الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين.
البكاء من الموضوعات التي وقعت في دائرة اهتمام العديد من العلماء والكتّاب والشعراء والأدباء .. وكلّ من هؤلاء تناوله وفقاً لاختصاصه ومن زاويته الخاصة ... فمثلا علماء النفس بحثوه من خلال فوائده وآثاره على نفسية الشخص كتخفيف لأحزانه وما يستتبع ذلك .. وآخرون تناولوه من زاوية علمية، أجهزته، وكيفية حدوثه، ثم أثره على صحة العين وعلى الصحة العامة للإنسان .. كما أنّ هناك من تناوله شعراً ونثراً غالباً ما يكون في رثاء فقيد، أو يكون تعبيراً صادقاً عن مشاعر لقاء أو فراق أحبة.
والذي يعنينا هو دراسته التي تقوم أساساً على السؤال التالي: هل البكاء على الميّت أمر ممدوح شرعاً، أو أنه جزع مذموم وسوءُ ظنّ بالله تعالى وبما قدّر وقضى؟
ويبدو أنّ هذا السؤال قائم على الشبهة المثارة من قبل بعض المسلمين، وهي تحريم البكاء على الميت .. وقد أثيرت هذه الشبهة في أوساطنا الإسلامية، ممّا جعلها تلازم أذهان البعض وكأن البكاء شيء حادث يخالف العقل السليم والطبيعة الإنسانية، لم تشر إليه النصوص الدينية ولم يبك النبي (صلى الله عليه وآله) وأهلُ بيته والصحابةُ والتابعون، ولم تملأ بذلك مصادرنا الروائية والتاريخية، وهو بالتالي بدعة دخلت حياة المسلمين يجب الوقوف ضدها واقتلاع جذورها ومحاربة المتمسكين بها!!
هذا الموقف ترك آثاراً سيئة على العلاقة بين المسلمين، بين الرافضين وهم قلّة، والمتمسكين بجواز البكاء على الميت وبالذات على الرسول وآله وهم الكثرة .. ممّا فتح المجال للمتربصين بالإسلام والمسلمين ليدلوا بدلوهم المملوء خبثاً وحقداً فيوسعوا من دائرة الخلاف ..
إنّ الأمر بعكس ما تخيّله الذين أثاروا شبهة تحريم البكاء، لأنهم نسوا فطرة الله تعالى التي أودعها في هذا الكائن الحي، الذي إن تحققت آماله فإنه يشعر بالسرور والفرح .. وإن أخفق في ذلك أو أصيب بفقد أهل أو ولد خطفتهم يد المنون فإنه يحزن وقد ينهار وينتهي إلى أمر مكروه، وقد يتماسك ويصبر أمام ذلك، وازاء كلّ رزء مهما جلّ شأنه .. وهذا موقف نال إعجاب الشريعة المقدسة وأشادت به، وجعلت له ثواباً عظيماً، ثواب الصابرين.
ولا يضرُّ بموقفه هذا، ولا يخلّ بصبره وثوابه إن ذرف دموعه، لأن البكاء الذي يلوذ به المصاب فيه خروج عن مصابه وفيه تخفيف لوقعه على النفس وثقله عليها .. فيه خروج أيضاً عن هموم الدنيا والقلق النفسي الذي ينوء به الإنسان، وقد يتحكم في مسيرة حياته .. كما أن في البكاء اطمئنان للنفس في عالمنا هذا المزدحم بالحوادث المؤلمة المفجعة .. يحتاج فيه الإنسان إلى متنفس كالبكاء الذي يجد فيه خير وسيلة لإعادة النفس إلى استقرارها، ليواصل جهاده وعمله ..
ثم ان البكاء على الميت لو كان عيباً ومكروهاً لما كان من صفات العظماء، فهذا رسول الله (صلى الله عليه وآله)يبكي على ابنه ابراهيم، وكان إذا رأى عمته صفية بنت عبد المطلب تبكي على أخيها حمزة بكى وإذا نشجت ينشج، كما أنه إذا رأى فاطمة تبكي بكى، ولمّا رأى حمزة قتيلا بكى، ولمّا رآه ومثّل به شهق ..
فالبكاء على الميت ليس مبغوضاً شرعاً، ولا ينافي الصبر أبداً، ولا يخالف الإيمان إذا كان مع الرضا والتسليم لقضاء الله وقدره، وكيف ينافي الإيمان وهذه نصوص كثيرة كما سترى ثابتة عند جميع فرق المسلمين تؤكد بكاء النبي وأهل بيته وصحابته وعموم المسلمين على أوليائهم وأحبائهم؟
إن البكاء الذي عبّر عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنه رحمة، وأن العين لتدمع والقلب ليحزن .. ولكن لا نقول ما يغضب الرب .. وهذا النوع من البكاء لا غبار عليه، والشريعة تجيزه وتدعو له، كما أن الذي نستفيده ممّا بأيدينا من أدلة لفظية وسيرة قطعية وأصل عملي، كلّ هذه تقتضي إباحة البكاء بل واستحبابه إن كان على النبي (صلى الله عليه وآله) أولا وعلى فقيد ثانياً قد جمعت فيه صفات الفضيلة أو ضحّى بنفسه وأهله وماله في سبيل الله تعالى حتى يقتدى به.
