( إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاِْسْلام )
(آل عمران: 19)وَهُوَ فِي الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ )
(آل عمران: 85)مِن دُونِه أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ )
(الأعراف: 3)فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ )
(المائدة: 56)
هذا هو الجزء الثالث من كتابنا الإمام الصادق والمذاهب الأربعة، أضعه بين يدي القرّاء.
وقد نهجت فيه منهجي الذي سرت عليه في الجزئين: الأوّل والثاني، مبتدئاً بذكر الإمام الصادق (عليه السلام)في بيان موجز عن تاريخ حياته، ونشاط مدرسته، وبعض تعاليمه. ولم أتوسّع في البحث ـ كما يتطلّبه الموضوع ـ إذ لا يمكن إعطاء شخصيّته حقَّها من الإحاطة والبيان، فإنّ ذلك أمر يشقّ على الباحث حصوله مهما أنفق من جهد في هذا السبيل، وفي أيّ ناحية يسلك ليفرغ منها فراغاً تامّاً يجد نفسه في البداية لا في النهاية; لأنّ شمول البحث لجميع جوانب شخصيّة الإمام الصادق (عليه السلام) ومزاياه التي اتّصف بها، وأعماله التي قام بها، لإعلاء كلمة الإسلام وتوحيد صفوفها، هو من الصعوبة بمكان. ولهذا التجأت إلى إفراد البحث في ذلك بجزء خاص به، كما أنّ الفترة التاريخية التي عاشها الإمام (عليه السلام)كانت مليئة بأحداث تأثّر بها مجتمعه الذي كان يتصل به، ويرتبط بواقعه، فكان يعالج تلك المشاكل بحنكة وتدبّر، عن بصيرة ومعرفة بعاقبة الاُمور.
وكانت الظروف تقضي على رجال أهل البيت (عليهم السلام) أن يكونوا محور آمال الاُمّة; لأنّ الثورة قامت باسمهم، وقد ارتفعت هتافات الثوار بالدعوة لهم، وإسناد الحكم إليهم، وكان هو (عليه السلام) زعيم أهل البيت(عليهم السلام)وسيّدهم في عصره، وهو أعلم الناس بتلك الاُمور، وما يؤول إليه الأمر بين العباسيين والعلويين، كما أنّه درس تلك الأوضاع وعاش مع أحداث مختلفة، ومشاكل متراكمة. فكان موقفه (عليه السلام)أحرج موقف يقفه زعيم ديني يحمل رسالة الإسلام، ويريد تطبيق نظامه في عصر هبّت فيه زوبعة الأهواء، واختلفت الآراء، وذهب الناس فيه مذاهب شتّى، وسلكوا طرقاً متباينة، فالموقف إذاً يحتاج إلى قيادة حكيمة، وسياسة إسلامية مركّزة، فكان موقفه (عليه السلام) موقف القائد المحنّك، الذي يسير على هدى من دينه، وبصيرة من أمره، ولقد ظلم التاريخ مواقفه، وألجم عن التصريح بأعماله وآثاره، ولو أفصح التاريخ عن جميع مآثره وجليل أعماله ـ ولم يكن محظوراً عليه ذلك ـ لاتّسعت دائرة البحث عن إدراك جوانب تاريخ حياته.
ومن الحقّ هنا الاعتراف بالقصور عن إدراك شخصيّته ومكانتها في تاريخ الإسلام، وما لها من الأثر العظيم في التشريع الإسلامي. وليس ذلك لغموض يكتنف جوانب عظمته، أو وجود زوائد في دراسة حياته، أو اندفاع وراء العاطفة لرفع مكانته وعلوّ مقامه بدون حقّ، كلّ ذلك لم يكن، وإنّما اتساع
دائرة معارفه، وتعدّد نواحي شخصيّته، وعظيم أثره في بعث الفكر الإسلامي، وتدفّق ينبوع آرائه، وجهاده المتواصل في سبيل توجيه الاُمة بآثاره الخالدة وتعاليمه القيّمة، هو السبب في قصور الباحث عن إدراك الغاية المطلوبة بسهولة.
والتزمت أن أذكر في كلّ جزء إماماً واحداً من الأئمة الأربعة. فذكرت في الجزء الأول: الإمام أبا حنيفة، وفي الثاني: الإمام مالكاً، وفي هذا الجزء الإمام الشافعي، مقتصراً على ذكر أنسابهم ومناقبهم ونشأتهم ونبوغهم، وذكر شيوخهم وتلامذتهم، دون استقصاء لآرائهم وفقههم. وفي الجزء الرابع يأتي ذكر الإمام أحمد بن حنبل. وفي بقية الأجزاء سنعرض إلى الموازنة والمقارنة بين المذاهبالإسلامية.تفاوت المذاهب في الانتشار
تكلّمت فيما مضى عن أسباب نشأة المذاهب وانتشارها وكثرة عددها، وقد اقتصرت على ذكر البعض منها، مع بيان موجز عن حياة رؤسائها ومنزلتهم العلميّة. وأشرت إلى أسباب اندراس تلك المذاهب وبقاء الأربعة منها: الحنفي، والمالكي، والشافعي، والحنبلي. وقد اتّضح لنا أنّ للحكومات دخلاً في نصرةالمذاهب وانتشارها ،فإذا كانت الحكومة قويّة وأيّدت مذهباً من المذاهب، تبعه الناس بالتقليد، وظلّ سائداً إلى أن تزول الدولة.
وانتشار المذاهب وعظيم الاقبال عليها لا يدلّ على قوّتها الروحية، وعواملها الذاتية. فقد رأينا أنّ قوّة الدعاة وتدخّل السلطة أقوى عامل لنشر المذهب، فأيّ مذهب كان أصحابه مشهورين، وأسند إليهم القضاء والإفتاء، واشتهرت تصانيفهم في الناس، ودرسوا درساً ظاهراً، انتشر في أقطار الأرض، ولم يزل ينشر كلّ حين. وأيّ مذهب كان أصحابه خاملين، ولم يولّوا القضاء والإفتاء، ولم يرغب فيهم الناس اندرس بعد حين( [1] ).
والمذاهب الأربعة نفسها كانت تختلف بالقوّة والانتشار، فقد رأينا المذهب الحنفي هو أكثر المذاهب انتشاراً، واعظمها إقبالاً، لقوّة انصاره وكثرة دعاته في البداية والنهاية، إذ كانت نواة شهرته من غرس أبي يوسف قاضي قضاة الدولة العباسية، فهو ناشر المذهب أو مؤسسه ـ إن صحّ لنا أن نقول ذلك ـ وقد كان أبويوسف وجيهاً في الدولة، مقبولاً عند الخلفاء، له منزلة لا يشاركه فيها أيّ أحد. فكان لا يولّي قاضياً إلاّ من انتسب لمدرسة أبي حنيفة.
واستمر القضاة في نشر المذهب في جميع الأقطار. مستمدّين قوّتهم من السلطة التنفيذية، حتى أصبح مذهب أبي حنيفة هو المذهب الرسمي للدولة.
ولمّا اعتنق الأتراك مذهب أبي حنيفة أثّر ذلك في قوته وانتشاره في العصور المتأخرة، وناهيك بما للأتراك من قوة في الدولة، وقسوة في الحكم، واستبداد في الأمر، وقد ناصروه بكلّ حول وقوة، وكان انتصارهم لطمعهم في الخلافة. فإنّ السلطان سليماً طمع في الخلافة الإسلامية، وهي لا تكون إلاّ في قريش باتفاق المذاهب الاّ الحنفي فإنّه جوّز أن يتولّى الخلافة غير قرشي، فحمل الناس على اعتناق هذا المذهب.
وقد رأينا انتصار العباسيين لمالك بن أنس ـ بعد غضبهم عليه ـ فقد أمروا بقصر الفتوى عليه، وأعلن ذلك بأمر الدولة. ونودي ـ غير مرة علناً ـ ألاّ يفتي الناس إلا مالك( [2] ) وأمروا عمّالهم باستشارته في الأمر، وعدم القطع دونه، فهذا المنصور يقول لمالك: إن رأيت ريبة من عامل المدينة أو عامل مكة، أو أحد عمال الحجاز في ذاتك أو ذات غيرك أو سوء سيرة في الرعية، فاكتب إليّ بذلك أنزل بهم مايستحقون. وقد أكتب إلى عمالي بها أن يسمعوا منك ويطيعوك في كلّ ماتعهد إليهم، فانههم عن المنكر وأمرهم بالمعروف توجر على ذلك. وأنت خليق أن تطاع ويسمع منك( [3] ).
وكان مالك يأمر الحرس ليأخذو شخصاً إلى السجن، ويأمر بإطلاقه حين يرى ذلك. ويجلس مالك عند الوالي فيعرض عليه السجن فيقول له: اقطع هذا واضرب هذا مائة وهذا مائتين واصلب هذا إلخ ( [4] ).
وعلى أيّ حال فإن مالك بن أنس قد لحظته الدولة وقرّبته، إذ وجدت منه عوناً ومؤازرة، فقربوه وأحسنوا إليه، ورفعوا مجلسه، ونشروا علمه، وأجزلوا له العطاء، وأصاب منهم ثروة طائلة، ومع هذا فهم مدينون لمالك فى مؤازرتهم ومعاونتهم والركون إليهم.
وكان انتشار مذهبه في الأندلس يرجع لفضل القضاة، وقوّة السلطة، إذ حملوا الناس على اعتناق مذهبه بالسيف كما مرّ بيانه.
أمّا المذهب الشافعي فقد تعرّضنا لذكره وعوامل انتشاره، وستأتي زيادة بيان في ترجمته، كما تعرّضنا لانتشار مذهب الإمام أحمد، وقد رأينا الإعراض عنه محسوساً. ولم يكن كغيره من المذاهب شهرة، بل اقتصر انتشاره في بغداد، أما في سائر الأقطار فكان قليلاً جداً، حتى أنّ بعضهم لم يعدّه من المذاهب المعمول بها، وذكر مكانه مذهب الظاهري.
ولما امتدّ سلطان العثمانيين أصاب المذهب الحنبلي ضربة قاضية، وأخذ المذهب يتضاءل شيئاً فشيئاً. أما في مصر فلم تكن له أيّ شهرة هناك، فقد كان في العصور المتأخرة عدد شيوخ الأزهر (312) شيخاً من جميع المذاهب، وعدد طلابه (9069)، وكان من بينهم (28) طالباً من الحنابلة، و 3 شيوخ منهم فقط، ولكنّه ظهر في القرن الثامن عشر ميلادي في صورة قوية جديدة، بظهور الوهابيين الذين يتبيّن في مذهبهم أثر تعاليم ابن تيمية. وقد تطرفوا في ذلك إلى حدّ بعيد، وسيأتي الكلام على ظهورهم وتعاليمهم عند كلامنا في مذهب أحمدبن حنبل.
وقد رأينا كيف تغلّبت روح التعصب المذهبي الشديد، كما تغلّبت الفكرة القائلة بتحريم تقليد غير المذاهب الأربعة. وتطوّرت الدعوة إلى ذلك بصورة واسعة وأخذ نشاطها يزداد حتى جعل من قلّد غير هذه المذاهب خارجاً عن الدين. فكان هناك نزاع واحتدام وتعصّب حتى بين معتنقيها، أدّى إلى معارك دامية، واتّهام البعض للبعض الآخر وتكفير قوم لآخرين، حتى قال قائل الحنفية: لو كان لي الأمر لأخذت الجزية من الشافعية( [5] ).
وأصبح كلٌ يحتكر الإيمان بالله والتصديق بنبيّه لأبناء مذهبه. وأنّ الجنّة وقف عليهم ولا نصيب لأحد فيها معهم، خلافاً لما جاء به النبي(صلى الله عليه وآله) وخروجاً على تعاليم الإسلام حتى قال أحد الحنابلة: إنّه من لم يكن حنبلياً فليس بمسلم.
وقد اندفع المتطرفون من معتنقي المذاهب الأربعة لبذل جهدهم في جعل رئيس مذهبهم هو المؤسس لعلوم الإسلام، والمرجع الأعلى للتشريع، وأنّ العلم مقصور عليه، والاجتهاد لا يليق إلاّ به. وقد استنفدوا كلّ امكانياتهم في تصويره بصورة لا تشبهها صورة فهو ملك بصورة البشر( [6] )، وتمسّكوا بأقوال أئمّتهم تمسّكاً جعلهم يقدّمونها على كتاب الله وسنّة رسوله ( [7] )، فكان يقال لهم: قال رسول الله فيقولون: قال فلان ( [8] ) - أي رئيس المذهب - ويأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم( [9] ).
وعلى أيّ حال فإنّ تلك الاتجاهات التي سار عليها المتعصبّون للمذاهب، قد استولت على كثير من أتباعها، وقد يكون ذلك نتيجة للظروف التي مرّت بها الاُمة الإسلامية، من تدخّل عناصر خارجة عن الإسلام، لتشويه سمعة المسلمين والإساءة إلى المجتمع، من بثّ روح الفرقة وإثارة الشغب، ومن المؤسف أن نجد البعض قدّمهم على الأنبياء عند تعارض كلامهم - أي أئمّة المذاهب ـ مع الحديث الصحيح، فإنّهم يردّون كلام النبيّ المعصوم - مع اعتقاد صحة سنده - لقول نقل عن إمامهم، ويتعلّلون باحتمالات ضعيفة( [10] ).
كما وقد دفعهم التعصّب إلى أنّهم إذا وقفوا على آية محكمة، أو سُنّة قائمة، أو فريضة عادلة تخالف مذهبهم، صاروا يؤولونها على غير تأويلها، ويصرفونها عن ظاهرها إلى ما تقرّر عندهم من المذاهب والمشارب، وطفقوا يطعنون على من عمل بفحواها الظاهر ومبناها الباهر، كأنّ الدين - عندهم - هو ما جاء عن آبائهم وأسلافهم دون ما جاء عن الله في كتابه، أو عن رسوله صلى الله عليه وسلم( [11] ).
ومهما يكن من الأمر فإنّ تلك الاتجاهات كانت من تدخل عناصر دخيلة في الإسلام، بعيدة عن مبادئه، والاّ كيف يصحّ أن يَقدِم مسلم تشبعت فيه روح الإسلام إلى هذه الاُمور المخالفة للحقّ، والتي يتبرأ منها الإسلام، كما أنّ أئمة المذاهب هم أنفسهم لا يعرفون ذلك في أنفسهم.
ولو استنطقنا تاريخ حياة أولئك الأئمة، لأجاب بالإنكار على ما يرتكبه المتعصّبون من مخالفة الواقع، وقد ألّفوا كتباً تختصّ بمناقبهم، وجمعوا فيها ما لا يقبله العقل، ولا يرتضيه الذوق، من اُمور لا صلة لها بالواقع. كما قد تساهلوا في نقل كلّ ما سمعوا، وأثبتوا كلّ ما وجدوا، من دون التفات إلى المؤاخذات.
ويجب علينا ـ إن أردنا دراسة شخصية أحد من أئمة المذاهب، أو اعطاء صورة عنها ـ أن لا نقتصر على اقتفاء ما نقلته ألسنة المعجبين به. فإنّ العقل يشهد بوضع أكثرها، وعدم ارتباطها بالحقيقة، ولهذا كان البحث عن المذاهب أمراً شاقاً مجهداً، لما يكتنف الموضوع من غموض وتعقيد، ويحتاج إلى تأمّل واستفراغ واسع، لإعطاء النتيجة عند الوصول إلى الغرض المطلوب. وربّما يبدو للبعض سهولة البحث في الموضوع. ولكنّ الحقيقة غير هذا، بل هو موضوع شائك يحتاج الى جهد وعناء.
والخلاصة أنّ مشكلة التعصّب للمذاهب الأربعة هي أعظم مشكلة حلّت في المجتمع الإسلامي، أدّت إلى اختلاف في الآراء، وتشتّت في الأهواء، واضطراب حبل المودة، وتكدير صفو الاُخوّة. وكان من وراء ذلك خطر عظيم، وانحطاط فظيع، وقد تنبّه المسلمون لدفع ذلك الخطر، في اتخاذ الطرق الناجحة لإصلاح الوضع وجمع الكلمة، وقد تجاوبت أصوات المصلحين بالدعوة إلى الوحدة، ولكن ذهبت صرختهم في واد ونفختهم في رماد!! لأنّ المتعصّبين للمذاهب قد سيطرت عليهم عوامل العاطفة، فحالت بينهم وبين التفكير بسوء عاقبة ذلك الانقسام الذي أوجده المتعصبون، وقد مرّ المجتمع الإسلامي ـ على أثر ذلك ـ بفترات مائجة بالفتن والفوضى والحوادث الدامية، حتى تصدع كيان المجتمع الإسلامي، وطغى تيار التعصّب، واستفحل خطر الانقسام وتلبّدت سحب الفرقة في سماء المسلمين، والتقوا على صعيد الحقد والخصومة، وتحللوا من رابطة المودة والإخاء فكانت حوادث مؤسفة، من إراقة دماء، ونهب أموال، وحرق دور، وإعلان مسبّة البعض للبعض الآخر أو تكفير فرقة لاُخرى، وجعلوا الدين وسيلة للتغلب، وطريقاً لنجاح الخصومة فوضعوا أحاديث، واختلقوا أحاديث، واختلقوا مناقب ووضعوا بذلك كتباً مليئة بأوهام وخرافات تتعلق بنصرة المذاهب وإعلاء كلمته. وكان كبار الاُمة وصلحاؤها يقفون موقف المناوأة والمعارضة لهذه الأوضاع، ولكن السواد تغلبت عليه دعاية العناصر المتدخلة، بمعاونة السياسة العمياء.
وعلى تطاول الأيام وامتداد التاريخ لا نعدم من مشاهدة تلك الخلافات، ولا زال دعاة الفرقة، وأعوان الاستبداد يسايرون ركب الإسلام عبر التاريخ لتحقيق أهدافهم، ولكن جولة الباطل ساعة وجولة الحقّ إلى قيام الساعة.
كانت الفترة التي عاشها الإمام الصادق(عليه السلام)، فترة محنة تمرّ بها الاُمة، فقد كان الحكم الاُموي حكماً جائراً; إذ ابتعدت السلطة عن أحكام الإسلام، فكانت نهاية الحكم الاُموي مثل بداية قيامه; إذ صبغت بالدم نهايته كما كانت بدايته.
وقامت دولة بني العباس، وهي تلبس لباس الدين، وترفع شعار الدعوة لمناصرة آل محمد (صلى الله عليه وآله)، والانتقام من أعدائهم، وهي تحاول أن تكسب ودّ المسلمين.
وبعد أن تكشفت سياسة بني العباس، وزال القناع عن وجه حكمهم، اعتبر الناس عهدهم امتداداً لحكم بني اُمية الجائر.
فأصبح المسلمون في معترك عصيب.. تحرّكت في جوانحهم الثورة وتاقت نفوسهم لتحقيق الإصلاح، وكان البيت العلوي هو محطّ آمال الاُمة، فساندهم رجال الدين، وانضوى بعض الفقهاء تحت رايتهم.
وفي ذلك المعترك الرهيب برزت شخصية الإمام الصادق (عليه السلام) وهو يحمل للاُمة مبادئ الإسلام، وينشر تعاليمه، ويرفع صوت الإنكار على الظلم، ويدعو للإصلاح بكلّ جهد، وشارك الاُمة في محنتها إذ امتزجت مشاعره بمشاعر الأفراد، وتوجّهت إليه الأنظار، وانضمّ إليه رجال الفكر ودعاة الإصلاح;
لأنّه(عليه السلام)يعرف كيف يبدأ الدعوة، وكيف يداوي النفوس من الأمراض الاجتماعية، فكانت دعوته سلمية، تهدف لتنوير الرأي العام، والحضّ على التمسّك بأحكام القرآن، وقد توسّعت آفاق دعوته، كما انتشر دعاته من تلامذته في كلّ مكان، فأصبحت مدرسته منهلاً لرجال الاُمة ومصدراً لعلومالإسلام.
وكان طابع مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) الذي طبعت عليه، ومنهجها الذي اختصّت به ـ من بين المدارس الإسلامية ـ هو استقلالها الروحيّ، وعدم خضوعها لنظام السلطة، ولم تفسح المجال لولاة الأمر، بأن يتدخّلوا في شؤونها، أو تكون لهم يد في توجيهها وتطبيق نظامها، لذلك لم يتسنّ لذوي السلطة استخدامها في مصالحهم الخاصة، أو تتعاون معهم في شؤون الدولة. ومن المستحيل ذلك - وإن بذلوا جهدهم في تحقيقه - فهي لا تزال منذ نشأتها الأولى تحارب الظالمين، ولا تركن إليهم، كما لا تربطها وإيّاهم روابط الاُلفة،
ولم يحصل بينها وبينهم انسجام. وبهذا النهج الذي سارت عليه، والطابع الذي اختصّت به، أصبحت عرضة للخطر. فكان النزاع بينها وبين الدولة يشتدّ والعداء يتضخّم ، فلا الدولة تستطيع التنازل لمنهج المدرسة فتكسب ودّها وتسعد بمعاونتها، ولا المدرسة في إمكانها أن تتنازل لإرادة الدولة، فتؤازرها وتسير بخدمتها وتتعاون معها، وكيف يكون ذلك؟! وهي منذ نشأتها الأولى ترتبط بالثقلين: كتاب الله وعترة رسوله (صلى الله عليه وآله)، وهما متلازمان متكاتفان، لن يفترقا في أداء واجبهما لإرشاد الاُمة وهدايتها. فالقرآن ينهى عن معاونة الظالمين والركون إليهم (وَلاَتَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَالَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَتُنصَرُونَ)( [12] ).
ومن الواضح أنّ مبدأ العدالة ـ وهو من أعظم مبادئ الشريعة الإسلامية - أصبح في عهد أولئك الولاة لا يعمل به. فهم جبابرة ظلمة، لا يصلحون لمركز الولاية على المسلمين، وليس لهم كفاءة على التحلّي بصفات الخلافة، ولا قدرة لهم على تنفيذ أحكام الإسلام، فهم لا يصلحون للولاية ولا تجب طاعتهم بحال. وإنّ في مؤازرتهم والمعاونة معهم خروجاً عن أمر الله، ومخالفة لكتابه. وبذلك لا تكون ملازمة بين العترة وبين الكتاب إن داهنوا الظلمة أو ركنوا إليهم.
فسياسة أهل البيت(عليهم السلام)تقضي بحرمة معاونة الظالمين، وعدم الركون إليهم. ومنهجهم في توجيه الاُمة لا يتعدّى حدود ما أمر الله به، فهم والقرآن يسيرون جنباً إلى جنب في أداء الرسالة ومهمّة التبليغ، وهم أئمّة للعدل وحماة للدين، ودعاة للصلاح. وقد برهنوا على أعمالهم بما كانوا يتحلّون به من مكارم الأخلاق، وجميل الصفات، وشدّة محافظتهم على نواميس الشرع. وقد اتّضح لنا من سيرتهم ما لا حاجة إلى إطالة البحث فيه.
وقد روى الحسن بن علي بن شعبة: أنّ سائلاً سأل الإمام الصادق(عليه السلام) عن وجوه المعاش فكان من جوابه(عليه السلام): وأمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الجائر وولاية ولاته، فالعمل لهم والكسب معهم بجهة الولاية لهم محرم معذب فاعل ذلك على قليل من فعله أو كثير.
وصحّ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنّه قال لأصحابه: ما أحبّ أن أعقد لهم - أي الظلمة - عقدة أو وكيت وكاء، ولا مدة بقلم. إنّ الظلمة وأعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتى يحكم الله بين العباد( [13] )
وكان ينهى عن المرافعة إلى حكامهم، ولا يرى لزوم ما يقضون به، لأنّ حكمهم غير نافذ، كما كان يشتدّ على العلماء الذين يسيرون في ركاب الدولة، ويأمر بالابتعاد عنهم حيث يقول: الفقهاء اُمناء الرسل، فإذا رأيتم الفقهاء قد ركبوا إلى السلاطين فاتّهموهم( [14] )
وقد حاول المنصور أن يستميل الإمام الصادق (عليه السلام) في عدّة مرات، ولكنّها محاولة فاشلة فلم يزل يبتعد عنه، ويعلن غضبه عليه، ولا تأخذه في الحقّ لومة لائم. كما أعلن مقاطعته له فكتب المنصور إليه: لِمَ لا تغشانا كما تغشانا سائر الناس. فأجابه الإمام (عليه السلام): ما عندنا من الدنيا ما نخافك عليه، ولا عندك من الآخرة ما نرجوك له، ولا أنت في نعمة فنهنيك عليها، ولا تعدها نقمة فنعزيك بها فلِمَ نغشاك؟!!
فكتب إليه المنصور ثانية: تصحبنا لتنصحنا. فأجابه الإمام: من أراد الدنيا فلا ينصحك ومن أراد الآخرة فلا يصحبك ( [15] )
وبهذا يتجلّى موقف الإمام الصادق (عليه السلام) من حكام عصره، وابتعاده عنهم، وهو النهج الذي أمر أتباعه أن ينهجوه، وقد أبدى ذلك في كثير من مواقفه وأعلن للاُمة وجوب مقاطعة الظالمين وحرمة معاونتهم ليحدّ من نشاطهم في هضم حقوق الناس، واستيلائهم على مقدراتهم، واستبدادهم بالاُمور وجورهم فيالحكم.
وكانت محاولة المنصور لجذب شخصية الإمام إليه وطلب الاتصال به لغرض تضييقدائرةالمقاطعة التي أعلنها الإمام الصادق (عليه السلام)، والتي سار عليها كثير من الناس.
وسيأتي مزيد بيان لمواقفه مع المنصور وإعلان غضبه عليه، وقد عرف المنصور بالشدّة والقسوة وعدم مبالاته في إراقة الدماء، وكان يقتل على الظنّة والتّهمة ويحاسب من يتّهمه بالإنكار عليه أشدّ المحاسبة، ولا يلين في شيء من ذلك، كما لا يتورّع في ارتكاب ما حرّمه الله تعالى.
والمنصور على ما فيه من الظلم وسوء المعاملة للرعية كان يتمنّى أن يكون في دولته مثل الحجاج بن يوسف، ذلك السفاح المستهتر، فكان يقول: والله لوددت أنّي وجدت مثل الحجاج بن يوسف، حتى استكفيه أمري وأنزله أحد الحرمين( [16] ).
ومعنى ذلك أنّه كان يتمنّى أن يقضي على أهم مصدر للتشريع الإسلامي، فيضع السيف في حملة الحديث ورجال العلم،الذين يحتفّون بالإمام الصادق ويتفقهون عليه، ويملأ السجون من الصلحاء، ويصبغ وجه الأرض من دماء الأبرياء. وقد أشرنا إلى طرف من أعمال المنصور وسوء سيرته، وما كان يلقى الإمام الصادق منه في سبيل الدعوة إلى الله تعالى( [17] ) .الصراع بين المدرسة والدولة
وكانت مدرسة االإمام الصادق (عليه السلام) بعيدة عن التأثّر بآراء الحكام، الذين يفرضون إرادتهم على العلم والعلماء، ويحاولون أن تكون لهم السلطة الدينية الى جانب السلطة التنفيذية، ممّا يؤدي إلى الفوضى الكاملة في الحكم عندما يستغلون الدّين، ويتخذون من رجاله وسيلة لاشتغال الناس عن مؤاخذتهم، ويدينون لهم بالطاعة الكاملة ويحلّ الإيمان بتقديسهم محلّ الإيمان بالله!!
أمّا مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) فإنّ الصراع بينها وبين الدولة كان على أشدّه، والعداء بالغاً نهايته، الأمر الذي جعل المدرسة عرضة للخطر، ولكنّها رغم ذلك صمدت لتلك الهجمات التي توجّهها الدولة لتمحوها من صفحة الوجود. وقد تحمّلت بطش الجبارين، وعسف الظالمين، فأدّت رسالتها على أكمل وجه. وكان منها النتاج الصالح، الذي يفيض على الاُمة خيراً وبركة، ويطفح بالعلم والحكمة والعرفان، وخرّجت عدداً وافراً من رجال العلم، وحملة الحديث. ولم تكن كلّ تلك المعارضات من قبل ولاة الجور لتعوقها عن مواصلة كفاحهافي الدعوة الى الحقّ، والخير والعدل والمساواة والاُخوّة الإسلامية العامّة، والمدنية الصحيحة والحضارة الراقية، ومحاربة أهل الأهواء، والبدع والضّلالات، ويتّضح ذلك من تعاليم العترة الطاهرة - زعماء هذه المدرسة - وسيرتهم العادلة وشدّة اهتمامهم بتوجيه الاُمة نحو دينهم الذي يتكفل لهم بالسعادة، ويدعوهم إلى الاهداف الكريمة، والغايات السامية، والأغراض الشريفة، والمُثل العليا، بتطبيق نظامه على جميع الطبقات.نواة المدرسة وتاريخ نشأتها
إنّ تاريخ نشأة مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، هو أسبق من جميع المدارس الإسلامية، إذ لم يكن الإمام الصادق (عليه السلام) هو الواضع لحجرها الأساسي، والغارس لبذرتها الاولى، بل كان الواضع لحجرها والغارس لبذرتها هو الرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله). فقد وضع منهاجها ونظامها، وحثّ الناس على الانتهاء إليها، إذ قرن العترة بكتاب الله العزيز بقوله (صلى الله عليه وآله) : إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا أبداً. الحديث( [18] ) كما صرّح في كثير من تعاليمه بلزوم اتّباع أهل بيته والأخذ عنهم وأنّهم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق( [19] )، كما أشار النبيّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) إلى لزوم اتّباعهم في كثير من أحاديثه.
فالمدرسة كانت نشأتها في عهد صاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله)، وكان رئيسها الأول هو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهو أقضى الاُمة وأعلمهم، وهو نفس محمد(صلى الله عليه وآله)، وكان ملازماً له في جميع أوقاته، يأخذ عنه العلم، ويتلقّى التشريع العملي، فهو صاحبه في سفره وحضره، وحربه وسلمه يقيم أنّى أقام، ويرحل أنّى ارتحل. ورسول الله (صلى الله عليه وآله) هو معلم عليّ ومتولّي تربيته ونشأته، فكان(عليه السلام)باب علم مدينة الرسول وأمينه على سره( [20] ).
فكان له من الكفاءة والاستعداد ما جعله مرجعاً لأحكام الاُمة، وإماماً هادياً. وقد عوّل النبيّ عليه في جيمع شؤونه لاتصافه بصفات الإمامة، وانكار ذلك مكابرة ومغالطة، ولا حاجة بنا إلى اطالة البحث ورحم الله المتنبي إذ قال:
ولمّا انتقل علي (عليه السلام) الى جوار ربّه تزعّم الحركة العلمية وترأس المدرسة الإمام الحسن (عليه السلام)، سبط الرسول (صلى الله عليه وآله)وريحانته، فكان (عليه السلام) محطّـاً لآمال الاُمة، ومرجعاً لأحكامها. ولكنّ الظروف القاسية والحوادث المتتابعة في عهد معاوية لم تسمح للمدرسة أن تتقدّم على الوجه المطلوب، وسارت بخطى ثقيلة، لأنّها قابلت جور معاوية بكلّ ما لديها من قوّة في اعلان الغضب عليه، وقد قابلها بسياسة لا تعرف الرحمة، وشدّة لا تعرف الهوادة، حتى اُريقت دماء بعض المنتمين إليها، وهُدّمت دورهم. كلّ ذلك في سبيل الدعوة الىالاصلاح.
وجاء دور الحسين بن علي (عليه السلام) وهو أعظم الأدوار وأهمّها. ومعاوية قد عظمت شوكته وامتدّ سلطانه، وكثر بطشه وفتكه، وتلاعب بالأحكام وحرّف الكلم عن مواضعه، وأخذ يتتبع رجال الفكر وخيار الاُمة، ويقتلهم تحت كلّ حجر ومدر. ومهّد الأمر لابنه يزيد - وهو الفاسق الذي لا يختلف اثنان على حقّ في إجرامه وكفره - فأصبح خليفة للمسلمين، وإماماً يتربّع على عرش الخلافة الإسلامية، وهو الفاسق المستهتر الذي أباح الخمر والزّنا، وحطّ بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات، وعقد حلقات الشرب في مجلس الحكم، وألبس الكلاب والقرود جلاجل من ذهب، ومئات من المسلمين صرعى الجوع والحرمان ( [22] ).
وأصبحت الاُمة الإسلامية في حالة سيئة، لم يسهّل احتمالها على نفوسهم. فعمّ الثأئر جميع البلاد، حتى لم يجد الحسين (عليه السلام) طريقاً للسكوت. فنهض منتصراً للحقّ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، حتى اُريق في ذلك دمه، واستبيح حرمه، فكانت نهضته صرخة داوية تردّدها الأجيال من بعده، وتلقي عليهم دروس التضحية والتفاني في سبيل انقاذ الاُمة من براثن الظّلمة، وكانت منهجاً لثورات اصلاحية مرّت عليها الأجيال من بعده، اقتداءً به، وعملاً بدروسه القيّمة. فسلام عليه يوم وُلِد وَيوم استُشهِد ويوم يُبعث حيّاً( [23] ).
ومن بعده انتقلت رئاسة المدرسة لولده زين العابدين الإمام عليّ بن الحسين(عليه السلام)، وهو أورع أهل زمانه وأتقاهم، وأعلم الاُمة. وقد اشتدّت الرقابة عليه من قبل الاُمويين بصورة لا مجال لأحد أن يتظاهر بالانتماء لتلك المدرسة، إلاّ من طريق المخاطرة والمغامرة. ومع هذه الشدّة وتلك الرقابة فقد كان سيرها محسوساً وكفاحها متواصلاً وخرّجت عدداً وافراً من علماء الاُمة، الذين أصبحوا مرجعاً للأحكام ومصدراً للأحاديث.
وعلى عهد الإمام زين العابدين وتحت وطأة السياسة الوحشية والجور الاُموي بدأت مرحلة جديدة، إذ كان الإمام علي بن الحسين أمام أمرين: إمّا أن يبقي نفسه لمواصلة الرسالة والاضطلاع بأعباء الولاية الشرعية، وإمّا أن ينجرّ لما تعمل من أجله اُمية للقضاء على آل محمد وقتله بعد إذ نجّاه الله بآية باهرة وحكمة بالغة، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
وهكذا كان عهد ولده الإمام الباقر (عليه السلام)من بعده في أول الأمر، ولكن ما أن دبّ الضعف في جسم الدولة الاُموية، حتى بعث النشاط في مدرسة أهلالبيت(عليهم السلام)، فقام الإمام الباقر (عليه السلام) بواجبه، ونشر معالم الإسلام وأحيا مآثر السنّة، فكانت حلقة درسه في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله)ومسجد مكة ابن ماحل هي أعظم حلقات الدروس. ولمّا جاء عصر الإمام الصادق (عليه السلام) وكان أزهر العصور، اتّسع فيه نطاق الحركة العلمية ونشأت المدارس الإسلامية، وكان في كلّ بلد عالم يرجع إليه، وكانت مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) في المدينة جامعة إسلامية كبرى، تشدّ إليها الرحال، وترسل إليها البعثات من سائر الاقطار الإسلامية لانتهال العلم، إذ وجدوا عنده ضالّتهم المنشودة وغايتهم المطلوبة، ولم يذكر التاريخ لنا أنّه سئل عن شيء فاجاب: بلا أدري، أو أنّ مناظراً قطعه، بل كان هو المتفوّق في كلّ علم، والمحلّق في كلّ مناظرة، واشتهر عنه أنّه كان يقول: سلوني قبل أن تفقدوني فإنّه لا يحدّثكم أحد بمثل حديثي( [24] )
وكيف لا يكون كذلك؟ وهو وارث علم جدّه أمير المؤمنين (عليه السلام) الذي اشتهر عنه هذا القول، ولم يستطع أحد أن يقول ذلك إلا اُفحم، وعليّ هو باب مدينة علم الرسول لقوله (صلى الله عليه وآله): أنا مدينة العلم وعلي بابها( [25] ).
فالإمام الصادق يروي عن أبيه الباقر، عن أبيه زين العابدين، عن الحسينبن علي، عن علي بن أبي طالب(عليهم السلام). وهذا الإسناد هو المعروف بالسلسلة الذهبية. وهو أصحّ الاسانيد وأقواها( [26] ).صمود مذهبه أمام الحكّام
ومهما يكن من أمر، فإنّ ما يبدو لنا بوضوح: أنَّ ذلك الانفصال وعدم التأثر بآراء الحكّام هو الذي أوجد تلك المرونة في المذهب الجعفري، لأنّه يستقي من ينبوع لم يكدر صفوه التعليم الاستعماري بما فرضه على العلم والعلماء، ولمّا كان غلق باب الاجتهاد هو من مقترحات الدولة وتشريع السياسة، فلم يلتزم المذهب الجعفري به، ولم يخضع لذلك النظام الجائر الذي يفضي مؤدّاه الى الجمود الفكري وتحجير العقل، ورد نعمة أنعم الله بها على هذه الاُمة( [27] ).
ومن الواضح أنّ عدم الالتزام بما تفرضه الدولة، هو خروج عن الطاعة، وعمل يستوجب العقاب والمقاومة. وقد عُرف معتنقو مذهب أهل البيت(عليهم السلام)بأنّهم لا يرون لزوم طاعة اُولئك الحكّام الذين تربّعوا على عرش الخلافة بدون حقّ، فلم يؤازروهم، ولم يتعاونوا معهم اقتداءً بأئمّتهم واتّباعاً لأوامر الرسول(صلى الله عليه وآله)، في مقاطعة الظلمة، وحرمة المعاونة لهم، لأن ليس في نظام الملوك الذي أوجده الاُمويون والعباسيون قواعد الخلافة ومبادئ الحكم الإسلامي إلاّ ما اقتضته مصالحهم الشخصية، وهو نظام زمني يقوم على المظاهر والأشخاص، وليس نظاماً دينياً يقوم على الإيمان والعقيدة.
كانت الطبقة الحاكمة تعدّ من لا يؤازرها ويتعاون معها خصماً يجب القضاء عليه، لأنّ عدم التعاون مع الدولة هو عدم الاعتراف بأهليّتها للحكم، وانتقاد لسياستها وسيرة رجالها.
لذلك اتّجهت قوة الدولة لمعارضة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)واتّهام منتحليه بسوء العقيدة، والخروج عن الإسلام، فسلكوا في تحقيق ذلك تلك الطرق الخداعة، وأسندوا الى الشيعة ما ليس من عقائدهم، وأوعزوا الى الوعّاظ في المساجد، والقصاص في الطرقات، وإلى العلماء المرتزقة الذين يطلبون ودّ السلطان طلباً لمنفعة، واستدراراً لنعمة، وحيازة لصلة الملوك ليقوموا بكلّ ما يأمرونهم من مخالفة الحقّ، باتهام الشيعة بانّهم يكفّرون جميع الصحابة ـوالعياذ باللهـ وأنّهم لا يعملون بالقرآن.. وألزموهم بأن يذكروا ذلك محفوفاً بشواهد يتقبلها السذّج وعوام الناس، حتى تمكنت في نفوسهم، ولهجت بها ألسنتهم، كأنّها حقيقة لا تقبل أيّ جدل ونقاش، وبدون تفكير وتدبّر انتشرت في ذلك المجتمع السائر في ركاب الدولة فكرة بغض الشيعة، وأنّى لذلك المجتمع بأن يظفر بالتفكير الحرّ وتحكيم العقل، وقد فرضت السلطة عليهم تلك الافتعالات بقوّة قاهرة، لا يستطيعون لها دفعاً ولا يجدون عن الاذعان لها سبيلاً، والناس مع القوّة عند ضعف الإيمان، ولكنّ الحقّ لابدّ أن يظهر مهما طال الزمن وادلهمّت الخطوب.
وعلى أيّ حال فليس من العسير أن يقف المتتبّع على بواعث تلك الافتعالات التي أوجدتها عوامل السياسة، وقوّة الارهاب، وسلطة الاستبداد، التي شوّهت الحقيقة، وغيّرت مجرى الواقع، وأنّ الوقوف أمام ذلك التيار أمر لا يتحمّله إلا رجال الفكر وحاملو ثقل العقيدة الإسلامية.
وصفوة القول أنّ المذهب الجعفري قد انتشر على وجه البسيطة، ولم تقف أمامه تلك المحاولات التي بذلها رجال السلطة وأعوانهم في محوه والوقوف أمام انتشاره، ولم تقض عليه كما قضت على بقيّة المذاهب التي لايروقها انتشارها، كما لم تقف أمامه تلك المجازر والفظائع السود التي يقوم بهاخصومه.
وقد أشرنا فيما سبق من أجزاء الكتاب الى عوامل إنشاء المذاهب واختيار رؤسائها، ولذا لزم أن ننبّه هنا الى أنّ تسمية المذهب الجعفري لم تكن على منوال التسميات الاُخرى التي تتعلّق بإرادة السلطان، وإنّما كانت هذه التسمية نتيجة لنشاط مدرسة الإمام الصادق وصورة لرعايته لطلاّبه ومنتسبي مدرسته. فكما أشرنا سابقاً أنّه(عليه السلام) كان يتحرّى قابلياتهم ويتولى توجيههم ورعايتهم وحثّهم على العمل والعلم فيسمعهم أرق عبارات الود وأعذب ألفاظ الاحترام، وكان يسمّيهم أصحاب جعفر بن محمد ويسعى الى ذيوع تميّزهم في الفقه واستقلال أقوالهم، وكان(عليه السلام) يصرّح بسروره إذا اشتهر أصحابه بالورع وحسن الخلق، وأن يوصف واحدهم بـ (الجعفري) وسنأتي على تفصيل ذلك.
وما دمنا بصدد البحث عن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) ، فلابدّ لنا من التنبيه على اُمور ثلاثة:التنبيه الأول: التابعون والإمام الصادق (عليه السلام)
قد يبدو للبعض أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) حضر عند أحد من التابعين، أو روى عنه، ومنشأ هذا أنّ بعض من ترجم للإمام الصادق (عليه السلام) ذكر أنّه روى عن نافع وعطاء وعروة بن الزبير والزهري( [28] ).
وهذا القول لايثبته التتبّع، وهو بعيد عن الصواب، بل هي كلمات يلوكها من يرسل القول على عواهنه، ويعطي الآراء جزافاً، وينقل الأقوال بدون تثبّت وتمحيص، فإنّنا لم نجد في حديثه أنّه اسند عن أيّ واحد من الناس سوى آبائه الطاهرين(عليهم السلام)،فإذا أراد أن يسند، فسلسلة حديثه هكذا: حدثني أبي الباقر، قال: حدثني أبي زين العابدين، قال: حدثني أبي الحسين، قال: حدثني أبي علي بن أبي طالب، قال: حدّثني رسول الله (صلى الله عليه وآله). وهو أصحّ الأسانيد عند علماء الحديث كما تقدّم، وهو الترياق المجرّب كما سمّاه بعض العلماء. وربما أرسل حديثه بدون اسناد، ولكنّه أعطى قاعدة مشهورة بقوله: حديثي حديث أبي وحديث أبي حديث جدي وحديث جدي حديث أبيه وحديث أبيه حديث علي بن أبي طالب وحديث علي حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) ( [29] ).
كما أنّنا بعد البحث والتتبع لم نجد في كتب الرجال من يذكره في عداد من حضر على هؤلاء، نعم إلاّ الخزرجي ذكره في من أخذ عن عطاء، وهو كما قلنا بعيد عن الصواب، على أنّ بعض هؤلاء قد كان يحضر عند الإمام الباقر كمحمد ابن المنكدر، والزهري، فلا يتصوّر أن الصادق (عليه السلام) كان يحضر على أحد في عهد أبيه الباقر (عليه السلام)، إذ لم يكن هناك نقص فيحاول اكماله على أيدي هؤلاء، وبعد وفاة أبيه، فقد استقلّ بالفتوى وتزعّم المدرسة، وانتشر ذكره، وأصبح هو المتفرّد بالزعامة.
وأما قولهم: أنّه حضر عند عروة بن الزبير المتوفى سنة (92 هـ) وسمع منه، فهذا من الغرابة بمكان، لأنّ عروة لا تخفى حاله على الإمام الصادق (عليه السلام) وما كان يتصف به من الشذوذ، وعدم الاستقامة بتقرّبه الى الاُمويين، وهو من الوضّاع الذين اتّخذهم معاوية أعواناً يستعين بهم على مهمّاته في وضع الأحاديث الكاذبة، والذين أطلقنا عليهم أعضاء (لجان الوضع).
قال أبو جعفر الإسكافي المعتزلي: إنّ معاوية وضع قوماً من الصحابة وقوماً من التابعين، على رواية أخبار قبيحة في علي (عليه السلام) تقتضي الطعن فيه والبراءة منه، وجعل لهم على ذلك جعلاً يرغب في مثله، فاختلقوا ما أرضاه. منهم أبو هريرة، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة ومن التابعين عروة بن الزبير( [30] ).
فمن كانت هذه حاله كيف يصحّ أن ينسب الى الصادق (عليه السلام) الرواية عنه؟ وكذا الزهري فقد كان من اعوان الاُمويين والمتصلين بخدمتهم والمؤازرين لهم، وكان قطب رحى أداروا به مظالمهم، وجسراً يعبرون عليه الى بلاياهم، وسلّماً الى ضلالهم، داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يدخلون الشك به على العلماء، ويقتادون به قلوب الجهال. كما جاء في رسالة الإمام زين العابدين (عليه السلام)إليه يرشده بها لطريق الحق والصواب( [31] ). وقد انقطعت صلته بالإمام زينالعابدين(عليه السلام) بعد أن نهل من علمه وتعلم منه حتى جرّه الاُمويون الى قصورهم وأغروه بخدمتهم وتنفيذ أغراضهم.
ومن كانت هذه صفته، فهو مسلوب العدالة، ولا يوثق بحديثه، فكيف يكون مصدراً لحديث أهل البيت؟ ولعلّ الذي أوقع صاحب هذا القول - وهو رواية الصادق (عليه السلام) عن الزهري - إنّه اشتبه عندما رأى في عداد تلامذة الزهري رجلاً يسمّى بجعفر، فتوهّم انّه الصادق كما سبق مثل هذا الاشتباه لكثير من المؤرخين، اذ نسبوا الشهرة بالزجر، والفال، والتنجيم، لجعفر بن محمد الصادق. ولم يفرّقوا بينه وبين جعفر بن محمد الفلكي، المعروف بأبي معشر البلخي، فإنّه كان مشهوراً في الزجر، والفال، والتنجيم، وكان عصره مقارباً لعصر الإمام الصادق، ونقل الناس أخباره في ذلك، ولا يستبعد أنّ أعداء جعفر ابن محمد اشاعوا ذلك، للحطّ من كرامته وبخس حقّه من العلم، والنيل من مكانته الرفعية، وقد ردد هذا القول كثير من الكتّاب بدون وقوف على حقيقةالأمر.
قال ابن كثير: إنّ الذي نسب الى جعفر بن محمد الصادق من علم الزجر، والطرف، واختلاج الأعضاء، إنما هو منسوب إلى جعفر بن محمد أبي معشر الفلكي، وليس بالصادق، وإنّما يغلطون( [32] ).
قلت بل أكثرهم كان يتعمّد ذلك، ولا شيء هناك إلاّ عوامل السياسة، ولا أذهب بك بعيداً في الاستدلال على ذلك، أو ارجع بك الى تلك العصور التي سيطرت عوامل السياسة على عقول أبنائها، فأعمتها عن الحقّ، وأبعدتها عن الصواب، ولكني اسلك بك اقرب الطرق في أقرب العصور - عصر النور أو
القرن العشرين - هذا الدكتور أحمد أمين يقع في هذا الغلط، أو يتغافل عن الحقيقة! يقول في فجر الإسلام: في هذا العصر كان العلم - ولا سيّما الديني - يدرّس في المساجد، يجلس الاُستاذ في المسجد، وحوله الآخذون عنه، على شكل حلقة، وتكبر الحلقة وتصغر تبعاً لقدر الاُستاذ. الى أن يقول: وكذلك كان يفعل جعفر الصادق في المدينة - أي انّه يجلس ويجلس الآخذون حوله حلقة- قالوا: وكان يشتغل بالكيمياء والزجر والفال( [33] ).
ولا يخفى على القارئاللبيب سرعة انتقال الاُستاذ أحمد أمين لنقل
ذلك القول وإيراد ذلك الغلط، وما يقصده في ذلك، كما لا تخفى نزعته
العدائية للشيعة; فلا يروقه أن يذكر حلقة درس رئيس مذهبهم في
المسجد، واعطاء ما يلزم لها من النقل التاريخي، إن كان مؤرّخاً منصفاً،
ولكنّه يثقل عليه ذلك.
