرّاً محضاً ، وما أجازه أو ألزم به كان خيراً كذلك .

وقد استدل الاشاعرة على ذلك بعدة أدلة نذكر أهمها :

1 ـ قولهم : " لو كان الحسن والقبح عقليين ، لاختلف الحكم على الافعال من ناحية تحسينها وتقبيحها ، إذ العقول متفاوتة في حكمها على الافعال ، فقد يعقل البعض حسناً فيما يقبحه الاخر والعكس ، بل ان العقل الواحد قد يحكم على الفعل تارة بالقبح وتارة بالحسن ، تحت تأثير الهوى والغرض أو مؤثرات أخرى " (84) .

والجواب على هذا : ان العقول بما هي عقول لا تتفاوت في إدراكاتها وانما يقع التفاوت بين الناس بتأثير الهوى والغرض والمؤثرات الاخرى .

والمدركات العقلية المدعاة هي التي يتطابق عليها العقلاء بما أنهم عقلاء ، ومع فرض تطابقهم من حيث كونهم عقلاء ، فانه لا مسرح لافتراض الهوى والغرض والمؤثرات الاخرى ، والا للزم الخلف .

وما أكثر ما تتطابق آراء العقلاء على شيء ، وأمثلتها من العقل النظري كثيرة كالاوليات التي عرضناها في مبحث اصول الاحتجاج ، وكون الكل اكبر من الجزء ، ومن العقل العملي ادراكهم لحسن النظام وقبح الفوضى ، وحسن الاستقامة في السلوك وقبح الاستهتار والتعدي على الاخرين . الى عشرات أمثالها .

ودليل تطابق العقلاء فيها اننا لا يمكن ان نتصور أمة من الامم مهما كان شأنها من البداءة أو التحضر تستطيع ان تتبنى في دساتيرها الفوضى والكذب والاستهتار كمبدأ من مبادئ الدولة .

وأظن ان المستدل قد اختلطت عليه الكبريات العقلية بمجالات تطبيقها فوقع فيما وقع فيه من الخلط .

والظاهر ان تأثير الهوى والغرض والمؤثرات الاخرى انما يكون في الغالب في مجالات التطبيق والتماس الصغريات لحكم العقل ، وبها يكون الاختلاف ، ولعل ادراك الكثير من هذه الصغريات يكون بقوى أخرى غير العقل وبخاصة اذا كانت جزئية لان العقل لا يدرك غير الكليات .

2 ـ قولهم : " لو كان الحسن والقبح من الصفات الذاتية لكان ذلك مضطرداً فيه ولما تخلف عنه ، بل يبقى الفعل حسناً دائماً أو قبيحاً دائماً ، والواقع غير ذلك ، لان الكذب قد يكون قبيحاً وقد يكون حسناً ، بل يكون واجباً اذا ترتب عليه خير محقق كانقاذ بريء من يد سلطان جائر ، أو من يد ظالم له بطش ونفوذ ، ويقابل ذلك ان الصدق يكون قبيحاً في هذا المقام " (85) .

والجواب على هذا يدعونا ان نتحدث قليلاً في واقع هذا القسم من الحسن والقبح وموقعه من الذاتية وعدمها ليتضح لنا الجواب على هذا الاستدلال .

ذاتية الحسن والقبح وعدمها : ذكرنا فيما سبق ان للحسن والقبح بالمعنى الثالث ـ أعني ادراك العقلاء بأن هذا الشيء مثلاً مما ينبغي ان يفعل ـ مناشئ تعود في واقعها الى الحسن والقبح بمعنييهما السابقين ، أعني الكمال والنقص أو الملاءمة وعدمها .

ونسبة هذه المناشئ الى الحسن والقبح بالمعنى الثالث تختلف من حيث ما لها من قابلية في التأثير ، ويمكن تقسيمها استناداً لهذا السبب الى ثلاثة أقسام :

أولها : ما كان علة تامة في التأثير " ويسمى الحسن والقبح فيه بالذاتيين مثل العدل والظلم ، فان العدل بما هو عدل لا يكون إلا حسناً أبداً ، أي أنه متى ما صدق عنوان العدل فانه لا بد ان يمدح عليه فاعله عند العقلاء ويعد عندهم محسناً ; وكذلك الظلم بما هو ظلم لا يكون إلا قبيحاً ، أي انه متى ما صدق عنوان الظلم ، فان فاعله مذموم عندهم ويعد مسيئاً " (86) .

ثانيها : ما فيه اقتضاء التأثير ، أي لو خلي وطبعه لكان مؤثراً ، ومثاله الصدق والكذب ، فالصدق بما هو صدق فيه اقتضاء التأثير في إدراك العقلاء بأنه مما ينبغي ان يفعل ويمدحون فاعله عليه ، بخلاف الكذب فإنه مذموم لديهم ، ولكن هذا التأثير لا يتم عادة مع وجود مزاحم له يمنع من تأثيره نظراً لاهميته ، كأن يكون في الصدق ما يوجب قتل النفس المحترمة ، أو انتهاك عرض ، أو تسلط ظالم على مؤمن ، وهكذا .

ثالثها : ما ليس فيه اقتضاء ولا علّية فهو فاقد للتأثير لو خلي ونفسه ، ولكنه يتقبل العناوين الاخر ، فقد يأخذ عنواناً له علية التأثير في الحسن فيكون حسناً أو القبح فيكون قبيحاً ، وأكثر المباحات الشرعية من هذا القبيل ، فشرب الماء مثلاً لو لوحظ بمعزل عن أي عنوان آخر قد لا يكون له التأثير في إدراك العقلاء لحسنه أو قبحه لا على نحو العلية ولا على نحو الاقتضاء ، فوجوده لدى العقلاء

كعدمه ، ولكنه اذا عرض عليه عنوان انقاذ حياة صاحبه أو عرض عليه عنوان هلاكه ، كما لو كان ممنوعاً عن شربه ، يكون علة في إدراك العقلاء لحسنه أو قبحه .

وعلى هذا فمعنى " كون الحسن أو القبح ذاتياً : ان العنوان المحكوم عليه بأحدهما ، بما هو في نفسه وفي حد ذاته ، يكون محكوماً به لا من جهة اندراجه تحت عنوان آخر ، فلا يحتاج الى واسطة في اتصافه بأحدهما " (87) . ومعنى العلية والاقتضاء هنا هو " أن المراد من العلية أن العنوان بنفسه هو تمام موضوع حكم العقلاء بالحسن أو القبح ، وأن المراد من الاقتضاء أن العنوان لو خلي وطبعه ، يكون داخلاً فيما هو موضوع لحكم العقلاء بالحسن أو القبح ، وليس المراد من العلية والاقتضاء ما هو معروف من معناهما انه بمعنى التأثير والايجاد ، فإنه من البديهي انه لا علية ولا اقتضاء لعناوين الافعال في أحكام العقلاء إلا من باب علية الموضوع لمحموله " (88) .

وبهذا العرض ـ فيما اعتقد ـ يتضح الجواب على استدلالهم هذا بأنه " لو كان الحسن والقبح من الصفات الذاتية ، لكان ذلك مضطرداً " ، لان هذا الاشكال لا يتم إلا على مبنى من يذهب الى أن الحسن والقبح لا يكونان إلا ذاتيين ـ ولست أعرف قائلاً به على التحقيق ـ ومثل هذا الدليل يصلح للنقض إذا أريد اثبات الذاتية لهما على سبيل الموجبة الكلية . أما على ما ذكرناه من التقسيم فلا يبقى له موضوع ، والامثلة التي ذكرها مما تنتظم في القسم الثاني ، أي ما فيه اقتضاء التأثير لا عليته .

والذي يبدو أن المستدل ينطوي في أعماقه على الايمان بالحسن والقبح العقليين وإن لم ينتبه لذلك تفصيلاً ، وتعبيره بأن " الكذب قد يكون قبيحاً وقد يكون حسناً بل يكون واجباً " من أمارات ذلك الانطواء ، وإلا فما معنى حكمه على الكذب بالقبح أو الحسن إن لم يكن هناك حسن وقبح عقليان !

3 ـ قولهم : " لو قيل : إن الحسن والقبح عقليان للزم أن يكون الشارع الحكيم مقيداً في تشريعه للاحكام بهذه الاوصاف وإلاّ لكان التشريع مخالفاً للمعقول ، وهذا نفسه قبح ينزه الله عنه " (89) .

وبطلان اللازم في هذا الكلام لا أكاد أفهم له وجهاً ولا أعرف السر في نسبته الى القبح .

وما هو المحذور في ان تكون تشريعاته ـ عز وجل ـ جارية على وفق المعقول ؟! وهل ينتظر المستدل أن يجري في تشريعه على غير المعقول مع نسبته الى الحكمة في لسان الدليل ؟

والظاهر أن لفظة التقيد التي ورد مضمونها في تعبيره هي التي أوهمته ببطلان اللازم .

وربما كان الوجه في ذلك شعوره أن طبيعة التقيد تنافي الاختيار فيمن تنسب اليه لانطوائها على ضرورة السير وفق ما تقيد به ، وفي نسبة عدم الاختيار اليه تعالى قبح ينزه عنه .

والحقيقة أن لفظة التقيد لم ترد على لسان العدلية ـ في حدود ما قرأت من كلماتهم ـ وإنما ورد ما يعطي نتيجتها ، وهو السير على وفق المعقول واستحالة تخطي الشارع له .

وهذا النوع من السير والسلوك لا ينافي طبيعة الاختيار في صاحبه ، فالعاقل السوي مثلاً لا يقدم على التضحية جزافاً وهو مختار ، وإحجامه عنها لا ينافي اختياره بل هو بنفسه اختار ذلك الاحجام .

وبما أن الله عز وجل ـ وهو خالق العقل وواهبه القدرة ـ بل هو العقل المحض ـ لو صح هذا التعبير ـ فسيره على وفق مخططه هو الذي يقتضيه اختياره ، وليس من الممكن بالنسبة اليه اختيار المرجوح وترك الراجح ، بل ليس من الممكن لاي

عاقل مهما كان شأنه ان يختار المرجوح وهو سليم معافى ، فكيف بخالق العقل ومدبره ؟

فالالتزام بتقيده في تشريعاته على وفق العقل إن أُريد به التقيد السالب للاختيار فليس بصحيح وهو ـ تعالى ـ مما ينزه عنه ، وإن أُريد نتيجة التقيد وهو ما يقتضيه عمل العاقل المختار ، فليس فيه أي محذور .

4 ـ قولهم : " لو لم يكن الحسن والقبح في الافعال بحكم الشارع نفسه ، وكان بحكم العقل ، لاستحق تارك الحسن وفاعل القبح قبل بعثة الرسل العقاب ، وهذا مخالف لصريح الكتاب ، يقول الله تعالى : ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) (90) ، ويقول : ( ولولا ان تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت الينا رسولاً فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين * فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى ) (91) ، فإن احتجاج الكافرين برسالة محمد(صلى الله عليه وآله وسلم) على إيقاع العذاب من غير إرسال رسل ، لو فرض وقوعه ، وعدم النكير من الله تعالى دليل على أنه لا عقاب ولا ثواب دون إرسال الرسل كما يدل عيه قوله تعالى : (رسلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) (92) " (93) .

وللاجابة على هذا الدليل وهو من أهم أدلتهم نحتاج الى تمهيد أمور :

1 ـ التذكير بما سبق أن ذكرناه من ان موضع الخلاف في معنى الحسن والقبح هو المعنى الثالث ، وهو إدراك العقل أن هذا الشيء مما ينبغي أن يفعل أو لا ينبغي ، ومدح الفاعل أو ذمه على ذلك .

ولازم هذا الادراك الصادر منه ـ بما أنه عقل ـ هو تطابق العقلاء ـ بما أنهم عقلاء ـ على ذلك بما فيهم الشارع المقدس .

2 ـ إن إدراكنا لهذا اللازم وتصديقنا به ليس هو من القضايا الضرورية ، وإنما

هو من الاراء المحمودة والتأديبات الصلاحية .

والقضايا التأديبية لا يجب أن يحكم بها العقل إذا لم يتأدب بقبولها والاعتراف بها ، بخلاف القضايا الضرورية التي يكفي في الحكم بها تصور طرفيها ، ومقتضى ذلك ان الحكم بتطابق العقلاء في مسألة ما يحتاج الى تأدب به ، ولا يجب ان يحكم به كل عاقل لو خلي ونفسه .

3 ـ التفرقة بين مدح الشارع وذمه ـ بما أنه سيد العقلاء ـ وبين ثوابه على الفعل وعقابه ، فالذم والمدح يكفي فيهما صدور نفس الفعل من الفاعل بمنأى عن أي انتساب الى جهة ، والثواب والعقاب لا يكفي فيهما ذلك بل يحتاجان الى ان يكون صدور الفعل أو تركه منتسباً الى المولى ليتحقق فيهما معنى الاطاعة أو العصيان ، وهما لا يكونان عادة بدون أن تتنجز التكاليف بالوصول ، وتوفر شرائطها بما فيها القدرة على الاداء ، ومن هنا حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان واصل من المشرع .

فالثواب والعقاب ، وليدا إطاعة أو عصيان التكاليف الواصلة من المشرع ، كما هو واضح بالبداهة .

4 ـ إن العقل وان كانت له وظيفة الادراك ، إلاّ ان إدراكه محدد بحدود خاصة لا تتجاوز الكليات من ناحية ، ولا تُعنى كثيراً بمجالات التطبيق والقضايا الجزئية من ناحية أخرى .

وفي البشر قوى أخرى كالحواس والغرائز وغيرها مسؤولة عن ذلك ، وهذه القوى عرضة لكثير من الاخطاء ، وكثير من تصرفاتها لا منطقية .

ومن هنا نرى كثرة الاخطاء في مجالات التطبيق لبعض المدركات العقلية ، فالعدالة مثلاً مما تطابق على حسنها العقلاء ، وأقاموا عليها دساتيرهم وأنظمتهم وشرائعهم ، ولكنك لو حاولت التعرف عليها في مجالات التطبيق ، لرأيت التفاوت الكبير بينهم ; فالشيوعية ـ مثلاً ـ ترى ان العدالة لا تتحقق إلا اذا أُلغيت الملكية

الفردية إلغاءً تاماً ، وعوضت بالملكية الجماعية ; بينما يرى دعاة الحرية الاقتصادية فسح المجال للفرد في ان يتملك ما يشاء ويعمل مواهبه في إنماء ملكيته دون تعرض لتحكم السلطات في شأنه ، وكل يدعي تحقيق العدل فيما تبناه من تشريعات ، وقد يكون بعضهم مخلصاً في ذلك .

ولكن النظرة التجزيئية للانسان وتركيز النظر على بعض جوانبه الفردية أو الاجتماعية مع غفلة أو تغافل عن بقية الجوانب ، وقصور عن استيعاب النظرة وشمولها ، كل ذلك مما أوقعه بهذه التناقضات .

ومن هنا كان احتياج الانسان الى من يضمن له العدل في تشريعاته على أن تستوعب مختلف ابعاده المتشابكة ، سواء ما يتصل منها بتحديد علائق الفرد بربه ، أم بنفسه ، أم بمجتمعه ، أم المجتمعات بعضها ببعض .

وبالطبع لا يمكن أن يضمن ذلك غير خالق الانسان ، لان خالق الشيء أخبر بمخلوقاته ، وأعرف من غيره بمتطلبات حياتها .

فالاحكام ـ كما يقول العدلية بل جميع المسلمين على اختلاف في منشأ القول ومبناه ـ وليدة مصالح ومفاسد في المتعلقات ، والعقول لو استشرفتها واطلعت على واقعها لاقرّتها حتماً .

ولكن قصورها عن ذلك الادراك وتطفلها على ما لا تحسن القول فيه ، هو الذي أوقع بعض أربابها في كثير من المفارقات .

ومن هنا ورد عن أهل البيت(عليهم السلام) : " إن دين الله لا يصاب بالعقول " (94) أي ما ثبت أنه من الدين لا يمكن للعقول أن تدرك فلسفته ككل لقصور إمكاناتها عنها في مجالات الادراك .

ولكن هذا لا يمنع ، من أن يدرك العقل شيئاً ـ على سبيل الموجبة الجزئية ـ ومن إدراكه يدرك حكم الشارع فيه اذا كان إدراكه على سبيل القطع .

واذا تمت هذه التمهيدات اتضح عدم الوجه في دعوى التلازم بين المقدم والتالي في قولهم : " لو لم يكن الحسن والقبح في الافعال بحكم الشارع نفسه وكان بحكم العقل لاستحق تارك الحسن وفاعل القبح قبل بعثة الرسول العقاب " . إذ لا تنافي بين القول بأن الحسن بحكم العقل وبين عدم استحقاق العقاب .

فالعقول وإن قلنا بأن لها قابلية الادراك إلا أن إدراكها منحصر في الكليات ولا يتناول الامور الجزئية كما لا يتناول مجالات التطبيق إلاّ نادراً ، والكليات لا تستوعب شريعة ولا تفي بحاجات البشر ، ومع ذلك فالعقاب والثواب انما يتولدان عن التكاليف الواصلة ، ومجرد إدراك العاقل أن هذا الشيء مما ينبغي ان يفعل أو لا يفعل لا يستكشف منه رأي الشارع إلا اذا انتبه الى أن العقلاء متطابقون على هذا المعنى بما فيهم الشارع ، وإدراكه لتطابق العقلاء ليس من الامور البديهية كما سبق أن قلنا ، وإنما هو من الاراء المحمودة التي تحتاج الى تنبه وتأدب ، وأين التأدب في أمثال هذه القضايا قبل بعثة الرسل ؟!

فالتكليف اذن ، بالنسبة الى نوع الناس غير واصل قبل البعثة ، ولا تتم الحجة إلا بوصوله ( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ) (95) .

ومن أوليات العقل تقبيحه للعقاب قبل وصول البيان ، وعلى هذا فليس هناك ما يمنع من الالتزام بإدراك العقل للحسن وعدم الالتزام بالعقاب والثواب .

والذي يبدو من بعض الاحاديث أن هناك من أدرك حكم الشارع من طريق العقل وخالفه فاستحق لذلك العقاب ، ففي بعض الاحاديث : " امرؤ القيس قائد الشعراء الى النار " ، وفي بعضها الاخر " رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه ـ أي أمعاءه ـ في النار " (96) لانه أول من بحر البحائر (97) وسيب السوائب (98) . ومن المعلوم انه لا عقاب بلا تكليف واصل ، اللهم إلا ان يدعى وصول التكليف اليهم من الرسل السابقين على الاسلام .

وعلى أي حال فالثواب والعقاب وليدا وصول التكاليف ، وإدراك تطابق العقلاء الكاشف عن رأي المولى والموصل للتكاليف ليس من البديهيات ، وكونه من الاراء المحمودة مما يحتاج الى التأدب ، وهو غير حاصل نوعاً في تلكم العصور السابقة على بعثة الرسل قطعاً ، فلا تلازم اذن بين ادراك العقل وعدم العقاب ، والقول بأن مدح الشارع ثوابه وذمه عقابه لا أعرف له وجهاً ، فمدحه وذمه باعتباره سيد العقلاء شيء ، وباعتباره مشرعاً شيء آخر ، فالاول لا يتوقف على وصول حكمه بخلاف الثاني ، إذ الثواب والعقاب موقوف على وصوله وامتثاله أو عصيانه ، ولا يكتفى فيه بصدور الفعل وعدمه .

رأي المعتزلة : والمعتزلة في الوقت الذي اتفقوا فيه على أن للافعال في أنفسها حسناً وقبحاً اختلفوا في كونهما ذاتيين فيها أو لصفة عارضة عليها ، فالذي عليه قدامى المعتزلة هو الاول منهما . وذهب الجبائية ـ وهم أتباع أبي علي الجبائي ـ الى الثاني ، وقد عرفت من مناقشة الاشاعرة وجه الحق في المسألة ، فقد ذكرنا أن ادراكنا للشيء بأنه مما ينبغي ان يفعل أو لا ينبغي يختلف باختلاف مناشئه من حيث العلية والاقتضاء وعدمهما ، وان كلاّ من القولين هنا له منشأ سليم ولكن لا على سبيل الموجبة الكلية ، وانما يصدقان على سبيل الموجبة الجزئية فقط .

أقسام الحسن والقبح عندهم : ولقد قسموا الحسن والقبح من حيث نوعية الادراك الى أقسام ثلاثة :

1 ـ " ما يدرك بضرورة العقل كحسن انقاذ الغرقى والهلكى ، وشكر المنعم ، ومعرفة حسن الصدق وكقبح الكفران ، وإيلام البريء ، والكذب الذي لا غرض

فيه " (99) .

2 ـ " ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الذي فيه ضرر ، وقبح الكذب الذي فيه نفع " (100) .

3 ـ " ما يدرك بالسمع كحسن الصلاة والحج وسائر العبادات " (101) واعتبروها " متميزة لصفة ذاتها عن غيرها بما فيها من اللطف المانع من الفحشاء الداعي الى الطاعة ، لكن العقل لا يستقل بدركه " (102) .

أدلة ونقاش : واستدلوا ـ أو استدل لهم ـ على نظريتهم في الحسن والقبح بعدة أدلة نذكر أهمها :

1 ـ قولهم : " ان الحسن والقبح لو لم يكونا عقليين لجاز الكذب على الله وأنبيائه ، لان الكذب ليس قبيحاً في ذاته وانما صفة القبح ثبتت له بالشرع ، وهذا باطل ويترتب عليه فساد الرسالات والاحكام " (103) .

وقد أجاب الاستاذ سلام على هذا الاستدلال بقوله : " ويمكن رد هذا الدليل ، بأن الصدق والكذب ليسا من الحسن والقبح بالاطلاق الثالث الذي وقع فيه الخلاف ، وانما هو يدخل في الاطلاق الثاني وهو متفق عليه ، فالملازمة غير صحيحة " (104) .

والسؤال الذي يوجه الى سلام ، هل ان الكذب مما ينبغي صدوره من المولى مهما كانت مناشئه أو لا ينبغي ، أو ان العقل لا يقول كلمته في ذلك ؟ والظاهر ان القول بأن العقل لا يستطيع ان يقول كلمته في ذلك لا يخلو من مصادرة ، واذا افترضنا له القول فقد تمت الملازمة وصح الاستدلال لان الحسن والقبح بالمعنى الثالث ليس هو الا ادراك ان هذا الشيء مما ينبغي صدوره أو لا ينبغي من

الفاعل ، كما سبقت الاشارة اليه .

2 ـ ما استدل به الماتريدية على ذلك من : " ان الحسن والقبح لو كانا شرعيين ، ولم يكن ذلك وصفاً في الفعل ، لكانت الصلاة والصوم والزنى والسرقة وغير ذلك أموراً متساوية قبل ورود الشرع فجعل الشارع بعضها مأموراً به ، والاخر منهياً عنه ترجيح لاحد المتساويين دون مرجح " (105) .

وقالوا : " إنهما لو كانا شرعيين لكانت بعثة الرسل والاديان بلاء على الناس ومثار نزاع ، وسبباً في المتاعب والمشاق والصد عن بعض الامور والالزام بالاخرى وترتب الثواب والعقاب على ذلك . وقد كان الناس قبلها في حرية مطلقة ، يفعلون ما يرغبون في فعله ويحجمون عما لا يشتهون دون مخافة عقاب أو ترتب ثواب ، وكون بعثة الرسل ضارة بالناس باطل منقوض . بقول الله تعالى : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) (106) " (107) .

ولكن هذا النوع من الاستدلال ـ بعد الغض عما يوهمه من الخلط بين أقسام الحسن والقبح ـ لا يتم إلا اذا افترض المفروغية عن ان فساد الرسالات أو الاحكام أو كونها ضارة بالناس ، وليست رحمة لهم ، والكذب وأمثالها مما لا ينبغي صدوره منه بحكم العقل وإلا فلا يبطل اللازم بداهة . ولعل محاولة اثبات ذلك بهذه الادلة لا يخلو من شبهة الدور .

نعم ، هذه الادلة إنما تصلح لالزام الاشاعرة ببطلان ما انتهوا اليه من المبنى في اعتبار الحسن والقبح شرعيين لبطلان اللوازم الفاسدة التي تترتب عليها ، لا في اثبات أصل المبنى لدى المعتزلة ، ولعلها سيقت لهذا الغرض كما هو غير بعيد .

3 ـ وأكثر منها إلزاماً لهم ما ذكره العلامة المظفر وهو يصحح للعدلية بعض أدلتهم فيقول : " انه من المسلّم عند الطرفين وجوب طاعة الاوامر والنواهي الشرعية وكذلك وجوب المعرفة ، وهذا الوجوب عند الاشاعرة وجوب شرعي

حسب دعواهم ، فنقول لهم : من أين يثبت هذا الوجوب ؟ لا بد ان يثبت بأمر من الشارع ، فننقل الكلام الى هذا الامر فنقول لهم : من أين تجب طاعة هذا الامر ؟ فان كان هذا الوجوب عقلياً فهو المطلوب ، وان كان شرعياً أيضاً فلا بد له من أمر ولا بد له من طاعة ، فننقل الكلام اليه . وهكذا نمضي الى غير النهاية ولا نقف حتى ننتهي الى طاعة وجوبها عقلي لا تتوقف على أمر الشارع . وهو المطلوب .

بل ثبوت الشرائع من أصلها يتوقف على التحسين والتقبيح العقليين ، ولو كان ثبوتها من طريق شرعي لاستحال ثبوتها لانا ننقل الكلام الى هذا الطريق الشرعي فيتسلسل الى غير النهاية ، والنتيجة ان ثبوت الحسن والقبح شرعاً يتوقف على ثبوتهما عقلاً " (108) .

وخير ما يستدل به على أصل المبنى هو البداهة العقلية ، وكل شبهة في مقابلها فهي شبهة في مقابل البديهة ; وقد رأيت مثار الشبهة لدى الاشاعرة فيما عرضوه من دليل وعرفت الجواب عليه ، وما أحسن ما قاله الشوكاني بعد عرضه لادلتهم ، وبالجملة " فالكلام في هذا البحث يطول ، وانكار مجرد إدراك العقل لكون الفعل حسناً أو قبيحاً مكابرة ومباهتة " (109) .

حجيته : واذا صح ما عرضناه من إمكان إدراك العقل للحسن والقبح ـ بما أنه عقل ـ الملازم لادراكه ـ لتطابق العقلاء عليه ـ بعد تأدبه بذلك ـ بما فيهم سيدهم ـ فقد أدركنا قطعاً حكم الشارع فيها ، وليس وراء القطع حجة كما سبق التأكيد على ذلك ولا حاجة لاعادة الكلام فيه . وبهذا يتضح الجواب على :

مذهب الماتريدية : وهم أتباع أبي منصور محمد الماتريدي من الاحناف ، حيث أنكروا " ترتب حكم الشرع على حكم العقل ، لان العقول مهما نضجت قد تخطئ ، ولان بعض الافعال مما تشتبه فيه العقول " (110) ، وذلك لان العقول ـ بما هي عقول ـ لا تخطئ ولا تشتبه . نعم هناك تخيلات لاحكام عقلية وهي صادرة عن قوى أخرى في النفس وفيها يقع الخطأ والاشتباه .

على أن القطع مصدر الحجج ومنتهاها ، ومع فرض قيامه فلا يعقل تصور الخطأ والاشتباه من القاطع ، إذ ليس وراء الرؤية الكاملة شك أو احتمال اشتباه ـ نعم ربما أرادوا بذلك المناقشة من حيث تحقق الصغرى ، أي انكار حصول القطع بحكم الشارع على الدوام ، وهذا صحيح كما سبق بيانه مفصلاً ـ ولكن ضيق التعبير هو الذي أدّى بهم الى نسبة الخطأ والاشتباه الى العقول ، وما يقال عن مذهب الماتريدية يقال عن :

مذهب بعض الاخباريين من الشيعة : من القول : " بعدم جواز الاعتماد على شيء من الادراكات العقلية في اثبات الاحكام الشرعية ، وقد فسر هذا القول بأحد وجوه ثلاثة حسب اختلاف عبارات الباحثين منهم :

1 ـ إنكار إدراك العقل للحسن والقبح الواقعيين ...

2 ـ بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل انكار الملازمة بينه وبين حكم الشرع .

3 ـ بعد الاعتراف بثبوت إدراك العقل وثبوت الملازمة انكار وجوب إطاعة الحكم الشرعي الثابت من طريق العقل ، ومرجع ذلك الى انكار حجية العقل " (111) .

لان انكار الادراك العقلي للحسن والقبح مصادرة ، كما سبق بيانه ، وانكاره الملازمة بينه وبين حكم الشرع بعد فرض تطابق العقلاء ـ بما فيهم الشارع ـ مصادرة أخرى .

وانكار حجية العقل ، إن كان من طريق العقل لزم من وجوده عدمه ، لان الانكار ـ لو تم ـ فهو رافع لحجية العقل فلا يصلح العقل للدليلية عليه ولا على غيره ، وان كان من غير العقل فما هو المستند في حجية الدليل ؟ فان كان من غير العقل لزم التسلسل ، وإن كان من العقل لزم من وجوده عدمه لانتهائه الى انكار حجيته ايضاً ، لفرض قيامه بالاخرة على انكار ثبوت الحجية له ، هذا بالاضافة الى ما سبق ان ذكرناه من ذاتية حجية القطع وعدم امكان تصرف الشارع فيها رفعاً أو وضعاً .

والاحكام العقلية ـ موضع الحديث ـ كلها مقطوعة .

خلاصة البحث : وخلاصة ما انتهينا اليه من مجموع البحث :

1 ـ ان العقل مصدر الحجج واليه تنتهي ، فهو المرجع الوحيد في أصول الدين وفي بعض الفروع التي لا يمكن للشارع المقدس ان يصدر حكمه فيها ، كأوامر الاطاعة وكالانقسامات اللاحقة للتكاليف من قبيل العلم والجهل بها أو اعتبار التقرب بها اذا أُريد اعتبارها بجعل واحد شروطاً للتكاليف ، للزوم الدور أو التسلسل فيها ، بداهة ان اطاعة أوامر الاطاعة مثلاً اما ان ترجع الى العقل أو تتسلسل الى غير النهاية ، إذ لو كانت شرعية لتوجه السؤال عن لزوم اطاعتها ، فان كان شرعياً توجه السؤال عن لزوم اطاعته ، وهكذا فلا بد ان يفترض فيها ان تكون عقلية ، وما ورد من الاوامر الشرعية بالاطاعة فإنما هو إرشاد وتأكيد

لحكم العقل ، لا انها أوامر تأسيسية .

2 ـ قابليته لادراك الاحكام الكلية الشرعية الفرعية بتوسط ـ نظرية التحسين والتقبيح العقليين ـ ولكن على سبيل الموجبة الجزئية وعدم قابليته لادراك جزئياتها وبعض مجالات تطبيقها ، لعجزه عن إدراك الجزئيات وتحكم بعض القوى الاخرى وتأثيرها في مجالات التطبيق .

3 ـ عدم إدراكه ـ وحده ـ لكثير من الاحكام الكلية كالعبادات وغيرها لعدم ابتناء ملاكاتها ـ على نحو الموجبة الكلية ـ على ما كان ذاتياً من معاني الحسن والقبح .

وما كان فيه اقتضاء التأثير أو ليس فيه حتى الاقتضاء لا طريق له غالباً الى احراز عدم المانع فيه أو احراز عروض بعض العناوين الملزمة عليه ، ومع عدم الاحراز لا يحصل له القطع فلا يسوغ له الاعتماد عليه لعدم توفر عنصر الحجية فيه . على ان هناك ما لا يمكن ان يدركه العقل من الملاكات لاتصاله بتنظيم قوى أخرى لا تسلط له عليها في مجالات الادراك .

4 ـ الالتزام بالتحسين والتقبيح لا ينهي الى انكار الشرائع بل الاحتياج قائم على أتم صوره اليها لتدارك ما يعجز العقل عن الولوج اليه وهو أكثر الاحكام ، بل كلها مع استثناء القليل على اختلاف سبق عرضه في سبب هذا العجز .

(76) المستصفى : 1/127 .

(77) الحدائق الناضرة : 1/40 .

(78) أصول الفقه للمظفر : 3/108 نقلاً عنه .

(79) مباحث الحكم عند الاصوليين : 1/162 وما بعدها .

(80) المصدر السابق .

(81) أعيان الشيعة : 1/18 ق2 .

(82) أصول الفقه للمظفر : 2/18 .

(83) مباحث الحكم عند الاصوليين : 1/168 .

(84) المصدر السابق : 1/169 .

(85) مباحث الحكم عند الاصوليين : 1/169 .

(86) أصول الفقه للمظفر : 2/24 .

(87) أصول الفقه للمظفر : 2/25 .

(88) المصدر السابق .

(89) مباحث الحكم : 1/170 .

(90) سورة الاسراء : الاية 15 .

(91) سورة القصص : الايتان 47 ـ 48 .

(92) سورة النساء : الاية 164 .

(93) مباحث الحكم : 1/170 . وقد آثرنا نقل أدلتهم عن هذا المصدر نظراً لوفائه بالتأدية مع يسر التعبير وسهولته ( المؤلف ) .

(94) بحار الانوار للمجلسي : 2 / 303 ، الحديث 41 .

(95) سورة الاسراء : الاية 15 .

(96) صحيح البخاري : كتاب المناقب ، الحديث 3260 . ومسند أحمد : الحديث 7385 .

(97) البحيرة : الناقة كانت إذا نتجت خمسة أبطن فكان آخرها ذكراً بحروا أذنها ، أي شقّوها ، وأعفوا ظهرها من الركوب والحمل ... وجاء في الحديث : " اول من بحر البحائر ، وحمى الحامي ، وغيّر دين اسماعيل عمرو بن لحي " . ( تاج العروس : 10 / 115 ( بحر ) طبع دار الهداية .

(98) سيّب : أي اطلق البهائم للالهة فلا يحمل عليها . والسوائب جمع السائبة وهي ما اطلق من الدواب للالهة .

(99) المستصفى : 1/36 .

(100) المصدر السابق .

(101) المستصفى : 1/36 .

(102) المصدر السابق .

(103) مباحث الحكم : 1/173 .

(104) المصدر السابق .

(105) مباحث الحكم : 1 / 174 .

(106) سورة الانبياء : الاية 107 .

(107) مباحث الحكم : 1/174 .

(108) أصول الفقه : 2/29 .

(109) إرشاد الفحول : ص9 .

(110) مباحث الحكم : 1/174 .

(111) أصول الفقه للمظفر : 2/30 ، ويحسن الرجوع الى هذا الكتاب لاستعراض حججهم والاجابة عليها فهو من خير ما كتب في موضوعه استيعاباً وعمق نظر . ( المؤلف ) .

/ 19