زیارة القبور شبهات وردود

سید بدرالدین الطباطبایی الحوثی

نسخه متنی -صفحه : 4/ 2
نمايش فراداده

زيارة القبور ص 5 - 33

زيارة القبور

(شبهات وردود)

تأليف العلامة: بدر الدين الحوثي

الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على خير بريته محمد الامين وأهل بيته الطاهرين وصحبه الميامين.

وبعد.. فقد ابتلي أهل بيت النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) من بعده، وهم حملة الامانة ومستودع الرسالة، ابتلوا بالمناوءة والعداوة والابعاد والتشريد، والتهمة والريبة، ثم التعذيب فالقتل... وطال البلاء كذلك محبيهم واتباعهم ورواة احاديثهم حتى تكاد لا تجد كتاباً من كتب التأريخ يخلو من معاناة أهل البيت(عليهم السلام) وتحمّلهم، وما واجههم من مكائد ومؤامرات لا تُطفأ إلاّ بدمائهم ولا تنتهي إلاّ بدفنهم!

وليت الامر انتهى عند هذا الحدّ.. فقد تتبع أمراء الضلالة والطغاة أهل البيت(عليهم السلام)حتى بعد موتهم... فنبشوا قبورهم وصلبوا أجسادهم، وحرثوا مراقدهم وأجروا عليها المياه.. لتختفي هذه المعالم المنيرة والعلامات المضيئة والقباب المتحدّية.

ولا زالت هذه المعالم السامية والاضرحة المتوهجة ملاذاً للمظلومين وملجأً للتائهين ينهلون منها معاني الثورة ضد الظلم، ويرتشفون منها اكواب الصبر الجميل..

ويا للاسف... اننا لازلنا نجد حتى وقتنا الحاضر من يريد ان يبعد الامّـة عن رجالها الصالحين واعلامها الهداة المهديين... بدعوى أن زيارة القبور أمرٌ غير مسوغ شرعاً، مع ان لزيارة قبور الصالحين ادلتها المتينة في الشرع المقدس، وهي أمر مستحسن عقلاً وشرعاً..

والكتاب الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ هو ردّ موجز على شبهة قديمة اطلقها الظالمون ورددها المستشرقون.. حرّموا فيها زيارة قبر النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وخلفائه الصالحين والاولياء المؤمنين... ويمتاز هذا الكتاب بجزالة اسلوبه وقوة حجته وروعة دلالته... وهو يقدّم للمسلمين حقيقةً شرعية حاولت الاقلام المدسوسة محوها وتحريفها...

( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) صدق الله العلي العظيم.

المعاونية الثقافية

للمجمع العالمي لاهل البيت(عليهم السلام)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على محمد وآله الطاهرين.

وبعد: فهذا جواب في مسألة القباب والتمسح بالتراب من الرد على مقبل.

وها هنا مسألتان: مسألة التمسح بالتراب، ومسألة نداء الميت. نعقد لكل منهما فصلاً وذلك لبيان الحق والدفاع عن المسلمين فنقول:

الفصل الاول:

التمسّح بالتراب

التمسح بالتراب يكون لاعتقاد المتمسح انه دواء من حكة أو غيرها، أو لرجاء ان يكون دواء. وهذا ليس شركاً وان دل على اعتقاد فضل الانبياء والاولياء (عليهم السلام) وعلى رجاء ان يكون تراب قبورهم دواء لذلك، وهذا واضح ولا يحتاج إلى ذكر دليل، لان البينة على المدعي، فمن ادعى انه شرك فالبينة عليه.

واخرج مسلم في صحيحه في تحريم الذهب والحرير على الرجال ( ج14 ص43 ): فقالت ـ أي اسماء ـ : هذه جبة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فأخرجت الي جبة طيالسة كسروانية لها لبنة ديباج وفرجيها مكفوفين بالديباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتى قبضت فلما قبضت، قبضتها وكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يلبسها، فنحن نغسلها للمرضى يستشفى بها.

هل يراهم الوهابي قد اشركوا إذ شربوا ماء الجبة لرجاء الشفاء؟ هل يراهم اشركوا حين استعملوا ماء الجبة استعمال الدواء؟ ام هو هنا يعرف انه لا تلازم بين التبرك والشرك، فما كل متبرك مشركاً؟ فلماذا يرى التمسح بتراب قبور الانبياء والاولياء (عليهم السلام) شركاً؟ هل يدعي مقبل انهم يعتقدون فيه النفع والضر من دون الله فهو مظنة هذا الافتراء؟ فكم يفترون على الشيعة ليرموهم بالشرك بغضا لهم وعداوة لاجل التشيع؟ كما قال ابن الامير:

مذاهب من رام الخلاف لبعضها يعض بأنياب الاساود والاسد

يصب عليه سوط ذم وغيبة (و)يجفوه من قد كان يهواه عن عمد

ويعزى اليه كل مالا يقوله لتنقيصه عند التهامي والنجدي

وفي صحيح مسلم ( ج15 ص87 ): عن انس بن مالك قال: كان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)يدخل بيت ام سليم فينام على فراشها وليست فيه، قال: فجاء ذات يوم فنام على فراشها، فاُتيت فقيل لها: هذا النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)نام في بيتك على فراشك قال: فجاءت وقد عرق واستنقع عرقه على قطعة اديم ففتحت عتيدتها فجعلت تنشّف ذلك العرق فتعصره في قواريرها، ففزع النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: ما تصنعين يا ام سليم ؟ فقالت: يا رسول الله، نرجو بركته لصبياننا، قال: اصبت . انتهى.

فهل اعتقدت ام سليم انه ينفع ويضر من دون الله؟ هل اشركت ام سليم وصوّبها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ هل كان التبرك والشرك متلازمين لا ينفك التبرك عن الشرك ولا يمكن ان يقع التبرك بلا شرك؟

أليس من المعقول امكان التبرك بلا شرك؟ بلى والله انه لمعقول . ولكن بغضكم للتشيع والشيعة والتصنع لدى أسيادكم الوهابية حملكم على رميهم بالشرك من أجل ذلك وأنساكم قول الله تعالى: (يا أيَّها الذين آمَنوا اجْتنبوا كثيراً مِن الظَّن إنَّ بعضَ الظنِّ إثم )( 1 ) الا تتقون الله؟ ألا تخشون اثم التفريق بين المسلمين وهم في اشد الحاجة الى الاجتماع؟ ألا تخشون اثم رمي المسلمين بالشرك ؟ ( انكَ مَيت وانَّهـم ميتون * ثـمَ انكـم يوم القيامـة عند ربكـم تختصمون )( 2 )( وسَيعلم الذين ظَلموا أي منقلب ينقلبون )( 3 ).

انكم لتعلمون انه يمكن ان يتمسح بتراب قبور الانبياء والاولياء(عليهم السلام) للتداوي به، أو لرجاء البركة من لا يعتقد فيه النفع من دون الله ولا الضر من دون الله، وانما يعتقد فضله فلذلك يرجو البركة في تراب قبورهم. فاذا كان هذا ممكنا معقولاً، كان دعوى انهم مشركون يعتقدون فيه النفع من دون الله دعوى عارية عن الدليل، افتراها اعداؤهم بغياً وعدوانا فقد جاءوا ظلماً وزوراً.

وقد عقدت فصلا في التبرك في كتاب شرح الصدور، أحد الكتب المسماة الايجاز في الرد على فتاوي الحجاز ( 4 ) ومحلّ هذا الفصل ( ص141 ) فليراجعه من اراد التحقيق في المسألة ففيه كفاية.

الفصل الثاني:

في نداء الميت

اعلم انا نتكلم في المسألة لتحقيقها، فاما النداء للانبياء والاولياء(عليهم السلام) فانك اذا دخلت اضرحتهم المشرّفة وحضرت الزائرين لا تسمع احداً يدعوه ولا يستغيث بهم، فقد بهتهم بهذا مقبل، المقلّد في هذا الشأن، المنقاد لداعي العصبية والشنآن المخالف لقول الله تعالى: ( وَلا يجرمنكم شنآن قَوم عَلى ان لا تعدلوا اعدلوا هُو أقَرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون )( 5 ). وقد كان ينبغي له وهو يعلم الحقيقة ويعرف براءة أهل القبلة من شرك الدعاء ان يبرئهم منه، ويبلغ الابعدين الذين لا يعلمون الحقيقة عنهم، دون ان يقلدهم فيما يعلم بطلانه.

أخرج احمد بن حنبل في المسند ( ج6 ص 436 ): عن ام العلاء الانصارية قالت امّ العلاء: فاشتكى عثمان بن مظعون عندنا، فمرضناه حتى اذا توفّي ادرجناه في اثوابه فدخل علينا رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فقلت: رحمة الله عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد اكرمك الله، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): وما يدريك... الحديث .