أمّا البكاء الذي يوافقه الجزع والتذمّر والشكوى والتفوه بكلمات تكشف عن سخط وعدم الرضا بقضاء الله وقدره وتستبطن بل تظهر الاعتراض على حكمته تعالى، فهو منهي عنه ولا يختلف فيه إثنان.
وأخيراً نورد نصوصاً كثيرة من السنّة والسيرة، رتبناها بشكل مناسب ضمن فصول، تسهيلا للقارئ الكريم، تدليلا على صحة جواز البكاء، وإبطالا لشبهات الآخرين.
الفصل الأول:
من جملة الأدلة الواضحة على شرعية البكاء على الميت فعلُ النبي(صلى الله عليه وآله)، فانه بكى على ولده وعلى بنته وعلى زيد وجعفر وابن رواحة وابن مظعون وسعد بن ربيع وغيرهم.
فكان (صلى الله عليه وآله) يبكي حتى تسيل دموعه على خديه، ولمّا كان يُسأل عن ذلك كان يقول: «إنها رحمة يجعلها في قلوب عباده».
روى النسائي بسنده عن أسامة بن زيد قال: أرسلت بنت النبي(ص): أن ابناً لي قبض، فأتنا، فأرسل يقرأ السلام ويقول: «إن الله له ما أخذ وله ما أعطى وكلّ شيء عند الله بأجل مسمّى، فلتصبر ولتحتسب»، فأرسلت إليه تقسم عليه ليأتينّها، فقام ومعه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وأُبي بن كعب وزيد بن ثابت ورجال، فرفع رسولُ الله الصبي ونفسه تقعقع، ففاضت عيناه، فقال سعد: يا رسولُ الله! ما هذا؟ قال: «رحمة يجعلها في قلوب عباده، إنما يرحم الله من عباده الرحماء»(1).
وقال (ص) لعبد الله بن عوف لمّا قال له يا رسولَ الله! أَو لم تنه عن البكاء؟ قال: «إنما نهيت عن النوح، عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نغمة لهو ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة خمش وجوه وشق جيوب .. إنما هذه رحمة ..»(2).
2 - تحريض النبي (صلى الله عليه وآله) على البكاء:
ومن جملة الأدلة على شرعية البكاء على الميت تحريضه (صلى الله عليه وآله)على البكاء على الميت، وذلك أنه لما دخل المدينة بعد غزوة أحد ورأى النساء يبكين على قتلاهن بكى وقال: «أمّا حمزة فلا بواكي له»، وهذه العبارة صريحة في أنه (صلى الله عليه وآله) حرّض النساء على البكاء على حمزة، وكذا حرّض الناس البكاء على جعفر بن أبي طالب حيث قال: «على مثل جعفر فلتبك البواكي»، فلو كان البكاء على الميت غير مشروع لمّا حرّض النبيُّ على ذلك، وإليك بعض ما ورد في هذا المجال:
1 - روى أحمد في مسنده: قال رجع رسول الله (ص) من أحد، فجعلت نساء الأنصار يبكين على مَن قتل من أزواجهن، فقال رسول الله (ص): «ولكن حمزة لا بواكي له»، قال: ثم نام فانتبه وهنّ يبكين حمزة، قال: فهن اليوم إذا بكين يندبن حمزة ..(3).
2 - قال ابن عبد البر في ترجمة حمزة نقلا عن الواقدي: لم تبك امرأة من الأنصار على ميت بعد قول رسول الله: «لكن حمزة لا بواكي له» إلى اليوم إلاّ بدأت بالبكاء على حمزة(4).
3 - وفي شفاء الغرام: فجاء نساء بني عبد الأشهل لمّا سمعوا ذلك، فبكين على عم رسول الله (ص) ونحن على باب المسجد، فلما سمعهن خرج إليهن فقال: «ارجعن يرحمكن الله فقد آسيتنّ بأنفسكنّ»(5).
4 - وقال (ص) حينما أراد أن يخرج من بيت جعفر بعد أن عزى أسماء بنت عميس: «على مثل جعفر فلتبك البواكي»(6).
3 - ترخيص النبي (صلى الله عليه وآله) البكاء على الميت: