رسالة الجاحظ في تفضيل عليّ(عليه السلام) - امام الصادق و المذاهب الاربعة جلد 3

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

امام الصادق و المذاهب الاربعة - جلد 3

حیدر اسد

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

[1]

يقصد حلقات العلم فيمتحن رؤساءها بما يفحمهم فيه، فكان انتصاره عليهم سبباً لاتّهامه بما لا يليق بشأنه، ولا صلة له بالواقع. وكان الجاحظ من أشدّ الناس عداءً لهشام، فنسب إليه تلك المفتريات هو والنظام ابراهيم بن يسار، وجاء ابن قتيبة فى مختلف الحديث ( [2] ) فأرسلها إرسال المسلمات، وكذلك الخياط المعتزلي كما جاء في كتاب الانتصار.( [3] )

وليس من العسير علينا أن نستشفّ بواعث تلك الاتّهامات الموجّهة لهشام من قبل خصومه مع براءته من ذلك. ولا يصحّ لنا أن ننساق مع المندفعين بتيّار الهوى والخاضعين للعاطفة، الذين اتّهموه بتلك التهم الشنيعة بدون التفات إلى الواقع، أو استناد إلى مصدر وثيق، وإنّما كانت بدافع الانتقام منه والحقد عليه لكونه يغلب خصمه بمنطقه ويقطعه ببراهينه.

كما كان الحكم على هشام بتلك التهم صادراً عن طائفية بغيضة، رغبة في تشويه الحقيقة، أو اقتناع بما دبّرته عوامل عصر هشام، من الاعتداء على المفكرين من رجال الاُمة، وتطبيقه بوسائل عنيفة وحشية. ولم يخف على المتتبعين ما أحدثه ذلك التطوّر الفكري، من وجود خلافات مذهبية وفوارق طائفية أدّت إلى خصومة عنيفة، خرجت عن حدود العلم والمنطق الصحيح، بل عن حدود العقل والاتّزان. وكان الموقف السياسي يؤثر في كفّة الخلاف، ويؤيّد حركة النزاع الطائفي من وراء الستار لغاية التفريق، والوصول لاُمور لا تحصل إلا بذلك، طبقاً لقاعدة فرّق تسد وهي خطة سلكها الاُمويون واتبعهم العباسيون، فصارت مركباً لحكام الاستبداد واُمراء الجور. واتّضح لنا ممّا سبق أنّ الموقف العدائي للشيعة قد تعدّى حدود المنطق، وبلغ الى الهوس والتهريج، والتقوّل بالباطل، كلّ ذلك يرمي إلى تشويه الصورة الحقيقية، وتنفير الناس عن عقائدهم التي لا تستطيع سياسة تلك العصور أن تتركها بدون معارضة ومقاومة، وبالأخصّ فيما يتعلّق بالإمام.

ولنقف عند هذا الحدّ من التعرّض لتلك التقوّلات على الشيعة ونعود لبعض ما قيل عن هشام في اتّهامه.

كما أنّنا لا نريد أن نستقصي ذلك ولا لنجهد أنفسنا في الردّ على تلك التقوّلات، فالأمر أوضح من أن يدعونا إلى ذلك. فشخصية هشام لها مقوّمات واقعية، نستمد اتجاهاتها من واقع تعاليم الدين الحنيف ولا يضرّه تقولات أعدائه، وإليك بعضاً منها :

1 - يقول عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة (429 هـ) في بيان مذاهب المشبّهة: ومن هذا الصنف هشامية منتسبة الى هشام بن الحكم الرافضي، الذي شبّه معبوده بالإنسان، وزعم لأجل ذلك أنّه سبعة أشبار بشبر نفسه وأنّه جسم ذو حدّ ونهاية، وأنّه طويل، عريض، عميق، وذو لون وطعم ورائحة وقد روي عنه أنّ معبوده كسبيكة الفضة المستديرة.( [4] )

هذا ما يقوله صاحب الفَرق بين الفِرق وهو عار عن الصحة، بعيد عن الواقع، لأنّ آثار هشام من كتب ومناظرات تدلّ بوضوح على إيمانه بالله، فكتابه التوحيد وغيره من كتب الرد على الملحدين تتكفل صدق ما نقوله عنه. وكذب ما يقوله البغدادي ومن سار على نهجه الذي لا يعتمد على الحقّ، ولا يركن الى الصواب بل هو محض افتراء وتقوّل بالباطل، ومجرد أوهام فاضت بها أحقاد المناوئين، فراحوا يذكرون عن هشام وطائفته بما لا يمت إلى الواقع بصلة، ونحن إذا أمعنا النظر في أسباب هذه الحملات على هشام، فإنّا نجد مصدرها المعتزلة، فإنّهم خصومه، لأنه كان شديداً عليهم، مفنّداً لآرائهم. وسنوضّح موقف الجاحظ - وهو من كبار المعتزلة - من هذه المعركة، وكيف صبّ جام غضبه على هشام بأسلوبه الساخر، فكانت اتهامات هشام من صوغ الجاحظ وإنتاجه الأدبي.

2 - ويقول محمد بن أحمد بن عبد الرحمن الملطي الشافعي المتوفى سنة (377هـ) في كتابه التنبيه :

الفرقة الثانية عشرة من الإمامية هم أصحاب هشام بن الحكم، يعرفون بالهشامية، وهم الرافضة الذين روي فيهم الخبر أنّهم يرفضون الدين بحبّ علي(رضي الله عنه) فيما يزعمون، وكذب أعداء الله وأعداء رسوله وأصحابه، وإنّما يحبّ علياً من يحب غيره، وهم أيضاً ملحدون لأنّ هشاماً كان ملحداً دهرياً، ثم انتقل إلى الدهرية والمانوية، ثم غلبه الإسلام فدخل في الإسلام كارهاً، فكان قوله في الإسلام بالتشبيه والرفض. وأما قوله بالإمامة فلم نعلم أنّ أحداً نسب إلى عليّ عيباً مثل هشام...

والله نحمده قد نزع عن علي وولده العيوب والأرجاس وطهرهم تطهيراً، وما قصد هشام التشيّع ولا محبة أهل البيت(عليهم السلام)ولكن طلب بذلك هدم أركان الإسلام، والتوحيد والنبوة - انتهى - .

هكذا يقول الملطي. وإذا أردنا أن نسائل هذا الشيخ عن المصدر الذي استمدّ منه معلوماته عن هشام، وعلى أيّ شيء اعتمد في كيل هذه الاتهامات، وما الّذي عرفه عن هشام فاستوجب أن ينسب إليه الإلحاد؟ وهل نقل عن مصدر موثوق به؟ كلّ ذلك لم يكن. وإنّما يحتجّ بما نقل عن هشام في قوله بإمامة عليّ(عليه السلام) وأنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نصّ على إمامته، وأنّ علياً أفضل الاُمة. وإليك نص ما نقله الملطي عن هشام إذ يقول: فزعم هشام أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) نصّ على إمامة علي في حياته بقوله: من كنت مولاه فعلي مولاه وبقوله: أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنّه لا نبي بعدي، وبقوله: أنا مدينة العلم وعلي بابها،وبقوله: تقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله، وأنه - أي علياً - وصي رسول الله وخليفته في ذرّيته، وهو خليفته في اُمته، وأنّه أفضل الاُمة وأعلمهم، ولا يجوز عليه السهو ولا الغفلة ولا العجز، وأنّه معصوم، وأنّ الله عز وجل نصبه للخلق إماماً ولكن لايهملهم، وأنّ المنصوص على إمامته كالمنصوص على القبلة وسائر الفرائض... الخ .

هذه هي المزاعم التي استنتج منها الشيخ الملطي مقاصد هشام من التشيّع،
فهشام بن الحكم في نظر هذا الشيخ إنّما كان عدوّاً للإسلام وأصبح ملحداً غير مؤمن، لأنّه يذهب إلى إمامة علي بالنص، وأنّه خليفة رسول الله في اُمته.

ونحن لا نلوم هذا الشيخ على هذيانه وتمرّده على الواقع، ولكنّا نلوم الرجل المثقف الذي يريد أن يخدم الاُمة بنشر هذه الفضائح ( [5] ) وإخراج هذه الجيف، فلا نطيل الوقوف هنا فالزمن أثمن والوقت من ذهب. وعند الله تجتمعالخصوم.

3 - وقال ابن حجر ( [6] ): هشام بن الحكم أبو محمد الشيباني من أهل الكوفة، وكان من كبار الرافضة ومشاهيرهم، وكان مجسّماً يزعم أن ربّه سبعة أشبار بشبر نفسه، ويزعم أن علم الله محدث. ذكر ذلك ابن حزم. بدون مستند ولا سند، وإنّما هذا مجرد تهجّم على الأبرياء كما هو شأن ابن حزم.

وعلى هذه اللغة وهذه اللهجة سار كلّ من تعصب على هشام. وقد ثبت بالتتبع أنّ هذه الجمل التي يسوقونها للانتقاص من هشام والحطّ من كرامته، إنّما هي من مفتعلات الجاحظ ومفترياته. لأنّه كان شديد القسوة على من يخالفه. وقد عرف بالانتصار للمعتزلة، وكان هشام حرباً عليهم ناظر علماءهم وانتصر عليهم.

والجاحظ معروف بأسلوبه التهكّمي اللاذع، الذي كان يتذرّع به في كثير من مهماته، فتراه عندما يأخذ بعض الأشخاص بالتصوير التهكمي يقدّم لك الصورة الدقيقة الرائعة، التي تثير في نفسك كلّ ما يمكن من النفور والبغض.

وهو إذ يتهجّم على هشام يسلك سبيل السخرية والتهكّم، فيقول: إنّ هشاماً مجسم يدّعي أنّ إلهه سبعة أشبار بشبر نفسه، له طول وعرض وطوله مثل عرضه إلى آخر قوله في اتهام هشام. وهذا أمر لا يحتاج إلى تحمّل مشقة في الرد، لأنّ خصومة الجاحظ لهشام ولأمثاله أوضح من أن تخفى.

وحيث كان الجاحظ هو بطل الخصومة لهشام، وهو مصدر تلك الاتهامات الباطلة فلا بدّ لكفة الميزان أن تحويه لتكشف نقصه مهما كان لاسمه صدى في ميدان الأدب ومكانة في رحابه.الجاحظ في الميزان

هو عمرو بن بحر بن محبوب الكناني مولاهم المعروف بالجاحظ المتوفى سنة (250 هـ) أو سنة (255 هـ) تلميذ النظام، وهو من رؤساء المعتزلة ومتكلميهم، وله شهرة عظيمة في أدبه، كما أنّ له مؤلفات كثيرة في شتّى العلوم والفنون، اتّصل بالحكّام والاُمراء والخلفاء، وتقرّب إليهم بتصنيف الكتب والرسائل، وبها يتعصّب لمذاهبهم ويعضد بها آراءهم وينقض بها آراء مخالفيهم، طلباً لجوائزهم ونيلاً لرفدهم.

ولا نريد البحث عن علمه، ولكنّا نريد أن نعرف: هل كان الجاحظ رائده الحقّ؟ وضالّته الحقيقة ينشد الوصول إليها عن طريق التثبت والتجربة والبرهان؟ أم كان له غرض خاص يطلبه ويسعى لتحقيقه. ولو كان الجاحظ يهدف إلى غاية معينة، ويلتزم فكرة، يجنّد لها قلمه لا تبعد عن المتناقضات، وسار في خطّ مستقيم، فكم جاء بقول وأتى بعده بما يناقضه، وكم أبدى فكرة وأتى بما ينفيها، فهو متقلّب الرأي ضعيف العقيدة.

ويتجلّى لنا الأمر - إذا عرفنا منزلته وصدقه - عندما نسائل عنه علماء الرجال، ونصغي لما وصفوه به وما عرفوه عنه.

قال أبو جعفر الاسكافي وهو من كبار المعتزلة وعلمائهم : إنّ الجاحظ ليس على لسانه من دينه وعقله رقيب، وهو من دعوى الباطل غير بعيد، فمعناه نزر، وقوله لغو، ومطلبه سجع، وكلامه لعب ولهو، يقول الشيء وخلافه، ويحسن القول وضده، ليس له من نفسه واعظ، ولا لدعواه حدّ قائم.( [7] )

وقال ابن أبي داود: الجاحظ أثق بظرفه ولا أثق بدينه.( [8] )

وقال الذهبي: كان الجاحظ من أهل البدع .( [9] )

وقال ثعلب: الجاحظ ليس بثقة ولا مأمون، كان كذّاباً على الله وعلى رسوله وعلى الناس.( [10] )

وقال أبو منصور في مقدّمة تهذيب اللّغة: وممّن تكلّم في اللغات بما حصره لسانه، وروى عن الثقات ما ليس من كلامهم الجاحظ، وكان قد أوتي بسطة في القول، وبياناً عذباً في الخطاب، ومجالاً في الفنون، غير أنّ أهل العلم ذبوه وعن الصدق دفعوه .( [11] )

وحكى الخطيب عنه: أنّه كان لايصلّي .( [12] )

وقال الإسكندري: الجاحظ كان عثمانياً يتنصب، يفضل عثمان علىعليّ.( [13] )

وقال ابن قتيبة: الجاحظ وهو آخر المتكلمين وأحسنهم للحجة استشارة، وأشدّهم تلطفاً لتعظيم الصغير حتى يكبر، وتصغير العظيم حتى يصغر، ويبلغ به الاقتدار على أن يعمل الشيء ونقيضه، ويحتج للعثمانية على الرافضة، ومرّة للزيدية على العثمانية وأهل السنة، ومرّة يفضل علياً (رضي الله عنه) ومرّة يؤخره، ويعمل كتاباً يذكر فيه حجج النصارى على المسلمين، فإذا صار إلى الردّ عليهم تجوز في الحجة، كأنّه إنّما أراد تنبيههم على ما يعرفون، وتشكيك الضعفة من المسلمين، وتجده يقصد في كتبه للمضاحيك والعبث، يريد بذلك استمالة الأحداث وشرّاب النبيذ، ويستهزئ من الحديث استهزاء لا يخفى على أهل العلم، - إلى أن يقول - : وهو مع هذا من أكذب الاُمة، وأضعفهم لحديث، وأنصرهم لباطل ( [14] ).

هذه صورة عن الجاحظ نقدّمها ليقف القارئ على أثر طعنه وتهجّمه، ورميه الأبرياء من الأمة بما ليس فيهم، فهو غير مستقيم ولا حدَّ لتقلّبه وتلوّنه. فهو يختلق الاتّهامات، ويبتدع الأقوال، ويكذب في نقله.

إنّ الجاحظ موهوب في أدبه، بارع في تهكّمه وسخريته، له قدرة على تصوير الأشياء التي يخترعها من نفسه، ولا يهمّه أن تتناقض أقواله وتضطرب آراؤه، فتراه يؤلف في الاُمور المتناقضة، والأشياء المتفرقة.

نرى الجاحظ يميل مع الهوى ويساير الظروف، فهو إذ يخالف الواقع ويسلّم قياده لهواه، تراه في مورد آخر يرجع إلى الحقيقة ويعطيها حقّها من البيان، ويتبيّن لك تكلّفه عند مخالفته للواقع، وانحرافه عن الصواب، وله رسائل عديدة متفرقة يستقصي فيها الحجج لنفسه، ويؤيدها بالبراهين، ويعضدها بالأدلة فيما يتصور من عقله، وما يوحيه الهوى، ويفرضه عليه تماجنه وعبثه.

ألّف الجاحظ رسائل في اُمور متناقضة تشهد على عدم استقامته، فهو ينتصر للعثمانية، ويذهب إلى تأخير علي (عليه السلام) في الفضيلة، ويمدح معاوية بن أبي سفيان منتصراً له من علي(عليه السلام) وشيعته، ويذكر إمامة آل مروان وبني اُمية بما شاء له الهوى والعصبية والمجون، ثم ينفلت من أسر هواه ويعود إلى رشده، ويترك الأخذ بالآراء والأهواء، فيؤلف رسالة في بني اُمية، ويصفهم بما يلزمه الواقع، ويجعل معاوية ظالماً سفّاكاً للدماء، جائراً في الحكم، مخالفاً لأحكام الإسلام .

ويكتب رسائل في تفضيل عليّ(عليه السلام) والانتصار له، ويقدّم الحجج ويقيم الأدلة والبراهين، وهو يصرّح بأنّه عاد إلى رشده، وأفلت من عقال هواه وأخذ باليقين وترك الشك والظن، وإليك نص رسالته التي ذهب بها إلى تفضيل علي على جميع الاُمة. وقد ذكرها الإربلي في كشف الغمة.( [15] )

رسالة الجاحظ في تفضيل عليّ(عليه السلام)

قال: هذا كتاب من اعتزل الشك والظن، والدعوى والأهواء، وأخذ باليقين والثقة من طاعة الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، وبإجماع الاُمة بعد نبيّها(صلى الله عليه وآله) ممّا يتضمّنه الكتاب والسنة، وترك القول بالآراء، فإنّها تخطئ وتصيب، لأنّ الاُمة أجمعت أنّ النبيّ(صلى الله عليه وآله) شاور أصحابه في الأسرى ببدر، واتفق على قبول الفداء منهم فأنزل الله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيّ أَن يَكُونَ لَهُ)( [16] ).

فقد بان لك أنّ الرأي يخطئ ويصيب ولا يعطي اليقين، وإنّما الحجة لله ورسوله وما أجمعت عليه الاُمة من كتاب الله وسنّة نبيّها. ونحن لم ندرك النبيّ(صلى الله عليه وآله) ولا أحداً من أصحابه الذين اختلفت الاُمة في أحقّهم، فنعلم أيّهم أولى، ونكون معهم، كما قال تعالى: (وَكُونوا مَعَ الصَّادِقين)( [17] ) ونعلم أيّهم على الباطل فنتجنّبهم؟

وكما قال تعالى: (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَتَعْلَمُونَ شَيْـئاً)( [18] ) حتى أدركنا العلم فطلبنا معرفة الدين وأهله، وأهل الصدق والحقّ، فوجدنا الناس مختلفين يبرأ بعضهم من بعض، ويجمعهم في حال اختلافهم فريقان :

أحدهما، قالوا: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) مات ولم يستخلف أحداً. وجعل ذلك إلى المسلمين يختارونه، فاختاروا أبا بكر.

والآخرون، قالوا: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) استخلف عليّاً، فجعله إماماً للمسلمين بعده. وادعى كلّ فريق منهم الحقّ. فلما رأينا ذلك وقّفنا الفريقين لنبحث ونعلم المحقّ من المبطل ؟

فسألناهم جميعاً: هل للناس بدّ من وال يقيم أعيادهم، ويجبي زكاتهم، ويفرّقها على مستحقّيها، ويقضي بينهم، ويأخذ لضعيفهم من قويهم ويقيم حدودهم؟

فقالوا: لا بدّ من ذلك.

فقلنا: هل لأحد يختار أحداً فيولّيه، بغير نظر من كتاب الله وسنّة نبيّه؟

فقالوا: لا يجوز ذلك إلا بالنظر.

فسألناهم جميعاً عن الإسلام الذي أمر الله به ؟

فقالوا: إنه الشهادتان، والإقرار بما جاء من عند الله، والصلاة، والصوم، والحج - بشرط الاستطاعة - والعمل بالقرآن يحلّ حلاله ويحرّم حرامه.

فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم .

ثم سألناهم جميعاً:

هل لله خيرة من خلقه، اصطفاهم واختارهم ؟

فقالوا: نعم .

فقلنا: ما برهانكم؟

فقالوا: قوله تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ)( [19] )

فسألناهم: مَن الخيرة؟

فقالوا: هُم المتّقون.

فقلنا: ما برهانكم؟

فقالوا: قوله تعالى:(إنّ أكرَمَكُم عِند اللهِ أتقَاكُم).( [20] )

فقلنا: هل لله خيرة من المتقين؟

قالوا: نعم، المجاهدون بأموالهم بدليل قوله تعالى: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً).( [21] )

فقلنا: هل لله خيرة من المجاهدين؟

قالوا جميعاً: نعم السابقون من المهاجرين الى الجهاد بدليل قوله تعالى: (لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ)( [22] )

فقبلنا ذلك منهم لإجماعهم عليه، وعلمنا أنّ خيرة الله من خلقه المجاهدون السابقون إلى الجهاد. ثم قلنا: هل لله منهم خيرة؟

قالوا: نعم. قلنا: من هم ؟

قالوا: أكثرهم عناء في الجهاد، وطعناً وضرباً وقتلاً في سبيل الله، بدليل قوله تعالى:(فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّة خَيْرًا يَرَهُ)( [23] ) (وَمَا تُقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُم مِّنْ خَيْر تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ)( [24] ).

فقبلنا منهم ذلك، وعلمنا وعرفنا: أنّ خيرة الخيرة أكثرهم في الجهاد عناءً، وأبذلهم لنفسه في طاعة الله، وأقتلهم لعدوّه.

فسألناهم عن هذين الرجلين علي بن أبي طالب وأبي بكر أيّهما كان أكثر عناء في الحرب، وأحسن بلاءً في سبيل الله ؟

فأجمع الفريقان على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه كان أكثر طعناً وضرباً وأشدّ قتالاً، وأذبّ عن دين الله ورسوله.

فثبت بما ذكرناه من إجماع الفريقين، ودلالة الكتاب والسنة أنّ عليّاًأفضل.

وسألناهم - ثانياً - عن خيرته من المتقين؟

فقالوا: هم الخاشعون، بدليل قوله تعالى: (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيد* هَـذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّاب حَفِيظ* مَّنْ خَشِيَ الرَّحْمَـنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْب مُّنِيب)( [25] ). وقال تعالى: (... وَذِكْرًا لِّلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يَخْشَوْنَرَبَّهُم...)( [26] )

ثم سألناهم: من الخاشعون؟

فقالوا: هم العلماء: لقوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماء).( [27] )

ثم سألناهم جميعاً: من أعلم الناس ؟

قالوا أعلمهم بالقول، وأهداهم إلى الحقّ، وأحقّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً بدليل قوله تعالى:(يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْل مِّنكُمْ)( [28] ) فجعل الحكومة لأهل العدل.

فقبلنا ذلك منهم، وسألناهم عن أعلم الناس بالعدل من هو ؟

قالوا: أدلّهم عليه.

قلنا: فمن أدلّ الناس عليه.

قالوا: أهداهم الى الحقّ. وأحقّهم أن يكون متبوعاً ولا يكون تابعاً بدليل قوله تعالى: (أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّيَهِدِّي إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)( [29] ) فدل كتاب الله وسنّة نبيّه(صلى الله عليه وآله) والإجماع: أنّ أفضل الاُمة بعد نبيّها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، لأنّه إذا كان أكثرهم جهاداً كان أتقاهم، وإذا كان أتقاهم كان أخشاهم، وإذا كان أخشاهم كان أعلمهم، وإذا كان أعلمهم كان أدل على العدل، وإذا كان أدل على العدل كان أهدى الاُمة إلى الحقّ، وإذا كان أهدى كان أولى أن يكون متبوعاً، وأن يكون حاكماً لا تابعاً ولا محكوماً.

وأجمعت الاُمة - بعد نبيّها (صلى الله عليه وآله) - أنّه خلّف كتاب الله تعالى ذكره وأمرهم بالرجوع إليه إذا نابهم أمر، وإلى سُنّة نبيّه (صلى الله عليه وآله) فيتدبرونهما ويستنبطون منهما ما يزول به الاشتباه فإذا قرأ قارئهم: (وَرَبُّكَ يَخـْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتار)( [30] ) فيقال له: اثبتها، ثم يقرأ: (إنّ أكرَمَكُم عِندَ اللهِ أتقَاكُم) وفي قراءة ابن مسعود - إن خيركم عند الله أتقاكم - (وَاُزْلِفت الجَنّةُ لِلمُتَّقِين غَيرَ بَعيد* هَذَا ما تُوعَدُونَ لِكُلّ أوّاب حَفِيظ* مَن خَشِيَ الرَّحمَنَ بِالغِيبِ)( [31] ).فدلت هذه الآية على أن المتقين هم الخاشعون.

ثم يقرأ فإذا بلغ قوله : (إنّما يَخْشَى اللهُ مِن عِبادِهِ العُلَمَاءُ) فيقال له: اقرأ حتى ننظر هل العلماء أفضل من غيرهم أم لا؟ فإذا بلغ قوله تعالى (هَلْ يَستوِي الَّذِينَ يَعلَمُونَ والذين لا يعلمون)( [32] ) علم أن العلماء أفضل من غيرهم.

ثم يقال: اقرأ، فإذا بلغ إلى قوله: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ دَرَجَات)( [33] ).

قيل: قد دلّت هذه الآية على أنّ الله قد اختار العلماء وفضّلهم ورفعهم درجات، وقد اجمعت الاُمة على أن العلماء من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذين يؤخذ عنهم العلم كانوا أربعة: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن العباس وابن مسعود، وزيد بن ثابت .

وقالت طائفة: عمر، فسألنا الاُمة :

من أولى الناس بالتقديم إذا حضرت الصلاة ؟

فقالوا: إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: يؤم القوم أقرؤهم. ثم أجمعوا على أنّ الأربعة كانوا أقرأ من عمر فسقط عمر، ثم سألنا الاُمة، أيّ هؤلاء الأربعة أقرأ لكتاب الله، وأفقه لدينه فاختلفوا، فأوقفناهم حتى نعلم. ثم سألناهم: أيّهم أولى بالإمامة؟

فأجمعوا على أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال: الأئمة من قريش. فسقط ابن مسعود وزيد ابن ثابت. وبقي علي بن أبي طالب وابن عباس، فسألنا :

أيّهما أولى بالإمامة ؟

فأجمعوا: على أنّ النبيّ قال: إذا كان عالمان فقيهان من قريش فأكبرهما سناً وأقدمهما هجرة. فسقط عبد الله بن العباس وبقي علي بن أبي طالب صلوات الله عليه، فيكون أحقّ بالإمامة، لما أجمعت عليه الاُمة ولدلالة الكتاب والسنة عليه،انتهى .

ذكر هذه الرسالة( [34] ) أبوالحسن علي بن السعيد فخر الدين عيسى بن أبي الفتح الإربلي وقال: إنّها نسخت عن مجموع للأمير أبي محمد الحسن بن عيسى المقتدر بالله.

وبهذا نكتفي عن الحديث حول الجاحظ، كما أنا لا نودّ أن نتعرّض لذكر ابن حزم وتشنيعه على هشام وقسوته في اتهامه، ويكفينا في ابن حزم ما عُرف عنه من التهجّم على العلماء بدون استناد حتى قيل: لسان ابن حزم وسيف الحجاج شقيقان. إذ كلّ واحد منهما يفتك بالمسلمين ظلماً وعدواناً.

وقد تحامل ابن حزم على الشيعة بما لا يتقبّله العقل، ولا ندري من أيّ مصدر استقى ذلك. فلنترك مناقشته وعلى الله حسابه.عود على بدء

إنّ دراسة حياة هشام والوقوف على آرائه وأقواله توقف القارئ النبيه على أسباب اتّهامه بتلك التهم الشنيعة التي تناقض الحقيقة، ولا تتّفق مع عقيدتهوإيمانه.

وقد أشرنا لبعض الأسباب التي دعت خصومه لرميه في ذلك، وهناك شيء آخر وهو: أنّ هشاماً كان ذا شخصيّة قوية وفكر واسع ورأي صائب، وهو صلب في إيمانه، قويّ في عقيدته، لا يتنازل عنها لسلطان، ولا يجاري الأغلبية الساحقة، ولم ينقطع يوماً ما أمام مناظر، أو يهزم في قول أو يغلب في حجاج، وكانت المعركة الفكرية تدور حول الإمامة وما شاكلها، وكان هشام يخالف في رأيه لسلطان عصره، ويناظر على صحّة قوله وصواب رأيه، فهو مع أهل البيت(عليهم السلام)يناضل عن حقّهم، ويحاجج في لزوم اتباعهم، ولم يعبأ في مخالفة الأغلبية، ولم يبال بالاضطهاد المنتظر بحقّ كلّ من يخالف رأي الدولة. وإن كان رأيها هو الرأي السائد والقول المتبع.

فلذلك تكونت حول شخصيته تلك المؤامرات والدسائس التي تتكيّف بمزاج العصر وأوضاعه، لأنّ أعظم سلاح يقاوم به من يخالف آراء ملوك ذلك العصر هو الاتهام بالبدعة، والرمي بالإلحاد والزندقة.

ويكفي للاستدلال على براءة هشام من ذلك قول الإمام الصادق (عليه السلام) يا هشام ما زلت مؤيّداً بروح القدس. وقوله: هذا ناصرنا بقلبه ولسانه. وقوله: هشام رائد حقّنا المؤيّد لصدقنا، والدافع لباطل أعدائنا، من تبعه وتبع أمره تبعناً، ومن خالفهفقدعادانا.( [35] )

وقال علم الهدى السيد المرتضى: فكيف يتوهّم عاقل - مع ما ذكرناه - على هشام هذا القول: بأنّ ربّه سبعة أشبار بشبره، وهل ادعاء ذلك عليه (رضوان الله عليه) مع اختصاصه المعلوم بالصادق، وقربه منه وأخذه عنه إلاّ قدح في أمر الصادق، ونسبته للمشاركة في الاعتقاد الذي نحلوه هشاماً، وإلاّ كيف لم يظهر عنه من النكير عليه، والتبعيد له بما يستحقّه المقدّم على هذا الاعتقاد المنكر، والمذهب الشنيع.( [36] )

ووردت في حقّه روايات مدح من بقية الأئمة(عليهم السلام)كقول الإمام الرضا(عليه السلام)عندما سئل عن هشام: رحمه الله كان عبداً ناصحاً واُوذي من قبل أصحابه حسداً منهمله.( [37] )

وقال الإمام الجواد (عليه السلام): هشام بن الحكم (رحمه الله) ما كان أذبّه عن هذه الناحية.( [38] )

وصفوة القول: إنّ هشام بن الحكم كان عظيم المنزلة ،رفيع المكانة، ثقة في الحديث، مبرزاً في الفقه والتفسير وسائر العلوم والفنون .

والشيء الذي يلفت النظر، هو وجود بعض الروايات عن أئمة أهلالبيت(عليهم السلام)تنصّ على الطعن في عقيدة هشام، وقد ذكرها الأصحاب في معرض النقد والرد، إذ هي - بدون شك - مكذوبة لا صلة لها بالصحة.

فمن ذلك: ما أشاعوه عن الإمام الرضا (عليه السلام) أنّه قال في هشام: إنه ضالّ مضلّ، شرك في دم أبي الحسن الكاظم (عليه السلام) ولما شاعت هذه المقالة قدم جماعة من الشيعة إلى الإمام الرضا (عليه السلام) يسألونه عن ذلك القول، وعن مبلغه من الصحة لكي يتبرأوا من هشام إن صحّ ذلك.

فتقدّم إليه موسى بن المشرقي يسأله عن ذلك القول، وهل يتولّون هشاماً أم يتبرأون منه؟

فأجابه الإمام بلزوم موالاة هشام، وقال له: تولّوه، إذا قلت لك فاعمل به ولا تريد أن تغالب به، أخرج الآن فقل لهم - أي الشيعة - : قد أمرني بولاية هشام.

وقال (عليه السلام) رحمه الله - أي هشاماً - كان عبداً ناصحاً واُوذي من قبل أصحابه حسداً منهم له.( [39] )

ومنها: عن محمد بن زياد قال: سمعت يونس بن ظبيان يقول: دخلت على أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) فقلت له: إنّ هشام بن الحكم يقول قولاً عظيماً إلا أني أختصر لك منه حرفاً: يزعم أنّ الله جسم لأنّ الأشياء شيئان: جسم وفعل فلا يجوز أن يكون الصانع بمعنى الفعل، ويجوز أن يكون بمعنى الفاعل .

فقال أبو عبد الله(عليه السلام): ويله، أما علم أنّ الجسم محدود متناه، والقدرة محدودة متناهية، فاذا احتمل الحدّ احتمل الزيادة والنقصان ،وإذا احتمل الزيادة والنقصان كانمخلوقاً.( [40] )

هكذا ادعى يونس بن ظبيان أنّه سمع ذلك في حقّ هشام. ويونس، هذا هو ممّن يكيد لهشام ويبغضه، لأنّ يونس من الغالين الذين شوّهوا سمعة المذهب، وهو من أصحاب أبي الخطاب.

قال ابن الغضائري: يونس بن ظبيان كوفي غال كذّاب، وضّاع للحديث. روى عن أبي عبد الله، لا يلتفت إلى حديثه.( [41] )

وقال النجاشي: إنّه مولى ضعيف جداً لا يلتفت إلى ما رواه، كلّ كتبه تخليط، وقد ورد لعنه على لسان الأئمة .( [42] )

وعلى أيّ حال، فإنّ هشام بن الحكم من المعذّبين في الله، وهو أجلّ من أن تنسب إليه تلك الاُمور، وأعظم منزلة من كلّ مايرمونه به، فلا يلتفت إلى تلك الخرافات والأوهام والدسائس التي حيكت حول شخصيته.هل تؤاخذ الاُمة بقول الفرد؟!

ولم يكف خصوم هشام صوغ تلك العبارات واختراع تلك الحكايات في ذمّه والحطّ من كرامته، حتّى تجاوزوا الحدّ في ذلك، ونسبوا تلك الآراء المفتعلة لمجموع الشيعة، وهذا من الخطأ الفاحش.

ولو سلّمنا جدلاً أنّ هشام بن الحكم كان يعتقد بما نقل عنه - والعياذ بالله - فهل يصحّ لهم أن يجعلوا ذلك الرأي لمجموع الشيعة، وأنّ تلك العقائد المكذوبة هي من عقائد الشيعة؟ وهل يصح لهم مؤاخذة الكلّ بجريمة الجزء؟ وهذا أمر لا يبرّره منطق سليم، لأنّ جميع الهيئات والطوائف في المجتمع الإنساني لا تخلو من أفراد يحطّون من قدرها ويسيئون إلى سمعتها.

وقد استساغوا ذلك في حقّ الشيعة بنسبة الآراء الفردية لمجموع الاُمة، وهذا كثير لا حصر له ولسنا بصدده الآن.

وكما قلنا: إذا سلّمنا جدلاً بصحّة ما يقولونه في هشام - وليس لقولهم نصيب من الصحة - فهل يصحّ أن يجعل ذلك الرأي لمجموع الشيعة؟

وقد سلك هذه الطريقة الملتوية وارتكب هذا الخطأ الفاحش جماعة من القدماء وبعض المتأخرين ولم يكتفوا بالافتراء على هشام بل جعلوا ذلك لمجموع الشيعة إفكاً وزوراً. وعلى سبيل المثال نذكر مايقوله الخياط المعتزلي في كتابه الانتصار، وبعد أن ذكر تلك المفتريات عن هشام بن الحكم منتصراً لأشياخه، ومقلّداً للجاحظ في إفكه وبهتانه.

قال: الرافضة تعتقد أنّ ربّها ذو هيئة وصورة، يتحرك ويسكن، ويزول وينتقل، وأنّه غير عالم فعلم، إلى أن يقول : هذا توحيد الرافضة بأسرها إلاّ نفراً منهم يسيراً صحبوا المعتزلة واعتقدوا التوحيد، فنفتهم الرافضة عنهم وتبرأوامنهم.

أمّا جملتهم ومشايخهم مثل هشام بن سالم، وشيطان الطاق، وعلي بن ميثم، وهشام بن الحكم، والسكاك، فقولهم ما حكيت عنهم.

ثم يقول: الرافضة تقول: إنّ ربها جسم ذو هيئة وصورة، يتحرك ويسكن ويزول وينتقل .( [43] ) فهل على وجه الأرض رافضي إلاّ وهو يقول: إن اللهصورة.؟

ويروي في ذلك الروايات ويحتج فيه بالأحاديث عن أئمتهم إلاّ من صحب المعتزلة منهم - إلى آخر أقواله وتقوّلاته في كتاب الانتصار في مواطن متعددةـ.

ولا اُريد مناقشة هذا الافتراء والدّس، وهذه الأقوال التي لا ربط لها بالحقيقة، ولا مساس لها بالواقع، ولكن من الحقّ أن نؤاخذه بهذا الانحراف، ونحاسبه على هذا الشذوذ في سلوك تلك الخطّة الملتوية، وقد سار على هذا كثير ممّن كتب عن الشيعة بدون تفكير وتدبّر، وذكروا فرقاً للشيعة بأسماء من ينسبون إليهم رأياً فردياً، وهو افتراء وتقوّل بالباطل.

ولئن صحّ هذا السلوك واستساغوا هذه اللغة فيصحّ للشيعة عندئذ هذا الاستعمال، فيقيسوا مجموع الاُمة بالفرد وينسبوا الآراء الفردية للجميع.

وقد اشتهر جماعة من علماء المذاهب الاُخرى والمقدّمين عندهم بشذوذ في الآراء وفساد في الاعتقاد وإليك منهم:

1 - شهاب الدين يحيى بن حبش، فقد اشتهر عنه أنه كان زنديقاً، وله عقيدة الانحلال والتعطيل، وله أشياء منكرة، وكان بارعاً في علم الكلام مناظراً محجاجاً.( [44] )

2 - محمد بن جمال الباجريقي الشافعي المعروف بالشمس، وقد عرف بالزندقة والإلحاد، وله أتباع ينسبون إليه، ويعكفون على ما كان يعكفعليه.( [45] )

3 - الرفيع الجيلي الشافعي قاضي القضاة بدمشق المتوفى سنة (642 هـ).

قال ابن شهبة في تاريخه: إنّه كان فاسد العقيدة دهرياً مستهزئاً باُمور الشريعة.( [46] )

ويقول ابن العماد: إنّه سار سيرة فاسدة. مع قلّة دين وفساد عقيدة، مع استعمال المنكرات وحضور صلاة الجمعة سكراناً .( [47] )

4 - عبد الله بن محمد بن عبد الرزاق الحربوي بن الخوام الشافعي، فإنّه نسب الوزير رشيد الدولة الى الربوبية بتقريضه تفسيره حتى قال شاعر وقته :




  • يا حزب إبليس ألا فابشروا
    وكان فيما قال في كفره
    وقال لي شيخ خبير به
    ما أسلم الشيخ بل استسلما( [48] )



  • إنّ فتى الخوام قد أسلما
    إنّ رشيد الدين ربّ السما
    ما أسلم الشيخ بل استسلما( [48] )
    ما أسلم الشيخ بل استسلما( [48] )



فهل يصحّ هنا أن نؤاخذ الاُمة بهذا الرأي الفردي، كما أخذوا الشيعة بما ينسب للحسن بن هاني الشاعر الأندلسي في مدحه للمعز بقوله :




  • ماشئت لا ما شاءت الأقدار
    فاحكم فأنت الواحد القهار



  • فاحكم فأنت الواحد القهار
    فاحكم فأنت الواحد القهار



وقالوا: إنّ الشيعة بلغوا في الغلوّ درجة بعيدة، ومثّلوا له بقول

الحسن بن هاني( [49] ).

وممّا يؤسف له أنّ هذا القول صدر من مثقف من أبناء عصر النور، فما قولنا في أبناء العصور المظلمة؟ وهذا القول هو أحد الدواعي التي ألجأتنا إلى إعطاء هذه الصورة وإثبات هذا العرض.

5 ـ محمد بن العلي أبو عبد الله الحكيم الترمذي الشافعي.

كان يفضّل الأولياء على الأنبياء، وقد ألّف كتاباً في ذلك سماه ختم الولاية، وقال: إنّ للأولياء خاتماً كما إنّ للأنبياء خاتماً، وإنّه يفضل الولاية على النبوّة محتجاً بالحديث: الأولياء يغبطهم النبيّون والشهداء. وقال: لو لم يكونوا أفضل منهم لم يغبطوهم.( [50] )

6 - الركن عبد السلام بن وهب بن عبد القادر الجيلاني الحنبلي المتوفى سنة (611 هـ).

كان داعية للانحلال وحكم بكفره، وكان يخاطب النجوم ويقول لزحل: أيها الكوكب الدري المضيء المنير أنت تدبّر الأفلاك وتحيي وتميت وأنت إلهنا. وله في حقّ المريخ من هذا الجنس.( [51] )

7 - صدقة بن الحسين البغدادي الحنبلي المتوفى سنة (267 هـ).

كان بارعاً في فقههم واُصولهم، والمقدّم في عصره عندهم، مع سوء اعتقاده وفساد رأيه، ورداءة مذهبه. قال ابن الجوزي في المنتظم :إنّه يعترض على القدرة، وأورد له من الشعر ما يدل على سوء معتقده. كقوله:




  • لا توطّنها فليست بمقام
    أتراها صنعة من صانع
    أم تراها رمية من غير رام



  • واجتنبها فهي دار الانتقام
    أم تراها رمية من غير رام
    أم تراها رمية من غير رام



وقد وضعوا فيه مناماً بعد موته عندما سئل عن حاله فقال: غفر لي بتميرات تصدقت بها على أرملة .( [52] )

8 - إسماعيل بن علي الملقّب بفخر الدين الفقيه الحنبلي المتوفى سنة(616هـ).

كان من المشهورين في علم الكلام، قرأ المنطق والفلسفة على ابن مرقيس الطبيب النصراني، وكان يتردّد عليه إلى بيعة النصارى، وصنّف كتاباً سمّاه نواميس الأنبياء، يذكر أنّهم كانوا حكماء، كهرمس، وأرسطاطاليس، وكان متسامحاً في دينه متلاعباً به، إلى آخر ما نقل عنه من الآراء الفاسدة، والاُمورالقبيحة .( [53] )

كان أحد العلماء العارفين بالمذهب، ونسبت إليه أشياء قبيحة وآراءفاسدة.( [54] )

9 - إبراهيم الملقّب بشمس الدين الحنبلي المتوفى سنة (610 هـ).

10 - إبراهيم بن يوسف أبو إسحاق الأوسي المالكي المتوفى سنة (611هـ)المعروف بابن المرأة، كان فقيهاً مالكيّاً غلب عليه علم الكلام. ذكره ابن حبان في زنادقة أهل الأندلس.( [55] )

11 - أبو معن النميري من كبار المعتزلة، قال ابن قتيبة: ومن المشهور عنه أنّه رأى قوماً يتعادون إلى الجمعة لخوفهم فوت الصلاة فقال: اُنظروا إلى البقر اُنظروا إلى الحمُر. ثم قال لرجل من إخوانه: أنظر ما صنع هذا العربيبالناس؟( [56] )

12 - ومحمد اللوشي الغرناطي المتوفى سنة (776 هـ) فقد نسب إلى الزندقة والإلحاد والانحلال، والخروج عن الدين، وانتقاص النبي (صلى الله عليه وآله) إلى غير ذلك ممّا اتصف به .( [57] )

وغير هؤلاء ممن يطول المقام ببسط القول فيهم، كالشيخ نجم الدين بن خلكان( [58] ) وإسماعيل بن عبد الله الرعيني، والفخر الرازي المؤرخ الكبير والمفسر الشهير( [59] )، وأبو حيان التوحيدي الشافعي وغيرهم ممّن رمي بالإلحاد والزندقة وسوء العقيدة ونسبت إليه آراء فاسدة.

وإذا أردنا أن نتوسّع في الموضوع ونرجع إلى أعيان المذاهب، ومن عليهم مدار أحكامها فالأمر أفظع.

فهذا محمد بن الحسن الشيباني المتوفى سنة (189 هـ)، وهو عماد المذهب الحنفي وقوامه، وعليه مدار أحكامه، لما قام به من التأليف ونشر المذهب، وإذا صحّ التعبير فنقول: هو إمام المذهب الحنفي الثاني، ومع هذا فقد رموه بالإرجاء وغيره، كما حكي عن أحمد بن حنبل أنه قال فيه: إنهمرجئ.( [60] )

وقد ردّ شريك القاضي شهادته ووقعت بينه وبين أبي يوسف منافرة، فكان أبو يوسف يقول: محمد بن الحسن جهمي. إلى غير ذلك من الأقوالفيه( [61] ).

ومن أعيان الحنفية: بشر بن غياث المريسي المتوفى سنة (218 هـ) فقد وصفوه: بأنه ضالّ مبتدع، ونصّ أبو زرعة على زندقته، وقال الأزدي: إنّه على غير طريقة الإسلام. وإنّه كان ينكر عذاب القبر وسؤال الملكين، والصراط والميزان، إلى آخر ما روي عنه من الأقوال المنكرة، والآراء الفاسدة.( [62] )

وكذلك محمد بن شجاع الثلجي المتوفى سنة (267 هـ). من فقهاء الحنفية، وله الرياسة في وقته، وقد نسب إلى البدعة.

سئل عنه أحمد بن حنبل فقال: مبتدع صاحب هوى. وقال الساجي: إنّ محمدبن شجاع كان كذّاباً، احتال في إبطال حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) نصرة لأبيحنيفة.