وخلاصة القول: أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) لم يرو عن أحد من التابعين، ولم يحضر حلقة درس أيّ واحد منهم، أمّا في حياة أبيه، فقد كان في غنىً عن ذلك، وأما من بعده فإنّه أصبح المبرّز في كلّ فنّ، والمرجع الاعلى في الأحكام، وكانت حلقة درسه تضمّ رجال العلم من رؤساء المذاهب وغيرهم، كسفيان الثوري، وشعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ومالك بن أنس، وأبي حنيفة، ويحيى بن سعيد القطان، وأيوب السجستاني، وعبد الملك بن جريح وغيرهم. فليس من المعقول أن يكون - رئيس مدرسة تضمّ امثال هؤلاء - يحضر درس من هو أقل درجة منه، بل أقلّ درجة من كثير من تلامذته. وأنّ أمثال هذه الأقوال إنما تقال لمجرد المبالغة في التقدير والتوثيق في حقّ من يريدون رفع مقامه، وليس بمستطاع لأيّ أحد أن يأتينا برواية للإمام الصادق (عليه السلام) في سندها أحد أولئكالقوم.التنبيه الثاني: تلامذة الإمام ومركزية الكوفة
إذا أردنا ان نرسل نظرة احصاء لتلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) من حيث البلدان النائية التي ينتسبون إليها فسنجد الكوفيين أكثرهم عدداً، وعلى وجه التقريب، يكون عددهم قد يتجاوز الألف. وعكسها الشام فإنّ عدد تلامذته المنتسبين اليها لا يتجاوز العشرة، وأسباب ذلك ربما تعود للنزعة التي يتصف بها كلّ من البلدين. فالكوفة كانت تناصر أهل البيت(عليهم السلام)وتتشيع لهم، والشام على عكس ذلك. وبهذا أصبحت الكوفة محلّ اهتمام الخلفاء الذين يجعلون من أهلالبيت(عليهم السلام)خصوماً ويعتقدون بأن لا يستقر أمر الخلافة ما لم يتخذوا لها التدابير للقضاء على نشاطهم العلمي والسياسي. لذلك نجد الدولة الاُموية تهتم بأمر الكوفة وتحاول اخضاعها بالقوة عندما تعيّن ولاة لا رحمة في قلوبهم، ولا وازع دين يردعهم عن الفتك وإراقة الدماء كالحجاج، وزياد، وعبيد الله بن زياد، وخالد القسري. وكذا العباسيون اتخذوها مركزاً للخلافة، لتكون تحت مراقبة الخليفة مباشرة.. هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى: إنّ الكوفة كانت مركزاً تجارياً وصناعياً ملحوظاً في حياة المجتمع الإسلامي في القرن الأول الهجري، وازدهرت فيها صناعة المنسوجات الحريرية، وهي ما سمّوها عمل الوشي والخز. وكانت هذه المصنوعات تلقى رواجاً في الأقطار الإسلامية( [34] )، وكانت محاطة بقرى كثيرة وفيها من غير المسلمين عدد كبير، كالنصرانية في الحيرة وغيرها، ووفد عليها أربعة آلاف من رعايا الفرس عُرفوا بحمراء الديلم( [35] ).
وقد كثرت الهجرة الى الكوفة من ذوي العقائد المتباينة، واختلطوا بمجتمع الكوفة، وكان أكثر هؤلاء يترقبون الفرص للفتك بالمسلمين، انتصاراً لدياناتهم التي قضى عليها الإسلام.
ثم زخرت الكوفة بالموالي، فكان لهم أثر محسوس في تطور الحياة الاجتماعية; وبهذا أصبحت الكوفة تموج بعناصر مختلفة، لاتتّحد في الرأي، ولاتتّفق في الاتّجاه، وهذا الاختلاط يوجد اضطراباً، وعدم الاستقامة في الاُمور، وكان له أثر واضح في اخلاق أهل الكوفة، قد لحظه حذيفة بن اليمان من قبل فبيّنه في خطاب له قائلاً: يا معشر أهل الكوفة، إنّكم، أول ما مررتم بنا كنتم خيار الناس، فغيّرتم بذلك زمان عمر وعثمان، ثم تغيّرتم وفشت فيكم خلال أربع: بخل، وخبّ ( [36] )، وغدر، وضيق، لم تكن فيكم واحدة منهن، فنظرت في ذلك فإذا ذلك في مولديكم، فعلمت من أين يأتي، فإذا الخبّ من قبل النمط، والبخل من قبل فارس، والغدر من قبل خراسان، والضيق من قبلالأهواز( [37] ).
وحين اتّسع نطاق الحركة العلمية كانت الكوفة مركزاً هاماً لمختلف العلوم، وقد ظهر علم الكلام، وكثر الجدل حول العقائد، وأهمّها البحث عن الأمانة. وقد ازداد نشاط ذوي العقائد الفاسدة، والآراء الشاذة، فأظهروها على سبيل النقاش العلمي، فكانت تلك الآراء تأخذ مفعولها في المجتمع، ويتناقلها الناس ومصدرها الكوفة، وهي شيعية فتنسب تلك المقالة الى الشيعة. وكانت السياسة تؤيد ذلك بغضاً للشيعة ووسيلة للقضاء عليهم، وقد اتّبع المؤرخون للفرق تلك الخطّة، فنسبوا للشيعة فرقاً كثيرة من ذوي المقالات الفاسدة بدون انصاف أو تعقّل، وما ساقهم الى ذلك إلاّ الجهل بعقائد الشيعة، أو البغض لهم اتباعاً لأسيادهم ومجاراة للظروف.
ولا اُطيل الحديث - والحديث ذو شجون - حول تلك الدعاية الكاذبة في نشر الآراء الشاذة، والعقائد الفاسدة، التي يبثّها أعداء الإسلام ليتقبّلها ضعفاء النفوس، والمصابون في تفكيرهم، فينسبوها للشيعة ولا ربط لها بعقائد الشيعة، إلاّ أنّ الكوفة كانت مصدراً لها والكوفة شيعية، وقد تعمّد اُولئك النفر أن يعلنوا سبّ الصحابة ليكون ذلك طريقاً لمؤاخذة شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله)، الذين تأدبوا بآدابهم واتّبعوا أوامرهم، كما أنّ موجة الغلو قد ظهرت في الكوفة دون غيرها من البلدان، وكان القصد من ذلك ما قلناه وهو: أنّ أعداء آل محمد(صلى الله عليه وآله)أرادوا الوقيعة في أتباعهم فأشاعوا الغلوّ في بلد يعرف أهله بالتشيّع لهم والانتسابإليهم.
وقد عالج أهل البيت(عليهم السلام)تلك المشكلة الخطيرة. وعرفوا تلك الدوافع التي دعت هؤلاء إلى الالتحاق بصفوف الشيعة، واتّضحت لهم غايات خصومهم، الذين يريدون أن يوقعوا بهم المكروه، فأعلنوا البراءة منهم، وجاهروا في لعنهم، وأمروا شيعتهم بالابتعاد عنهم، واليك بعض النصوص في ذلك :
روى هشام بن الحكم: أنّه سمع أبا عبد الله الصادق (عليه السلام) يقول: كان المغيرة يتعمّد الكذب على أبي، ويأخذ كتب أصحابه ويدسّ فيها الكفر والزندقة، ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه، ويأمرهم أن يبثّوها في الشيعة، فكل ما كان في كتب أبي من الغلوّ فذلك مما دسّه المغيرة بن سعيد في كتبهم( [38] )
يظهر لنا أن حركة المغيرة كانت حركة يهودية ضد الإسلام، كما أشار الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله :لعن الله المغيرة بن سعيد، ولعن الله يهودية كان يختلف إليها يتعلّم منها السحر والشعبذة، إن المغيرة كذب على أبي الخ ( [39] )التنبيه الثالث : مدرسة الإمام ومعنى التشيع
إنّنا إذ نُعبر عن المدرسة، فإنّما المقصود بذلك هو تعاليم المذهب وانتشاره، لأنّ مذهب أهل البيت(عليهم السلام)ينسب للإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) لمّا اشتهر به من العلم وكثرة التعاليم في تلك الفترة، وهي بين شيخوخة الدولة الاُموية وطفولة الدولة العباسية، وإلاّ فمذهب الشيعة هو مذهب أهلالبيت(عليهم السلام)، وعنهم يأخذون الأحكام، لأنّهم أصدق الناس في الحديث، وأشدّهم محافظة على أداء رسالة التبليغ، واتّباعاً لأمر النبي (صلى الله عليه وآله)، إذ قرنهم بالكتاب العزيز الدال بكلّ صراحة على وجوب اتباع أهل البيت والتمسك بهم، فإنّه نجاة من الضلالة. وهذا هو التشيّع بمعناه الجلي، ولهذا أخذنا عنوان الكتاب لأن ظروف نشأة المذاهب لا تشمل المذهب الشيعي ولم يخضع لأي طرف منها، كيف وهو في جذوره يمتد الى زمن الرسالة، ولم يكن في وجوده أثر لمصلحة إلاّ مصلحة الدين أو سبب إلاّ سبب العقيدة وبرز اسم الإمام الصادق في تلك المرحلة التي ظهرت فيها دوافع إيجاد المذاهب، فكان أولى أن يطلق اسمه على المذهب تمييزاً لا مساواة وبدواعي تلك الفترة وبإشارة من الإمام(عليه السلام) الذي كان يوجه أصحابه ويعيّن مهامهم الدينية والاجتماعية، وما ينبغي لهم القيام به في ظلّ تلك المرحلة التي ماجت بالأفكار المختلفة والاُصول والمنابع وجعل الإمام لكلّ واحد من أصحابه دوراً مخصوصاً في تلك المرحلة. وراح يعدّهم لتحمل المسؤوليات الدينية بأعلى درجة من التفقه والتقوى . فكان الإمام الصادق ينظر الى أن يُقال في أصحابه رحم الله جعفربن محمد ما أحسن ما أدّب به أصحابه وهذا هو التشيع في إحدى مراحله المهمة وعلى أيّ حال فإنّ محور التشيّع وركيزته الأساس اطاعة صاحب الرسالة والتمسك بأهل بيته والاقتداء بتعاليمهم وموالاتهم. ونصّ أهل اللغة بمعناه.
يقول الحافظ الأزهري: الشيعة قوم يهوون هوى عترة النبي ويوالونهم( [40] ).
وقال في القاموس: وشيعة الرجل بالكسر أتباعه وأنصاره، وقد غلب هذا الاسم على كلّ من يتولّى عليّاً وأهل بيته حتى صار اسماً خاصاً لهم( [41] ).
وقال في التاج: إذا قيل فلان من الشيعة عرف أنّه منهم، وفي مذهب الشيعة كذا أي عندهم وأصل ذلك من المشايعة والمطاوعة( [42] ).
وقال الجوهري: شيعة الرجل أتباعه وأنصاره، يقال: شايعه ويقال والاه ( [43] ).
ويقول ابن منظور الأفريقي: وأصل الشيعة الفرقة من الناس ويقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث بلفظ واحد ومعنى واحد، وقد غلب هذا الاسم على من يتولى عليّاً واهل بيته رضوان الله عليهم اجمعين حتى صار اسماً خاصاً، فإذا قيل فلان من الشيعة عرف أنّه منهم ( [44] ).
وبهذا القول نفسه قال ابن الأثير في النهاية ج2 ص246.
وكذا في صبح الأعشى : ج 13 ص 236.
ومجمع البحرين في مادة شيع وغيرها من معاجم اللغة.
وقال أبو حاتم الرازي: إنّ أول اسم ظهر في الإسلام هو الشيعة، وكان هذا لقب أربعة من الصحابة هم: أبو ذر، وسلمان، وعمار، والمقداد، حتى آن أوان صفّين فاشتهر بين موالي علي (رضي الله عنه)( [45] ).
وقال ابن النديم: لما خالف طلحة والزبير على عليّ(عليه السلام) وأبيا إلاّ الطلب بدم عثمان، وقصدهما علي (عليه السلام) ليقاتلهما حتى يفيئا إلى أمر الله جلّ اسمه، سمّى من اتبّعه على ذلك، الشيعة، فكان يقول: شيعي...
ولسنا الآن بصدد الإحاطة بتعريف الشيعة، أو تعيين الزمن الذي نشأت به، ولا نريد ان نطيل الكلام في نقل الاختلاف في سبق هذا الاسم أو تأخّره، إذ من الثابت أنّ هذا الاسم كان على عهد النبيّ(صلى الله عليه وآله).
لكن ما يؤسف له أنّ بعض ذوي الفهم المعكوس قد حملوا اسم الشيعة على غير معناه، وشرّقوا في ذلك وغرّبوا، وقد اضطربت أقوالهم وخرجوا عن منطق العلم في تجاوز الحدّ، وارتكبوا اُموراً لا تليق بمن يتزيا بالعلم، إذ هي تدلّ على نقص في الادراك، وخلل في التفكير! وقد ساهم المستشرقون في هذه الافتعالات ووسّعوا دائرة الطعن على الشيعة، وتبعهم بعض كتّاب العصر( [46] )الحاضر، بدون التفات إلى نوايا أولئك القوم الذين يحاولون تشويه تاريخالإسلام.
وممّا تجدر الإشارة إليه: هو أنّ البعض يتعمّد استعمال هذا الاسم على عمومه وحيث كان اسم التشيع يدلّ على الاتباع، فقد أطلق المؤرّخون اسم الشيعة على أنصار العباسيين وأتباعهم، فيقولون: شيعة المنصور أو شيعة الرشيد مثلاً، ويذكرون لهم كثيراً من الحوادث وأهمّ هذه الفرقة هم الشيعة الراوندية وهم شيعة المنصور الدوانيقي الذين غلوا في حبّه بل عبدوه من دونالله.
ولابدّ من الإنتباه إلى ما في بعض نصوص المصادر من ذكر تسمية الشيعة وملاحظة السياق وطبيعة الأحداث، فقد جرى بعض المؤرخين على هذا الإطلاق وهم يعنون به أنصار العباسيين ورجالهم أو حتى ملوكهم.
ومن الغريب أنّ بعض كتّاب العصر الحاضر عندما ذكر فرق الشيعة وبيّن عقائدهم التي خبط فيها خبط عشواء جعل الراوندية من شيعة آل محمد (صلى الله عليه وآله)وهذا نص قوله :
الراوندية فرقة من غلاة الشيعة ناهضت العلويين في أيام العباسيين، وذهبت الى أن أحقّ الناس بالإمامة هو العباس بن عبد المطلب لأنّه عمّ النبي(صلى الله عليه وآله)، ثم يأتي من بعد العباس أبناؤه إلى أن يقول : وقد غلت الراوندية أو فريق منهم بل كلّهم، فعبدوا أبا جعفر المنصور وطاروا قائلين: أنت أنت أي أنت الله( [47] ).
ولا ندري كيف يتفق هذا مع عقائد الإمامية (سبحانك اللهم هذا بهتانعظيم).
وليس من الصعب الوقوف على كثير من شذوذ الكتّاب الذين دوّنوا أسماء الفرق وألحقوا بفرق الشيعة من ليس منهم عندما نعرف عقائد الشيعة الإمامية، ولكنّ الأغراض والأهواء قد انحرفت بكثير ممن كتب عن الشيعة، وقد ساعد على ذلك خوض بعض الكتاب المعاصرين في بحوث تقصر هممهم عن الإيفاء بشروطها و تعجز قدراتهم عن الإحاطة بظروفها، ولكن بعضها قد بحث بما فيه بيان الحقّ وليس فيه ما يسبب لمن لم يتزود بالاطلاع الكافي ارتباكاً أو خطأً، فإنّ قضية استغلال العباسيين لمشاعر النقمة الكبرى التي اعتملت بها النفوس تجاوباً وتعاطفاً مع أهل البيت الأطهار هي من الحقائق التي لم يختلف عليها، وأنّ العباسيين ركبوا تلك الموجة وأخفوا ما بأنفسهم مستغلين شمولهم بالتسمية، ولكنّهم لم يجسروا على الإعلان عن نواياهم حتى مرّ عهد ملكهم الأول السفاح، وجاء المنصور فبدأت جولة الحرب الجديدة ونزع القناع الأسود عن وجهه. ومسألة شمول العباسيين بآل البيت قيد إطلاقها بالمعارضة الشديدة والإنكار الواضح من قبل الشيعة، لأنّ إطلاقها بالشكل الذي استخدمه العباسيون قد جرّ الاُمة الى بلوى جديدة حملت اُناساً ظلمة جدد الى مواقع الحكم والسلطان، وأصبح الأمر واضحاً بتطورات الأحداث ومجريات السياسة، فكيف نفعل مع خدمة الحكام الذين صرعهم شيطان التعصب في تلك الظروف المظلمة، وراحوا يوسّعون في دلالة التسمية مكابرةً وعناداً؟ وإنّما تركوا لمن أتى من المعاصرين مادة تساعدهم على القول بدون تثبّت.
رأينا أنّ أكثر من كتب حول الشيعة، قد استندوا لأقوال أقوام عاشوا في عصور احتدام النزعات، واشتداد عواصف الطائفية، وإيقاد نار البغضاء بين طوائف المسلمين: من حنفية وشافعية وحنبلية وأشعرية ومعتزلة... ممّا أدّى إلى ارتباك حبل الأمن، وحلّ عرى الموّدة، وهدم صروح الوحدة.
تلك اُمور كانت نتائجها وخيمة يتألّم لها قلب كلّ مسلم، لما أصاب المسلمين من الانحطاط والتأخّر. وانتهى ذلك النزاع إلى حالة مؤسفة، عندما تحوّل إلى عقيدة ومبادئ، واستمدّ كلّ قوّته من اُمور وهمية لامساس لها بالدين، فهم في جانب، وهو في جانب آخر، (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الاِْسْلامُ)( [48] )، والإسلام يدعو إلى كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة، وبث روح الاُخوّة، لتتمّ سعادة البشر في اتباع أوامره والوقوف عند زواجره.
نعم إنّهم كتبوا عن الشيعة بدون تثبّت، واستندوا لأقوال قوم دعاهم حبّ الشغب وخدمة السلطة إلى اختراع تلك الاتهامات. وقد تقوّل أكثر المقلّدين لهم، والناقلين عنهم فزادوا في الطين بلّة.
ولقد ساروا تحت ظلام الأوهام، ولا يعرفون إلاّ ما قيل، ولا يقولون أيّ شيء، تقليداً للسلف وخضوعاً للعاطفة.
وكنّا نأمل من جيلنا الحاضر وأبناء عصر النور، أن لا تميل بهم نزعة الهوى، ولا تخفف العاطفة وزنهم، ولا يلجئوننا إلى نشر تلك الفضائح، واخراج تلك الدفائن، ونحن بأمسّ الحاجة الى اتّجاه واحد، واتحاد كامل، لإيجاد قوة إسلامية متكاتفة، تقف أمام تيار الإلحاد الجارف، وردّ هجمات خصوم الإسلام، والوقوف أمام عدوانهم الغاشم، وتحرير الاُمة الإسلامية من قيود الاستعباد، ورفع كابوس الاستعمار، برفع لواء كلمة لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، وأناشيدنا: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)( [49] ) (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَتَفَرَّقُوا)( [50] ).
وقد يكون في هذا الكلام صدمة لمن لا يرتضي التفاهم بين المسلمين لإزالة سوء التفاهم، لأنّا وجدناهم لا يعيشون إلاّ في ظلمة الفتن ومن وراء حجب التمويه والأكاذيب، فهم مع الباطل فلا يروق لهم اظهار كلمة الحقّ لثقلها على بعض النفوس!! لكنّنا نرى أنّه من الخير استمرارنا بهذه الصراحة، لأنّا نفضّل مواجهة الحقيقة بأقصى ما يمكننا من ذلك، لإظهار الحقّ واتباعه، والحق أحقّ أن يتّبع.مع أحمد أمين في كتبه
إذاً فليس من الحقّ قول أحمد أمين:والحقّ أنّ التشيّع كان مأوى يلجأ إليه كلّ من أراد هدم الإسلام لعداوة أو حقد، ومن كان يريد ادخال تعاليم آبائه من يهودية، ونصرانية، وزردشتية، وهندية، ومن كان يريد استقلال بلاده، والخروج على مملكته الى أن يقول: فاليهودية ظهرت في التشيع في القول بالرجعة، وقال الشيعة: إنّ النار محرّمة على الشيعي إلاّ قليلاً، كما قال اليهود لن تمسنا النار إلا أيّاماً معدودات... الخ( [51] ).
نعم ليس من الحقّ أن يتقوّل على الشيعة بهذا، أو يقلّد ما كتبه المستشرقون وهم الذين دعاهم حب الشغب لإثارة الطائفية بين المسلمين. وفي الواقع أنّ الرجل اتّبع آراء الغربيين، الذين يكتبون عن الإسلام بداعي الحقد والوقيعة في أهله وهو في هذا المورد - بالأخص - قد اتّبع المستشرق ولهوسن حيث يقول: إنّ العقيدة الشيعية نبعت من اليهودية أكثر مما نبعت من الفارسية. واتبع أيضاً قول المستشرق دوزي: أنّ العقيدة الشيعية أساسها فارسي، فالعرب تدين بالحرية، والفرس يدينون بالملك وبالوراثة في البيت المالك، ولا يعرفون معنى لانتخاب الخليفة، وقد مات محمد ولم يترك ولداً، فأولى الناس بعده علي بن أبي طالب فمن أخذ الخلافة منه - كأبي بكر وعمر وعثمان والاُمويين - فقد اغتصبها من مستحقها. وقد اعتاد الفرس أن ينظروا إلى الملك نظرة فيها معنى إلهي، فنظروا النظر نفسه إلى علي وذرّيّته وقالوا: إن طاعة الإمام أول واجب، وإنّ اطاعته اطاعة الله( [52] ).
وهذا هو مضمون عبارة أحمد أمين بتصرّف وزيادة. ونحن الآن لا نريد أن نتعرّض لجميع ما كتبه أحمد أمين عن الشيعة وأئمّتهم من سادات أهل البيت وسلالة النبي(صلى الله عليه وآله).
نعم لا نريد أن نذكر جميع أقواله وتقولاته، ولا نقف طويلاً في ردّه ولكن شيئاً واحداً نريد أن نقوله هو: إنّ أحمد أمين كاتب له شهرة فائقة، وآثار كثيرة. ولكن مما يؤسف له أنّ الرجل لم يكن واقعيّاً; بل كان ينقاد للعواطف بسرعة، ويخضع للنزعات ويستسلم للشكوك التي تموج في صدره، فهو يجهل نفسه أمام الواقع ويفقد الجرأة الأدبية، عندما تتجلّى الحقيقة أمامه. ويتّضح ذلك من مؤلّفاته ومقالاته.
إنّ أحمد أمين أديب كاتب، ولكن لم تكن له خبرة في علم الرجال، ولا إلمام في علم الحديث. وله أخطاء في التاريخ فكان اللازم عليه أن يتجنّب الخوض في اُمور ليست من اختصاصه، ليدفع بذلك نقصاً جرّه إلى نفسه، وعيباً لصقه بها. وهو فيما يذهب إليه - في كثير من الآراء - يبرهن على نقص في إدراكه ودراسته، فيستسلم الى آراء المستشرقين الذين انطوى اهتمامهم بالمواضيع الإسلامية على أهداف قذرة أملاها عليهم الاستعمار. وبمزيد الأسف أن (أمين) وعد أنّ يكون أميناً ويتدارك ما أخطأ فيه ولكنه لم يفعل؟!أخطاء القصيمي
ولا نريد أن نتعرّض للقصيمي ( [53] ) في صراعه، فهو مصروع لشدّة داء الهستريا ومدفوع بحركة لا شعورية فلا حاجة الى التعرّض له ولأمثاله، ممّن اُبتلي بداء الشغب، وحبّ التفرقة بين المسلمين، خدمة للاستعمار واستدراراً لصلته، وطلباً لنائله، نعم لا نريد أن نتعرّض لخرافاته وسفاسفه، وأخطائه وأكاذيبه، فقلّما يترفّع عن مناقشته. من اوقف نفسه لخدمة أعداء الإسلام.
ولكنّا نودّ أنننبّه لشيء واحد من أخطائه وأكاذيبه وهو قوله في ج2ص 38: استفتى أحد الشيعة إماماً من ائمتهم ولا أدري أهو الصادق أم غيره؟ في مسألة من المسائل فأفتاه فيها، ثم جاءه من قابل واستفتاه في المسألة نفسها فأفتاه بخلاف ما أفتاه عام أول، ولم يكن بينهما أحد حينما أفتاه بالمرّتين، فشكّ ذلك المستفتي في إمامته وخرج من مذهب الشيعة وقال: إن كان الإمام إنّما أفتاني تقيّةً فليس معنا من يتّقي في المرتين، وقد كنت مخلصاً لهم عاملاً فيما يقولون، وان كان مأتى هذا هو الغلط والنسيان، فالأئمّة ليسوا معصومين إذن. والشيعة تدّعي لهم العصمة، ففارقهم وانحاز إلى غير مذهبهم. وهذه الرواية مذكورة في كُتب القوم.
لا اُريد أن اُسائل القصيمي عن الكتب التي ذكرت فيها هذه الحادثة. ولا الزمه بأن يبيّن لنا اسم الرجل السائل أو الإمام المسؤول، فالقصيمي جوابه - كنقله - كذب وافتعال بيّن. فإذا كذب في النقل يكذب في الجواب. ودائرة الكذب غير محدودة، تمتدّ إلى حيث لا نهاية. وإنّي قد ألقيت القصيمي وكتابه في (سلّة المهملات)( [54] ) فلا أحبّ التعرّض لهفواته، إلا بهذه فقط، لأنّه أراد أن ينال من كرامة الإمام الصادق (عليه السلام) بإسناد هذه لحكاية له على وجه الترديد، وقد اشتبه عليه الأمر في ذلك. أو هو يتعمد ارتكاب الخطأ. وإنّ هذه القضية نقلها على غير وجهها فإنّها لم تكن في كتب الشيعة ولم يكن المسؤول هو الإمام الصادق بل غيره من أئمة المذاهب وإليك نصّها :
جاء رجل من أهل المشرق إلى أبي حنيفة بكتاب منه بمكة عام أول. فعرضه عليه مما كان يسأل (وفي نسخة سئل عنه) فرجع أبو حنيفة عن ذلك كلّه. فوضع الرجل التراب على رأسه ثم قال: يا معشر الناس، أتيت هذا الرجل عاماً أولاً فأفتاني بهذا الكتاب، فاهرقت به الدماء، وانكحت به الفروج، فرجع عنه هذا العام. قال ابن قتيبة: حدثني سهل بن محمد: قال حدّثنا المختار بن عمر: إنّ الرجل قال له - أي لأبي حنيفة ـ كيف هذا؟ قال: رأياً رأيته فرأيت العام غيره قال: فتؤمنني أن لاترى من قابل شيئاً آخر. قال أبو حنيفة: لا أدري كيف يكون ذلك. فقال له الرجل: لكنني أدري أنّ عليك لعنة الله. انظر تأويل مختلف الحديث لابن قتيبة ص 62 - 63 المطبوع بمطبعة كردستان بمصر الطبعة الأولى سنة (1326 هـ) .
هذه هي الحكاية التي أخطأ القصيمي في نسبتها للإمام الصادق (عليه السلام) أو غيره من الأئمة مع تصرف فيها منه. ولا أستبعد أنّ الرجل لا يفرّق بين أن يكون أبو حنيفة إماماً للحنفية أو للشيعة، لأنّ كتابه لم يتركز على قواعد علمية، ولا على نقل صحيح. بل هو هوس وتهريج، وتقوّل بالباطل. فلا نودّ مناقشة رجل يحور الوقائع، ويغيّر النص، ويتعمّد الكذب، ولا عتب عليه فهو إنسان أفلت من عقال التعقل، وخرج على الموازين، وحارب الإسلام بدافع الطمع بما في أيدي أعدائه من صهاينة وملاحدة، لهذا نعرض عن الاستمرار في بيان أباطيله وأضاليله، وها نحن نلقيه في سلة المهملات.مع ابن عبد ربه
ومن الخطأ الإصغاء لأخطاء ابن عبد ربّه - فيما ينقله في ذم الشيعة - من الاُمور التي يتبين لذي العين الباصرة أنّها باطلة، أملاها التعصّب والتشاحن المذهبي. وهي من وضع أقوام تقرّبوا للدولة، بوضع خرافات لمسوا رغبتهم فينشرها، ولم يلتفتوا الى أي مؤاخذة أو نقص. وخذ مثلاً لذلك ما نقله عن مالكبن معاوية ( [55] ) أنّه قال لي الشعبي - وذكرنا الرافضة -: يا مالك إني درست الأهواء كلّها فلم أرَ قوماً أحمق من الرافضة ثم قال: اُحذرك الأهواء المضلّة شرّها الرافضة، فإنّها يهود هذه الاُمة، يبغضون الإسلام، كما يبغض اليهود النصرانية ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله ولكن مقتاً بأهل الإسلام، وبغياً عليهم إلى أن يقول : قالت اليهود: لا يكون الملك إلاّ في آل داود وقالت الرافضة: لا يكون الملك إلاّ في آل علي بن أبي طالب، واليهود يؤخّرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة واليهود لاترى الطلاق شيئاً، وكذلك الرافضة. إلى أن قال : واليهود تستحل دم كل مسلم وكذلك الرافضة، الى آخر ما نقله من هذه الاُسطورة، وما فيها من الاُمور التي تضحك الثكلى. كما انّ مثل هذا لا يصدر عن رجل مثل الشعبي( [56] )، المعروف بالعلم فيجهل أمثال هذه الاُمور، ويصدر عنه مايكذّبه الواقع قبل الوجدان.
صحيح أننا لا نتوقع من الشعبي الدفاع عن الشيعة بعد تحولاته وانقلاباته في المواقف والآراء، وبعد أن استقرّت سيرته على مسالمة الحكام ومسايرة مؤسساتهم في الموقف من الشيعة، إلاّ أنا نستبعد أن يكون الشعبي واحداً من علماء السوء الذين اصطنعتهم الدولة، وقد يصدر عن الشعبي ما يناقض سيرته الماجنة وما يخالف به الشيعة لكن ليس الى هذا الحدّ من الافتراء والسقوط، هذا من جهة.
ومن جهة اُخرى: إنّ وفاة الشعبي كانت سنة (103 هـ) وظهور اسم الرافضة سنة (121 هـ - 122 هـ) كما يقولون. وقبل هذا التاريخ لم يعرف أحد هذا الاسم. وقالوا: إنّ زيد بن علي سمّاهم بذلك، عندما خرج بالكوفة سنة (121 هـ) ولم يذهب أحد إلى سبق هذا الاسم واشتهاره قبل هذا التاريخ، مع أنّ الناقل وهو مالك بن معاوية لم يعرف وليس له ذكر في كتب الرجال قط، ولكن هذا من اختراع ابن عبد ربه، أو لقّنه بها بعض القصاصين، الذين استخدمتهم السلطة لمحاربة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)،ولا استبعد أنّ هذه التسمية ونسبتها لزيد من اختراعات الأصمعي ومجونه، فهو راوي قصة الشيعة مع زيد في حربه بالكوفة( [57] )، وقضيّة زيد مشهورة وثبوت الشيعة معه في حربه أمر لا ينكر، ولكنها حيلة سياسية استعملها الاُمويون لتفرقة بعض الناس عنه. إذ دسّوا أدواتهم وعبيدهم بين صفوف أصحاب زيد مستخدمين قضية الشيخين لأغراضهم السياسية ـ هذا على فرض صحة الخبر ـ فتوسّلوا الى إنقاذ حكمهم بمثل هذه الوسيلة والقضاء على ثورة عمّر قلوب أصحابها الإيمان بالإسلام وفاضت صدور جنودها بمشاعر الولاء لآل بيت النبي المصطفى والنقمة على الظالمين المضلّين.
وقد قامت تهمة الرفض في ظلال روح النصب وأفياء العداء لآل البيت النبوي الكريم، ورغم انفضاح بواعثها وتلفيقها فقد ظلّت مداد الأقلام ومضامين الأسفار، لأنّ الظالمين أقاموا سياستهم على ذلك وأذعن الكتّاب والمحترفون ومالوا الى هوى المتسلّطين ودواعي النفع، وإلاّ فإنّ من الإسرائيليات والعقائد اليهودية التي أفشاها كعب الأحبار ـ وهو في عرفهم الثقة المأمون والتابعي الجليل ـ ما يكفي لتجريد الأقلام وصرف الأموال لتشذيب ما علق بأذهان الناس والدعوة الى رفض ما بثّه فيهم اليهود من تجسيم وتشبيه وخرافات وأساطير لاتليق إلاّ بأهلها من قتلة الأنبياء.
ولنتأمّل في ختام القول عن ابن عبدربّه هذه النقطة المهمة: وهي استسهال الاتهام بالتشيّع والرمي بالمغالاة في أهل البيت لا لشيء إلاّ لأنّ الحقيقة قد روعيت والوقائع قد ذكرت، لأنّ العداء للتشيع يقضي على أتباع المتسلّطين وورثة السلف السائرين في ركاب الظلمة بإهمال الحقائق وإغفال الوقائع.
وابن كثير يتهم ابن عبد ربّه بالتشيّع، لأنّ ابن عبدربّه تكلّم عن سيرة خالدبن عبدالله القسري والتي يراها ابن كثير غير صحيحة فتحمله المغيرة على الدخول في دينه ويجعل من التشيّع لأهل البيت سبيلاً لتوهين ما عرف من سيرة خالد بن عبدالله القسري ممّا لم يستطع ابن كثير نفسه منه فكاكاً، فذكر شيئاً منها مرغماً.
ولكنّ كلّ الجرائم تهون دون بطش خالد وجرائمه التي تتفق في منحاها مع القسوة والغلظة التي اتصف بها النواصب ودعاة السلفية.
فيدافع ابن كثير الحافظ عن خالد بما لفظه، والذي يظهر أنّ هذا لا يصحّ عنه فإنّه كان قائماً في إطفاء الضلال والبدع.. وقد نسب إليه صاحب العقد أشياء لا تصح، لأنّ صاحب العقد كان فيه تشيّع شنيع ومغالاة في أهل البيت، وربّما لا يفهم أحد من كلامه ما فيه من التشيّع، وقد اغترّ به شيخنا الذهبي فمدحه بالحفظ وغيره... الخ.
نعم ابن كثير وحده يفهم هذا التشيّع الغريب والذي رأى الاتهام به دفاعاً عن القائم بإطفاء الضلال والبدع. وخالد باعتراف ابن كثير نفسه وتحريره أنّه كان متّهماً في دينه، وبنى لاُمه كنيسة في داره، لأنّ اُمه كانت نصرانية ويدعى بابن النصرانية. وليت الأمر ينتهي بهذا الحد من الفضائل، بل أن خالداً جمع الإيمان من أطرافه وبتحرير ابن كثير أيضاً، لقول ابن خلكان كان في نسبه يهود فانتموا الى القرب وكان يقرب من شق وسطيح.
ومثل هذه النماذج جديرة بأن تكون منزهة، لأنّ لديها الاستعداد النفسي لحمل راية العنف والشدة فيكون العداء لها صادراً من الجهة التي تقف بوجه الظلم والعنف.
يطلق ابن كثير على صاحب العقد الفريد تهمة التشيّع، وبذلك يكشف عن واحد من الاُمور التي يتعجّل بها في الحكم. وما أكثرها في منهجه. لقد كان
ابن عبدربّه من رجال بلاط عبدالرحمن الناصر الاُموي، ونظم في سيرته ملحمة، ولمّا جاء فيها ذكر الخلفاء لم يذكر الإمام عليّاً، وجعل معاوية رابع الراشدين، فذكر أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية ممّا حدا بعالم أندلسي هو منذر ابن سعيد البلوطي للردّ عليه قائلاً:
وقد حملته اُمويّته على عدم ذكر اسم الإمام الكاظم(عليه السلام) وهو يورد رسالته(عليه السلام)الى هارون الرشيد وقد بعثها إليه من السجن، والتي جاءت في أغلب المصادر واُمّهات كتب التراجم والتي يخاطب فيها الرشيد: إنّه لن ينقضي عني يوم من البلاء إلاّ انقضى عنك يوم من الرخاء حتى نقضي جميعاً الى يوم ليس له انقضاء ويخسر فيه المبطلون. فيذكرها في العقد الفريد: أنّ الرشيد حبس رجلاً فلمّا طال حبسه كتب إليه. ويذكر المعنى وبلفظ آخر وهو ما ينفرد به( [59] ).
وليت الأمر يقف الى هذا الحدّ ولكنّهم توسّعوا في الكذب، حتى استخدموا ألسنة الشياطين. وإليك مثلاً من ذلك :أحلام ابن العماد
نقل أبو الفلاح عبد الحيّ بن العماد الحنبلي ( [60] ) عن الأعمش - بلا سند - أنّه قال: خرجت في ليلة مقمرة اُريد المسجد، فإذا أنا بشيء عارضني فاقشعرّ منه جسدي، وقلت أمن الجن أم من الإنس؟ فقال من الجن. فقلت أمؤمن أم كافر؟ فقال: بل مؤمن. فقلت: هل فيكم من هذه الأهواء والبدع شيء؟ قال: نعم. ثم قال: وقع بيني وبين عفريت من الجن اختلاف في أبي بكر وعمر، فقال العفريت: إنّهما ظلما علياً واعتديا عليه. فقلت: بمن ترضى حكماً؟ فقال: بإبليس. فأتيناه فقصصنا عليه القصة فضحك، ثم قال: هؤلاء من شيعتي وأنصاري، وأهل مودتي، ثم قال: ألا اُحدّثك بحديث؟ قلنا: بلى. قال: اُعلمكم أنّي عبدت الله تعالى في السماء الدنيا ألف عام فسميت فيها العابد، وعبدت الله في الثانية ألف عام فسميت فيها الزاهد وعبدت الله في الثالثة ألف عام فسميت فيها الراغب ثم رفعت إلى الرابعة، فرأيت فيها سبعين ألف صف من الملائكة يستغفرون لمحبي أبي بكر وعمر، ثم رفعت إلى الخامسة فرأيت فيها سبعين ألف ملك يلعنون مبغضي أبي بكر وعمر. انتهى.
هذه هي اُسطورة ابن العماد ينقلها للطعن في الشيعة واظهار فضل أبي بكر وعمر، نقدّمها ليتّضح للقارئ مدى الشوط الذي لعبه الجهل في عقول الناس، حتى استخدموا الشياطين في أكاذيبهم (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيطانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمينَ لَفِي شِقَاق بَعِيد)( [61] ) (وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ* وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ)( [62] ).اُسطورة ابن سبأ
ومن الأساطير التي أخذت مفعولها في المجتمع، وتأثّر بها أهله تأثّراً جعلهم يرسلونها إرسال المسلّمات، هي اُسطورة عبد الله بن سبأ. تلك الشخصية الموهومة التي لا وجود لها في التأريخ، وإنّما هي أحاديث خرافة وضعها القصاصون وأرباب السمر والمجون. في أواسط الدولتين : الاُموية والعباسية; إذ بلغ الترف والنعيم أقصاه، وكلما اتّسع العيش وتوفّرت دواعي اللهو اتّسع المجال للوضع، وراجت سوق الخيال، ونسج القصص والأمثال، كي تأنس بها ربّات الحجال والترف والنعمة( [63] ).ولقد اندفع أعداء الشيعة في القرون المتوسطة إلى جعل اُسطورة عبد الله بن سبأ ذات شأن في تأريخ الإسلام، واسندوا إليه اُموراً يأباها البحث المبرّأ من الهوى، ويرفضها العقل السليم، فقد اخترعوا له أفعالاً ومواقف، وأسندوا إليه قصصاً ووقائع، وألبسوه أبراد العظمة، وادعوا له الشجاعة والبسالة; فهو الذي أثار حرب الجمل، وهيّأ جيش مصر لحرب عثمان، وأقام في الكوفة يثير الفتنة على عثمان وعمّاله، ويسير في أنحاء الأقطار الإسلامية بسرعة البرق ليوقد الفتنة، ويعود للمدينة فيؤلب الناس على عثمان، وتأثّر به كثير من
كبار الصحابة. إلى آخر ما هنالك من الاُمور العجيبة التي حفت بها شخصية
عبدالله بن سبأ.
وقد نصّ كثير من القدماء المحققين على نفي وجود شخصية عبد الله بن سبأ، و أنها اُسطورة وضعها أعداء الشيعة( [64] )... وكذلك ذهب جماعة من المتأخرين إلى نفيها( [65] )، وللمستشرقين آراء كثيرة في ذلك: يقول برنار ولويس: وينسب كثير من المؤرخين المسلمين بداءات التشيع الثوري إلى رجل اسمه عبد الله بن سبأ وهو يهودي يماني، عاصر علياً وكان يدعو إلى تأليهه، فأمر علي بحرقه لما دعا إليه، ومن هنا قيل: إنّ أصل التشيع مأخوذ من اليهودية. ولكن البحث الحديث قد أظهر أنّ هذا استباق للحوادث وانّه صورة مثل بها الماضي وتخيلها الرواة في القرن الثاني الهجري من أحوالهم وأفكارهم السائدة( [66] ).
فهو يذهب بهذا الى أنّ فكرة عبد الله بن سبأ من تخيّل الرواة نظراً للأفكار السائدة، والأحوال التي كانوا عليها في انتحال القصص والخرافات ( [67] ) وأظهر فلهاوزن، وفريد لندر بعد دراسة نقدية: إنّ المؤامرات والدعوة المنسوبتين إلى عبد الله بن سبأ من اختلاق المؤرخين. وقال كايتاني: إن مؤامرة مثل هذه بهذا التفكير وهذا التنظيم، لا يمكن ان يتصوّرها العالم العربي سنة (35 هـ) بنظامه القبلي القائم على سلطان الاُبوة، وأنّها تعكس العصر العباسي الأول بجلاء.
والغرض أنّ أمثال هذه الأساطير واختراع تلك الخرافات لا تخفى على من اعطاها نظرة صادقة، ووقف وقفة متريث، يريد أن يعرف الواقع، ويصل إلى معرفة البواعث التي أدّت إلى وضعها من قبل سلف مخدوع يسير وراء توجيهات الدولة. وقد تبعهم كثير من أبناء الجيل الحاضر وضربوا على وترهم لتصبح تلك الاُمور الخرافية قواعد ثابتة الاُصول وما هي في عرف الحقّ إلاّ: (وَمَثَلُ كَلِمَة خَبِيثَة كَشَجَرَة خَبِيثَة اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الاَْرْضِ مَالَهَا مِن قَرَار* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُمَايَشَاءُ)( [68] ). وسيأتي في الجزء السادس من هذا الكتاب بحث مستفيض عن هذه الاُسطورة.
وصفوة القول إنّ الاتهامات التي وجّهت للشيعة، إنّما تعود لأسباب سياسية، قد اتخذها الحكام وسيلة للقضاء عليهم، ومحو مذهبهم الذي أصبح عبئاً ثقيلاً على كاهل الدولة، وشبحاً مخيفاً يقضّ مضاجعهم، لأنّه يتصل بأهلالبيت(عليهم السلام)، وهم أعداء للباطل وحرب على الظالمين.
وقد اتّضح إعلانهم الانفصال عن دولة لاتحترم الحقوق، وتسير بالاُمة على غير هدى، حتى عرف المنتمون لهم بذلك اتباعاً لهم واقتداءً بهم. فكانت من أبرز معالم سيرة أئمة أهل البيت وأهمّ خصائص مسيرة شيعتهم تعاهدها الأئمة الأطهار بالرعاية لكي يعلم الحكّام أنّ أمر العقيدة أبعد من مرماهم وأكبر منسياستهم.
قال الأنباري: كتبت الى أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أربع عشرة (مرّة) استأذنه في عمل السلطان فلما كان آخر كتاب كتبته: إنّي أخاف على خيط عنقي وأنّ السلطان يقول: إنك رافضي، ولسنا نشكّ في أنّك تركت العمل للسلطان للترفض. فكتب إليَّ أبو الحسن: إني قد فهمت كتبك، وما ذكرت من الخوف على نفسك، فإن كنت تعلم أنك إذا وُليت عملت في عملك بما أمر به رسولالله(صلى الله عليه وآله)إلى آخرالكتاب ( [69] ).
فيظهر جليّاً أنّ عدم معاونة الدولة والعمل لها آنذاك، يوقع الإنسان بتهمة التشيّع، الذي هو من أعظم الذنوب في ذلك العصر، لأنّهم - أي الشيعة - معارضون لذلك النظام، وناهيك ما يلقى المعارضون لحكام الجور من مقاومة وتنكيل. فإذا رأينا في بعض مراحل حكم بني العباس من عرف بالتشيّع والولاء لأهل البيت(عليهم السلام) وهو في محل من الدولة أو في مسؤولية من الحكم ولم يخف انتماءه، فذلك إن الكثير بقي على أمل إقامة الأمر على ما كانت عليه الثورة ضدّ حكم الاُمويين، كما أنّ كثرة شيعة أهل البيت الساحقة، وتزايد أعداد العلماء منهم وذوي الكفاءة في الشؤون المختلفة جعل من التخلّص منهم أمراً عسيراً. والذين كانوا في الولاية والعمل لأهل الجور منهم لا يفتأون يتّصلون بالأئمة(عليهم السلام)فيرشدوهم الى سبل خدمة الرعية وطرق تجنّب ظلم الناس كما كان عليه النجاشي مع الإمام الصادق، والأنباري الذي تقدّم ذكره مع الإمام الرضا(عليه السلام).
فانتشار مذهب أهل البيت(عليهم السلام)يعتبر في الواقع اتّساعاً للمعارضة، لذلك اجتهد حكّام الجور في معارضته والتنكيل بأهله، ولكنّه استطاع ان يصمد لتلك الاعاصير الجائحة، ويتخطّى تلك العقبات الهائلة، فانتشر على وجه البسيطة، فكان عدد المنتمين إليه مائة مليون أو يزيدون.
وجدير بمن يريد دراسة المذهب الجعفري أن يزن أقوال بعض علماء الرجال الذين ساروا في ركاب الدولة، ونفخوا ببوقها - عندما يترجمون لعلماء الشيعة - فيقولون مثلاً: فلان صدوق إلاّ أنّه مبتدع أو أنّه سيّء المذهب، أو زائغ عن الحق. كما قال الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب: انه صدوق إلاّ إنّه مبتدع، فلنا صدقه وعليه بدعته ( [70] ). إلى آخر ما هنالك من أقوال هي بعيدة عن الصواب. وإذا أردنا ان نسائلهم عن بدعتهم، فلا شيء هناك إلا مخالفة ما شرّعته السياسة لاما شرّعه الإسلام.
وقد رأيت قبل قليل كيف جعلت الأهواء من خالد بن عبدالله القسري المتّهم في دينه قائماً بإطفاء البدع، وابن عبدربّه السنّي متشيّعاً ومغالياً.
نقول هذا ونحن نأسف الأسف الشديد على ذوي التفكير من أبناء العصر أن يعوّلوا على أقوال قوم جرفهم تيار التعصّب، فكان فهمهم للمذهب الجعفري فهماً عاطفياً، لذلك نرى أكثر من كتب عن تأريخ التشريع الإسلامي وبيان المذاهب فيه، قد أهمل ذكر جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام). ولئن دلّ إهمالهم له على شيء فإنّما يدلّ على اعتزازهم بتلك النعرات الطائفية، وتلوث وجدانهم بالرواسب التي ورثوها من السلف المخدوع ليضعوها في طريق وحدة المسلمين في الوقت الذي يكونون فيه بأمس الحاجة إلى إزالة ما خلفته تلك العصور المظلمة، من عقبات تحول بينهم وبين التفاهم والوحدة، وما أحوجهم إليها اليوم لمقابلة أعداء الإسلام الذين يكيدون له بكلّ ما لديهم من حول وقوة، وما أخذناه ماهو إلاّ أمثلة قليلة للقضايا الكبرى التي اختلقها أعداء الشيعة وغيرها ممّا لا يحاط به ولا يحصى، ونحن في هذا العصر نطالب بأن تتبع طرق التفكير السليم والمنطق الصحيح من خلال الإجابة على سبب هذا التحايل والكره، ولماذا يبقى المرء أسير نظرة الأنظمة المتعسفة الذين اتجهوا ضد الشيعة، لأنّهم يمثّلون خطراً؟! ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم.
(ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَتَعْلَمُونَ)( [71] ).
انتشر ذكر مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) في جميع الأقطار الإسلامية، فأصبحت جامعة إسلامية كبرى تقصدها وفود الأمصار، حتى كان عدد المنتمين إليها أربعة ألاف كلّهم من حملة الحديث.
ولم يعرف لأحد من أئمة المذاهب من التلاميذ مثل ما عرف للإمام الصادق(عليه السلام)، مع تباعد أقطارهم. فكان تلاميذه، من العراق، ومصر، وخراسان، وحمص، والشام، وحضرموت وغيرها.
وممّا يلفت النظر أنّ أكثر تلاميذه كانوا من الكوفة والمدينة. لانتشار التشيع في الاُولى، ونشأته في الثانية.
وأنّ هذا العدد وهو (4000) طالب في مدرسته لم يكن هائلاً - كما قد يبدو للبعض - وهو قليل بالنسبة لذلك العصر من حيث اتّساع نطاق الحركة العلمية، واتّجاه الناس لإحياء ما درس من السنن. ولأنّ الإمام الصادق(عليه السلام) هو سيّد أهلالبيت في عصره ووارث علم جدّه، وكان لأهل البيت(عليهم السلام)نشاط علميّ فلا غرابة ان اتّجهت إليه الاُمة الإسلامية تنتهل من ينبوع علمه، فضلاً عن انّه قد اتّصف بجميع الصفات التي تؤهّله لأن يتزعم الحركة العلمية في عصر نهضتها، وقد نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر صيته في جميع البلدان( [72] ) وروى حديثه خلق لا يحصون ( [73] ).
وكانت له نواح كثيرة يعذب فيها القول، وتفيض في شأنها المعاني والدراسات، ومن ابرز ذلك: أنّه (عليه السلام) كان - بشخصيته وعلمه - موضع احترام وتقدير وحبّ، من أهل الإيمان والعلم في عصره، لا فرق بين الخاصة والعامة، ولا بين من يتّبعونه ويعتقدون بنصيّة إمامته، ومن يتّبعون المذاهب الاُخرى، كلّهم عرفوه إماماً جليلاً، وكلّهم عرفوه عالماً قويّاً وكلّهم عرفوه صادقاً إذا حدّث، ومنصفاً إذا فكّر، لا هدف له إلاّ الحقّ، ولذلك لقّب بالصادق، وهي نفحة من نفحات جدّه الأعظم رسول الله (صلى الله عليه وآله) حيث كان ملقّباً بالصادق ( [74] ).
ولا نستغرب قول من يعترف بعدم استطاعته لإحصاء تلامذته، ورواة حديثه. وقد نقلنا من أوثق المصادر بعضاً منهم من سائر الناس، دون خواصه، وسنواصل نشر الآخرين منهم.
وعلى أيّ حال فإنّ الناشرين لفقه الإمام جعفر بن محمد (عليه السلام) خلق كثير. ولكنّ فقهه الذي أراد الله تعالى أن يكون خالداً مع الزمن، وهو المتبع عند الشيعة، والمرجع في أهم الاحكام، انحصر تلقيه عن جماعة اختصوا بالإمام الصادق(عليه السلام)، وواصلوا دراستهم عنده، وكانوا من العدالة والوثاقة بمنزلة تجعلهم أهلاً لقبول ما يروى عنهم من فقهه، الذي ينبع فيضه من بحار آبائه، الذين هدى الله بهم الاُمة، وأوجب محبّتهم على الخاصة والعامة.
وقد أشرنا فيما سبق إلى أنّ عدداً من تلامذته، وهم أربعمائة قد ألّفوا في فقهه والرواية عنه أربعمائة كتاب، وهي: اُصول الفقه للمذهب الجعفري المعروفة بالاُصول الأربعمائة. وقد جمعت هذه الكتب في الكتب الأربعة وهي: الكافي، والاستبصار، والتهذيب، وما لا يحضره الفقيه( [75] ).
وكان الإمام الصادق(عليه السلام) ينظر إلى أصحابه على قدر كفايتهم الموهوبة كلّ على حسب استعداده وتمكّنه، فاختصّ بجماعة منهم فكانوا خير معين على حلّ المشاكل التي تحلّ بالمجتمع، والتي يهتمّ بها الإمام الصادق(عليه السلام) أشدّ الاهتمام. فهم يقومون بتنفيذ الخطط التي يرسمها لهم، وتحت إشرافه يكون قيامهم بها، فهو المصدر الأول والمنتهى الأخير لتلك التعاليم التي تقوم بها النخبة الصالحة من أصحابه.
وكانت لهم اليد الطولى في خوض معارك الحياة الاجتماعية والسياسية، وفي محاربة أهل الإلحاد والزندقة، ومناظرة أهل العقائد الفاسدة، والفرق الشاذّة، ومقابلة الظلمة في شدّة الانكار عليهم، وتوجيه الانتقاد إليهم بطرقمختلفة.
وكان (عليه السلام) يشيد بذكر خُلّص أصحابه، ويظهر للناس كفايتهم. وحيث كان ترد عليه الوفود من سائر البلاد الإسلامية للاستفادة مرّةً، وللمناظرة اُخرى. فقد جعل لكلّ واحد من أصحابه وظيفة خاصّة يقوم بها عندما يعوّل في الجواب عليه، إظهاراً لفضله وعلوّ منزلته.
فجعل أبان بن تغلب للفقه، وأمره أن يجلس في المسجد فيفتي الناس. ووكّل لحمران بن أعين الأجوبة عن مسائل علوم القرآن، وزرارة بن أعين للمناظرة في الفقه، ومؤمن الطاق للمساجلة في الكلام، والطيار للمناظرة في الاستطاعة وغيرها، وهشام بن الحكم للمناظرة في الإمامة والعقائد. وكان منهم جماعة يتجوّلون في الأمصار وأمدّهم بالأموال للتجارة، والقصد من ذلك أن يمتزجوا بالمجتمع. لتوجيه الناس والدعوة إلى مذهب أهل البيت(عليهم السلام) .
وهكذا كان يوجّه أصحابه ويجعل لكلّ واحد جهة، وعلى كلّ واحد أداء رسالة خاصة. ولا يسعنا - ونحن بهذه العجالة - أن ندرس حياة اُولئك العظماء الذين وقفوا إلى جانب أهل البيت(عليهم السلام)، واتّبعوا الحقّ أينما سارت ركائبه. فكانوا أعلاماً يهتدى بهم، وعلماء يرجع إليهم في أهمّ المسائل العلمية، مع خطورة الموقف، وعظيم المراقبة من قبل السلطة، ومعارضة أعوانها لهم، وقد وقفوا بصلابة الإيمان، ونفاذ البصيرة، يتحدّون كل مقابلة، واجتازوا كلّ الصعاب التي تعترضهم; ليصلوا الى الهدف الذي عاهدوا الله على الوصول إليه، وأنّ دراسة حياتهم دراسة مستفيظة أمر ليس بالهيّن إدراكه; ولهذا فقد اكتفينا بالإشارة للبعض بإلمامة موجزة وعرض قليل، إتماماً للغرض ووفاءً بالوعد. وقد ألّف علماؤنا كتباً مطوّلة في تراجمهم ودراسة حياتهم.
وقد رأينا لزاماً أن نتكلم عن هشام بن الحكم بصورة واسعة بالنسبة لغيره، لا بالنسبة لدراسة حياته، لنعرف بذلك منهجه في تفكيره وبيان عقيدته. ونقف على بواعث الاتّهام له بتلك العقائد الفاسدة، عسانا نوفّق لكشف تلك الحجب التي غطّت وجه الحقيقة في معرفة هشام ودراسة شخصيته.
أمّا أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام) فأخذنا بعضاً من البارزين منهم ممّن أسهموا في الحركة العلمية، واشتهروا بالفقه والرواية وعلوم القرآن وفنون الإسلام، فتوسعنا فيهم وأوردنا تراجم الآخرين من تلامذته ورواة حديثه.أبان بن تغلبنسبه وأقوال العلماء فيه
أبان بن تغلب بن رباح ( [76] )، هو أبو سعيد البكري الجريري المتوفى سنة (141هـ) كان جليل القدر، عظيم المنزلة، لقي الإمام زين العابدين، والباقر والصادق، وكانت له حلقة فى المسجد.
وقال ياقوت الحموي: كان قارئاً لغوياً فقيهاً إمامياً، ثقة عظيم المنزلة، جليل القدر، روى عن علي بن الحسين، وأبي عبد الله(عليهم السلام)، وسمع من العرب وصنف غريب القرآن وغيره.
وقال الذهبي: أبان بن تغلب شيعيّ جلد صدوق، لكنّه مبتدع، فلنا صدقه وعليه بدعته. وقد وثّقه أحمد بن حنبل وابن معين. روى عنه موسى بن عقبة وشعبة وحماد بن زيد وابن عيينة وجماعة.
وقال ابن عدي: له نسخ عامتها مستقيمة، إذ روى عنه ثقة، وهو من أهل الصدق في الرواية وإن كان مذهبه مذهب الشيعة، وهو في الرواية صالح لا بأس به.
وقال الحاكم: كان قاص الشيعة وهو ثقة، ومدحه ابن عيينة بالفصاحة.
وقال أبو نعيم في تاريخه: مات سنة (140 هـ) وكان غاية من الغايات.
وقال العقيلي: سمعت أبا عبد الله يذكر عنه عقلاً وأدباً وصحة حديث، إلاّ أنّه كان غالياً في التشيّع.
وقال ابن سعد: كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات.
وقال الأزدي: كان غالياً في التشيّع وما أعلم به في الحديث بأساً.
خرّج حديثه مسلم في صحيحه، والترمذي، وأبو داود، والنسائي وابن ماجة. وهو ممّن أجمعوا على قبول روايته وصدقه، واعترفوا بعلوّ منزلته، فلا يضرّ قول من زاغ عن الحقّ في طعنه - في أبان - كإبراهيم الجوزجاني( [77] )حيث يقول: أبان زائغ مذموم المذهب مجاهر.
قال ابن حجر: وامّا الجوزجاني فلا عبرة بحطّه على الكوفيين، فالتشيّع في عرف المتقدمين هو اعتقاد تفضيل عليّ(عليه السلام) على عثمان، وأنّ علياً كان مصيباً في حروبه وأن مخالفه مخطئ، وربّما اعتقد بعضهم أنّ علياً أفضل الخلق بعد رسول الله، وإذا كان معتقد ذلك ورعاً ديّناً صادقاً مجتهداً فلا تردّ روايته.
وعلى أيّ حال فلا يهمّنا قول الجوزجاني، ولا نودّ أن نخوض في بحث يقصينا عن الغاية، ونكتفي بأن نحيل القارئ المنصف المتجرّد عن نزعة الهوى إلى مراجعة تاريخ حياة الجوزجاني، ويقف هناك وقفة قصيرة فيعرف نزعة الرجل التي اتصف بها، فهو خارجي يرى رأي الحرورية( [78] )، وكان شديد الميل على علي (عليه السلام)، يذهب مذهب أهل الشام الذين تغذّت أدمغتهم بأباطيل معاوية وأضاليله، حتى سلك الناس طرقاً ملتوية وزاغوا عن الحقّ اتباعاً لمن لا يروق له قول الحقّ.
وقد اتّصف الجوزجاني أيضاً بأنه حريزي المذهب، أي يذهب
مذهب حريز بن عثمان المعروف بالعداء لعليّ بن أبي طالب (عليه السلام)،
فقد كان حريز( [79] ) اُموي النزعة شامي النشأة يحمل على عليّ، وقيل:
إنّه يسبّه.
ومن الغريب أنّهم يصفون من عرف ببغض عليّ(عليه السلام) بالصلابة في السنّة كما وصفوا عليّ بن الجهم والجوزجاني( [80] ).
ولا أدري أيّ سُنة هذه التي يتّصف بها مبغض علي (عليه السلام)؟ أجل أين قول الرسول(صلى الله عليه وآله): ياعلي لا يحبّك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلاّ منافق وهذا الحديث خرّجه الحفاظ من طرق متعدّدة، ورواه مسلم ( [81] )، والنسائي( [82] )، وابن عبد البر( [83] ). والطبري ( [84] )، وغيرهم.
وقد كان أصحاب النبيّ(صلى الله عليه وآله) يعرفون إيمان الرجل بحبّه لعلي، ونفاقه ببغضه له، متخذين من هذا الحديث قاعدة مطّردة.
وكيف كان فإن بدعة أبان التي وصفه بها الجوزجاني والذهبي هي موالاته لعليّ، وصلابة الجوزجاني في السنة هي بغضه لعليّ، والحكم في هذا للقارئالمنصف.علمه وشيوخه
وكان أبان بن تغلب من الشخصيات الإسلامية التي امتازت باتقاد الذهن، ووفور العقل، وبُعد الغور، والاختصاص بعلوم القرآن، وهو أوّل من ألّف في ذلك. وكان فقيهاً يزدحم الناس على أخذ الفقه عنه، وإذا دخل مسجد المدينة المنورة أخليت له سارية النبي (صلى الله عليه وآله) فيحدّث الناس. وله علم باختلاف الأقوال، وقد شهد له معاصروه بالفضل والتفوّق. ويكفيه - شهادة في التقدم - أنّ الإمام الباقر والإمام الصادق (عليهما السلام) أمراه أن يحدّث الناس في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) وكلٌّ يقول له: اجلس في مسجد المدينة وافت الناس فإنّي اُحبّ أن يُرى في شيعتي مثلك( [85] )
وأخذ أبان علمي الفقه والتفسير عن أئمة أهل البيت(عليهم السلام)فقد حضر عند الإمام زين العابدين، ومن بعده عند الإمام الباقر، ثم عند الإمام الصادق (عليه السلام)فهؤلاء شيوخه واساتذته، وهو من كبار أصحابهم والثقات في رواياتهم.
وقد عدّ علماء الرجال من جملة أساتذة أبان جماعة منهم :
الحكم بن عتيبة الكندي المتوفى سنة (115 هـ) وهو من رجال الصحاح الستة، ومن حملة الحديث وأعلام الاُمة.
وفضيل بن عمرو الفُقَيمي أبو النظر الكوفي المتوفى سنة (110 هـ) خرّج حديثه مسلم والأربعة.
وأبو إسحاق عمرو بن عبد الله الهمداني السبيعي، المتوفى سنة (127 هـ) وهو أحد أعلام التابعين، ومن رجال الصحاح الستة.تلامذتـه
وروى الحديث عنه خلق كثير منهم :
موسى بن عقبة الأسدي المتوفى سنة (141 هـ) من رجال الصحاح الستة، وثّقه ابن معين، وأحمد، وأبو حاتم. وقال مالك: عليكم بمغازي موسى بن عقبة. وقد صنّف فيها وأجاد( [86] ).
وشعبة بن الحجاج تقدّمت ترجمته في الجزء الأول .( [87] )
وحماد بن زيد بن درهم الأزدي أبو إسماعيل الأزرق البصري الحافظ المتوفى سنة (197 هـ) عن إحدى وثمانين سنة. قال ابن مهدي: ما رأيت أحفظ منه ولا أعلم بالسنّة ولا أفقه بالبصرة منه. وقال أحمد: هو من أئمة المسلمين.( [88] )
وسفيان بن عيينة تقدمت ترجمته في الجزء الأول .( [89] )
ومحمد بن خازم التميمي أبو معاوية الضرير المتوفى سنة (195 هـ)، خرّج حديثه أصحاب الصحاح الستة، وروى عنه أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن المديني وابن معين. وكان أحفظ الناس لحديث الأعمش.( [90] )
وعبد الله بن المبارك بن واضع الحنظلي مولاهم أبو عبد الرحمن المروزي المتوفى سنة (181 هـ) أحد الأعلام، ومن رجال الصحاح الستة. قال ابن المبارك: كتبت عن أربعة آلاف شيخ فرويت عن ألف، وثّقه جماعة.( [91] )
هؤلاء الذين ذكرهم ابن حجر في تهذيب التهذيب والخزرجي في خلاصة تهذيب الكمال وغيرهما. وهذه عادة علماء الرجال أن يذكروا من تلامذة الشخص بعضاً ويتركوا آخرين. ويعبّرون عن ذلك بقولهم: وجماعة، وآخرين، وخلق كثير.
ونظراً لمنزلة أبان العلميّة ومكانته في الفقه، وكثرة الآخذين عنه لابدّ وأن يكون له عدد كثير من التلاميذ، وحيث لا يمكننا إحصاؤهم فنعوّل في ذلك بالرجوع إلى جامع الرواة( [92] ) فقد ذكر عدداً وافراً ممن روى عن أبان، وأشار الى موضع الرواية عنه في كتب الأصحاب.مكانته وكفايته العلمية
وصفوة القول أنّ أبان بن تغلب شخصية اسلامية، قد أهمل التاريخ أكثر مآثره، وبخسه أكثر علماء الرجال حقّه، ولم يعطوه ما يستحقه من البيان. والأسباب غير مجهولة، فإنّ تدوين التاريخ جاء في عصور قد اشتدّت فيها النعرة الطائفية، فأسرع أكثر الكتّاب والمؤرّخين إلى مجاراة الدولة، والخضوع لأوامر السلطة. وإنّ أبان من أعيان الشيعة، والشيعة - كما لا يخفى - هم الحزب المعارض لسلطان الجور، وحكّام الاستبداد.
وكيف نرجو من أولئك المؤرخين أن يعطوا رجال الشيعة حقّهم من البيان مع بخسهم حقّ عترة الرسول وأئمة الهدى؟ فإنّهم يتحرّجون عن ذكر ما لهم من المآثر، وما خصّهم الله به من الفضائل، فتراهم عند ترجمة أيّ واحد من الأئمة يستعملون الإيجاز المخل.
لقد عاش أبان بن تغلب مدة من الزمن وهو ملازم لأهل البيت(عليهم السلام)يأخذ عنهم، حتى أنّه كان يحفظ عن الإمام الصادق (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث( [93] ).
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يرشد إليه في أخذ الأحكام، ورواية الحديث.
قال سليم بن أبي حبّة: كنت عند أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فلما أردت أن اُفارقه، ودعته وقلت: أحبّ أن تزوّدني. فقال: إئت أبان بن تغلب فإنّه قد سمع مني حديثاً كثيراً، فما روى لك فاروه عني( [94] ).
وممّا يدلّ على إحاطة أبان وتفوّقه في الحديث أنّه كان يجلس في مسجد النبي (صلى الله عليه وآله) فيجيء إليه الناس ويسألونه فيخبرهم على اختلاف الأقوال، ثم يذكر قول أهل البيت(عليهم السلام)ويسوق أدلّته ومناقشته، لأنّه يرى أنّ الحقّ مع أهل البيت(عليهم السلام)، وأنّ قولهم الفصل.
يحدّثنا عبد الرحمن بن الحجاج قال: كنّا في مجلس أبان فجاءه شابٌ فقال: يا أبا سعيد، أخبرني كم شهد علي بن أبي طالب من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله)؟ فقال له أبان: كأنك تريد أن تعرف فضل علي بن أبي طالب ومن تبعه من أصحاب رسول الله؟ فقال الرجل: هو ذاك.
فقال أبان: والله ما عرفنا فضلهم - أي الصحابة - إلاّ باتّباعهم إياه - يعني علياً - فقال أبو البلاد: عض ببظر أَمة رجل من الشيعة في أقصى الأرض وأدناها يموت أبان لا تدخل مصيبته عليه( [95] ).
فقال أبان: يا أبا البلاد أتدري من الشيعة؟ الشيعة الذين إذا اختلف الناس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخذوا بقول عليّ(عليه السلام)، وإذا اختلف الناس على عليّ أخذوا بقول جعفر بن محمد (عليه السلام).
وقال أبان: مررت بقوم يعيبون عليّ رواية جعفر بن محمد فقلت: كيف تلومونني في روايتي عن رجل ما سألته عن شيء إلاّ قال: قال رسولالله(صلى الله عليه وآله)؟( [96] )مؤلّفاته
1 - غريب القرآن وهو أوّل تأليف في ذلك، فصار أساساً لعلم اللغة، وقد ذكر شواهده من الشعر، فجاء فيما بعد عبد الرحمن بن محمد الأزدي الكوفي فجمع من كتاب أبان، وكتاب محمد بن السائب الكلبي، وأبي ورق عطية بن الحرث فجعلهما كتاباً واحداً، وبيّن فيه ما اختلفوا فيه وما اتفقوا عليه فتارة يجيء كتاب أبان مفرداً وتارة مشتركاً.
2 - كتاب الفضائل .
3 - كتاب معاني القرآن.
4 - كتاب القراءات.
5 - كتاب الاُصول في الرواية على مذهب الشيعة، ذكره ابن النديم فيالفهرست.( [97] )
وله مناظرات ومجادلات وقراءة للقرآن مفردة مقرّرة عند القراء.
قال محمد بن موسى: ما رأيت أقرأ منه قطّ. وقال محمد بن إبراهيم الشافعي: كان أبان مقدّماً في كلّ فن من العلم: في القرآن، والفقه، والحديث، والأدب واللغة.
وعلى أيّ حال فقد كان أبان من رجال الاُمة المبرزين في العلم ومن حملة فقه آل محمد (صلى الله عليه وآله)، حفظ عن الإمام الصادق (عليه السلام) ثلاثين ألف حديث، وكان لعظم منزلته إذا دخل المدينة تفوضت إليه الحلق وأخليت له سارية النبي(صلى الله عليه وآله).( [98] )
ولقد كان من المقرر المضيّ في دراسة مشاهير الرواة عن الإمام الصادق(عليه السلام)وحملة فقهه بنفس الأسلوب الذي سرت عليه في دراسة حياة أبان من ذكر الشيوخ والتلاميذ والأقوال فيه مع مراعاة الاختصار.
لكني تبينت جليّاً عدم استطاعتي استيفاء هذا الغرض. لأنّ ذلك مما يضيق به وسع الكتاب فالتجأت إلى حذف كثير ممّا أعددته من الدراسات لهذا الجزء، وفضّلت الاقتصار على دراسة حياة أبان بن تغلب، ومؤمن الطاق، وهشام بن الحكم كما هو المقرر في الأصل، واكتفيت بدراسة حياة الآخرين بالاختصار مرّةً وبالإشارة اُخرى. واخترنا مختصرين عدداً منهم:أبان بن عثمان أبان بن عثمان بن يحيى بن زكريا اللؤلؤي المتوفى سنة (200 هـ)( [99] )، كان من أهل الكوفة، وكان يسكنها تارة ويسكن البصرة أخرى. وقد أخذ عنه من أهل البصرة: أبو عبيدة معمر بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن المثنى، وأبو عبد الله محمد بن سلام الجمحي، وأكثروا الحكاية عنه في أخبار الشعراء والنسب والأيام. روى عن أبي عبد الله، وأبي الحسن موسى بن جعفر، وما عرف من مصنفاته إلا كتاب جمع فيه المبدأ، والمبعث، والمغازي، والوفاة، والسقيفة والردة.
ولأبان أصل يرويه الشيخ الطوسي عن عدّة من الأصحاب.
وكان أبان من الستة الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم، والإقرار لهم بالفقه، وهم: جميل بن دراج، وعبد الله بن مسكان، وعبد الله بن بكير، وحماد بن عيسى، وحماد بن عثمان، وأبان بن عثمان.
وقد روى عن أبان خلق كثير، منهم الحسن بن علي الوشا، وعلي بن الحكم الكوفي، وفضالة بن أيوب، والحسين بن سعيد، وصفوان بن يحيى، وعيسى الفراء، وجعفر بن سماعة وغيرهم.
وكان هو أيضاً يروي عن جماعة من أصحاب الإمام (عليه السلام)، كزرارة، والفضيل بن يسار، وعبد الرحمن بن أبي عبد الله وغيرهم كما هو موجود في كتب الحديث.بريد العجلي
وبريد بن معاوية العجلي( [100] )، أبو القاسم الكوفي المتوفى سنة (150 هـ) .
كان من أصحاب الإمام الباقر، وولده الإمام الصادق (عليهما السلام). وهو من حملة الحديث ورجال الفقه، وله منزلة عند أهل البيت(عليهم السلام)من الوثاقة وعلوّ القدر. وورد مدحه في روايات صحيحة، كما أجمعت الشيعة على تصحيح ما صحَّ عنه. والذي يظهر أنّ له منزلة سامية في نشر حديث أهل البيت(عليهم السلام)، لذلك نجد الخصوم قد وضعوا أحاديث في ذمه ليحطّوا من قدره، ويصرفوا الناس عنه، ولكنها لم تقف في طريقه، أو تعرقل سيره المتواصل في نشر المذهب، وبثّ الأحكام. وهو من الستة الذين عرفوا بأنّهم أفقه الناس وهم: زرارة بن أعين، ومعروف بن خربوذ، وبريد العجلي، وأبو بصير الأسدي، والفضيل بن يسار، ومحمد بن مسلم الطائفي، وأفقه الستة زرارة.
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم وبريد العجلي وأبوجعفر الأحول أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً( [101] )
روى الحديث عن الإمام الباقر والإمام الصادق(عليهما السلام)، وروى عنه داود بن يزيد بن فرقد، والحكم وإسماعيل ابنا حبيب. والقاسم بن عروة ومنصور بن يونس، وعبد الله بن المغيرة، وخلق كثير.
وكان بريد من المؤلّفين في عصر الإمام الصادق (عليه السلام). له كتاب يرويه عنه علي بن عقبة بن خالد الأسدي. وقد تقدّم ذكر بريد في الجزء الثاني من هذا الكتاب، في جملة أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام) فلا حاجة إلى إطالة البحث.
كما تقدّمت هناك ترجمة بكير بن أعين، ومحمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وجابر الجعفي، وعبد الملك بن أعين، وأبي حمزة الثمالي، وحمران بن أعين، وكلّهم من الثقات وحملة فقه الإمام الباقر وولده الإمام الصادق (عليهما السلام). وأنّ التعرّض لدراسة حياتهم أمر يقصينا عن الموضوع، لاتّساع دائرة البحث، فنكتفي بما ذكرناه عنهم من الإشارة هناك.
وجميل بن درّاج بن عبد الله أبو علي النخعي( [102] )، مولاهم الكوفي، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وولده أبي الحسن موسى (عليه السلام) وكان ثقة. وهو من الستة الذين أجمعوا على تصحيح ما يصح عنهم.
الرضا(عليه السلام)، وكان كثير الحديث، فقيهاً، زاهداً، متعبّداً، له مؤلفات، منها كتاب اشترك هو ومحمد بن حمران فيه. وله كتاب اشترك هو ومرازم بن حكيم فيه، وله أصل يرويه الشيخ الطوسي عن الحسين بن عبيد الله.
روى عنه الحديث خلق كثير كالحسن بن محبوب، وصالح بن عقبة، وعبد الله بن جبلة، وأبو مالك الحضرمي ومحمد بن عمرو وغيرهم.
وكان لجميل أخ يقال له نوح بن دراج، وكان قاضياً في الدولة العباسية وقد اشتدت الملامة عليه من قبل أصحاب الإمام الصادق(عليه السلام)، لأنّ القضاء من قبل الدولة يعدّ مؤازرة لهم، وكان نوح من رواة حديث الإمام الصادق، ولكنّه اعتذر أنّه لم يتول القضاء حتى سأل أخاه جميلاً.جميل بن صالح
وجميل بن صالح الأسدي الكوفي. من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) وولده موسى (عليه السلام)، ثقة له أصل، روى عنه جماعة كالحسن بن محبوب، وسعد بن عبدالله، وعمار بن موسى الساباطي، ومحمد بن عمر وغيرهم .( [103] )حماد بن عثمان وحماد بن عثمان بن زياد الرواسي الكوفي المتوفى سنة (190 هـ).
هو من الستة الذين أقرّت الطائفة لهم وتصحيح ما يصحّ عنهم. روى حماد عن الإمام الصادق وولده موسى الكاظم، وعن جماعة من أصحابهما (عليهما السلام).
وروى عنه جماعة منهم محمد بن الوليد، وعلي بن مهزيار، وصفوان بن يحيى وغيرهم.( [104] )حماد بن عيسى
وحماد بن عيسى بن عبيدة الجهني( [105] ) الواسطي ثم البصري ، غريق الجحفة المتوفى سنة (308 هـ) من أصحاب الإمام الصادق والكاظم (عليهما السلام). وهو من الستة الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنهم.حبيب بن ثابت
وحبيب بن ثابت الكاهلي( [106] )، مولاهم أبو يحيى الكوفي المتوفى سنة (122هـ) من التابعين ومن رجال الصحاح الستة. روى عن زين العابدين والإمام الباقر وولده الصادق (عليهم السلام)، وعنه مسعر والثوري وشعبة وأبو بكر النهشلي وخلق كثير. وثّقه العجلي وأبو زرعة وخلق كثير، قال ابن معين: له نحو مائتي حديث.
وحمزة بن محمد الطيار، كان من رجال الفقه والمتفوّقين في علم الكلام، وله مناظرات مع خصوم أهل البيت(عليهم السلام)، كما دلّت على ذلك آثاره ووردت من أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)في مدحه. منها ما رواه أبان الأحمر عن الطيار، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): بلغني أنّك كرهت مناظرة الناس وكرهت الخصومة. فقال: أمّا كلام مثلك فلا يكره. من إذا طار أحسن أن يقع، وإن وقع أحسن أن يطير، فمن كان هكذا فلا نكره كلامه( [107] ). إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم نذكرها للاختصار. كما لم نذكر جماعة منهم : داود بن فرقد، وحميد بن المثنى العجلي، وداود الرقي، وزيد الشحام، وسدير الصيرفي، وعبد الرحمن البجلي، وداود بن يزيد الكوفي العطار، وداود بن كثير، وروح بن عبد الرحيم الكوفي، وعبد الله بن أبي يعفور الكوفي، وعبد الله بن شريك، وعبد الله ابن مسكان، والعلاء بن رزين، وعمر بن حنظلة، وشعيب العقرقوفي والمعلّى ابن خنيس.
وكلّ هؤلاء قد أعددنا لهم ترجمة وافية، ولكن ضيق المجال حال بيننا وبين نشرها.
وممّا يلزم التنبيه عليه: أنّ أكثر من دوَّن في مناقب أئمة المذاهب قد نسبوا إلى أئمتهم من المشايخ والتلاميذ ما لا يتصل بالواقع، ولا أصل لتلك النسبة، إذ التتبع ينفي ذلك، فمثلاً نجد عدد تلاميذ أبي حنيفة من الكثرة بمكان، ولكن الواقع أن تلاميذه الذين سمعوا منه وحضروا عنده لايتجاوز عددهم أكثر من ستة وثلاثين.
أمّا المشايخ فإنّهم يخطئون كثيراً فيهم. وقد تقدّم في الجزء الأول من هذا الكتاب تكذيب دعوى سماع أبي حنيفة من الصحابة بما لا حاجة إلى إعادته، وهذا كثير عندهم في نسبة مشايخ أو تلاميذ للشخص بدون تثبّت. فمثلاً أنّهم يقولون: إنّ محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني صاحب أبي حنيفة ومدون فقهه، قد سمع من عمرو بن دينار. وهذا غير صحيح، لأنّ عمرو بن دينار قد توفي سنة(115 هـ) وكانت ولادة محمد بن الحسن سنة (129هـ)( [108] )، فكيف يصحّ سماعه من عمرو بن دينار الذي توفي قبل ولادته بأربعة عشرعاماً؟
وحذراً من وقوع هذا الاشتباه نؤكّد أنّ العدد الذي بيّناه في تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) هو أربعة آلاف أو يزيدون. وهذا العدد لم يكن فيه شيء من الإدعاء أو خروج عن حدود الواقع، وإنما هو نتاج تتبّع وتمحيص وتحمّل مشقّة وعناء. ونستطيع أن نقول: إنّ عددهم كان أكثر من هذا. وبهذه المناسبة أودّ أنّ اُنبّه على شيء له أثر في الموضوع وهو: أن الشيخ الخالصي ذكر في حديثه عن الإمام الصادق (عليه السلام)، كما جاء في سلسلة أشعّة من حياة الصادق (عليه السلام)، الحلقة الأولى ص34، أنّ محمد بن الحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة كان من جملة تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام). وهذا شيء ينفرد به الشيخ الخالصي، إذ التتبع لا يؤيد ذلك. وكما قلنا: إننا لم نثبت في عداد تلامذة الإمام الصادق من لا تصحّ في حقّه تلك النسبة، ولا نريد أن نلقي الأشياء جزافاً، دون تثبّت، فالتاريخ يحاسبنا على ذلك. والذي أعتقده أنّ الأمر اشتبه على الشيخ، وذلك أنّ عبد الله بن الحسن الشيباني( [109] )، أخا محمد بن الحسن الشيباني، كان من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام)ورواة حديثه.
ومن قواعد التصنيف والترجمة لدى الشيعة أن يكون بأثر وأن يدلّ على الترجمة خبر، فكتب الرجال تضمّ تراجم من استحق الترجمة بعلمه، أو اقتضت الأمانة العلمية التنويه به، ولذلك فإنّ ممّا أحصى من تلامذة الإمام الصادق هو ما كان بالشواهد والأثر.
على أنّ من أهم ما يجب التركيز عليه بالقول هو أنّ تلامذة الإمام الصادق لم يكن لهم دور كدور تلامذة رؤساء المذاهب، كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد في تبويب الأقوال وجمع الآراء وانتهاج الاستقلال من بعدهم، ليدخل المذهب في دور التأسيس والإعلان، لأنّ تلامذة الإمام الصادق لا مزيد لهم على ما تلقّوه منهم (عليه السلام) إلاّ في مجال الدربة والإعداد للاجتهاد في الحوادث.
أمّا اُصول المذهب وقواعده فالحمدلله هي من جذور الإسلام، تمتدّ بامتدادها ولا تبدأ بعصر دون آخر أو فترة دون اُخرى، وكان الإمام الصادق(عليه السلام)يقول لأصحابه: إذا نزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما رووا عنا فانظروا الى ما رووه عن علي(عليه السلام)فاعملوا به( [110] )
مؤمن الطّـاق محمد بن علي بن النعماننسبه وأقوال العلماء فيه محمد بن علي بن النعمان البجلي الكوفي( [111] )، أبو جعفر، مولاهم الأحول، الملقّب بمؤمن الطاق. وهو من أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)، ولقّبه خصومه - شيطان الطاق - ويقال: إنّ أول من لقبه شيطان الطاق أبو حنيفة، لمناظرة جرت بين مؤمن الطاق والخوارج، وكانت الغلبة له، وأبو حنيفة حاضر فلقّبه بذلك.
وهناك رأي آخر في سبب لقبه في قول: قال ابن أبي طي: إنّه نسب إلى سوق في طاق المحامل بالكوفة، كان يجلس للصرف بها، فيقال: إنّه اختصم مع آخر في درهم زيف فغلب. فقال أنا شيطان الطاق. والصحيح: أنّ هذه النسبة كانت من خصومه وأعدائه الذين تفوّق عليهم بالمناظرة، وأعجزهم عن المقابلة له، فالتجأوا إلى لغة الانتقاص كما يأتي.
ولمّا بلغ هشام بن الحكم ذلك لقّبه: مؤمن الطاق، فعرف بذلك بين الطائفة .
وذكره المرزباني في شعراء الشيعة وأورد من شعره ما رواه عمارة بن حمزة وذلك أنّ المنصور كان إذا ذكر مدح ابن قيس الرقيات المتوفى سنة(85هـ) لعبدالملك بن مروان تغيظ منه وشقّ عليه.
فقال عمارة: يا أمير فيكم رجل من أهل الكوفة أجود ممّا قال قيس. قال: ومن هو؟ قال: مؤمن الطاق وأنشده.
ووصفه المرزباني بقوله: أبو جعفر محمد بن علي بن النعمان، وإنما سمّي بالطاق، لأنه كان بطاق المحامل بالكوفة يعاني الصرف، وكان من الفصحاء البلغاء، ومن لا يطاول في النظر، والجدال في الإمامة، وكان حاضر الجواب. وذكر له عدّة مناظرات مطوّلة ومختصرة، وكانت له الغلبة فيها.
وقال ابن النديم في ترجمته: أبو جعفر محمد بن النعمان الأحول، نزل طاق المحامل بالكوفة، وتلقبه العامة بشيطان الطاق، والخاصة تعرفه بمؤمن الطاق، وشيعته - أي أصحابه - تسميه شاه الطاق أيضاً. وهو من أصحاب أبي عبد الله جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام). ولقد لقي زيد بن علي زين العابدين وناظره على إمامة أبي عبد الله، ولقي علي بن الحسين زين العابدين (عليهما السلام). وقيل: إنمّا سمي شيطان الطاق لأنّه كان يتصرف ويشهد الدنانير فلاحاه قوم في دينار جرّبوه وبهرجه هو، فأصاب وأخطأوا، وألزمهم الحجة، فقال: أنا شيطان الطاق. يعني طاق المحامل بالكوفة موضع دكانه، فلزمه هذا اللقب. وكان حسن الاعتقاد والهدي، حاذقاً في صناعة الكلام. سريع الخاطر والجواب. ثم ذكر مناظراته مع أبي حنيفة وستأتي( [113] ).
قال أبو خالد الكاملي: رأيت أبا جعفر صاحب الطاق وهو قاعد في الروضة، قد قطع أهل المدينة إزاره، وهو دائب يجيبهم ويسألونه، فدنوت منه وقلت: إنّ أبا عبد الله نهانا عن الكلام. فقال: أو أمرك أن تقول لي؟ فقلت: لا والله، ولكنه أمرني أن لا أكلّم أحداً. قال: فاذهب وأطعه فيما أمرك. فدخلت على أبي عبدالله(عليه السلام)فأخبرته بقصة صاحب الطاق، فتبسم أبو عبد الله (عليه السلام)وقال: يا أبا خالد، إنّ صاحب الطاق يكلّم الناس فيطير، وأنت إن قصّوك لن تطير( [114] )علمه ونبوغه
وكان محمد بن علي بن النعمان كثير العلم، متفوقاً في معارفه، قويّاً في حجته، تعددت فيه نواحي العبقرية والنبوغ. فهو عالم بالفقه، والكلام، والحديث، والشعر، وكان قويّ العارضة، سريع الجواب، واضح الحجة.
اشتغل بالتجارة وانتقل بين أكثر المدن الإسلامية، وعرف بتشيّعه وإخلاصه لأهل البيت(عليهم السلام)ولقي من عنَت خصومهم والمناوئين لهم ما نغص عليه عيشه، ولكن لم يحل ذلك بينه وبين الإعلان بمبدئه، والجهر في دعوته. وكان يتمتّع بشخصية فذّة، يعترف له الناس بالفضل والعلم، والنبوغ والتفوق .
وقد كان عصره يقضي على المفكرين - من أمثاله - بكبت الشعور وكمّ الأفواه، وتمويه الحقائق، ولكنّه لم يخضع لذلك الحكم الجائر، فهو لا يزال يدعو بالحق، ويعلن بفضل عليّ، ويظهر تمسكه بأبنائه.مناظراته واحتجاجه
كان مؤمن الطاق يمتاز بقدرة فائقة على الجدل، وقوّة في التفكير، ومهارة في الاستنباط. ويكاد المؤرخون يجمعون على تفوّقه، في سرعة الجواب وقوّة العارضة. وإذا أردنا استقصاء مناظراته فالأمر يستلزم الإطالة، ولكنّنا نكتفي بالبعض منها، وهي كثيرة مبعثرة في بطون الكتب.
1 - اجتمع قوم من الخوارج وقوم من الشيعة بالكوفة عند أبي نعيم النخعي، فقال أبو حدرة الخارجي: إنّ أبا بكر أفضل من عليّ وجميع الصحابة بأربع خصال: فهو ثان لرسول الله في بيته، وهو ثاني اثنين معه في الغار، وهو ثاني اثنين صلّى بالناس آخر صلاة قبض بعدها رسول الله، وهو ثاني صدّيق فيالاُمة.
فردّ عليه شيطان الطاق - على حدّ تعبير الدكتور أحمد امين - وقال: يا ابن أبي حدرة، أترك النبيّ (صلى الله عليه وآله) بيوته التي أضافها الله إليه، ونهى الناس عن دخولها إلا بإذنه، ميراثاً لأهله وولده؟ أو تركها صدقة على جميع المسلمين؟
فإن تركها ميراثاً لولده وأزواجه فقد ترك تسع زوجات، فليس لعائشة إلا نصيب إحداهن، أي لم يكن لها أن تدفن أبا بكر في بيته ونصيبها لايسمحبذلك.
وإن تركها ميراثاً لجميع المسلمين فإنّه لم يكن له نصيب من البيت إلاّ كما لكل رجل من المسلمين.
وأما قولك: إنّه ثاني اثنين إذ هما في الغار، فإنّ مكان عليّ في هذه الليلة على فراش النبي (صلى الله عليه وآله)، وبذل مهجته دونه أفضل من مكان صاحبك في الغار.
وأمّا قولك: في صلاته بالناس، فقد تقدّم ليصلي بالناس في مرض رسولالله(صلى الله عليه وآله)، فخرج النبيّ وتقدّم فصلى بالناس وعزله عنها، ولو كان قد صلى بأمره لما عزله من تلك الصلاة.
وأمّا تسميته بالصدّيق، فهو شيء سمّاه الناس. إلى آخر المناظرة( [115] ).
2 - عن أبي مالك الأحمسي قال: خرج الضحاك الشادي بالكوفة فحكم وتسمّى بإمرة المؤمنين، ودعا الناس إلى نفسه، فأتاه مؤمن الطاق، فلما رأته الشراة وثبوا في وجهه فقال لهم: جانح، فأتوا به صاحبهم، فقال له مؤمن الطاق: أنا رجل على بصيرة من ديني فأحببت الدخول معكم.
فقال الضحاك لأصحابه: إن دخل هذا معكم نفعكم. ثم أقبل مؤمن الطاق على الضحاك فقال: لم تبرأتم من علي بن أبي طالب، واستحللتم قتله وقتاله؟
قال الضحاك: لأنه حكم في دين الله.
قال مؤمن الطاق: وكل من حكم في دين الله استحللتم دمه وقتاله والبراءةمنه؟
قال: نعم .
قال: فأخبرني عن الدين الذي جئت اُناظرك عليه، لأدخل معك إن غلبت حجتي حجتك، أو حجتك حجتي، من يوقف المخطئ على خطئه ويحكم للمصيب بصوابه؟ فلا بدّ لنا من إنسان يحكم بيننا. فأشار الضحاك إلى رجل من أصحابه وقال: هذا الحكم بيننا، فهو عالم بالدين.
قال مؤمن الطاق: وقد حكمت هذا في الدين الذي جئت اُناظرك فيه؟
قال: نعم. فأقبل مؤمن الطاق على أصحاب الضحاك فقال: إنّ صاحبكم
قد حكم في دين الله فشأنكم به. فاختلف أصحابه وأسكتوه، وخرج مؤمن الطاق منتصراً( [116] ).
3 - كانت الخصومة بين مؤمن الطاق وأبي حنيفة شديدة جداً، لأنّا نرى كثرة المناظرة بينهما، وأهمّها في الإمامة والتفضيل، وبدون شك أنّ أبا حنيفة لم يكن معروفاً بعلم الكلام، وليس له قوة على مقابلة من تفوّق به. وإنّ مؤمن الطاق كان معروفاً بعلم الكلام وقوّة الحجة، وسرعة الجواب، وشدّة العارضة. فهو دائماً يتفوق في مناظراته، ويسمو في حجته.
قال ابن حجر: وقعت له - أي لمؤمن الطاق - مناظرة مع أبي حنيفة في شيء يتعلق بفضائل علي، فقال أبو حنيفة كالمنكر عليه: عمّن رويت حديث ردّ الشمس لعلي؟
فقال مؤمن الطاق: عمّن رويت أنت عنه يا سارية الجبل.( [117] )
وقال أبو حنيفة له يوماً: ما تقول في المتعة؟ قال: حلال. قال أبو حنيفة: أيسرّك أن تكون بناتك وأخواتك يُمتع بهنّ؟
قال مؤمن الطاق: شيء أحلّه الله، ولكن ما تقول أنت في النبيذ؟ قال: حلال.قال مؤمن الطاق: أيسرّك أن تكون بناتك وأخواتك نباذات هن؟( [118] )
ولما مات الإمام الصادق (عليه السلام) قال له أبو حنيفة: قد مات إمامك. قال: لكن إمامك من المنظرين. أولا يموت إلى يوم القيامة.( [119] )
وفي لفظ الخطيب البغدادي: لما مات جعفر بن محمد، إلتقى هو - أي مؤمن الطاق - وأبو حنيفة. فقال له أبو حنيفة: أمّا إمامك فقد مات، فقال شيطان الطاق: أمّا إمامك فمن المنظرين الى يوم الوقت المعلوم( [120] ).
وقال الخطيب : كان أبو حنيفة يتّهم شيطان الطاق بالرجعة، وكان شيطانالطاق يتّهم أبا حنيفة بالتناسخ. فخرج أبو حنيفة يوماً الى السوق فاستقبله شيطان الطاق ومعه ثوب يريد بيعه، فقال له أبو حنيفة: أتبيع هذا الثوب الى رجوع علي؟ فقال إن أعطيتني كفيلاً أن لا تمسخ قرداً بعتك. فبهت أبوحنيفة( [121] ).
وله معه مناظرة في إبطال الطلاق الثلاث ( [122] ).
وقد ألّف مؤمن الطاق كتاباً في مناظراته مع أبي حنيفة، ولم نذكر هنا شيئاً من تلك المناظرات الكثيرة معه، واقتصرنا منها على هذا القدر القليل. ولم يكن من رأيي التعرض لأمثال هذه المناظرات، التي جرت بين مؤمن الطاق وأبي حنيفة، ولكني وقفت على بعض كتب الحنفية - التي دوّنت في مناقب إمامهم - فوجدتهم يذكرونها بصورة معكوسة، فأحببت أن اُنبّه على هذا الخطأ، لأنّ الذين ذكروا هذه المناظرات - على وجهها الصحيح - كانوا أقدم من هؤلاء المحرّفين.
فهذا ابن النديم وهو من علماء القرن الرابع، اذ كانت وفاته سنة (385 هـ) قد ذكرها في الفهرست. أمّا الذين نقلوها على العكس فهم المتأخّرون، كابن البزاز الكردري المتوفى سنة (627 هـ). والخوارزمي المتوفى سنة (568 هـ). وكذلك الخطيب البغدادي المتوفى سنة (463 هـ) ذكرها في تاريخه. ذكرها بصورتها الواقعية ولكن الحنفية جعلوا الغالب هو المغلوب، وهذا شأن كتّاب المناقب في كثير من القضايا، والمتتبع يقف على اُمور من التحريف والتحوير تبعث على العجب والاستغراب.مؤلفاته
وكيف كان فإنّ مؤمن الطاق من فرسان حلبة علم الكلام، ومن أبطال الرجال الذين حملوا رسالة التشيع فتحمّلوا الأذى في جنب الله، ووقف مواقفَ مشرفة في الدفاع عن آل محمد (صلى الله عليه وآله). كما أنّه ألّف كتباً قيّمة في شتى المواضيع الهامّة، وقد ذكر منها الشيخ الطوسي ( [123] ) وابن النديم ( [124] ) الكتب الآتية :
1 ـ كتاب الإمامة .
2 - كتاب المعرفة.
3 - كتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول.
4 - كتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة.
5 - كتاب إثبات الوصية.
6 - كتاب افعل، لا تفعل .
وله كتاب المناظرة مع أبي حنيفة.وصية الإمام الصادق (عليه السلام) له
للإمام الصادق (عليه السلام) عدّة وصايا يوصي بها أصحابه بما ينفعهم في الدنيا والآخرة، وقد ذكرنا جملة منها في الجزء الثاني ، ونقتطف هنا فصولاً من وصيّته لمؤمن الطاق.
قال (عليه السلام): يا ابن النعمان، إيّاك والمراء فإنّه يحبط عملك، وإيّاك والجدال فإنّه يوبقك، وإياك وكثرة الخصومات، فإنّها تبعدك من الله .إنّ من كان قبلكم يتعلّمون الصمت، وأنتم
تتعلّمون الكلام. كان أحدهم إذا أراد التعبد يتعلّم الصمت قبل ذلك.إنما ينجو من أطال الصمت عن الفحشاء، وصبر في دولة الباطل على الأذى، أولئك النجباء الأصفياء الأولياء حقّاً، وهم المؤمنون. إنّ أبغضكم إليّ المترئسون المشاؤون بالنمائم، الحسدة لإخوانهم، ليسوا منّي ولا أنا منهم، إنّما أوليائي الذين سلّموا لأمرنا، واتّبعوا آثارنا.يا ابن النعمان، إنّا أهل بيت لا يزال الشيطانُ يدخل فينا من ليس منا ولا من أهل ديننا، فإذا رفعه ونظر إليه الناس أمره الشيطان فيكذب علينا، وكلّما ذهب واحد جاء آخر.يا ابن النعمان، إن أردت أن يصفو لك ودُّ أخيك فلا تمازحنّه، ولا تمارينّه ولا تباهينّه. ولا تطلع صديقك من سرّك إلاّ على ما لو اطلع عليه عدوّك لم يضرّك، فإنّ الصديق قد يكون عدوّك يوماً.يا ابن النعمان، ليست البلاغة بحدّة اللسان، ولا بكثرة الهذيان، ولكنها إصابة المعنى وقصد الحجة.يا ابن النعمان، لا تطلب العلم لثلاث: لترائي به، ولا لتباهي به، ولا لتماري. ولا تدعه لثلاث: رغبةً في الجهل وزهادةً في العلم، واستحياءً من الناس.( [125] )آراء ومناقشات
زعم المتقوّلون على مؤمن الطاق: أنّه كان من المشبّهة، وتنسب إليه فرقة يقال لهم شيطانية من مذهبهم التشبيه. وأنّه كان يقول: إنّ الله تعالى إنما يعلم الأشياء إذا قدّرها، والتقدير عنده الإرادة، وللإرادة فعل( [126] ) وأنّه كان يذهب إلى أنّ الإله على صورة الإنسان ولا يسمّيه جسماً ( [127] ) إلى غير ذلك من الأقوال التي نطق بها من لا يبالي بمؤاخذة ولا يدري ما يقول.
إنّها لعمر الله فرية، وتقوّل بالباطل، ونحن لا نستغرب اتّهام مؤمن الطاق بما يخالف عقيدته، لأنّه كان حرباً على ذوي الآراء الفاسدة. وقد اُعطي نصيباً وافراً من قوّة العارضة وسرعة الجواب، فكان يقيم الدليل على خصمه، ويرغمه على الاعتراف بالخطأ.
ومن الواضح أنّ تلك المناقشات التي كانت تدور في أندية الكوفة كان أكثرها يهدف إلى تشويش الأفكار، والتلاعب بالعقول، لوجود طائفة من الدخلاء كان غرضهم ذلك.
وكان مؤمن الطاق وبقية خواصّ الأئمة قد بذلوا جهدهم في مقاومة أولئك الخصوم، الذين يريدون الفتك بالإسلام وأهله، فكان أهون شيء عليهم أن ينسبوا لأولئك الصفوة ما يخالف عقائدهم، والظروف تساعدهم على ذلك عندما أطلق الباطل من عقاله، فدفع صاحبه الى اتّهام البريء وبراءة المتهم.
ويكفينا في براءته وعلوّ منزلته وحسن عقيدته، ماورد في مدحه والثناء عليه عن أئمّة الهدى. وقد كان من أحبّ الناس إلى الإمام الصادق(عليه السلام). فقد صحّ عنه(عليه السلام)أنه كان يقول: أربعة أحبّ الناس إليّ أحياءً وأمواتاً: بريد بن معاوية العجلي، وزرارة بن أعين، ومحمد بن مسلم، وأبو جعفر الأحول ( [128] )
فلا تضرّه تهجّمات اُولئك القوم الذين ألقوا مقاليد اُمورهم للعاطفة، فاتّهموه بما هو بريء منه، ورموه بما لا يليق بشأنه.
(وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً)( [129] )
هشام بن الحكميا هشام ما زلت مؤيّداً بروح القدس الإمام الصادق (عليه السلام)رحم الله هشاماً كان عبداً ناصحاً الإمام الرضا(عليه السلام)
لسان هشام أوقع في نفوس الناس من ألف سيف هارون الرشيدنسبه ونشأته وأقوال العلماء فيه
هشام بن الحكم الكندي أبو محمد البغدادي المتوفى سنة (197 هـ) ( [130] ).
كانت نشأته بالكوفة وواسط، ويدخل بغداد للتّجارة، ولكنّه استقام بها بعد مدّة من الزمن، ونزل قصر وضاح بالكرخ من مدينة السلام، وله دار بواسط. وكان يتجوّل للتجارة ينتقل من بلد إلى آخر وهو يرشد الناس ويدافع عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام)ويناظر الملحدين فيفحمهم، ورجع الكثيرون الى التوحيد تسليماً لقوّة الحجّة وخضوعاً للحقّ، وهو من تلامذة الإمام الصادق(عليه السلام)، ومن خواص ولده موسى الكاظم (عليه السلام).
نشأ هشام بن الحكم بالكوفة، وكانت الكوفة مصطرعاً للآراء، وموطناً لاختلاف المذاهب التي استوطنتها، وقوي بها انتشار علم الكلام، وازدهرت أرجاؤها بحلقات العلم ورجال الفكر، فكانت هناك خصومات وجدل ونزاع بين أصحاب المذاهب المختلفة، والآراء المتفرّقة والفرق المتعددة. وقد اتّخذ كلّ فريق علم الكلام وسيلة للانتصار على خصمه، ووسيلة لتأييد رأيه وتصحيح مذهبه.
وكان هشام بن الحكم من أبرز شخصيات ذلك العصر، يمتاز بقوّة شخصيته التي جعلته مطمحاً لأنظار علماء عصره، لتفوّقه ومهارته وشدّة خصومته، وقوة حجته، ويصف ابن النديم هشاماً بقوله:
هشام بن الحكم من متكلمي الشيعة، ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذّب المذهب والنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام، حاضر الجواب، سئل هشام عن معاوية، أشهد بدراً؟ قال: نعم، من ذاك الجانب - أي من جانب المشركين -.
ويقول الشهرستاني: هشام بن الحكم صاحب غور( [131] ) في الاُصول لا يجوز أن يغفل عن الزاماته على المعتزلة، فإنّ الرجل وراء ما يلزمه الخصم، ودون ما يظهره من التشبيه.
وقال الزركلي: هشام بن الحكم فقيه، متكلّم، مناظر، من أكابر الإمامية، ولد بالكوفة. فانقطع الى يحيى بن خالد، فكان القيم بمجالس كلامه( [132] ).
ويقول الدكتور أحمد أمين: أما هشام بن الحكم فيظهر أنّه أكبر شخصية شيعية في علم الكلام، وكان من تلاميذ جعفر الصادق (عليه السلام) وكان جدلاً قويّ الحجّة، ناظر المعتزلة وناظروه، ونقلت في كتب الأدب له مناظرات كثيرة، دلّ على حضور بديهته وقوة حجته، الى أن يقول : والجاحظ يشتدّ عليه في المناقشة ويغضب في نقده. وستأتي بقية الأقوال فيه( [133] ).صلته بالإمام الصادق (عليه السلام)
اتّصل هشام بمدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) وأصبح من أبرز رجالها في الحكمة والدراية، والعرفان، والفقه، والحديث. ويقال: إنّه كان قبل اتّصاله بالإمام يذهب إلى رأي جهم بن صفوان ( [134] )، ولكنّه تركه عندما اجتمع بالإمام الصادق(عليه السلام) في مدينة الوحي، وقد اكتظّ المجلس بوفود الأمصار وطلاب العلم، فرأى من هيبة الإمام وروحانيته، وسمع ما طرق سمعه من أجوبته لسائليه، وحسن بيانه وعذوبة ألفاظه، ما أفقده الاعتزاز بنفسه، وعرف عجزه عن مقابلته في مسائله.
وكان الإمام الصادق(عليه السلام) قد عرف هشاماً وسمع به من قبل، فاتّجه إليه ليوجّهه إلى الحقّ، ويرشده الى الهدى، فألقى إليه سؤالاً بما كان قد اختصّ هشام به، فلم يستطع الجواب عنه، وعرف الحقّ فاتبعه والحقّ أحقّ أنيتبع.
وانقطع إلى الإمام الصادق(عليه السلام) فأصبح من خواصّه، ومن أبرز رجال مدرسته، فكان من أشهر رجال العلم، ومن أبطال الفلسفة، يمثّل في مواقفه البطولة والجرأة الأدبية، يسير مع الحقّ أينما سارت ركائبه. وفاز بالتفوّق على مناوئيه بواضح الحجة، وساطع البرهان، واستجاب الله دعوة الإمام الصادق(عليه السلام)فيه: ياهشام ما زلت مؤيّداً بروح القدس( [135] )
كان هشام شديد الإخلاص، قويّ الإيمان، راسخ العقيدة، يدافع عن مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، ويتشدّد في مناقشته للخلافات المذهبية، وتفنيد آراء المتكلّمين من سائر الفرق الإسلامية الذين تأثّروا بانتقال الفلسفة اليونانية. وكان يخرج منتصراً في جميع مواقفه، لما عُرف فيه من قوّة الحجّة وسعة التفكير، وبذلك أصبح في خطر من قبل الدولة - كما هو شأن المفكرين وأهل الآراء الحرة من أمثاله - وقد عرف هشام بشدّة مناظرته في الإمامة، وانتصاره للعلويين، وهم خصوم الدولة وأهل الحقّ الشرعي.
وقد خشي الرشيد من اتّساع نشاط هشام، وتفوّقه على أكثر المفكرين من رجال عصره. فحاول الفتك به والقضاء عليه.
ولكن يحيى بن خالد البرمكي كان يدافع عن هشام، ويلطّف الجو، لأنه كان مختصاً به، حتى تغيّر قلبه على هشام لأسباب هناك، فأعرض عن دفاعه. وجرى بحث الإمامة في مجلس البرمكي، والرشيد يسمع من وراء الستر، فاشتدّت المناظرة وكانت الغلبة لهشام، فغضب الرشيد وقال: إنّ لسان هشام أوقع في نفوس الناس من ألف سيف.( [136] ) ولكنّ الرشيد بما عُرف عنه من عداء لأهلبيت النبوّة ومقاومته لآثارهم، يرى في هشام مبتدعاً.
روي أنّ ملك الصفد كتب الى الرشيد يسأله أن يبعث إليه من يعلّمه الدين، فدعا يحيى بن خالد فعرض عليه الكتاب، فقال يحيى: لا يقوم بذاك إلاّ رجلان ببابك: هشام بن الحكم، وضرار ]بن عمرو من شيوخ المعتزلة[ فقال: كلاّ، إنهما مبتدعان فيلقنان القوم ما يفسدهم ويغويهم بالمسلمين، ليس لذلك إلاّ أصحابالحديث( [137] ).
وكان هشام قد احتلّ منزلة في حركة مدرسة الإمام الصادق الفكرية، وعمل بتوجيهات الإمام الصادق الى جانب تلامذة الإمام الآخرين ممّن مهروا في الكلام واختصوا بأفانين الجدل في عصر ساد الأوساط ما يشبه الموجة التي تكاد يعتورها نفس الأفكار لولا تلقّي رجال الاُمة لها بالتصدّي للتخفيف منها والتحكم في شططها وانحرافها حتى تنساب برقّة وتصبّ في مجرى العقيدة بلا شوائب وأكدار. وقد عزم الإمام الصادق على انتشال هشام بن الحكم من مؤثرات ذلك العصر ثم هداه الله الى ما يريده من الإمام، وأصبحت له مكانة في النشاط الديني والفكري واحتلّ منزلة خاصة في نفس الإمام الصادق.
يروي يونس بن يعقوب قال: كنت عند أبي عبدالله(عليه السلام) فورد عليه رجل من أهل الشام فقال: إنّي رجل صاحب كلام وفقه وفرايض وقد جئت لمناظرة أصحابك، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): كلامك هذا من كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) أو من عندك؟ فقال: من كلام رسول الله(صلى الله عليه وآله) بعضه ومن عندي بعضه. فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): فأنت إذن شريك رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا. قال: فسمعت الوحي عن الله؟ قال: لا. قال: فتجب طاعتك ما تجب طاعة رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟ قال: لا. قال: فالتفت أبو عبدالله(عليه السلام) اليَّ فقال: يا يونس بن يعقوب هذا قد خصم نفسه قبل أن يتكلم، ثم قال: يا يونس، لو كنت تحسن الكلام كلمته قال يونس: فيا لها من حسرة، فقلت: جعلت فداك، سمعتك تنهى عن الكلام وتقول: ويل لأصحاب الكلام يقولون هذا ينقاد و هذا لا ينقاد، وهذا ينساق وهذا لا ينساق، وهذا نعقله وهذا لا نعقله؟ فقال أبوعبدالله(عليه السلام): إنما قلت: ويل لقوم تركوا قولي وذهبوا الى ما يريدون( [138] )
ثم تأتي رواية ابن يعقوب لتبين عظيم المكانة التي عليها هشام فيقول: الإمام الصادق والمذاهب الأربعة / ج3
أخرج أبو عبدالله(عليه السلام) رأسه من الخيمة فإذا هو ببعير يخبّ، فقال: هشام وربّ الكعبة. فظننا أنّ هشاماً من ولد عقيل كان شديد المحبّة لأبي عبدالله(عليه السلام)، فإذا هشام بن الحكم قد ورد وهو أول ما اختطّت لحيته وليس فينا إلاّ من هو أكبر سنّاً منه، قال: فوسّع له أبوعبدالله(عليه السلام) وقال: ناصرنا بقلبه ولسانه ويده ثم قال لحمران بن أعين: كلّم الرجل الشامي فكلّمه حمران فظهر عليه، ثم كلّمه الآخرون ممن حضر مجلس الإمام... يقول ابن يعقوب: ثم قال للشافعي: كلّم هذا الغلام يعني هشامبن الحكم، فقال: نعم، ثم قال الشامي لهشام: يا غلام سلني في إمامة هذا، يعني أبا عبدالله(عليه السلام) فغضب هشام حتى ارتعد، ثم قال له: أخبرني يا هذا، أربّك أنظر لخلقه أم هم لأنفسهم؟ فقال الشامي: بل ربي أنظر لخلقه. قال: ففعل بنظره لهم في دينهم ماذا؟ قال: كلّفهم وأقام لهم حجة ودليلاً على ما كلّفهم، وأزاح في ذلك عللهم. فقال له هشام: فما هذا الدليل الذي نصب لهم؟ قال الشامي: هو رسول الله(صلى الله عليه وآله). قال له هشام: فبعد رسول الله مَن؟ قال: الكتاب والسنّة، قال له هشام: فهل ينفعنا اليوم الكتاب والسنّة فيما اختلفنا فيه حتى يرفع عنا الاختلاف ومكّنا من الاتفاق؟ قال الشامي: نعم. قال له هشام: فَلِمَ اختلفنا نحن وأنت وجئتنا من الشام تخالفنا وتزعم أنّ الرأي طريق الدين، وأنت تقرّ بأنّ الرأي لا يجمع على القول الواحد المختلفين؟ فسكت الشامي كالمفكّر، فقال له أبو عبدالله(عليه السلام): مالك لا تتكلم؟ قال: إن قلت أنا ما اختلفنا كابرت، وإن قلت إن الكتاب والسنّة يرفعان عنّا الاختلاف أبطلت، لأنهما يحتملان الوجوه.. ثم يقوم الشامي بسؤال هشام، ويجيب هشام حتى يخرج الشامي من مجلس الإمام وهو على الهدى. الإمام الصّادق أصحابه وحَمَلة فقهه عصره
كان عصر هشام من أزهر العصور في الكلام بجميع اُصوله، لكثرة الفرق. وجعل هاتيك الاُصول الكلامية مبتنية على القواعد المنطقية. وكانت الرغبة ملحة في النظر والجدل، فكانت المجالس تعقد للمناظرة، وتشدّ الرحال للمدارسة والاحتجاج، ولا سيّما في الإمامة، لأنّها الأصل الذي يصحّح للخليفة - بالشكل المعهود - أن يستولي به على العباد والبلاد باسم الشريعة، ويصحّح له أن يكون وليّ الأمر الذي تجب طاعته على الاُمة، أو يمنعه عن التصرّف في مقدرات البلاد، والقبض على رقاب العباد، ويأبى له من أن يكون الحجة من الخالق إلى المخلوق.
فالملوك من بنياُمية وبني العباس وقفوا سدّاً دون سيل الكلام في الإمامة لئلاّ يشيع رأي الشيعة فيها، وألجموا الأفواه، وحجروا العقول ومنعوا حرّية القول، وساروا بالناس سيرة إرهاب وتهديد.
فكان هشام بن الحكم واسطة القلادة في تلك الأندية، يساجل في كلّ أصل، فإن انتهت الخصومة إلى الإمامة، أدلى بحجّته، مصرّحاً إن أمن من العقاب، وملوّحاً إن خاف النكال .
لأنّ إثبات الإمامة في الأئمة الاثني عشر هدم لصروح إمامة الأوائل، وثلٌ لعروش الأواخر ( [139] ). وكان لمجلس يحيى البرمكي الذي يعقد في بغداد للمناظرة أثر كبير في تنوير العقول، ولا يعقد ذلك المجلس إلاّ تحت إشراف هشام ورئاسته. ومن الحقّ أن نقول: إنّ هشاماً كان من مفاخر الاُمة الإسلامية فقد جنّد نفسه لخدمة الحقّ، ونشر مبادئ الإسلام، وقد تصدّى للرد على أعداء الدين، ورفع الغشاوة من بعض العقول التي قد ركبها الشطط، وغلبها الغرور.
سأل ضرار هشام بن الحكم عن الدليل على الإمام بعد النبيّ(صلى الله عليه وآله)، فقال هشام: الدلالة عليه ثمان دلالات: أربع منها في نعت نسبه، وأربع منها في نعت نفسه. أما الأربع التي في نعت نسبه: فأن يكون معروف القبيلة، معروف الجنس، معروف النسب، معروف البيت وذلك أنه إذا لم يكن معروف القبيلة، معروف الجنس، معروف النسب، معروف البيت جاز أن يكون من أطراف الأرض وفي كلّ جنس من الناس، فلمّا لم يجز أن يكون الدليل إلاّ في أشهر الأجناس، ولما لم يجز أن يكون إلاّ في هذا الجنس لشهرته; لم يجز أن يكون إلاّ هكذا، ولم نجد جنساً في العالم أشهر من جنس محمد(صلى الله عليه وآله) وهو جنس العرب الذي منه صاحب الملّة والدعوة الذي ينادى باسمه في كلّ يوم وليلة خمس مرّات على الصوامع والمساجد في جميع الأماكن: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّداً رسول الله، ووصل دعوته الى كلّ بر وفاجر من عالم وجاهل معروف غير منكر في كلّ يوم وليلة، فلم يجز إلاّ أن يكون في هذه القبيلة التي فيها صاحب الدعوة لاتصالها بالملّة، لم يجز أن يكون إلاّ في هذا البيت الذي هو بيت النبي لقرب نسبه من النبيّ(صلى الله عليه وآله)إشارة إليه دون غيره من أهل بيته، ثم إن لم يكن إشارة إليه اشترك أهل هذا البيت، وادعيت فيه، فإذا وقعت الدعوة فيه وقع الاختلاف والفساد بينهم، ولا يجوز أن يكون إلاّ من النبي(صلى الله عليه وآله) إشارة الى رجل من أهل بيته دون غيره، لئلاّ يختلف فيه أهل هذا البيت أنّه أفضلهم وأعلمهم وأصلحهم لذلك الأمر.
وأمّا الأربع التي في نعت نفسه: فأن يكون أعلم الخلق، وأسخى الخلق، وأشجع الخلق، وأعفَّ الخلق وأعصمهم من الذنوب صغيرها وكبيرها، لم تصبه فترة ولا جاهلية، ولابدّ من أن يكون في كلّ زمان قائم بهذه الصفة الى أن تقوم الساعة. فقال عبدالله بن يزيد الأباضي ـ وكان حاضراً ـ : من أين زعمت يا هشام أنّه لابد أن يكون أعلم الخلق؟ قال: إن لم يكن عالماً لم يؤمن أن تنقلب شرائعه وأحكامه، فيقطع من يجب عليه الحدّ، ويحدّ من يجب عليه القطع، وتصديق ذلك قول الله عزّ وجل: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّيَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)( [140] ). قال: فمن أين زعمت أنّه لابدّ أن يكون معصوماً من جميع الذنوب؟ قال: إن لم يكن معصوماً لم يؤمن أن يدخل فيما دخل فيه غيره من الذنوب، فيحتاج الى من يقيم عليه الحدّ كما يقيمه على غيره، وإذا دخل في الذنوب لم يؤمن أن يكتم على جاره وحبيبه وقريبه وصديقه، وتصديق ذلك قول الله عزّ وجل: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَيَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)( [141] ). قال له: فمن أين زعمت أنّه لا بدّ أن يكون أشجع الخلق؟ قال: لأنّه قيّمهم الذي يرجعون إليه في الحرب، فإن هرب فقد باء بغضب من الله ولا يجوز أن يبوء الإمام بغضب من الله، وذلك قوله عزّ وجل: (إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الاَْدْبَارَ)( [142] ). قال: فمن أين زعمت أنّه لابدّ أن يكون أسخى الخلق؟ قال: لأنّه إن لم يكن سخيّاً لم يصلح للإمامة، لحاجة الناس الى نواله وفضله والقسمة بينهم بالسوية، وليجعل الحقّ في موضعه; لأنّه إذا كان سخيّاً لم تتقّ نفسه الى أخذ شيء من حقوق الناس والمسلمين، ولا يفضّل نصيبه في القسمة على أحد من رعيّته، وقد قلنا إنّه معصوم، فإذا لم يكن أشجع الخلق وأعلم الخلق وأعفَّ الخلق لم يجز أن يكونإماماً( [143] ).
ولما كان هشام قد عُرف بالتفوّق، وقوّة الحجة، وسرعة الجواب،
واتقاد الذهن; فقد أصبح ذكره حديث الأندية، وقد تحامل عليه
خصومه فنسبوه إلى ما لا يليق بشأنه، ولا يتّسق مع اعتقاده، لأنّ الرأي
العام في ذلك العهد من أنصار الخلافة المعهودة، ولا تصغي العامة للحجج
إذا خالفت الرغبة; فتوجّهوا إليه بتلك الطعون الشائنة، والتي لا تمت بشيء من الحقيقة، كما سنوافيك بجملة منها.شيوخه وتلامذته
أخذ هشام علم الفقه، والحديث والتفسير، وغيرها عن الإمام الصادق (عليه السلام)، وكان ملازماً له منذ نشأته، وروى عنه أحاديث كثيرة في مختلف الأحكام.
وكان الإمام الصادق (عليه السلام) يكرمه ويرفع من مقامه، وله أصل يرويه الشيخ الطوسي عن جماعة من الأصحاب.
ولما انتقل الإمام الصادق (عليه السلام) إلى جوار ربه، أصبح هشام من خواص الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، وروى الحديث وأخذ عنه علماً كثيراً.
أمّا تلامذته: فخلق كثير، توجد رواياتهم عنه في كتب الفقه والحديث، منهم: النضر بن سويد الصيرفي الكوفي من تلامذة الإمام الكاظم (عليه السلام)، وكان من الثقات المشهورين بالعدالة وصحّة الحديث.
ونشيط بن صالح العجلي مولاهم الكوفي، عدّه الشيخ في رجاله من تلامذة الصادق والكاظم (عليهما السلام) .
ويونس بن عبد الرحمن مولى آل يقطين، كان من أصحاب الكاظم والرضا. وله مؤلّفات كثيرة، وكان ثقة عظيم المنزلة.
وغيرهم ممّا لا يتّسع المجال لذكرهم.( [144] )مؤلفاته
كانت لهشام بن الحكم مؤلّفات في شتى العلوم، ذكر منها ابن النديم :
1 - كتاب الإمامة.
2 - كتاب الدلالات على حدوث الأشياء.
3 - كتاب الرد على الزنادقة.
4 - كتاب الرد على أصحاب الإثنين.
5 - كتاب الرد على هشام الجواليقي.
6 - كتاب الرد على أصحاب الطبائع.
7 - كتاب الشيخ والغلام.
8 - كتاب التدبير.
9 - كتاب الميزان .
10 - كتاب الرد على من قال بإمامة المفضول.
11 - كتاب اختلاف الناس في الإمامة.
12 - كتاب الوصية والرد على من أنكرها.
13 - كتاب في الجبر والقدر.
14 - كتاب الحكمين.
15 - كتاب الرد على المعتزلة في طلحة والزبير.
16 - كتاب القدر.
17 - كتاب الألفاظ.أجوبته ومناظراته
نشأ هشام تحت ظلال مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، وتغذّى منها تعاليمه القيّمة، وثقافته العالية. وامتاز بقوّة شخصيّته التي جعلته محطّاً لأنظار علماء عصره، وقد تجرّد لنصرة مذهب أهل البيت(عليهم السلام)، وناضل في الدفاع عنهم، ولم تقعد به ملاقاة عنت أو تكبد أذىً. وكان يقصده الكثير من علماء عصره الذين عُرفوا بقوة المناظرة ليناظروه ويحاجّوه في مختلف العلوم. وكان هو كذلك يتعرّض لمناظرتهم ويقصد علماء الأمصار ورؤساء الحلقات العلمية للمناظرة، طلباً لإظهار الحقّ ودفعاً للباطل.
ونظراً لما كان يمتاز به هشام من قوة العارضة، وغزارة العلم، وسرعة الجواب; فقد ترأس مجلس المناظرة الذي كان يعقده يحيى بن خالد البرمكي مساء كل جمعة ببغداد، وهو يضمّ جميع علماء الفرق، ورؤساء الأديان، وأهل الآراء، فكانوا لا يخوضون في مسألة حتى يحضر هشام فيكون قوله الفصل، وحكمه العدل. وكان الرشيد يحضر ذلك المجلس من وراء الستار - في بعض الأوقات - يستمع لتلك المناظرات ويصغي لتلك الأقوال. وأراد بعضهم أن يوقع الشرّ في قلب الرشيد على هشام، فألقى إليه سؤالا في قضية مخاصمة العباس لعلي (عليه السلام) في ميراث النبي (صلى الله عليه وآله)، وهو لا يعلم بمكان الرشيد.
قال السائل: يا أبا محمد - وهي كنية هشام - أما علمت أنّ علياً نازع العباس إلى أبي بكر؟
قال هشام: نعم .
قال السائل: فأيّهما كان الظالم لصاحبه؟ فتوقّف هشام وقال في نفسه: إن قلت العباس خفت الرشيد، وإن قلت: عليّاً ناقضت قولي وعقيدتي.
ثم قال هشام: لم يكن فيهما ظالم.
فقال السائل: أفيختصم إثنان في أمر وهما محقّان جميعاً؟
قال هشام: نعم، اختصم الملكان إلى داود وليس فيهما ظالم، وإنّما أرادا أن ينبّهاه. كذلك اختصم هذان إلى أبي بكر ليعلماه ظلمه. فأمسك الرجل( [145] ) ووقع الجواب عند الرشيد موقع القبول ومال قلبه لهشام.
وله كثير من أمثال هذا من الأجوبة المسكتة، والكلمات التي كان يتفوق بها على خصومه. قال ابن النديم بعد وصفه بقوة الحجة وسعة التفكير، وكان هشام يقول: ما رأيت مثل مخالفينا; عمدوا إلى من ولاّه الله من سمائه فعزلوه - يعني علياً - وإلى من عزله الله من سمائه فولوه - يعني أبا بكر - . ويذكر قصة مبلغ سورة براءة، ومرد أبي بكر، وإيراد علي (عليه السلام) بعد نزول جبرائيل (عليه السلام) قائلاً لرسول الله (صلى الله عليه وآله): لا يؤدّيها عنك إلا أنت أو رجل منك. فرد أبا بكر وأنفذ علياً(عليه السلام) .( [146] )
وعلى أيّ حال فإنّ لهشام بن الحكم أجوبة ومناظرات قد احتفظ التاريخ ببعضها، وهي خير شاهد لقوة شخصيته في شتّى العلوم.
ولا يسعنا الآن بسط القول فيها، بل نذكر نموذجاً منها، وإليك ثبتاً فيبعضها:
1 - مناظرته مع الإباضية.
2 - مناظرته مع أحد البراهمة.
3 - مناظرته في ضرورة احتياج الناس إلى الحجة.
4 - مناظرته مع جماعة من أهل الشام في مجالس متفرقة في اُمور شتى.
5 - مناظرته في بيان أحقيّة علي بالخلافة دون غيره.
6 - مناظرته في أفضلية علي (عليه السلام) على جميع الاُمّة وتفنيد الاستدلال بآية (ثاني اثنين).
7 - مناظرته في إثبات وجوب الموالاة لعلي (عليه السلام)
8 - مناظرته في لزوم طاعة الإمام الحق.
9 - مناظرته مع أبي شاكر الديصاني.
10 - مناظرته مع الجاثليق.
11 - مناظرته في نفي الجهة وعدم الاثنينية.
12 - مناظرته مع ابن أبي العوجاء.
13 - مناظرته مع أبي حنيفة في عدّة مواطن.
14 - مناظرته مع إبراهيم بن يسار المعتزلي.
15 - مناظرته مع أبي الهذيل العلاف.
وغير ذلك كثير متفرق في الكتب التاريخية والأدبية.نموذج من مناظراته
تصدّى هشام لمناظرة أهل الكلام، والرد على الملحدين والزنادقة، ويكاد المؤرّخون يجمعون على تفوّقه في المناظرة وسرعة الجواب وقوة العارضة، وإليك نموذجاً من مناظراته :
1 - جاء إليه رجل ملحد فقال له: يا هشام أنا أقول بالإثنين وقد عرفت إنصافك ولست أخاف مشاغبتك.
فقال هشام - وهو مشغول بثوب ينشره - وقال: حفظك الله هل يقدر أحدهما أن يخلق شيئاً لايستعين بصاحبه عليه؟
قال: نعم .
قال هشام: فما ترجو من إثنين؟ واحد خلق كلّ شيء، أصحّ لك.
فقال الرجل: لم يكلّمني أحد بهذا قبلك.
2 - ودخل المؤبذ على هشام بن الحكم فقال له: يا هشام، حول الدنيا شيء؟
قال: لا
قال المؤبذ: فإن أخرجت يدي منها ثم شيء يردها؟
قال هشام: ليس ثم شيء يردّك ولا شيء تخرج يدك فيه.
قال: فكيف أعرف هذا؟
قال هشام: يا مؤبذ، أنا وأنت على طرف الدنيا فقلت لك: يا مؤبذ، إني لا أرى شيئاً.
فقلت لي: ولم لاترى؟ فقلت لك: ليس ها هنا ظلام يمنعني.
قلت لي: يا هشام، إنّي لا أرى شيئاً. فقلت لك: ولم لاترى؟
قلت: ليس ضياءً أنظر فيه.
فهل تكافأت الملتان في التناقض؟
قال: نعم. قال هشام: فإن تكافأتا في التناقض لم تتكافآ في الإبطال أن ليس شيء. فأشار المؤبذ بيده: أن أصبت.
وعاد إليه المؤبذ فقال: هما في القوّة سواء. قال : فجوهرهما واحد؟
فقال المؤبذ لنفسه - ومن حضر يسمع -: إن قلت: إن جوهرهما واحد عادا في نعت واحد، وإن قلت: مختلف اختلفا أيضاً في الهمم والارادات ولم يتفقا في الخلق، فإن أراد هذا قصيراً أراد هذا طويلاً.. ولما عجز عن الجواب التفت إليه هشام فقال: كيف لا تسلم قال: هيهات !( [147] ).3 - قال هشام لأبي الهذيل ( [148] ): إذا زعمت أن الحركة تُرى فلِم لا زعمت أنها تُلمس؟
قال: لأنّها ليست بجسم فيلمس، لأنّ اللمس إنّما يقع على الأجسام.
فقال له هشام: فقل إنّها لا تُرى لأنّ الرؤية إنما تقع على الأجسام.
فرجع أبو الهذيل سائلاً: من أين قلت: إن الصفة ليست الموصوف ولاغيره؟
قال هشام: من قبل أنّه يستحيل فعلي أنا، ويستحيل أن يكون غيري، لأنّ التغاير إنّما أوقعه على الأجسام والأعيان القائمة بأنفسها، فلما لم يكن فعليّ قائماً بنفسه، ولم يجز أن يكون فعلي أنا، وجب أنه لا أنا ولا غيري. وعلة اُخرى أنت قائل بها: زعمت يا أبا الهذيل، أنّ الحركة ليست مماسّة ولا مباينة، لأنّها عندك ممّا لا يجوز عليه المماسّة ولا المباينة، فلذلك قلت أنا: إنّ الصفة ليست أنا ولا غيري، وعلتي في أنّها ليست أنا ولا غيري علّتك في أنّها لا تماس ولا تباين، قال المسعودي: فانقطع أبو الهذيل ولم يرد جواباً .( [149] )
ذكرنا هذه المناظرة لا بقصد أن نعطي صورة عن هشام بن الحكم فيها، ولكنّا نودّ أن ننبّه على خيانة للنقل وجناية على التاريخ وتهجم على الحقائق بما ارتكبه ابن حجر العسقلاني فإنّه ذكر( [150] ) ما هذا نصه: وقال المسعودي: قال أبوالحسن الحناط مات أبو الهذيل سنة (227 هـ) وتنازع أصحابه في مولده، فقال قوم سنة إحدى وثلاثين وقال قوم: سنة أربع. وذكر - أي المسعودي - مناظرة بينه وبين هشام بن الحكم الرافضي، وأنّ هشاماً غلبه أبو الهذيل فيها.
هذا وقد أوقفناك على نصّ عبارة المسعودي وأنّ هشاماً غلب أبا الهذيل ولم يرد جواباً. والحكم للقارئ المنصف.
4 - اجتمع هشام في إحدى رحلاته إلى البصرة بعمرو بن عبيد المتوفى سنة(144 هـ) وتناظرا في الإمامة، وكان عمرو يذهب إلى أن الإمامة اختيار من الاُمة في سائر الاعصار، وهشام يذهب إلى أنّها نصّ من الله ورسوله على علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وعلى من يلي عصره من ولده الطاهرين.
فقال هشام لعمرو بن عبيد: أليس قد جعل الله لك عينين؟
قال: بلى.
قال: ولِمَ ؟
قال: لأنظر بهما في ملكوت السموات والأرض فأعتبر.
قال: فلِمَ جعل لك سمعاً ؟
قال: لأسمع به التحليل والتحريم والأمر والنهي.
قال: فلِمَ جعل لك فماً ؟
قال: لأذوق المطعوم، وأجيب الداعي. ثم عدّد الحواس كلّها.
قال: ولم جعل لك قلباً.
قال: لتؤدي إليه الحواس ما أدركته، فيميز بين مضّارها ومنافعها.
قال هشام: فكان يجوز أن يخلق الله سائر حواسك ولا يخلق لك قلباً تؤدي هذه الحواس إليه؟
قال عمرو: لا .
قال: ولِمَ؟
قال: لأنّ القلب باعث لهذه الحواس على مايصلح لها.
فقال هشام: يا أبا مروان - كنية عمرو بن عبيد - إنّ الله تبارك وتعالى لم يترك جوارحك حتى جعل لها إماماً يصحح لها الصحيح، ويترك هذا الخلق كلّه لا يقيم لهم إماماً يرجعون إليه؟! قال المسعودى: فتحير عمرو ولم يأت بفرقيعرف.( [151] )مع هشام في تهمته
نضج علم الكلام في العصر العباسي الأول، وانتشر الخلاف وكثر الجدل، وكان النزاع يملأ حلقات العلم، والمناظرات تقع في مجالس الخلفاء، وفي المساجد، وفي الشوارع.
وكان للمعتزلة نشاط في الحركة الكلامية، فقد كانوا يبحثون عن أهمّ المسائل ويصطدمون مع خصومهم.
إلى جانب ذلك نراهم قد تعرّضوا لمسائل تكاد تكون سوفسطائية مثل: الإله قادر على الظلم أو لا؟ هل الجنة مخلوقة اليوم أو لا؟ هل قدرة الله تتعلق بالمحال أو لا؟ هل الكافر قادر على الإيمان والمؤمن قادر على الكفر؟ الى كثير من أمثال ذلك. مع اختلافهم في الإمامة والسياسة، وكلّ هذه الآراء تكوّن جوّاً مضطرباً ونزاعاً علمياً، وقد حصل ذلك في عصرهم وبعد عصرهم.
وكان هشام بن الحكم شديد الخصومة لهم، قويّ الحجة عليهم، واسع الفكر. وله شهرة في علم الكلام، لذلك ترأس مجلس المناظرة في بغداد، وكان
([1]) حجة الله البالغة للدهلوي ج1 ص151. ([2]) تذكرة الحفاظ ج1 ص206. ([3]) مالك بن أنس للخولي ص318. ([4]) مالك للخولي ص319 نقلاً عن القاضي عياض في الترتيب ج1 ص27. ([5]) مرآة الزمان: القسم الأول ج8 ص44 . ([6]) أبو حنيفة للسيد عفيفي المحامي ص6 . ([7]) همم ذوي الأبصار ص51. ([8]) توالي التأسيس للحافظ ابن حجر ص76. ([9]) الاعتصام للشاطبي ج3 ص259. ([10]) الوحدة الإسلامية للسيد رشيد رضا ص45. ([11]) الدين الخالص للسيد محمد صديق حسن ج3 ص263. ([12]) هود : 113 . ([13]) الكافي ج5 ص107 ح 7. ([14]) حلية الاولياء، للحافظ أبي نعيم ج3 ص194. ([15]) بحار الأنوار ج47 ص184 ح 29. ([16]) تاريخ الطبري ج9 ص298. ([17]) الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ج 2 ص182. ([18]) إنّ هذا الحديث الشريف لجدير ببسط القول في ما جمعه من مقاصد جليلة، واُمور يجب على كلّ مسلم أن يتدبّرها، وقد ألّف علماؤنا في بيان مقاصده رسائل عديدة. ([19]) فضائل الصحابة ج2 ص785 ح 1402 . ([20]) ذخائر العقبى ص87. ([21]) ديوان المتنبي: 191. ([22]) الثائر الأول في الإسلام لمحمد عبد الباقي ص79. ([23]) من وحي ذكرى الطف ومواسم إحياء الثورة الحسينية كتبنا مع الحسين في نهضته الذي هيأناه بإضافات وتنقيحات لطبعته الثانية إن شاء الله. ([24]) تذكرة الحفاظ ج2 ص157. ([25]) ذخائر العقبى ص87 . ([26]) معرفة علوم الحديث، للحاكم النيسابوري ص55. ([27]) سيأتي الكلام حول الاجتهاد والتقليد، وقد تقدم في الجزء الأول نقل آراء بعض العلماء ورؤساء المذاهب في لزوم فتح باب الاجتهاد. ([28]) تهذيب الكمال ج5 ص74 ح950 . ([29]) الكافي ج1 ص53 ح 14. ([30]) شرح النهج ج1 ص158. ([31]) بحار الأنوار ج46 ص132 ح22 . ([32]) البداية والنهاية ج11 ص51. ([33]) فجر الإسلام ص165. ([34]) الأغاني ج2 ص173. ([35]) فتوح البلدان للبلاذري ص289. ([36]) الخب بفتح الخاء المعجمة: الغدر والخداع والغش. ([37]) حركات الشيعة المتطرفين نقلا عن ابن مسكويه تجارب الاُمم ص435 ط ليدن . ([38]) رجال الكشي ص224 ح 401. ([39]) منهج المقال ص340. ([40]) لسان العرب ج10 ص55. ([41]) القاموس ج3 ص47. ([42]) تاج العروس ج5 ص405. ([43]) الصحاح ج1 ص63. ([44]) لسان العرب ج10 ص55. ([45]) روضات الجنان ص88. ([46]) ضحى الإسلام، لأحمد أمين ج3 ص208 - 310، انظر فجر الإسلام ص276 - 277. ([47]) الدكتور عادل العوّا ، الكلام والفلسفة ص31. ([48]) آل عمران: 19. ([49]) الحجرات: 10 . ([50]) آل عمران : 103. ([51]) فجر الإسلام ص276. ([52]) فجر الإسلام ص277. ([53]) هو الشيخ عبد الله القصيمي، مؤلف كتاب الصراع بين الوثنية والإسلام. ([54]) هو عنوان موضوع يأتي في هذا الكتاب إن شاء الله. ([55]) العقد الفريد ج1 ص259. ([56]) هو عامر بن شراحبيل، ولد في خلافة عمر بن الخطاب، وتوفي سنة (103 هـ) روى عن علي وابن مسعود وعمر ولم يسمع منهم، وعن أبي هريرة وعائشة، وهو من رجال الصحاح الستة. ([57]) تاج العروس ج5 ص34. ([58]) ربّ: بمعنى رابع واختصرت للضرورة الشعرية. ([59]) اللفظ الذي جاء به وهو (حبس الرشيد رجلاً، فلمّا طال حبسه كتب إليه: إنّ كل يوم يمضي من نعمك يمضي من بؤسي مثله، والأمد قريب والحكم لله. العقد الفريد لابن عبدربه ج2 ص29 . ([60]) شذرات الذهب ج1 ص25. ([61]) الحج: 53. ([62]) المؤمنون 97 - 98. ([63]) أصل الشيعة واُصولها ص84. ([64]) عبد الله بن سبأ للاُستاذ السيد مرتضى العسكري فهو خير كتاب في هذا الموضوع، فقد تتبع فيه أصل وضع هذه الاُسطورة. ([65]) الفتنة الكبرى لطه حسين ص1، وخطط الشام لمحمد كرد علي ج6 ص251 - 256. ([66]) اُصول الإسماعيلية ص86، انظر عبد الله بن سبأ لسليمان بن حمد العودة ص72. ([67]) اُصول الإسماعيلية ص86 - 87. ([68]) إبراهيم 26 - 27. ([69]) الكافي ج5 ص111 ح 4 في باب عمل السلطان. ([70]) ميزان الاعتدال ج1 ص118 / 1252 . ([71]) البقرة: 232 . ([72]) الصواعق المحرقة لابن حجر ص120 . ([73]) الخلاصة للخزرجي ص54 . ([74]) من كلمة عن دار التقريب بمصر. ([75]) حصر الاجتهاد آقا بزرك تهراني ص41، الاجتهاد والتقليد، السيد الخوئي ص16 . ([76]) ترجمته في تهذيب التهذيب لابن حجر ج1 ص93، وطبقات ابن سعد ج6 ص250 وفهرست ابن النديم ص308، ومعجم الاُدباء ج1 ص117، وبغية الوعاة ص176، وميزان الاعتدال ج1 ص4، وخلاصة تذهيب الكمال ص13، وشذرات الذهب ج1 ص210، وطبقات القراء لشمس الدين الجزري ج1 ص86، ومرآة الجنان ج1 ص293، ومنهج المقال، والخلاصة، وفهرست الشيخ الطوسي وغيرها. ([77]) هو إبراهيم بن يعقوب السعدي المتوفى سنة (256 هـ) سكن دمشق، كان من المتحاملين على أهل البيت ويتجاهر بنصب العداء لهم. ([78]) تهذيب التهذيب ج1 ص181 - 183. ([79]) حريز بن عثمان الرحبي المتوفى سنة (163 هـ) من رجال البخاري والأربعة، وكان معروفاً بالنصب. ويقول: لا اُحبّ علياً لأنه قتل آبائي. وحكى الناس عنه أيضاً سوء الاعتقاد وفساد المذهب، ولكن البخاري خرّج حديثه ووثّقه، كما وثقه أحمد بن حنبل. ترجمته في تاريخ بغداد ج 8 ص 265 - 270 والخلاصة ص64 وغيرهما. ([80]) تهذيب التهذيب ج1 ص164 ح 299. ([81]) صحيح مسلم ج1 ص86 ح131 كتاب الإيمان. ([82]) خصائص أمير المؤمنين للنسائي ص101 ح98. ([83]) الاستيعاب بهامش الاصابة ج3 ص73 . ([84]) الرياض النضرة ج4 ص149. ([85]) منتهى المقال ج1 ص133 / 11. ([86]) تهذيب الكمال ج29 ص115 / 6282. ([87]) راجع ج1 من هذا الكتاب ص 214. وكذلك جاءت ترجمته في الجزء الثاني ص107. ([88]) تهذيب الكمال ج7 ص239 / 1481 . ([89]) الجرح والتعديل، أبوحاتم الرازي ج7 ص246، ترجمة رقم 1360. ([90]) تهذيب التهذيب ج9 ص116 / 6090. ([91]) تهذيب الكمال ج16 ص5 / 3520، تاريخ بغداد ج10 ص151 / 5306. ([92]) جامع الرواة ج1 ص9 - 11. ([93]) منهج المقال ص86. ([94]) رجال النجاشي ج1 ص73 / 6 . ([95]) معجم رجال الحديث ج1 ص132، نهج السعادة ج7 ص193. ([96]) رجال النجاشي ج1 ص73 / 6. ([97]) الفهرست لابن النديم ص276. ([98]) قاموس الرجال ج1 ص74. ([99]) معجم الاُدباء ج1 ص108 - 109، ولسان الميزان ج1 ص24، وبغية الوعاة ص177، وفهرست الشيخ الطوسي ص18، ومنهج المقال ص16، وجامع الرواة ج1 ص12 - 15، وغيرها من كتب الرجال والأدب. ([100]) منهج المقال، للأسترابادي ص66، وجامع الرواة ج1 ص117 - 119، والإمام الصادق للمظفر ص147 - 148، وغيرها كتنقيح المقال للمامقاني، ورجال أبي علي، ورجال الشيخ محمد طه نجف. ([101]) كمال الدين وتمام النعمة للصدوق ص76، نهج السعادة ج8 ص126، راجع كتب التراجم. ([102]) فهرست الشيخ الطوسي ص44، وجامع الرواة ج1 ص165، ومنهج المقال ص78 وغيرها. ([103]) جامع الرواة ج1 ص167 . ([104]) جامع الرواة ج1 ص271 . ([105]) خلاصة تذهيب الكمال ص78، وجامع الرواة ج1 ص273، ومنهج المقال ص122. ([106]) تهذيب التهذيب ج2 ص187، والمعارف لابن قتيبة ص268، والخلاصة للخزرجي وغيرها. ([107]) منتهى المقال ج3 ص133 / 1012 . ([108]) اُنظر الطبقات الكبرى لابن سعد ج7 ص242 ح3505 . ([109]) نقد الرجال ج3 ص97 / 3045. ([110]) الرسائل التسع للمحقق الحلي ص61، خلاصة الأقوال للعلاّمة الحلي ص33 . ([111]) لسان الميزان ج5 ص200، وفهرست ابن النديم ص250، وتكملة الفهرست ص8، والملل والنحل للشهرستاني ج1 ص113، وجامع الرواة ج1 ص158، وضحى الإسلام ج3 ص270 - 271، ومنهج المقال ص210، وفهرست الشيخ الطوسي ص121، ولباب الأنساب ج2 ص42، والكنى والألقاب ج2 ص298 - 299 وغيرها. ([112]) المرزباني شعراء الشيعة ص86. ([113]) الفهرست لابن النديم: 224. ([114]) الكنى والألقاب ج2 ص298. ([115]) ضحى الإسلام، للدكتور أحمد أمين ج3 ص270 - 271. ([116]) رجال الكشي ص185 - 330 . ([117]) لسان الميزان ج5 ص298 / 7866. ([118]) فهرست ابن النديم ص224 . ([119]) المصدر السابق. ([120]) تاريخ بغداد ج13 ص411 ح 86. ([121]) تاريخ بغداد ج13 ص409، وتكملة فهرست ابن النديم ص8. ([122]) البحار ج4 ص271. ([123]) الفهرست للشيخ الطوسي ص323 / 698. ([124]) الفهرست لابن النديم ص224 . ([125]) تحف العقول ص307 - 312. ([126]) لباب الأنساب ج2 ص42. ([127]) الفَرق بين الفِرق للبغدادي ص131، وستأتي مناقشة هذه الأقوال في دراسة حياة هشام بن الحكم. ([128]) رجال الكشي ص185 / 326 . ([129]) النساء: 112. ([130]) فهرست ابن النديم ص249، والتكملة ص 7، والملل والنحل ج1 ص308، ولسان الميزان ج6 ص194، والمراجعات لشرف الدين ص300 - 301، والانتصار للخياط في عدة مواضع، وضحى الإسلام ج3 ص268، والعقد الفريد ج1 ص360، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص15، وحياة هشام بن الحكم للشيخ محمد الحسين المظفر (مخطوط)، وجامع الرواة ج2 ص313، ونهج المقال ص356، وحياة هشام للشيخ محمد صالح الشيخ راضي (مخطوط) وغيرها. ([131]) غور: كل شيء قعره، وعمقه، وصاحب غور هو من تعمق في علمه، حتى وصل الى حقيقته، ومنه فلان بعيد الغور أي متعمق النظر وهو بحر لا يدرك غوره. انظر في التعليق الملل والنحل ج1 ص311. ([132]) الأعلام ج3 / 1123. ([133]) ضحى الاسلام ج3 ص268 - 269 . ([134]) جهم بن صفوان إليه تنسب الفرقة الجهمية، ظهرت بدعته بترمذ وقتله سلم بن أحوز المازني بمرو، آخر الدولة الاُموية، وافق المعتزلة في نفي الصفات الأزلية وزاد عليهم: انّه لا يجوز أن يوصف الباري بصفة يوصف بها خلقه لأنّ ذلك يقتضي تشبيهاً، فنفى كونه حياً عالماً، وأثبت كونه فاعلاً خالقاً لأنّه لايوصف شيء بالفعل والخلق. إلى آخر أقواله في الملل والنحل ج1 ص113 . ([135]) الفهرست لابن النديم ص224. ([136]) بحار الأنوار ج69 ص148 ح151. ([137]) محاضرات الاصبهاني ج1 ص37 ـ 38 . ([138]) الكافي ج1 ص 71 ح4 . ([139]) عن كتاب حياة هشام لشيخنا المظفر مخطوط. ([140]) يونس: 35 . ([141]) البقرة: 124. ([142]) الأنفال: 15. ([143]) علل الشرائع ج1 ص204 . ([144]) نقد الرجال ج4 ص108 / 4407. ([145]) العقد الفريد ج1 ص360، وعيون الأخبار لابن قتيبة ج2 ص150 وضحى الإسلام ج3 ص268. ([146]) تكملة فهرست ابن النديم ص7 . ([147]) عيون الأخبار ج5 ص152. ([148]) هو محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول البصري، أبو الهذيل العلاّف المتوفى سنة (235هـ) شيخ المعتزلة ومقدمهم ومقرر الطريقة والمناظر عليها، اخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل، وله آراء وأقوال وإليه تنسب الفرقة الهذيلية من المعتزلة. ([149]) مروج الذهب ج4 ص54 . ([150]) لسان الميزان ج5 ص214 . ([151]) مروجالذهب ج4 ص55،والطبرسي ص200 وأماليالمرتضى ج1 ص122-123، وعللالشرائع ص194.