فهل اشركت ام العلاء حين قالت: يا ابا السائب، تعني عثمان بن مظعون وهو ميت؟

وأخرج أحمد في المسند ( ج1 ص335 ) عن ابن عباس قال: لما مات عثمان ابن مظعون قالت امرأته: هنيئاً لك يابن مظعون بالجنة، فنظر إليها رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)نظرة غضب فقال: ما يدريك؟ فوالله اني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ... الحديث.

فهل اشركت امرأة عثمان؟ فكيف لم يغضب رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)للشرك؟ وكيف لم يقل لها اشركت ارجعي الى الاسلام؟ انما غضب لقطعها بالجنة لعثمان وهي لا تدري، كما تفيده هذه الرواية.

واخرج الحاكم في المستدرك ( ج3 ص59 ): عن انس ان فاطمة بنت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)بكت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)فقالت: يا ابتاه من ربه ما ادناه يا ابتاه الى جبريل انعاه، يا ابتاه جنة الفردوس مأواه. هذا حديث صحيح على شرط الشيخين واقره الذهبي.

فهل اشركت فاطمة البتول سيدة النساء وخامسة أهل الكساء لقولها يا ابتاه، وقد توفاه الله؟.

ان الامر واضح، فما كل نداء شركاً، ولكن غلاة التوحيد يحبون رمي الناس بالشرك وما مقبل إلاّ فرع من فروعهم.

وقد روى الحاكم في المستدرك ( ج4 ص297 ): عن قتيلة بنت صيفي امرأة من جهينة قالت: ان حبراً جاء الى النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)فقال: انكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): قولوا ما شاء الله ثم شئت وقولوا ورب الكعبة . هذا حديث صحيح الاسناد واقره الذهبي.

فاذا كان الحديث صحيحاً فينبغي مخالفة اليهود وان لا نقتدي بهم في رمي المسلمين بالشرك، وان نقتدي برسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في تعليم الناس الادب في القول وتجنب الكلمات الموهمة التي يتعلق بها العدو لرمي المسلمين بالشرك. وهذه الخصلة ـ أعني رمي المسلمين بالشرك ـ لو لم يكن فيها إلاّ عار المشابهة لهذا الخبر والموافقة له لكفى صارفاً عنها لمن يأنف من التشبه باليهود.

هذا وقد حققت مسألة الدعاء في كتاب الاجادة احد الكتب المجموعة في الايجاز في الرد على فتاوي الحجاز وذلك في المقصد الاول من كتاب الاجادة ( ص91 ) فراجعه فالكتاب مطبوع منشور والحمد لله.

قال مقبل ( ص223 ): وقد اخبرني شيخي عبد الرزاق الشاحذي انه قد شرحها ـ يعني الاربعين السيلقية ـ يحيى بن حمزة الذي خالف الامة الاسلامية وقال: لا بأس بالبناء على قبور الفضلاء، كما ذكره العلامة الشوكاني.

الجواب، وبالله التوفيق: ان هذا دليل على ان مقبلاً لا يعتبر الامة الاسلامية إلاّ أهل نحلته الذين يرون ان من يخالفهم في هذه الاشياء مشرك، فجعلوا جمهور الامة الاسلامية مشركين.

قال مقبل بعد ان روى حديث: يا علي لولا ان تقول فيك طوائف من امتي بما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك اليوم مقالاً لا تمر بأحد من المسلمين إلاّ اخذوا التراب من اثر قدميك لطلب البركة وردّه بأن في سنده حرب بن حسن الطحان ويحيى بن يعلى. وذكر كلام اسلافه فيهما، ثم قال: فعلم بهذا ان الحديث عن شيعيين مقدوح فيهما خصوصاً فيما يوافق مذهبهما.

والجواب: ان القدح من خصومهما ورواية خصومهما فلا يقبل، مع انهم يحاربون فضائل علي(عليه السلام)ويجدّون في دفاعها على اختلاف درجاتهم في هذه الطريقة، حتى انهم ليجرحون في الرواة بنفس روايتهم لبعض الفضائل. فلذلك لا يلتفت الى جرحهم في الشيعة، لان تحكيم خصومهم فيهم عدول عن طريقة الانصاف وتعصب للاسلاف. وانما الطريقة ان نبحث نحن ولا نقلد، فاذا تتبعنا احاديث الرجل الصحيحة عنه فانا سنعرفه على ضوء رواياته، وكذلك اذا عرفنا تاريخ الرجل وعقيدته، فذلك يعين على معرفته بدون تقليد.

قال مقبل: وهذا الحديث الموضوع قد اتخذه القبوريون اصلاً في جواز التمسح بأتربة القبور، وهكذا يفعل الغلو بأهله.

والجواب: ان الاصل في التمسح بالتراب هو الاباحة، فلا حاجة الى الاستدلال على جوازه، بل الدليل على من منع من ذلك وحرّمه، لانه المدعي والبينة على المدعي فلا حاجة لاعتماد الحديث المذكور.

واما قوله: وهكذا يفعل الغلو بأهله فالغلو في الدين انما يكون بالتديّن بما هو زيادة على الدين وتجاوز لحدوده، فمعناه الزيادة على المشروع تديّنا بالزيادة. على ان لفظ الزيادة يفهم معنى التدين وانما نحتاج اليه اذا قلنا في حد الغلو: هو تجاوز الحد المشروع الى غيره تدينا بغير المشروع.

فالحاصل: ان الغلو يعتبر فيه امران: تجاوز الحد المشروع، والتدين بما زاد على المشروع. فلا يكون من الغلو في الدين إلاّ ما جمع الامرين، ومن امثلة الغلو جعل التمسح بالتراب شركاً، فالنهي عن الشرك من الدين والنهي عن غيره بدعوى انه شرك مبالغة في النهي عن الشرك وغلوّ في ذلك لانه تجاوز للحد على طريقة التدين.

وهكذا سائر ما يفعلون باسم التوحيد وليس منه، أو باسم التحذير من الشرك وليس منه، من قتل للمسلمين ونهب لاموالهم، ومن تخريب لقبابهم ومنع للزيارة وغير ذلك. فقد بان ان الغلاة تحت غطاء التوحيد اكثر الناس غلوا واخطر الغلاة على المسلمين، لانهم بغلوّهم كفّروا المسلمين ورموهم بالشرك واستحلوا دماءهم وأموالهم ونساء بعضهم، واهانوا اولياء الله وحقروا اكابر الامة بهدم قبابهم، وتركوا قبورهم معرضة للكلاب، بناء منهم على ان ذلك من التوحيد والتحذير من الشرك وانه من الاخلاص في الدين.

تسوية القبور:

قال مقبل: وهم مع هذا يدعون محبة النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)وعلي(رضي الله عنه)وهم في الحقيقة كاذبون في دعواهم إذ لو كانوا صادقين لعملوا بما امر به علي(رضي الله عنه)ابا الهياج الاسدي اذ يقول له: ألا ابعثك على ما بعثني عليه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أن لا تدع قبراً مشرفاً إلاّ سويته، ولا صورة إلاّ طمستها . رواه مسلم( 6 ) ولكنهم في الحقيقة مناقضون لمقاصد الشرع.

والجواب: ان ابا الهياج ليس بالمشهور بحيث يكون حديثه حجة ينكر على من خالفه، وقد قال السيوطي في حاشية سنن النسائي: ليس له في الكتب إلاّ هذا الحديث، ولا نعلم احداً وثقه إلاّ ابن حبان روي انه وثقه، وقد ظهر من مذهبه توثيق المجاهيل كما قدمناه، وإلاّ العجلي، روي انه وثقه وهو يكثر توثيق التابعين ، ولعل مذهبه فيهم مثل مذهب ابن حبان في الجملة. اعني لعل مذهب العجلي توثيق التابعي المجهول لاجل حديث: ثم الذين يلونهم ... .

والحاصل انه لا يقلد في توثيقه لانا لا ندري ما مذهبه في التوثيق، بل العجلي غير موثوق به عندنا.

مع ان تلك القبور يحتمل انها كانت قبور مشركين، واذا كانت كذلك فلا حق لاهلها في التعظيم فلذلك ينبغي ازالة ما فيها من تعبير عن شرفهم من شُرف او تسنيم، وذلك تسويتها في حقهم. ولا يقاس عليها قبور المسلمين لقول الله تعالى: ( أفنجْعل المُسلمين كالمجرِمين * مَا لكُم كيفَ تحكُمون )( 7 ) ويحتمل انها قبور مجهولة، من عهد الجاهلية فكان الاصل فيها ان تجري مجرى قبور الكفار.

فإن قيل: ان القبور لا نعلمها نحن ما هي وما سبب الامر بتسويتها، فلا يصح دعوى انها قبور المشركين أو من أهل الجاهلية المجهولين.

قلنا: إذا كنا لا نعلمها نحن ما هي وما سبب تسويتها المذكورة، فلا يقاس عليها غيرها حتى يعرف ما سبب حكمها، لان القياس يتوقف على معنى العلة، إذ تعميم الحكم بدون عموم اللفظ انما هو في الحقيقة ضرب من القياس.

وكذلك التأسي يحتاج فيه الى معرفة وجه الفعل حتى تتم الموافقة، ألا ترى ان موسى(عليه السلام)لو تأسّى بالخضر فقتل غلاماً آخر قبل ان يعرف وجه قتل الغلام الذي قتله الخضر، أو خرق سفينة اخرى قبل ان يعرف السبب في خرق السفينة التي خرقها الخضر لكان مخطئاً اذا لم يوافقه في المعنى وان وافقه في الصورة؟ وهذا لان حديث ابي الهياج في قبور مخصوصة وهي التي بعث اليها علي(عليه السلام)والتي بعث اليها ابو الهياج، وذلك لا يعم كل قبر سيكون في الزمان المستقبل، ولكنه يقاس على تلك القبور ما شاركها في علة الحكم، فان كانت العلة ان اهلها مشركون أو جاهليون سويت قبور المشركين أو الجاهليين تسوية تلك القبور. وان كانت العلة غير ذلك قيس عليها ما شاركها في العلة متى عرفت العلة، فان جهلت العلة ترك القياس. فان زعم الغلاة من مدّعي التوحيد انهم قد عرفوا العلة فليأتوا بحجة على ما زعموه، فان لم يكن عندهم حجة فلماذا يحتجّون به لهدم قبور الاولياء والصالحين؟ يحتجون بهذا الحديث الذي لا يدل على مذهبهم ويدّعون على من يرى بقاءها انه خالف المشروع وانه لا يحب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)ولا علياً(عليه السلام)وانه مناقض لمقاصد الشرع. مع ان المسألة مما تختلف فيها الانظار. وليس لهم ان يدعوا الناس الى تقليدهم لانه لا يجوز تقليدهم لانهم غلاة متهمون في هذا الباب وغيره . فكيف وهم يزعمون انه لا يجوز التقليد؟ وكيف يلزمون برأيهم من لا يرى رأيهم ؟ وذلك دعوة الى التقليد لو كانوا يعلمون.

هذا والتسوية تحتمل معنيين:

المعنى الاول: جعل القبر سوياً ومعنى هذا جعله على الصفة المشروعة وعلى وجه الصواب. والدليل على استعمال سوّى بمعنى جعله سوياً قول الله تعالى : ( انِّي خَالق بشراً من طين * فاذا سوّيته وَنفخت فيه مِن رُوحي )( 8 ) أي إذا جعلته سويّاً بتمام تصويره وإكمال اعضائه وصلاحه لنفخ الروح فيه. وقول الله تعالى: ( ثُمَّ سَواه وَنفخ فِيه مِن روحِه )( 9 ) وقول الله تعالى: ( الذِّي خَلَق فَسوّى )( 10 )فتسوية الشيء بهذا المعنى جعله على ما ينبغي ان يكون عليه من الصفة بحيث يصح ان يقال له سويّ.

المعنى الثاني: جعل القبر سواء ليس بعضه ارفع من بعض فلا يترك مسنماً ولا جانب منه ارفع من جانب ولا فيه شرف.

فاما تفسير بعض الغلاة من مدّعي التوحيد للتسوية بالتسوية بالارض، فان كان من حيث ثبت عندهم ان المشروع في القبر ان يسوى بالارض بدليل آخر، فلا يترك من ترابه ولا غيره شيء مرتفعاً على ما حوله من الارض فلم يخالفوا معناه لغة . وان كانوا ظنوا ان معنى تسوية القبر، تسويته بالارض لاجعله سواء ولا سويّاً فهو غلط في التفسير لهذا الحديث، لان استعمال التسوية بمعنى جعل المسوّى مساوياً لغيره انما تكون مقيدة، فيقال سوّى هذا بهذا، فمعنى التسوية مع الاطلاق غير معناها مع التقييد.

الرد على كلام ابن القيّم:

قال مقبل ( ص293 ): ورحم الله ابن القيّم اذ يقول في اغاثة اللهفان ( ج1 ص214 ): ومن جمع بين سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)في القبور وما امر به ونهى عنه وما كان عليه اصحابه، وبين ما عليه اكثر الناس اليوم، رأى احدهما مضاداً للاخر مناقضاً له بحيث لا يجتمعان أبداً. فنهى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)عن الصلاة الى القبور، وهؤلاء يصلون عندها، ونهى عن اتخاذها مساجد وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد مضاهاة لبيوت الله تعالى، ونهى ان تتخذ عيداً وهؤلاء يتخذونها اعياداً ومناسك، ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر، وامر بتسويتها كما في صحيح مسلم، ثم ذكر الحديث المتقدم.

وفي صحيحه ايضاً عن ثمامة بن شفي قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم، فتوفي صاحب لنا فامر فضالة بقبره فسوّي، ثم قال: سمعت رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يأمر بتسويتها. وهؤلاء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ويرفعونها عن الارض كالبيت ويعقدون عليها القباب. ونهى عن تجصيص القبور والبناء عليها كما رواه مسلم في صحيحه عن جابر قال: نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)عن تجصيص القبور وان يقعد عليه وان يبنى عليه ( 11 ) ونهى عن الكتابة عليها كما روى ابو داود والترمذي في سننهما عن جابر(رضي الله عنه) ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نهى ان تجصص القبور وان يكتب عليها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وهؤلاء يتخذون عليها الالواح ويكتبون عليها القرآن وغيره، ونهى ان يزاد عليها غير ترابها كما روى ابو داود من حديث جابر ايضاً ان رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) نهى ان يجصص القبر أو يكتب عليه أو يزاد عليه، وهؤلاء يزيدون عليه سوى التراب الاجر والاحجار والجص... الخ.

والجواب: انه يعني بهذا الكلام الشيعة، ومتى كانت هذه الروايات او بعضها مما تفرد به خصوم الشيعة، فخصوم الشيعة متهمون بقصد التشنيع على الشيعة ورميهم بمخالفة السنة، فلا يصح الاحتجاج بذلك عليهم. قال ابن حزم في الفصل ( ج4 ص94 ) في كلامه في الشيعة: لا معنى لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدقونا ولا معنى لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدقهم... الخ.

ولا يخفى ان الحديث الاول، اعني قوله: نهى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)عن الصلاة الى القبور، لا يفيد مطلوبهم من منع الصلاة حولها اذا لم تكن الصلاة الى شيء منها، وانما هذا من الغلو في الدين، لانه زيادة على ما دل عليه الحديث. وكذلك الحديث الثاني النهي عن اتخاذ القبور مساجد، لان معنى اتخاذ القبور مساجد ان تتخذ القبور نفسها مساجد، بحيث يكون القبر نفسه مصلّى يصلى عليه. هذا معنى الحديث الظاهر. اما ما زادوه فهو دعوى لا يلتفت اليها وذلك لعدم دلالة لفظ مسجد عليه في اللغة، لان مسجداً اسم لمكان السجود الذي يسجد فيه، كمنزل للمكان الذي ينزل فيه ومجلس للمكان الذي يجلس فيه. فمعنى اتخاذ القبر مسجداً اتخاذه مكاناً للسجود يسجد فيه، وهذا واضح وانما حملهم التعصب على زيادة الصلاة حوله أو اليه، ولا حجة لهم في ذلك.

وقوله: وهؤلاء يبنون عليها المساجد ويسمونها مشاهد يعني انهم لا يسمونها مساجد ولكنها بزعمه مساجد وان سموها مشاهد.

الجواب: ان معنى المسجد معروف، سمي مسجداً لانه بني للصلاة فيه وهو مشتق من السجود كاشتقاق مصلى من الصلاة، فالقباب المبنية على القبور لا للصلاة بأن تجعل ارضها للصلاة، بل لمجرد تعظيم صاحب القبر والتعريف بمكانه وتيسير الزيارة للزائر بالظلال ونحو ذلك، فلم تُبن لجعل ارضها مصلى فليست مسجداً، فدعوى انها بنيت للصلاة، كما يكون الغرض بالمسجد، دعوى عارية عن الدليل وهي دعوى تعصب وتعنت بسبب عداوة المذهب. نعم مقتضى الانصاف ان نقول: المحراب الذي يجعل فيها يجعل للصلاة فموضع المصلي فيه واليه في معنى المسجد وحده دون سائر القبة وارضها، وهذا المحراب ليس فوق القبر، فليس استعماله من اتخاذ القبور مساجد، بل هو كبناء مسجد حول القبر.

فاما القبة كلها فلا مشابهة بينها وبين المسجد في المعنى الذي لاجله سمي المسجد مسجداً، فتسميتها مسجداً مغالطة وتلبيس ومشابهة لاهل الكتاب في لبس الحق بالباطل. ( يَا أهلَ الكِتاب لِمَ تلبسُون الحقَّ بالباطِل وَتكتمون الحقَّ وأنتمْ تَعلمون )( 12 ) وهذه الخصلة في الغلاة تحت ستار التوحيد مما اشبهوا فيها اهل الكتاب وحذوا فيها حذوهم.

وقوله: مضاهاة لبيوت الله قد بينا انها غير مشابهة لبيوت الله في المعنى، لانها ما بنيت للصلاة ولا يصلى في جميع نواحيها كما في المساجد فلم تتخذ مساجد لا لفظاً ولا معنى. واما المضاهاة في شكل البناء والزخرفة فلا تسمى مساجد من أجلها ولا يثبت لها معنى المساجد، لان العلة في منع اتخاذ القبور مساجد هي الصلاة على القبور، وهي غير حاصلة في القباب ولا بنيت لها.

واما الحديث الرابع: وهو قوله: ونهى ان تتخذ عيداً .

فالجواب: ان الظاهر من العيد هو يوم يكون فيه اظهار السرور، واشتق له اسم العيد لانه يعود السرور فيه. وفي الاسلام عيد الاضحى وعيد الفطر. هذا هو المعنى المشهور للعيد، ويوم الجمعة عيد للمسلمين لهذا المعنى فيه. فاما مطلق الاجتماع فلا يسمى عيداً حقيقة، ولذلك لا تسمى الاسواق اعياداً، وان كان الناس يجتمعون لها ويعاودون الاجتماع فيها في كل اسبوع أو كل يوم، وكذلك المعارك التي يجتمع الناس فيها للقتال ولو عاودوا القتال فلا تسمى اعياداً حقيقة.

وعلى هذا، فاتخاذ القبر عيداً معناه ان يجعل مرجعاً للاجتماع وملتقى لجمع الناس، يجتمعون اليه للاحتفال والسرور واظهار الزينة، وهذا لا يناسب اللائق بمن حضر القبور، لان اللائق به هو الحزن لتذكر الموت والاخرة وغير ذلك من اسباب الحزن. وعلى هذا فالنهي عن اتخاذ القبر عيداً مثل كراهية الضحك بين المقابر لان ذلك من شأن أهل القسوة والغلظة.

واما الحديث الخامس: وهو الامر بتسويتها، فحديث ابي الهياج عن علي(عليه السلام) قد اجبنا فيه بما يكفي وبيّنا ان قوله: ان لا تدع قبراً مشرفا إلاّ سويته يحتمل سوّيته جعلته سويّاً على الحد اللائق به، ويحتمل سويته جعلته مستوياً، وهذا المعنى الثاني اظهر لانه ان صح الحديث فالظاهر في القبور التي أرسل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)عليّاً(عليه السلام)لتسوية المشرف منها انها قبور جاهلية لا حرمة لها، وعلى ذلك يكون الغرض هدمها لا تسويتها، لانها بعد ان تهدم لا يطلب لها صفة مخصوصة تعتبر تسوية، فالتسوية غير مطلوبة من حيث هي تسوية، والمطلوب فيها هو الهدم، فكان على هذا يكون الاصل في التعبير ان يقال إلاّ هدمته بدل إلاّ سويته لان الاصل في التعبير ان يذكر المقصود، فاذا كان المقصود الهدم فالاصل ان يذكر هو بلفظه لا بلفظ التسوية لانه لا غرض في جعله سوياً لانه لا حرمة له، والتعبير عن الهدم بالتسوية لا يناسب عدم حرمة القبر انما يناسب القبر المحترم .

فظهر ان الاولى والارجح تفسير التسوية بجعله سواء لازالة ما له من ميزة من شرف او تسنيم فيكون ذلك تعبيراً عن نفي شرف صاحب القبر، ولم يؤمر بهدمه تيسيراً أو تخفيفاً لكثرة القبور ومشقة هدمها واغناء التسوية في حصول الدلالة على نفي الشرف ومعارضة التعظيم لصاحب القبر.

وقد يقال: اذا كان المقصود بتسوية القبر جعله سواء مستوياً فلم خص المشرف بذلك؟

والجواب: انه يجوز ان يكون خص تيسيراً او تخفيفاً، لئلا تكثر عليه القبور فاكتفى بالاهمّ الذي هو المشرف. ويحتمل ان عادتهم في القبر المشرف ان يجعلوا له شرفاً دون غيره، فخص المشرف لاجل الشّرف. والله اعلم.

وأما حديث فضالة، فان صح فلا يدل على مطلوبهم، لان تسوية القبور اما بمعنى جعلها مستوية غير مسنمة ولا مشرفة، واما بمعنى جعلها سوية على الصفة المشروعة، وذلك لا يدل على مطلوبهم، لانه ان كان بمعنى جعل القبر مستوياً غير مسنم ولا مشرف فذلك لا ينافي رفعه. وان كان بمعنى جعله سوياً على الصفة المشروعة فذلك يتوقف على معرفة الحد المشروع، واذا كان المشروع الرفع لقبر الفاضل ليتميز عن غيره وللدلالة على فضله ولانه من تعظيم شعائر الله فرفعه تسوية بهذا المعنى.

فإن قيل: ان فضالة امر بالتخفيف عن القبر، واحتج بانه سمع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يأمر بتسويتها وذلك يدل على انه فهم من التسوية عدم الرفع.

قلنا: لا نسلّم انه فهم من التسوية ذلك على انه مفهوم التسوية، بل يحتمل انه فهم من التسوية ان يجعل القبر سواء، وانه رآهم يجعلون على القبر التراب أو البطحاء أو الحصباء أو نحو ذلك مما اذا كثر انهال وصار القبر مسنما، فأمرهم بالتخفيف ليبقى القبر سواء غير مسنّم، وهذا هو الظاهر المطابق لمعنى التسوية المعروف في اللغة، أو انه اراد بالتسوية جعله سويّاً وهذا خلاف الظاهر هنا لانه يكون احتجاجاً بمجمل، ولو فهم ذلك فلا يدل على مرامهم، لان جعل فضالة التخفيف تسوية بهذا المعنى يكون امراً غير ما قد فهم، لان الذي فهم على هذا التقدير هو جعله سوياً أي مطابقاً للمشروع. واما جعل التخفيف عنه تسوية فهو زائد على معنى الحديث وهو يحتاج الى دليل آخر يدل على ان جعل القبر سوياً ـ أي على الصفة المشروعة ـ هو ان يخفف عنه التراب، ولا دليل على ذلك، ولا حجة في قوله. كيف وهو بعيد عن التوفيق لانه من عمال معاوية؟ بل الراجح رد روايته لاقترانها بقوله في التخفيف واحتمال ان له فيه غرضاً من اغراض النواصب اذا كان قد علم ان قبور أهل البيت(عليهم السلام) ترفع فهو متهم فيه، وخصوصاً مع تفرده بالرواية بهذه الصفة، لان حديث ابي الهياج خاص فلا يصلح شاهداً لحديث فضالة.

واما النهي عن تجصيص القبر، فالقبر هو الحفرة وترابها، وهم لا يجصصون داخلها ولا ترابها في الغالب، وان صدر من بعض العامة تجصيص ظهر القبر فهو بدون امر العلماء، والغالب انما هو تجصيص البناء وليس من القبر في الحقيقة، بل تجصيص القبر ان يجصص داخله قبل ارجاع التراب فيه، وقبل انزال الميت فيه مثلاً، أو يجصص وجه ترابه، فاما البناء الذي يبنى حوله لحفظ ترابه فليس من القبر في الحقيقة فتجصيصه ليس تجصيصاً للقبر.

(1) الحجرات: 12.

(2) الزمر : 30 ـ 31 .

(3) الشعراء: 227.

(4) للمؤلف.

(5) المائدة: 8 .

(6) صحيح مسلم 3: 61 ط. دار الفكر.

(7) القلم: 35 ـ 36.

(8) ص: 71 ـ 72.

(9) السجدة: 9.

(10) الاعلى : 2 .

(11) صحيح مسلم 3: 62 كتاب الجنائز ط. دار الفكر.

(12) آل عمران: 71.