وقال ابن الجوزي: كان يضع الحديث في التشبيه وينسبه لأهلالحديث( [63] ).

هذا عرض تاريخي موجز لجماعة اتّهموا بسوء الاعتقاد فتحمّلوا مسؤوليته دون غيرهم، وبوسعنا أن نذكر من الشخصيات العظيمة التي نسبوا إليها آراء فاسدة ومذاهب ذميمة، كأبي الحسن الأشعري( [64] ) إمام أهل السنة، وشيخ الطريقة في الاعتقاد فقد وصفوه بالبدعة والضلالة، وانه أنكر نبوّة محمد(صلى الله عليه وآله)بعد موته، كما أنكر عذاب الله للعصاة والكفار، وأنّه تعالى لايجازي المطيعين على إيمانهم وطاعتهم. وكان يقول: بتكفير العوام ( [65] ) الى غير ذلك مما نسبوه له، وما اتهموه فيه. وكذلك ابن تيمية وابن القيم الجوزية وتاج الدين السبكيوغيرهم.

إنّنا لا نستعمل تلك الطريقة الملتوية، وذلك القياس المعكوس، فلا نقيس الاُمة بالفرد، ولا نؤاخذ السليم بالسقيم، بل نتثبّت في الحكم على الشخصيات الإسلامية، فلا نتسرّع بقبول الاتّهام ما لم يتّضح الأمر، لأنّنا قد عرفنا أثر ذلك التطور الذي حدث في البلاد الإسلامية، فهو عامل من أخطر العوامل التي لعبت دورها في الحياة العقلية، في تلك العصور الماضية.

إلى جانب ذلك يلزمنا أن لا نهمل عوامل السياسة، والتهالك على السيادة في تفريق صفوف الاُمة، وجعلها أحزاباً وفرقاً.

والغرض أنّ قياس الاُمة بالفرد من الاُمور التي لايقرّها المنطق. وقد سلكوا في اتّهام الشيعة طرقاً غير صحيحة، وكالوا لهم الذمّ جزافاً، بدون تمحيص وتدبّر، ولعبوا في التاريخ وخاضوا فيه بالباطل (فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ حَتَّى يُلاقُواْ يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ)( [66] ) ولا نريد أن نقابلهم بالمثل ولا نقيم معهم الحساب بل نتركهم ليوم الحساب، يوم يقوم الناس لربّ العالمين، فهم مسؤولون أمام الله عن بذور التفرقة التي زرعوها في حقول التاريخ فاجتنت ثمرتها الأجيال; فكان من أثر تسمّم الثمرة أن يهاجمنا في كلّ آونة بعض من أبناء هذا العصر ممّن أخذ التقليد بعنقه. فسيّره طوع إرادته، وحرمه حريّة التفكير، ولكنّا لانود مقابلته بل نمرّ على ما نقرأ له مرّ الكرام، داعين الله له بالشفاء من الأمراض العقلية.

وصفوة القول: إنّ تلك العصور التي عظم فيها التطاحن قد كدّرت صفو الاُخوة، وغيّرت مجرى الواقع. والشيء الذي نودّ أن ننبّه عليه في ختام هذا العرض: هو أنّه لما لم يكن الاتهام مبنيّاً على أساس وثيق، وقاعدة بيّنة، كثر الخلط والخبط، ولم يفرّقوا بين السليم والسقيم، والمتّهم والبريء. وإليك أمثلةمن ذلك :

1 - إنّ اسم الجعفرية أصبح علماً لأتباع جعفر بن محمد الصادق، وبهيعرفون.

وتوجد هناك فرقتان من المعتزلة عرفتا بالجعفرية :

الأولى: أتباع جعفر بن حرب الثقفي المتوفى سنة (224 هـ).

والثانية: أتباع جعفر بن مبشر الهمداني المتوفى سنة (226 هـ)، وكلاهما من المعتزلة ولهما آراء وأقوال شاذة اشتهرت عنهما، وتناقلها الناس، وتبعهما على ذلك خلق عرفوا بالجعفرية ( [67] ) فجاء من لا يفرّق بين الحقّ والباطل ولايعرف إلا اتّباع هواه، فخلط هذين الفرقتين مع الفرقة الجعفرية الشيعية، ونسب تلك الأقوال الشاذة إليهم بدون تفكير وتدبّر.

2 - قولهم في المفضّل بن عمر إنّه كان يلعب بالحمام، وإنّه من أصحاب أبيالخطاب ( [68] )، مع العلم بأنّ المفضّل هو أجلّ من ذلك، ولكنّهم لم يفرّقوا بينه وبين المفضل بن عمر الصيرفي، الذي كان من الخطابية ومن المخالفين لقواعد الإسلام، فخلطوا بين هذا وذاك ولم يهتدوا للتفرقة، ولعلّ أكثرهم يتعمّد ذلك للوقيعة في المفضّل، لأنّه شيعيّ من خواص الإمام الصادق (عليه السلام).

3 - إنّ من المعتزلة فرقة تعرف بالهشامية، وهم أصحاب هشام بن عمر الفوطي( [69] )، وكان معاصراً لهشام بن الحكم، وقد ذهب الى اشياء منكرة.

وأنت عند مراجعتك لما اتّهم به هشام من تلك الاُمور المفتعلة تجد أكثرها من أقوال الفوطي، لأنهّم خلطوا في ذلك، ولم يفرقوا بين هشام بن الحكم وبين هشام بن عمرو الفوطي( [70] )!!

وكثير من هذا الخبط والخلط، ممّا يطول بنا الحديث عنه والحديثشجون.

ولنعد إلى الحديث عن هشام ومكانته، ونرى من الخير أن نذكر هنا وصيّة الإمام موسى بن جعفر له فهي من غرر الوصايا، وجوامع الكلم، وعلى ضوئها نأخذ صورة عن منزلة هشام. وقد اقتطفنا منها قليلاً، وهي طويلة.

وصية الإمام موسى (عليه السلام) له

قال الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) موصّياً هشاماً :يا هشام، من أراد الغنى بلا مال، وراحة القلب من الحسد، والسلامة في الدين، فليتضرّع إلى الله في مسألته بأن يكمل له عقله، فمن عقل قنع بما يكفيه، ومن قنع بما يكفيه استغنى، ومن لم يقنع بما يكفيه لم يدرك الغنى أبداً.يا هشام، من صدق لسانه زكى عمله، ومن حسنت نيته زيد في رزقه، ومن حسن برّه بإخوانه وأهله مُدّ في عمره.يا هشام، لا تمنحوا الجهّال الحكمة فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم.يا هشام، كما تركوا لكم الحكمة فاتركوا لهم الدنيا.يا هشام، إنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول: لا يجلس في صدر المجلس إلا رجل فيه ثلاث خصال : يجيب إذا سئل، وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي فيه صلاح أهله. فمن لم يكن فيه شيء منهن فجلس، فهو أحمق.يا هشام، إنّ العاقل لا يحدث من يخاف تكذيبه، ولا يسأل من يخاف منعه، ولا يعد مالا يقدر عليه، ولا يرجو ما يعنّف برجائه، ولا يتقدّم على ما يخاف العجز عنه.يا هشام، رحم الله من استحيا من الله حقّ الحياء فحفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وذكر الموت والبلى، وعلم أنّ الجنة محفوفة بالمكاره، والنار محفوفة بالشهوات.يا هشام، من كفّ نفسه عن أعراض الناس أقال الله عثرته يوم القيامة، ومن كفّ غضبه عن الناس كفّ الله عنه غضبه يوم القيامة.يا هشام، تعلّم من العلم ما جهلت، وعلّم الجاهل ممّا علمت. عظّم العالم لعلمه ،وصغّر الجاهل لجهله ولا تطرده ولكن قرّبه وعلّمه.يا هشام، عليك بالرفق، فإنّ الرفق يمنّ، والخرق شؤم، إنّ الرفق والبر وحسن الخلق يعمّر الديار، ويزيد في الأعمار.يا هشام، إنّ مثل الدنيا مثل الحيّة مسّها ليّن، وفي جوفها السمّ القاتل. يحذرها الرجال ذوو العقول ،ويهوي إليها الصبيان بأيديهم.يا هشام، إنّ الزرع ينبت في السهل ولا ينبت في الصفا، فكذلك الحكمة تعمر في قلب المتواضع، ولا تعمر في قلب المتكبر الجبّار، لأنّ الله جعل التواضع آلة العقل، وجعل التكبر آلة الجهل، ألم تعلم أنّ من شمخ إلى السقف شجّه، ومن خفض رأسه استظل تحته وأكنّه، وكذلك من لم يتواضع لله خفضه الله ومن تواضع لله رفعه.يا هشام ، إياك ومخالطة الناس والاُنس بهم، إلاّ أن تجد بهم عاقلاً ومأموناً فآنس به، واهرب من سائرهم كهربك من السباع الضارية. وينبغي للعاقل إذا عمل عملاً أن يستحي من الله. وإذا مرّ بك أمران لا تدري أيّهما خير وأصوب فانظر أيّهما أقرب إلى هواك فخالفه، فانّ كثير الصواب في مخالفة هواك.يا هشام، من أحبّ الدنيا ذهب خوف الآخرة من قلبه. وما أوتي عبد علماً فازداد من الدنيا حباً إلاّ ازداد من الله بعداً، وازداد الله عليه غضباً.يا هشام، إيّاك والطمع، وعليك باليأس ممّا في أيدي الناس، وأمت الطمع من المخلوقين فإنّ الطمع مفتاح للذل واختلاس العقل، واختلاق المروءات وتدنيس العرض، والذهاب بالعلم. وعليك بالاعتصام بربك والتوكل عليه، وجاهد نفسك لتردّها عن هواها، فإنّه واجب عليك كجهاد عدوك.

قال هشام: قلت أي الأعداء أوجبهم مجاهدة؟

قال(عليه السلام): أقربهم إليك، وأعداهم لك، وأضرهم بك، وأعظمهم لك عداوة، وأخفاهم لك شخصاً - مع دنوّه منك...يا هشام، من أكرمه الله بثلاث فقد لطف له: عقل يكفيه مؤنة هواه، وعلم يكفيه مؤنة جهله، وغنى يكفيه مخافة الفقر.يا هشام، احذر هذه الدنيا واحذر أهلها، فإنّ الناس فيها على أربعة أصناف: رجل متردي معانق لهواه، ومتعلم مقرئ كلما ازداد علماً ازداد كبراً يستعلي بقراءته وعلمه على من هو دونه، وعابد جاهل يستصغر من هو دونه في عبادته، يحب أن يعظّم ويوقّر، وذو بصيرة ولا يقدر على القيام بما يعرفه فهو محزون مغموم بذلك، فهو أمثل أهل زمانه وأوجبهمعقلاً.

ثم ذكر(عليه السلام) العقل وجنده والجهل وجنده. وتركنا ذلك اختصاراً.

وخلاصة القول: إنّ هشام بن الحكم قد عزّ بولائه لأهل البيت(عليهم السلام)، وناظر جميع أهل الفِرق في التوحيد والإمامة، وضحّى براحته في سبيل مبدئه، وبذل أقصى الجهد من أجل إصلاح العقيدة والقضاء على البدعة. وكان يستمدّ تعاليمه من ينبوع أهل بيت النبوّة، هداة الخلق، وأئمّة العدل. وقد لقي العنت من حسّاده ومنافسيه، وكان عرضة للخطر من قبل سلطان عصره حتى أصبح مشرّداً عن البلاد. وقد طلبه هارون الرشيد أشدّ الطلب حتى أدركه الموت بالكوفة مختفياً، وأوصى أن يحمل في جوف الليل، ويدفن بالكناسة، وتكتب رقعة على قبره: هذا قبر هشام بن الحكم - الذي طلبه أمير المؤمنين - مات حتف أنفه.

وبلغ هارون الرشيد ذلك فقال: الحمد لله الذي كفانا أمره. وكان هارون قد أخذ به خلقاً كثيراً من تلامذته وأصحابه، ومنهم إخوانه. فأفرج عنهم بعد موتهوأطلقهم.( [71] )

لقد كان هشام من المفكرين المصلحين، الذين خدموا الاُمة بإخلاص النية وصدق العزيمة ورجاحة الرأي. وله القدح المعلى في نصرة مذهب أهلالبيت(عليهم السلام) وإنّك عندما تتبع آثاره الخالدة تجده يلتفت إلى النوادر من الفروع. وإلى الغوامض من المسائل، وله كلمات خالدة ذكرها العلماء في مختلف المواضيع: في التوحيد، والنبوة، والإمامة، وقد ضاق المجال عن استقصائها.

وقد كانت لي رغبة شديدة في إحياء مآثره والإحاطة بدراسة شخصيته دراسة وافية غير أني لمّا وجدت شيخنا المظفر قد كتب رسالة كبيرة قيّمة فيه. تركت الميدان لفارس الحلبة. فرحم الله هشاماً، لقد أوذي في سبيل نصرة الحقّ، وكان من (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْم أوْلَئكَ لَهُمُ الاَْمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ)( [72] )

وهنا ينتهي حديثنا عن أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، ولم نذكر كثيراً منهم طلباً للاختصار. وستأتي الإشارة الى الأعيان منهم كهشام بن سالم الجواليقي، وهشام بن الأحمر، وهشام بن المثنى الرازي، وغيرهم، وبالله نستعين ومنه نستمد التوفيق.

الفِرق الإسلاميةفي عصر الإمام الصادق(عليه السلام)

تمهيد

لعلّ خير ما يعكس لنا أهمية الدور الذي لعبته مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)والنشاط العلمي الذي قامت به في ذلك العصر، واتّساع نفوذها وكثرة روّادها هو ما نجده في انتماء رجال من أهل العلم إليها، وحضورهم عنده لانتهال العلم، وأخذ الأحكام، فقد كانت مدرسته (عليه السلام) جامعة اسلامية، يؤمّها المسلمون من مختلف الطوائف، وشتّى الفرق، فهي مدار الحركة الفكرية، والمحور الذي تدور عليه آمال الموجهين وحملة الدعوة الإسلامية، وقد أثرت تعاليمه(عليه السلام)في كثير من أولئك الرجال فاعتدلوا في آرائهم.

والإمام أبو حنيفة الذي عرف بكثرة القياس وطرح أكثر الأحاديث يكشف لنا أهميّة هذه المدرسة وعظيم أثرها إذ يقول: لولا السنتان لهلك النعمان والسنتان هما اللتان حضر بهما عند الإمام الصادق (عليه السلام) وكان الإمام الصادق (عليه السلام)يشتدّ عليه، في كثرة القياس ويناظره في ذلك، وبهذا يتّضح أنّ أبا حنيفة في أخذه اقوال الإمام الصادق (عليه السلام)، واتّباع أمره يعدّ نفسه في نجاة من الهلكة، وربّما يكون ذلك في تركه القياس، وأخذه بالأحاديث الصحيحة.

ومهما يكن من أمر فقد حدّثنا التاريخ عن أولئك الرجال الذين ينتمون لفرق مختلفة قد حضروا عند الإمام الصادق (عليه السلام) وناظرهم، وفنّد كثيراً من آرائهم، وقد كان(عليه السلام) يتحرّى من برز منهم مخافة اشتداد خطره واستفحال أمره، فإن لم يأته كبقيّة أصحاب الفِرق والمعتقدات والأفكار الذين يقصدونه للكلام والمناظرة، وجّه أصحابه وأوصاهم بطريقة الوعظ وبمنهج الكلام الذي يختصّ بهذا الجانب فيمضي الأصحاب في حلقاتهم ودروسهم على تلك الطريقة وذلك المنهج، ومن قصده من أصحاب الفِرق والأقوال بعد سماعه ما تتحدّث به الركبان وتلهج به الألسن من علم الإمام الصادق، يَلْقَ من الإمام حججاً ساطعة وبراهين واضحة لا يملك معها الإنسان إلاّ أن يثوب الى رشده أو يكابر أو يعاند، ومن الضروري التعرّف على أهمّ تلك الفرق الإسلامية، التي نشأت في عصره أو سبقته بدون إحاطة أو إسهاب في البيان.الخوارج

نشأت هذه الفرقة بصفّين، عندما طلب معاوية التحكيم من علي (عليه السلام)، وهي خدعة حربية استعملها معاوية ودلّه عليها ابن العاص عندما أحسّ بالهزيمة ولمس الضعف في جيشه، وعرف تفوق علي بحقّه، وإنّ الحقّ مع علي(عليه السلام)وقد انضمّ لجيشه رجال مخلصون قد رسخ الإيمان في قلوبهم.

أراد معاوية أن يوقع الشك، ويحدث الفرقة في صفوف جيش علي (عليه السلام)وقد وقع ما أراد معاوية فقد نفرت طائفة لم يتركز الإيمان في قلوبهم ومرقوا من الدين، ولم يقبلوا تحكيم أحد في كتاب الله ورأوا أنّ التحكيم خطأ، لأنّ حكمالله في الأمر واضح جليّ، والتحكيم يتضمّن شكّ كلّ فريق من المحاربين أيّهما المحقّ؟ وليس يصحّ هذا الشكّ، لأنّهم وقتلاهم إنّما حاربوا وهم مؤمنون.

هذه المعاني المختلجة في نفوسهم صاغها أحدهم في الجملة الآتية:لا حكم إلاّ لله فَسَرت هذه الجملة سير البرق إلى من يعتنق هذا الرأي، وتجاوبتها الأنحاء فأصبحت شعار هذه الطائفة - الخوارج - :

وعلى أيّ حال، فقد تكوّنت هذه الفرقة من عناصر مختلفة، وظهرت منهم مخالفة علي (عليه السلام) وتجرّأوا على مقامه. ونسبوا إليه ما لا يليق بشأنه.

وقد نظّموا اُمورهم، وقاموا بأمر لم يكن وليد وقته وإنّما هو أمر مدبّر من ذي قبل، فكانت حرب النهروان وقضى الإمام علي (عليه السلام) على زعمائهم.

واستمروا على اعتقادهم وحماسهم، وكانوا يظنّون أنّهم أشدّ فرق المسلمين دفاعاً عنه، وأظهروا غضبهم على كثير من الخلفاء، واستعملوا ألفاظاً معسولة في الدعوة إلى مبادئهم، وتظاهروا بالهدف الى العدل والمساواة، ولكنّهم تلبسوا بالظلم الى أبعد حدّ، وأباحوا دماء جميع المسلمين، وخضبوا البلاد الإسلامية بالدماء. وكانوا يتهوّرون في دعوتهم، ويتشدّدون في عقيدتهم، ويرون إباحة دماء المسلمين الذين يخالفون عقيدتهم، فالمسلم المخالف لهم لا عصمة لدمه.

ومن طريف أخبارهم: أنّهم أصابوا مسلماً ونصرانياً فقتلوا المسلم وأوصوا بالنصراني، وقالوا: احفظوا ذمة نبيّكم فيه. وقتلوا عبد الله بن خباب وفي عنقه مصحف، وقالوا: إنّ الذي في عنقك يأمرنا أن نقتلك، فقرّبوه إلى شاطئ النهر فذبحوه وبقروا بطن زوجته.

وساوموا نصرانياً نخلة له، فقال: هي لكم، فقالوا: والله ما كنّا لنأخذها إلاّ بثمن، فقال لهم النصراني: ما أعجب هذا ؟

أتقتلون مثل عبد الله بن خباب ولا تقبلوا منّا ثمن نخلة؟!. ( [73] )آراء الخوارج وفرقهم

اتّفق جمهور الخوارج على نظريتين :

1 - نظرية الخلافة: وهي أنّ الخليفة لا يكون إلا بانتخاب حرّ صحيح من المسلمين، ويستمر الخليفة ما قام بالعدل مبتعداً عن الزيغ والخطأ، فإن حاد وجب عزله أو قتله.

2 - إنّ العمل جزء من الإيمان، وليس الإيمان الاعتقاد وحده، فمن لم يعمل بفروض الدين وارتكب الكبائر فهو عندهم كافر. ولم يفرّقوا بين ذنب يرتكب عن قصد وسوء نيّة وخطأ في الرأي والاجتهاد يؤدي إلى مخالفة الصواب، وبهذا كفّروا جميع فرق المسلمين وأباحوا دماءهم.

والخوارج لا يرون أن يختصّ الخليفة ببيت من العرب، فليست الخلافة في قريش عندهم، وليست لعربي دون أعجمي، والجميع فيها سواء، بل يفضّلون أن يكون الخليفة من غير قريش ليسهل عزله أو قتله.

وبهذا استمالوا العناصر غير العربية، وجلبوا الموالي إليهم، لأنّ آراء الخوارج من شأنها أن تجعل للموالي الحقّ في أن يكونوا خلفاء، لذلك التحق بهم عدد كثير من الموالي، ولولا تعصّب بعض الخوارج عليهم لازداد عددهم، لأنّ هذه الآراء تفسح المجال لتدخّل الدخلاء في الإسلام، ومع ذلك فقد تكوّنت فرقة منهم انضمّت لفرقة الخوارج، وهم اليزيدية أتباع يزيد بن أنيسة الخارجي، وادّعوا أنّ الله سبحانه و تعالى يبعث رسولاً من العجم ينزل عليه كتاباً ينسخ الشريعة المحمدية. وكذلك تكونت فرقة الميمونية، أتباع ميمون العجردي، وأظهروا عقائد المجوس، فكانوا يبيحون نكاح بنات الأولاد وبنات أولاد الاُخوة، وبنات أولاد الأخوات.فرق الخوارج

ذُكر للخوارج فرق كثيرة قاربت العشرين فرقة على حسب اختلافهم في الآراء، وأهمّ فرقهم المشهورة :الأزارقة

وهم أتباع نافع بن الأزرق، وكان من أكبر فقهائهم. وقد كفّر جميع المسلمين. وقال: إنّه لا يحلّ لأحد من أصحابه أن يجيبوا أحداً من غيرهم إذا دعاهم إلى الصلاة، ولا أن يأكلوا من ذبائحهم، ولا أن يتزوّجوا منهم، ولا يتوارث الخارجي وغيره، وهم مثل كفّار العرب وعبدة الأوثان، لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. ودارهم دار حرب، ويحلّ قتل أطفالهم ونسائهم، ولا تحلّ التقية، واستحلّ الغدر بمن خالفه.

وأسقطوا الرجم عن الزاني إذ ليس له في القرآن ذكر، كما أسقطوا حدّ القذف عمّن قذف المحصنين من الرجال، مع وجوب الحدّ على قاذف المحصنات من النساء. وقالوا: يجوز أن يبعث الله نبيّاً يعلم أنّه يكفر بعد نبوّته، أو كان كافراً قبل البعثة.

وكان أصحاب نافع من أقوى فرق الخوارج وأكثرهم عدداً، خرجوا من البصرة معه، فتغلّبوا على الأهواز وما وراءها من بلدان فارس وكرمان، وقتلوا عمال تلك النواحي واشتدّت شوكتهم ووقعت حروب بينهم وبين الدولة الاُموية بما لا يسع المجال لذكرها .( [74] )النجدات

وهم أتباع نجدة بن عامر الحنفي. وهم الذين خالفوا نافعاً وانفردوا بتعاليم منها: إنّ المخطئبعد ان يجتهد معذور، وإنّ الدين أمران: معرفة الله، ومعرفة رسوله، وما عدا ذلك فالناس معذورون بجهله إلى أن تقوم عليهم الحجة، ومن أدّاه اجتهاده إلى استحلال حرام أو تحريم حلال فهو معذور. وأنّ من كذب كذبة صغيرة أو كبيرة أو نظر نظرة وأصرّ عليهما فهو مشرك. ومن شرب الخمر أو زنا أو سرق غير مصرّ على ذلك، فهو مسلم. ويوجبون قتل من خالفهم من المسلمين.( [75] )الأباظيـة

وهم أتباع عبد الله بن أباض التميمي، الذي خرج أيام مروان الحمار. آخر ملوك بني اُمية، ولا يزال أتباعه إلى اليوم في المغرب، ولعلّهم هم البقية من جميع فرق الخوارج الكثيرة. فقد انقرضت تلك الفرق ولم تبق منهم باقية إلاّ الأباضية، وهم على عقيدتهم في تكفير جميع المسلمين، ويعتذرون عنهم بأنّهم يذهبون إلى تكفيرهم لا على سبيل الشرك، بل يرون أنهم كفار نعمة.

ومن جملة آرائهم: أنّ دماء مخالفيهم حرام في السر لا في العلانية، ودارهم دار توحيد. وإنّهم ليسوا مشركين ولا مؤمنين، ويسمّونهم كفاراً، ولا يحلّ من غنائمهم في الحرب إلا الخيل والسلاح.

ولا يزال الأباضيون يؤلفون جماعات عديدة في أفريقية الشمالية، ويوجد فريق آخر بزنجبار بأفريقية الشرقية. أمّا الوطن الأصلي للأباضيين الذين يهاجرون إلى افريقية الشرقية فهو بلاد عمان العربية.

وقد حاولوا في السنوات الأخيرة أن يستنهضوا همّتهم ونشاطهم وأن يستعيدوا الشعور بكيانهم. وتقسم الأباضية ذاتها الى ثلاث شعب هي الحفصية، والحارثية، واليزيدية .( [76] )الصُفرية

وهم أتباع زياد بن الأصفر، وقولهم في الجملة كقول الأزارقة في أنّ أصحاب الذنوب مشركون، لكنّهم أقلّ تطرفاً منهم، وأشدّ من غيرهم، فلا يرون قتل أطفال مخالفيهم ونسائهم، والأزارقة يرون ذلك. واختلفوا في مرتكب الكبائر فلم يتفقوا على إشراكه، فمنهم من يرى أنّ ما كان من الأعمال عليه حد واقع لا يسمى صاحبه إلاّ بالاسم الموضوع له، وسمّاه الله به كالسارق والزاني، وما ليس فيه حدّ فمرتكبه كافر.

ومن زعماء الصفرية: أبو هلال مرداس، الذي خرج أيام يزيد بن معاوية بناحية البصرة، على عبيد الله بن زياد.

ومنهم: عمران بن حطان، وقد انتخبه الخوارج إماماً لهم، وهو القائل يمدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي :




  • يا ضربة من منيب ما أراد بها
    إنّي لأذكره يوماً فأحسبه
    أوفى البريّة عند الله ميزانا



  • إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا
    أوفى البريّة عند الله ميزانا
    أوفى البريّة عند الله ميزانا



وأجابه جماعة، منهم عبد القادر البغدادي المتوفّى (429 هـ) :




  • يا ضربة من كفور ما استفاد بها
    إنّي لألعنه ديناً وألعن من
    ذاك الشقيّ لأشقى الناس كلهم
    أخفّهم عند رب الناس ميزانا



  • إلاّ الجزاء بما يصليه نيرانا
    يرجو له أبداً عفواً وغفرانا
    أخفّهم عند رب الناس ميزانا
    أخفّهم عند رب الناس ميزانا



وعمران بن حطان قد خرّج حديثه البخاري ووثّقه( [77] )، وهذا من مزايا صحيحه وامتيازه .العجاردة

وهم أتباع عبد الكريم بن عجرد، وكانت العجاردة مفترقة عشرة فِرق، ثم افترقوا فرقاً كثيرة، منها ما يتعلّق بالقدر وقدرة العبد، ومنها ما يتعلّق بأطفال المخالفين. وقد فارقوا الأزارقة في عدم استحلال أموال مخالفيهم.

هذا جملة القول في أهم الخوارج. وقد بلغت فرقهم عشرين في العدد، وكل فرقة تخالف الاُخرى في تعاليمها وآرائها، إلا أنّهم اتفقوا على النظريتين السابقتين. كما أجمعوا على تكفير علي، وعثمان، وأصحاب الجمل، والحكمين ومن رضي بالتحكيم، وصوّب الحكمين أو أحدهما، واعترفوا بصحة خلافة الشيخين، وبهذا قد اكتسبوا الرضا من أكثر من كتب عن الفرق، فإنّك تجد اللهجة خفيفة في التعبير عنهم، وربّما وصفوا زعماءهم بالزهد والصلاح.

فالخوارج - مع عظيم إجرامهم - لا يوصفون بما وصف به الشيعة، فهم يكفّرون علياً، ولكن لا يعدّ هذا جرماً في نظر المتطرّفين، فلم يعبّروا عنهم كما يعبّرون عن الشيعة بتلك العبارات القبيحة، والألفاظ المستهجنة وهم يوالون عليّاً ويذهبون لأحقيّته بالخلافة.

وبدون شكّ أنّ حركة الخوراج كانت من أكبر العوامل التي هدّدت المسلمين بأخطار شتّى، وقد اتخذوا تكفير جميع فرق المسلمين وسيلة لنشاط دعوتهم، لأنّ ارتكاب الجرائم - بمبرر - يميل إليه أهل الشغب والأهواء .

ولو لم يكن من مبدئهم وجوب الخروج على أئمّة الجور لاستخدمتهم سياسة تلك العصور، ولعزّزت جانبهم للفتك بمن يريدون الفتك به.

ولكن ذلك الاعتقاد - وهو وجوب الخروج - هو الّذي أوجب أن تقاومهم السلطة، فتدور رحى الحرب معهم مدة من الزمن، وقد سجّل التاريخ عنها حوادث كثيرة.( [78] )

المعتزلة

يطول بنا الحديث عن المعتزلة إن أردنا بيان فرقها، وأسباب افتراقها وآرائها السياسية والدينية، ونشاطها الفكري، وحياتها العقلية. وقد اختلف في تاريخ نشأتها، وتسميتها بهذا الاسم، فهل كانت على عهد الصحابة أم على عهد الحسن البصري، لاعتزال واصل بن عطاء حلقة درس الحسن؟ الى كثير من الأبحاث حول هذه الفرقة. ونحن نكتفي بإلمامة موجزة لبيان الغرض فيذلك.

الأكثر على أنّ الاعتزال نشأ في البصرة، عندما اعتزل واصل بن عطاء المتوفى سنة (131 هـ). حلقة درس الحسن البصري، لمخالفته إياه في مسألة مرتكب الكبيرة، فقال واصل: أنا أقول إنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن بإطلاق، بل هو في منزلة بين المنزلتين، أي أنّ مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر، لكنّه فاسق، والفاسق يستحقّ النار بفسقه.فِرق المعتزلة

قال الخياط في كتاب الانتصار: ليس يستحقّ أحد اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالاُصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد، والوعيد، والمنزلة بين المنزلتين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإذا كمنت في الإنسان هذه الأصول الخمسة فهو معتزلي.( [79] )

وافترقت المعتزلة الى فرق كثيرة، منهم:

1 ـ الواصلية وهم أصحاب واصل بن عطاء .

2 - الهذيلية وهم أصحاب أبي الهذيل العلاف.

3 - النظامية وهم أصحاب النظام ابراهيم بن سيار.

4 - الحائطية وهم أصحاب أحمد بن حائط.

5 - البشرية وهم أصحاب بشر بن المعتمر.

6 - المعمرية وهم أصحاب معمر بن عباد السلمي.

7 - المزدارية وهم أصحاب عيسى، المكنى بأبي موسى الملقببالمزدار.

8 - الثمامية وهم أصحاب ثمامة بن أشرف النمري.

9 - الهشامية وهم أصحاب هشام بن عمر الفوطي.

10 - الجاحظية وهم أصحاب عمرو بن بحر الجاحظ.

11 - الخياطية وهم أصحاب أبي الحسين الخياط.

12 - الجبائية وهم أصحاب أبي علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي.

وغيرهم .

كما هو مذكور في كتب أهل المقالات والفرق، وقد ذكروا لهم أقوالاً شاذة وآراء فاسدة. وقد ألّف الأشعري كتاباً في تكفير النظام.

ويتّفق المعتزلة في الاعتقاد بأنّ الله قديم. والقدم أخصّ وصف لذاته ونفوا الصفات القديمة أصلاً فقالوا: هو عالم لذاته، قادر لذاته، حيّ لذاته، لا بعلم وقدرة وحياة، هي صفات قديمة ومعاني قائمة به لأنّه لو شاركته الصفات في القدم - الذي هو أخصّ الوصف - لشاركته في الإلهية.

واتفقوا على أنّ كلامه محدث مخلوق في محل. وهو حرف وصوت كتب أمثاله في المصاحف حكايات عنه، فأينما وجد في المحل عرض فقد فني فيالحال.

وأتّفقوا على أنّ الإرادة، والسمع، والبصر، ليست معاني قائمة بذاته.

واتّفقوا على أنّ العبد قادر خالق لأفعاله - خيرها وشرّها - مستحق على ما يفعله ثواباً وعقاباً في الدار الآخرة، والرّب منزّه أن يضاف إليه شرّ وظلم.

واتّفقوا على أنّ الحكيم لا يفعل إلاّ الصلاح والخير، ويجب من حيث الحكمة رعاية مصالح العباد. وأما الأصلح واللطف ففي وجوبه خلاف عندهم وسمّوا هذا النمط عدلاً.

واتفقوا على أنّ المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض والتفضل، ومعنىً آخر وراء الثواب. وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار، ويكون عقابه أخفّ من عقاب الكفار، وسمّوا هذا النمط عدلاً ووعيداً.

واتّفقوا على اُصول المعرفة وشكر النعمة واجبان قبل ورود السمع. والحسن والقبيح يجب معرفتهما بالعقل، واعتناق الحسن واجب، واجتناب القبيح واجب كذلك. وورود التكاليف ألطاف للباري تعالى، أرسلها إلى العباد بتوسط الأنبياء امتحاناً واختباراً.

واختلفوا في الإمامة والقول فيها - نصّاً واختباراً - كما هو بيّن في مقالاتهم وآراء فرقهم.

ولسنا هنا بصدد الاشتغال بتفصيل أقوالهم وآرائهم. وإنّ أهمّ غرض هو معرفتهم بموجز من القول، لأنّ المعتزلة كوّنوا جوّاً فكريّاً، وبرعوا في علم الكلام، وكانت الخصومة شديدة بينهم وبين رجال الشيعة، الذين اشتهروا في هذا العلم، كما أنّ النزاع بينهم وبين الأشاعرة والمجسّمة بلغ إلى درجة الخروج عن حدود المقبول، وتعدّى إلى التهريج والاعتداء، كما هو المذكور في تاريخ عصورهم.( [80] )المرجئة وفرقهم

وهم الذين يبالغون في إثبات الوعد، وهم عكس المعتزلة المبالغين في إثبات الوعيد، فهم يرجون المغفرة والثواب لأهل المعاصي، ويرجئون حكم أثبات الكبائر إلى الآخرة، فلا يحكمون عليهم بكفر ولا فسق ويقولون: إنّ الإيمان إنّما هو التصديق بالقلب واللسان فحسب، وإنّه لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، فالإيمان عندهم منفصل عن العمل. ومنهم من زعم أنّ الإيمان اعتقاد بالقلب، وإن أعلن الكفر بلسانه، وعبد الأوثان أو لزم اليهودية والنصرانية، وعبد الصليب، وأعلن التثليث في دار الإسلام، ومات على ذلك، فهو مؤمن كامل الإيمان عند الله، وهو وليّ الله، ومن أهل الجنة، ذكر ذلك ابن حزم .( [81] )

وكلمة الإرجاء على معنيين :أحدهما: التأخير مثل قوله تعالى: (قَالُوا أرجِه وأخَاهُ)( [82] ) أي أمهله وأخّره.ثانيهما: إعطاء الرجاء، أمّا إطلاق اسم - المرجئة - على الجماعة بالمعنى الأول فصحيح، لأنّهم كانوا يؤخرون العمل على النيّة والعقد، وأمّا بالمعنى الثاني فظاهر، لأنّهم كانوا يقولون : لا يضرّ مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، ولقد اضطربت الأقوال حول نشأة هذه الفرقة وبدء تكوينها، ولم نستطع بهذه العجالة تحديد ذلك على وجه التحقيق.

ويرى النوبختي: ولما قتل عليّ(عليه السلام) بسيف ابن ملجم المرادي واتفقت بقيّة الناكثين والقاسطين وتبعة الدنيا على معاوية فسمّوا المرجئة، وزعموا أنّ أهل القبلة كلّهم مؤمنون بإقرارهم الظاهر بالإيمان، ويرجون لهم جميعاًالمغفرة( [83] ).

وفي الواقع أنّ هذه الفرقة سياسية، ولكنّها أخذت تخلط بالسياسة اُصول الدين، فهم أعوان الاُمراء والمنضوون تحت لوائهم، يؤيّدون دولتهم مع ارتكابهم المحارم، وانغماسهم بالجرائم.

وقد فسح هذا المبدأ للمفسدين والمستهترين طريق الوصول إلى غاياتهم بما يرضي نهمهم، وقد اتخذّوه ذريعة لمآثمهم، ومبرراً لأعمالهم القبيحة، وساتراً لأغراضهم الفاسدة.

وقد أيّدوا - برأيهم هذا - خلفاء الدولة الاُموية، تأييداً عمليّاً، فهم في الواقع قد فتحوا باب الجرأة على ارتكاب المحارم، وأيّدوا المجرمين، ووازروا الظلمة، وهوّنوا الخطب في العقاب والمؤاخذة.

وافترقت المرجئة الى خمس فرق - كلّ فرقة تضلّل أختها - وهم :

(1) اليونسية - أصحاب يونس النميري.

(2) العبيدية - أصحاب عبيد بن مهران الكوفي.

(3) الغسانية - أصحاب غسان الكوفي، وهو غير غسان بن أبان المحدث، كما توهّم بعضهم، فإنّ غسان بن أبان يمانيّ وهذا كوفيّ .( [84] )

(4) الثوبانية - أصحاب أبي ثوبان المرجئ.

(5) التومنية - أصحاب أبي معاذ التومني.

ولكلّ فرقة أقوال وآراء، ذكرها المؤلّفون في الفرق، ولا يتّسع المجال بهذا العرض للتعرّض لذكرها بأكثر من هذا.( [85] )

الجبرية

الجبر: هو نفي الفعل عن العبد حقيقة، وإضافته الى الربّ حقيقة، وزعمت هذه الفرقة: أنّ الإنسان لا يخلق أفعاله، وليس له ممّا ينسب إليه من الأفعال شيء، فقوام هذا المذهب نفي الفعل عن العبد وإضافته إلى الربّ تعالى.

وقد اختلفت الأقوال في نشأة هذه الفرقة، ومن هو القائل بها أولاً، فقيل: إنّ أوّل من قال بهذه النحلة رجل يهودي، وقيل الجعد بن درهم، أخذها عن أبان بن سمعان، وأخذها أبان عن طالوت بن أعصم اليهودي. فهي على هذا فكرة يهودية، وقد ضلّ بها خلق كثير.( [86] )

وبهذا المذهب لا يكون للإنسان كسب ولا إرادة ولا اختيار ولا تصرف، فيما وهبه الله من نعمة العقل على حسبه، فكيف يكون له مطمع في ثواب أو خوف أو عقاب؟

وقد انتشر هذا المبدأ ومبدأ المفوّضة: وهم الذين يقولون بتفويض الأفعال إلى المخلوقين، ورفعوا عنها قدرة الله وقضاءه، عكس المجبّرة الذين أسندوا الأفعال إليه تعالى، وأنّه أجبر الناس على فعل المعاصي، وأجبرهم على فعل الطاعات، وأنّ أفعالهم في الحقيقة أفعاله، فكان أثر هاتين الفكرتين سيّئاً في المجتمع الإسلامي، تصدّى الإمام الصادق (عليه السلام) للردّ على هؤلاء، وأعلن العقيدة الصحيحة والرأي السديد في التوسّط بين الأمرين فقال (عليه السلام): لا جبر ولا تفويض ولكن أمرٌ بين أمرين ( [87] ) وخلاصته: أنّ أفعالنا من جهة، هي أفعالنا وتحت قدرتنا واختيارنا، ومن جهة اُخرى، هي مقدورة لله تعالى، وداخلة في سلطانه، فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي، لأنّ لنا القدرة على الاختيار فيما نفعل، ولم يفوّض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والأمر وهو قادر على كلّ شيء ومحيط بالعباد.

واعتقاد الشيعة في ذلك وسط بين المذهبين، كما بيّنه أئمّة الهدى، ودلّت عليه كلمة الإمام الصادق المشهورة.

وبالجملة، فإنّ عصر الإمام الصادق (عليه السلام) كان عصر مجادلات ونظر، واتسعت فيه دائرة الخلاف، وقد رأينا موقفه في مقابلتهم، وردع أهل الآراء الفاسدة والعقائد المخالفة للإسلام. وقام خلّص أصحابه وأعيانهم بقسط وافر من ذلك النضال دفاعاً عن تعاليم الإسلام الصحيحة. وقد مرّت بعض مناظراتهم كما احتفظ التاريخ بقليل منها.

وقبل أن نتخطّى موضوع البحث عن الفرق، يلزمنا ذكر ما يتّصل بالبحث، وتوضيح بعض الاُمور التي لها صلة بالموضوع.

نسبة أبي حنيفة إِلى المرجئة

ذكر أصحاب المقالات: أنّ أبا حنيفة كان من المرجئة، وحكى عنه غسان الكوفي الذي تنسب إليه الفرقة الغسانية: أنّه كان على مذهبه، ويعدّه من المرجئة، لأن أبا حنيفة كان يذهب إلى أنّ الإيمان هو الإقرار باللسان، وأنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص.

قال وكيع: سمعت الثوري يقول: نحن المؤمنون، وأهل القبلة عندنا مؤمنون في المناكحات، والمواريث، والصلاة، والإقرار. ولنا ذنوب ولا ندري ما حالنا عند الله؟. قال وكيع، وقال أبو حنيفة: من قال بقول سفيان هذا فهو عندنا شاك، نحن المؤمنون هنا وعند الله حقّاً. قال وكيع: ونحن نقول بقول سفيان. وقول أبي حنيفة عندنا جرأة .( [88] )

وعلى هذا فإنّ أبا حنيفة كان يذهب إلى أنّ العمل ليس جزءاً من الإيمان. وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين، الذين يرون أنّ العمل يدخل في تكوين الإيمان، من حيث تأثيره فيه بالزيادة والنقصان، وأبو حنيفة يرى أنّ الإيمان لا يزيد ولا ينقص وهو يعتبر أنّ إيمان أهل السماء وأهل الأرض واحد، كما تنصّ على ذلك الرواية عنه أنّه قال: إيمان أهل الأرض وأهل السماوات واحد، وإيمان الأولين والآخرين والأنبياء واحد، لأنّا كلّنا آمنا بالله وحده، وصدّقناه، والفرائض كثيرة مختلفة، وكذا الكفر واحد، وصفات الكفار كثيرة وكلّنا آمنا بما آمن به الرسل...الخ ( [89] ).

ويُروى عنه غير هذا، كما حدّث أبو إسحاق الفزاري أنّه سمع أبا حنيفة يقول: إيمان أبي بكر الصديق وإيمان إبليس واحد، قال إبليس: يارب. وقال أبو بكر الصديق: يا ربّ.

قال أبو إسحاق: ومن كان من المرجئة ثم لم يقل هذا انكسر عليه قوله .( [90] )وكذلك يُحكى عنه فى مساواة إيمان آدم وإيمان إبليس.

ويقول محمد بن عمرو: سمعت أبا مسهر يقول: كان أبو حنيفة رأسالمرجئة.

وقال عمر بن سعيد بن سالم: سمعت جدّي يقول. قلت لأبي يوسف: أكان أبو حنيفة مرجئاً؟ قال: نعم .

قلت: أكان جهمياً؟ قال: نعم.

قلت: فأين أنت منه ؟

قال: إنّما كان أبو حنيفة مدرّساً. فما كان من قوله حسناً قبلناه وما كان قبيحاً تركناه. ومثله عن محمد بن سعيد عن أبيه .( [91] )

وكانت هذه التهمة وسيلة للتشنيع على أبي حنيفة، وناله كثير من العلماء بالطعن وخالفوه في مسألة الإيمان. وقد جاء عن أبي حنيفة( [92] ) ما يبيّن الفرق بين مذهبه ومذهب المرجئة الذين أهملوا ناحية العمل بالطاعة، وعدم ادخالهابالحساب.

تقوّلات حول فرق الشيعة

إنّ موضوع البحث عن الفرق وتعددها موضوع مضطرب شائك، ولا يستطيع الكاتب أن يجزم بكلّ ما نقله أهل المقالات، لأنّهم قد أفرطوا إلى أبعد حدّ، وتقبّلوا كلّ نسبة على حسب مفهومها السطحي بدون تثبّت وتأمّل. وقد تعصّب أكثرهم على من يخالف رأيه، فينقل عنهم آراءً على غير وجهها ولا يصح قول مخالف ما لم يؤيد بثبوته من غير طريقه. وإن هناك آراءً فردية نسبوها لجماعة لا وجود لها، وقد تعصّب أكثر الكتاب في الموضوع، فنقلوا المذاهب على خلاف الواقع، وأكثرهم قد افتعل فرقاً خيالية كقولهم في عدّ فرق الشيعة إنّ منهم الهشامية وهم فرقتان: فرقة تنسب إلى هشام بن الحكم والاُخرى تنسب الى هشام بن سالم الجواليقي، ونسبوا إليهما آراءً خاطئة، وأقوالاً كاذبة.

وكذلك جعلوا من فرق الشيعة فرق الزرارية، نسبة إلى زرارة بن أعين والشيطانية نسبة الى شيطان الطاق، وهو محمد بن النعمان المعروف عند الشيعة بمؤمن الطاق. وكلّ هذا من الاُمور المرتجلة التي لا حقيقة لها، وإنما هي افتعال وتقوّل بالباطل، إذ الشيعة تستمدّ من مصدر واحد، وتستقي من ينبوع أهل البيت(عليهم السلام) .

وقد شقّ على مرضى النفوس أن يبلغ رجال الشيعة درجات رفيعة في العلم بلغت حدّ التميز الذي يجتذب النفوس ويستميل العقول حتى كان لكثير منهم جماعة يعرفون باسم من يتصدرهم كجماعة زرارة، وهم في مطارحاتهم ومناظراتهم يشبعون المسائل بحثاً واستقصاءً وتدور ما بين جماعة فلان من أصحاب الإمام الصادق وجماعة فلان من أصحاب الإمام أيضاً مناقشات هي على نمط ما يجري بين حلقات العلماء اليوم فاختلقوا من المتعلمين على زرارة والمتصلين به فرقة. فزرارة ـ كما مرّ ـ من مشاهير رجال الشيعة وهو من أصحاب الإمام الباقر والإمام الصادق وهو شيخ الأصحاب في زمانه ومتقدمهم قارئاً فقيهاً متكلّماً، ومؤمن الطاق من أحبّ الناس الى الإمام الصادق كما قال(عليه السلام)أحياءً وأمواتاً. ومؤمن الطاق المتميز بقوة التفكير وعمق النظرة ووضوح الحجة وسعة العلم، كان له دوره البارز في التوجيه والإرشاد وعقد المناظرات وخوض المجادلات، فكان حاضر الجواب حاذقاً في فنّ الكلام، شدّ إليه الأنظار; فنسبوا إليه فرقة (الشيطانية)، والتسمية تكشف عن القصد والغرض من وراء اختراع هذه الفِرق واختلاقها فاطلق لقب (شيطان الطاق) من قبل أعداء الشيعة وخصوم مؤمن الطاق ـ كما مرّ بنا ـ .

وأوضح شيء من هذا الشذوذ هو إجماعهم على وجود فرقة السبائية المنسوبة لعبد الله بن سبأ، تلك الشخصية الموهومة، وما قضيته إلاّ اُسطورةسياسية.

والشيء الذي يلزمنا التنبيه عليه هو متابعة بعض المؤلفين لبعض، فإنّ الشهرستاني قد كتب في الفرق، معتمداً على عبد القاهر البغدادي( [93] )، والاسفرائيني ( [94] ) كان تلميذ عبد القاهر وصهره، وعبارتهما في التعبير واحدة. أمّا ابن حزم فذاك فارس ميدان التعصّب والتقول على الشيعة.

قال الرازي في مناظرته مع أهل ما وراء النهر، في المسألة العاشرة عند ذكره لكتاب الملل والنحل: إنّه كتاب حكى فيه مذاهب أهل العالم بزعمه، إلاّ أنّه غير معتمد عليه، لأنّه نقل المذاهب الإسلامية من الكتاب المسمّى بالفَرق بين الفِرق، من تصانيف الاُستاذ أبي منصور البغدادي، وهذا الاُستاذ كان شديد التعصّب على المخالفين، ولا يكاد ينقل مذهبهم على الصحيح. ثم إنّ الشهرستاني نقل مذاهب الفرق الإسلامية من ذلك الكتاب، فلهذا السبب وقع الخلل فيه.

وعلى أيّ حال، فإنّ موضوع الفرق يحتاج الى دقّة في البحث وتأمّل في سير الحوادث والتطور. وهو إلى الآن لم ينل دراسة عادلة. وخوضاً دقيقاً وغربلة وتمحيصاً، فإنّ حصر الفرق الإسلامية بهذا العدد غير وجيه، والحديث الذي يشير إلى تعددها فيه مناقشة من حيث الدلالة والسند لاختلاف ألفاظه وإن كثرت طرقه. وعسى أن ينال هذا الموضوع دراسة دقيقة لإخراج الزوائد، وإيضاح دسائس المغرضين، وبيان خطأ المؤرخين في ذلك.( [95] )

ومن الغريب أن ينفرد الدكتور أحمد أمين في كتابه ظهر الإسلام، يعدّ القرامطة والزنج من فرق الشيعة! بل لا غرابة في تجاوز الدكتور وتحدّيه للشيعة، فقد برهن على تعصّبه الشائن وتجاهله المعيب، إذ هو كما يقول الشاعر:




  • إن يسمعوا الخير أخفوه وإن علموا
    شرّاً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا



  • شرّاً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا
    شرّاً أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا



ويؤلمني أن أقول: إنّ الدكتور يفقد توازنه عندما يتناول الشيعة بالبحث كما يتجرّد عن جميع معلوماته، ويتخلّى عن تفكيره وإدراكه، وكان بوسعه أن يدقّق ويبحث كأديب أو مؤرخ، ولكنه مقلّد للمستشرقين الذين يتقوّلون على المسلمين ويثيرون الفتن ويفتعلون الأقاويل.

كما كان بوسعه أن يثبت وأن يقارن بين عقائد الشيعة وعقائد القرامطة والزنوج، إن وجد مصدراً يذكر ذلك.

وكم كان يسعدنا لو أثبت ما أدّى إليه الحوار معه، ودون ما أقرّه على نفسه من تعصّب وتحامل، وأنجز ما وعد من إعلان العدول عن أقواله.حول فرق الغلاة

تركنا البحث هنا عن فرق الغلاة، اكتفاءً بما مرّ في الأجزاء السابقة، وسيأتي في الجزء الرابع مزيد بيان. وقد ذكرنا هناك أنّ حركتهم كانت ضد الإسلام بصورة عامة، وضدّ أهل البيت(عليهم السلام)بصورة خاصة، لأنّ انتحالهم حبّ أهل البيت(عليهم السلام)يفتح لخصومهم طريق الوقيعة في أتباعهم، وقد وقع ذلك بدون التفات إلى التباين بين تعاليم أهل البيت(عليهم السلام)وبين ما يذهب إليه الغلاة.

وكما قلت سابقاً: إنّ الكوفة قد عرفت بالتشيّع، وهي تموج بعناصر مختلفة لكثرة المهاجرين إليها، من المدن المجاورة لها والنائية عنها، وذلك عند اتساع نشاط الحركة العلمية، فكانت جماعة المتدخلين في الإسلام يبثّون سمومهم في ذلك المجتمع، ويتناقل الناس مع مساعدة السلطة تلك الأخبار فتنسب للكوفة، والكوفة شيعية.

وقد أعلن الإمام الصادق(عليه السلام)براءته منهم، وجهر بلعنهم، وقد دخل الكوفة عدّة مرات ينشر تعاليم الإسلام الصحيحة، ويظهر للملأ فساد عقائد الغلاة، وواصل كفاحه في مقابلتهم حتى بادت جماعتهم بتلك السرعة، وقبرها في مقرها الأخير، ولم يبق لهم أثر إلا في بطون الكتب.

وأبت نفوس من يضربون على وتر سياسة تلك العصور، ويترنحون بنغمات الهجاء والطعن على شيعة أهل البيت(عليهم السلام)، إلاّ أن يقيموا تلك الرمم البالية، ويخرجوا تلك الجيف النتنة لتكون عاراً على الإسلام، ومنظراً بشعاً، يدلّ عليه من لا يودّ إظهار محاسنه للأجيال انتصاراً لدينهم، وانتقاماً لأسلافهم (أوْلَـئكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)( [96] ) .

الإمام الصادق(عليه السلام)وصاياه وَحِكَمه

الإمام الصادق(عليه السلام) وصاياه وَحِكَمه تمهيد

للإمام الصادق (عليه السلام) من التراث الفكري والفكر الخوالد، والآراء والحكم والمواعظ مالا يحيط بها الإحصاء، أو تنالها يد الحصر والتتبّع إلا بجهد ومشقة.وهي على كثرتها قليلة بالنسبة إليه، لما قام به من التوجيه والإرشاد والهداية في عصر ضلّت به قافلة الاُمة، وحدا بالركب غير سائقه، فقام (عليه السلام) بما يجب عليه أن يقوم به من الإرشاد والدعوة إلى الصلاح والإصلاح، يلتمس كلّ ما يجد فيه طريقاً للوصول إلى الغاية التي ينشدها، فهو حيث كان وأينما حلّ لا ينفكّ عن تأدية رسالته في الإرشاد إلى الهدى، والدعوة إلى الحق، ويحاول أن ينتصر المجتمع الإسلامي على ميوله ونزعاته، ويهذّب نفوسهم من دنس الرذائل ويحملهم على اعتناق الفضائل، ويودّ للمسلم أن يكون كما أراد الله له وجاء به النبيّ(صلى الله عليه وآله) .

فهو حريص على هداية الاُمة، يواصل جهاده في مكافحة الأوضاع الشاذّة، ويعلن آراءه ضدّ نظام ذلك الحكم الجائر. ولقد كان (عليه السلام) دوماً صوت إصلاح داوي، وصرخة إرشاد عالية، يدعو الناس إلى التمسّك بمبادئ الإسلام وهدى القرآن، وقد عرف أوضاع الاُمة، وما أصابها من تفكّك وهوان، ورأى أنّ الداء وراء تحكّم النّزاعات في النفوس، وأنّ الدواء هو التزام مبادىء الدين وأحكامه، وأنّ رسوخ العقيدة في القلوب قوة لأفرادالاُمة، ومنعة لكيان المجتمع من تحكّم النزعات، وانتشار الرذيلة، كما أنّها سلاح فاتك يرهب ولاة الجور، فكان(عليه السلام) لا تفوته فرصة دون أن يدعو إلى اعتناق الفضائل ومحاربة الرذيلة، ليصبح المجتمع متماسكاً يستطيع أن يوحّد كلمته في مقابلة الظالمين، الذين استبدّوا بالحكم، وابتعدوا عن الإسلام. وأنّ الثورة الدموية ضدّهم لا تعود على المجتمع إلاّ بالضرر، لأنّهم اُناس عرفوا بالقسوة وسوء الانتقام، ولهم أعوان يشدّون أزرهم، وأنصار يدافعون دونهم، فالإمام الصادق(عليه السلام) كان يهتمّ بإصلاح الوضع الداخلي، فكان يرسل وصاياه عامة شاملة، وينطق بالحكمة عن إخلاص وصفاء نفس، وحبّ للصالح العام ليعالج المشاكل الاجتماعية وانتظم من أصحابه رجال عهد إليهم بمهمات الإصلاح، وكلّفهم بأعمال الخير، كما كوّن منهم معلمين ورواة في ظلّ مدرسته، ومجاهدين ودعاة في مسير ركبه. كان(عليه السلام) يدعو الناس إلى الورع عن محارم الله والخوف منه تعالى والامتثال لأوامره، والشعور بالمسؤولية أمام الله تعالى، وجعل يوم الحساب ماثلاً أمام أعينهم، مع حثّهم على التكسب وطلب الرزق كما كان يحثّ على العمل ويعمل بنفسه، وينهى عن الكسل والبطالة. ويأمر بطلب الرزق كما أمر الله تعالى.

يحدّثنا العلاء بن كامل: أنّه جاء إلى الإمام الصادق(عليه السلام) فقال له: يا أبا عبد الله، ادع الله أن يرزقني في دعة.

فقال(عليه السلام): لا أدعو لك، أطلب كما أمرك الله ورسوله .( [97] )

وعلى أيّ حال فإنّ حكم الإمام ووصاياه تشرق على وجه الزمان إلى آخر الزمان، وقد ذكرنا في الجزء الثاني طرفاً منها، ونحن هنا نذكر بعض مالم نذكره في ذلك الجزء من تلك الوصايا القيّمة، والحِكم الخالدة، سواء كانت عامة شاملة يرسلها إلى الأطراف النائية، أم كانت وصايا خاصة لبعض الأفراد، وهي كالأولى في عمومها وشمولها، وإليك طرفاً من ذلك.وصية عامّة إلى جميع أصحابه صبّروا النفس على البلاء في الدنيا، فإن تتابع البلاء فيها، والشدة في طاعة الله وولايته، وولاية من أمر بولايته، خير عاقبة عند الله في الآخرة، من ملك الدنيا وإن طال تتابع نعيمها، وزهرتها وغضارة عيشها في معصية الله، وولاية من نهى الله عن ولايته وطاعته، فإن الله أمر بولاية الأئمة الذين سماهم في كتابهبقوله: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا)( [98] ).إن الله أتم لكم ما آتاكم من الخير. واعلموا أنّه ليس من علم الله ولا من أمره أن يأخذ أحد من خلق في دينه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء، وجعل للقرآن وتعلم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن - الذين آتاهم الله علمه - أن يأخذوا فيه بهوى ولا رأي ولا مقاييس، أغناهم الله عن ذلك بما آتاهم من علمه وخصّهم به، ووضعه عندهم، وكرامة من الله أكرمهم بها. وهم أهل الذكر الذين أمر الله هذهالاُمة بسؤالهم...أكثروا ذكر الله ما استطعتم في ساعة من ساعات الليل والنهار، فإنّ الله تعالى أمر بكثرة الذكر له، والله ذاكر لمن ذكره من المؤمنين.واعلموا أنّ الله لم يذكره أحد من عباده المؤمنين إلا ذكره بخير، فاعطوا الله من أنفسكم الاجتهاد في طاعته، فإنّ الله لا يدرك شيء من الخير عنده إلاّ بطاعته، واجتناب محارمه.واتبعوا آثار رسول الله وسنته فخذوا بها، ولا تتبعوا أهواءكم وآراءكم فتضلوا، فإن أضلّ الناس عند الله من اتبع هواه ورأيه بغير هدى من الله.وأحسنوا إلى انفسكم ما استطعتم، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها.وجاملوا الناس ولا تحملوهم على رقابكم، وإيّاكم وسبّ أعداء الله - حيث يسمعونكم - فيسبّوا الله عدواً بغير علم.واعلموا أنّه لن يؤمن عبد من عبيده حتى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه، وصنع به على ما أحبّ وكره.وعليكم بالمحافظة على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله قانتينكما أمر الله المؤمنين في كتابه من قبلكم.وعليكم بحبّ المساكين المسلمين، فإنّ من حقّرهم وتكبّر عليهم فقد زلّ عن دين الله ، والله له حاقر وماقت. وقد قال أبونا رسول الله(صلى الله عليه وآله): أمرني ربي بحبّ المساكين المسلمين منهم.واعلموا أنّه من حقّر أحداً من المسلمين ألقى الله عليه المقت منه حتى يمقته الناس، والله له أشدّ مقتاً، فاتقوا الله في إخوانكم المسلمين المساكين منهم، فإنّ لهم عليكم حقاً أن تحبّوهم، فإنَّ الله أمر نبيه(صلى الله عليه وآله)بحبّهم، فمن لم يحب من أمر الله بحبه فقد عصى الله ورسوله، ومن مات على ذلك مات من الغاوين.وإياكّم والعظمة والكبر، فإنّ الكبر رداء الله تعالى، فمن نازع الله رداءه قصمه الله وأذلّه يوم القيامة.وإيّاكم أن يبغي بعضكم على بعض، فإنّها ليست من خصال الصالحين، فإنّه من بغى صيّر الله بغيه على نفسه، وصارت نصرة الله لمن بغي عليه، ومن نصره الله غلب وأصاب الظفر من الله.وإياكم أن يحسد بعضكم بعضاً، فإن الكفر أصله الحسد.وإياكم أن تعينوا على مسلم مظلوم، فيدعو الله عليكم فيستجاب له فيكم. فإنّ أبانا رسولالله(صلى الله عليه وآله) كان يقول: إن دعوة المظلوم مستجابة.وليعن بعضكم بعضاً، فإنّ أبانا رسول الله(صلى الله عليه وآله) كان يقول: إنّ معونة المسلم خير وأعظم أجراً من صيام شهر واعتكافه في المسجد الحرام.وإياكم وإعسار أحد من إخوانكم فإنّ أبانا رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يقول:ليس لمسلم أن يعسر مسلماً، ومن أنظر معسراً أظلّه الله يوم القيامة بظلّه، يوم لا ظلّ إلا ظلّه.واعلموا أنّه ليس بين الله وبين أحد من خلقه، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، ولا من دون ذلك كلّهم، إلا طاعتهم له، فجدوا في طاعة الله، إن سرّكم أن تكونوا مؤمنين حقّاً حقّاً، ولا قوة إلا بالله.وإيّاكم ومعاصي الله أن تركبوها، فإنّه من انتهك معاصي الله فركبها، فقد أبلغ في الإساءة إلى نفسه، وليس بين الإحسان والإساءة منزلة، فلأهل الإحسان عند ربّهم الجنة، ولأهل الإساءة عند ربّهم النار، فاعملوا بطاعة الله، واجتنبوا معاصيه واعلموا أنّه ليس يغني عنكم من الله أحد من خلقه، لا ملك مقرب، ولا نبيّ مرسل، ولا من دون ذلك، فمن سرّه أن تنفعه شفاعة الشافعين فليطلب الى الله أن يرضى عنه.وإياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء ممّا حرم الله عليكم، فإنّه من انتهك ما حرم الله عليه ههنا - في الدنيا - حال الله بينه وبين الجنة ونعيمها، ولذّاتها وكرامتها الدائمة لأهل الجنة أبد الآبدين.واعلموا أنّه بئس الحظ الخطر لمن خاطر بترك طاعة الله، وركب معصيته، فاختار أن ينتهك محارم الله، في لذات دنيا منقطعة زائلة عن أهلها، على خلود نعيم في الجنة ولذاتها، وكرامة أهلها، ويل لأولئك، ما أخيب حظّهم، وأخسر كرَّتهم وأسوأ حالهم عند ربّهم يوم القيامة! استجيروا الله أن يجيركم في مثالهم أبداً وأن يبتليكم بما ابتلاهم به ولا قوة لنا ولكم إلا به.فاتقوا الله وسلوه أن يشرح صدوركم للإسلام، وأن يجعل ألسنتكم تنطق بالحقّ حتى يتوفاكم وأنتم على ذلك، وأن يجعل منقلبكم منقلب الصالحين ولا قوة إلاّ بالله، والحمد لله ربّ العالمين .( [99] )وصيته لعنوان البصري

وعنوان هو شيخ بصري قدم المدينة لطلب العلم، اتّصل بمالك بن أنس، ثم اتّصل بالإمام الصادق (عليه السلام)، فقال له الإمام: إذا أردت العلم فاطلب أولاً فينفسك

حقيقة العبودية .

قال عنوان البصري: فقلت: ما حقيقة العبودية ؟

فقال الإمام الصادق (عليه السلام): ثلاثة أشياء: أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكاً لأن العبيد لا يكون لهم ملك، بل يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله هي فيما أمره الله به ونهاه عنه، وإذا لم ير العبد فيما خوّله الله ملكاً هان عليه الإنفاق فيما أمره الله، وإذا فرض تدبير نفسه إلى مدبّره هانت عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل بما أمره الله به ونهاه عنه لا يتفرّغ إلى المراء والمباهاة مع الناس، فإذا أكرم الله العبد بهذه الثلاث هانت عليه الدنيا، فلا يطلبها تفاخراً وتكاثراً، ولا يطلب عند الناس عزّاً وعلوّاً، ولا يدع أيّامه باطله، فهذا أول درجة المتقين، قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الاَْرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)( [100] ).

فقال عنوان: يا أبا عبد الله أوصني. فقال: اُوصيك بتسعة أشياء فإنها وصيتي لمريدي الطريق إلى الله، والله أسأل أن يوفّقك لاستعمالها: ثلاثة منها في رياضة النفس، وثلاثة منها في الحلم، وثلاثة منها في العلم، فاحفظها وإيّاك والتهاون بها.أما اللواتي في الرياضة: فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه فإنّه يورث الحمق والبله، ولا تأكل إلاّ عند الجوع، فإذا أكلت فكل حلالاً وسمّ الله تعالى، واذكر حديث النبي (صلى الله عليه وآله) ما ملأ آدمي وعاءً أشدّ شراً من بطنه، فإن كان ولابدّ فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه.وأمّا اللواتي في الحلم: فمن قال لك : إن قلت واحدة سمعت عشراً، فقل له: إن قلت عشراً لم تسمع واحدة، ومن شتمك فقل له: إن كنت صادقاً فيما تقوله فأسأل الله أن يغفر لي، وإن كنت كاذباً فأسأل الله أن يغفر لك، ومن وعدك بالخيانة فعدّه بالنصيحة والوفاء.وأما اللواتي في العلم: فاسأل العلماء ما جهلت، وإيّاك أن تسألهم تعنتاً وتجربة وإياك أن تعدل بذلك شيئاً، وخذ بالاحتياط في جميع اُمورك ما تجد إليه سبيلاً، واهرب من الفتيا فرارك من الأسد، ولا تجعل رقبتك للناس جسراً.( [101] )وصيته (عليه السلام) لعمرو بن سعيد

قال عمرو بن سعيد بن هلال: قلت لأبي عبد الله الصادق (عليه السلام) إني لا أكاد ألقاك إلاّ في السنين فأوصني بشيء آخذ به، قال (عليه السلام): أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث، والورع والاجتهاد، واعلم أنه لاينفع اجتهاد لا ورع معه، وإيّاك أن تطمح نفسك إلى من فوقك، وكفى بما قال عز وجل: (فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلَـدُهُمْ)( [102] ). وقال عزّ وجل لرسوله: (وَلاَتَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَامَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)( [103] )( [104] ).فإن خفت شيئاً من ذلك فاذكر عيش رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنما كان قوته الشعير، وحلواه التمر، ووقوده السعف إذا وجده.وإذا اُصبت بمصيبة فاذكر مصابك برسول الله، فإنّ الخلق لم يصابوا بمثله قطّ.وصيّته للمفضل بن عمر

قال (عليه السلام): أوصيك ونفسي بتقوى الله وطاعته، فإنّ من التقوى الطاعة والورع والتواضعلله، والطمأنينة والاجتهاد والأخذ بأمره، والنصيحة لرسُله، والمسارعة في مرضاته، واجتناب ما نهى عنه، فإنّ من يتقّ الله فقد أحرز نفسه من النار بإذن الله، وأصاب الخير كله في الدنيا والآخرة. ومن أمر بتقوى الله فقد أفلح الموعظة، جعلنا الله من المتقين برحمته( [105] )

ومن وصيته أيضاً ـ للمفضّل بن عمر ـ اُوصيك بست خصال: تبلّغهن شيعتي، قال المفضل: وماهي يا سيدي؟ قال(عليه السلام): أداء الأمانة الى من أئتمنك وأن ترضى لأخيك ماترضى لنفسك، واعلم أن للاُمور أواخر فاحذر العواقب وأن للاُمور بغتات فكن على حذر، وإيّاك ومرتقى جبل إذا كان المنحدر وعراً، ولا تعِدنّ أخاك بما ليس في يدك وفاؤه( [106] )وصيّته لحمران بن أعين

قال (عليه السلام): ياحمران أنظر إلى من هو دونك ولا تنظر إلى من هو فوقك في المقدرة، فإنّ ذلك أقنع لك بما قسم لك، وأحرى أن تستوجب الزيادة من ربّك.واعلم: أنّ العمل الدائم القليل على اليقين، أفضل عند الله من العمل الكثير على غيريقين.واعلم: أن لا ورع أنفع من تجنّب محارم الله، والكفّ عن أذى المؤمنين واغتيابهم، ولا عيش أهنأ من حسن الخلق، ولا مال أنفع من القنوع باليسير المجزي، ولا جهل أضرّ منالعجب( [107] )

وهكذا كان الإمام الصادق(عليه السلام) يواصل أصحابه بوصاياه القيّمة، وتعاليمه التي تدلّعلى شدّة اهتمامه بتوجيه الدعوة إلى الرشاد وطريق الهدى.

وكان يرسل وصاياه العامة مع من يحضر عنده من أصحابه، ويلزمهم أن يبلّغوا من يلقونه من أصحابهم كقوله: أقرأوا من لقيتم من أصحابكم السلام، وقولوا لهم: فلان بن فلان - يعني نفسه - يقرؤكم السلام، إني والله ما آمركم إلا بما نأمر به أنفسنا، فعليكم بالجدّ والاجتهاد.وإذا صلّيتم الصبح وانصرفتم فبكروا في طلب الزرق واطلبوا الحلال، فإنّ الله عز وجل سيرزقكم ويعينكم عليه( [108] )

ويحدّثنا زيد الشحام، قال: قال لي أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): اقرأ منترى أنّه يطيعني منكم السلام وأوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع في دينكم، والاجتهاد لله وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله).أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط.صِلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة، وحسن خُلقه مع الناس وقيل هذا جعفري، يسرّني ذلك ويدخل عليَّ منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان غير ذلك دخل عليَّ بلاؤه وعاره( [109] ).

ونقف عند هذا الحد من ذكر وصاياه التي كان يوجهها إلى أصحابه، وقد ذكرنا بعضاً منها في الجزء الثاني( [110] )، ولكثرتها لا نستطيع حصرها في جزء واحد، وسنواصل نشرها إن شاء الله تعالى في بقيّة الأجزاء.حِكَمــه (عليه السلام)

كانت وصاياه(عليه السلام) هي لغته في مخاطبة العقول وطريقيّته في تربية النفوس يستمدّها من الدين والعقيدة، ويتّجه بها الى المجتمع والأفراد.

وأما حكمه(عليه السلام) فهي خلاصة المعاني وصفوة الأفكار يقولها لمختلف الأغراض الدينية والأخلاقية والاجتماعية بخبر وأمر ووصف تنمّ عن عمق إيمانه وكمال شخصيته وعظيم خصاله، وكلّ قول يرقى الى الحكمة يأتي عن دراية وتجربة فما ظنّك بإمام يتولّى بنفسه مواجهة الأخطار التي تهدّد المجتمع من مصادرها السياسية والفكرية ويتسنّى أمر المسلمين في مرحلة تشتدّ فيها وسائل الحكام في مراقبته والإيقاع به، ويرى نفسه مسؤولاً عن الاُمة مهما تزايد ظلم الحكام وجورهم فهو يدنو من المجتمع الإسلامي في عمومه وتعدّد أقطاره، ويعايش الأفراد وتصرفاتهم معايشة المصلح الموجّه والحكيم المرشد وإليك باقة من تلك الحكم الخوالد:* أفضل الملوك من اُعطي ثلاث خصال: الرأفة، والجود، والعدل، وليس يحبّ للملوك أن يفرطوا (أي يقصروا) في ثلاث: في حفظ الثغور، وتفقد المظالم، واختيار الصالحين لأعمالهم.* ثلاثة لا يعذر المرء فيها: مشاورة ناصح، ومداراة حاسد، والتحبب إلى الناس.* احذر من الناس ثلاثة: الخائن، والظلوم، والنمام. لأنّ من خان لك خانك، ومن ظلم لك سيظلمك، ومن نمّ إليك سينمّ عليك.* ثلاثة من تمسّك بهن نال من الدنيا بغيته: من اعتصم بالله، ورضي بقضاء الله، وأحسن الظنبالله.* كل ذي صناعة مضطر إلى ثلاث خلال يحتلب بها المكسب: أن يكون حاذقاً في عمله، مؤدياً للأمانة فيه، مستميلاً لمن استعمله.*إذا لم تجتمع القرابة على ثلاثة أشياء، تعرّضوا لدخول الوهن عليهم، وشماتة الأعداء بهم، وهي ترك الحسد فيما بينهم لئلاّ يتحزّبوا فيتشتت أمرهم، والتواصل ليكون ذلك حادياً لهم على الإلفة، والتعاون لتشملهم العزّة.*ثلاثة لايصيبون إلاّ خيراً: أولو الصمت، وتاركو الشر، والمكثرون ذكر الله عزّ وجل.*ورأس الحزم التواضع، فقال له بعضهم: وما التواضع؟ قال: أن ترضى من المجلس بدون شرفك وأن تسلّم على من لقيت، وأن تترك المراء وإن كنت محقّاً.*خذ من حسن الظن بطرف تروج به وتروح به قلبك.*من ظهر غضبه ظهر كيده، ومن قوي هواه ضعف عزمه، ومن أنصف من نفسه رضي حكماًلغيره.* العجب يكلّم المحاسن، والحسد للصديق من سقم المودّة، ولن تمنع الناس من عرضك إلا بما تنشر عليهم من فضلك.* العز أن تذلّ للحق إذا ألزمك.* من أخلاق الجاهل الإجابة قبل أن يسمع، والمعارضة قبل أن يفهم، والحكم بما لايعلم.* من أدب الأديب دفن أدبه.* إنّ خير ماورَّث الآباء لأبنائهم الأدب لا المال، فإنّ المال يذهب والأدب يبقى.* لاتطعنوا في عيوب من أقبل إليكم بمودّة، ولا توقفوه على سيئة يخضع لها فإنّها ليست من أخلاق رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ولا من أخلاق أوليائه.ومن حِكَمـه العلم جُنّة. والصدق عزّ. والجهل ذلّ. وحسن الخلق مجلبة للمودة. والعالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس. والحزم مشكاة الظن. والله وليّ من عرفه. والعاقل غفور والجاهل ختور. وإن شئت أن تكرم فلن. وإن شئت أن تهان فاخشن. ومن كرم أصله لان قلبه، ومن خشن عنصره غلظ كبده. ومن فرّط تورّط. ومن خاف العاقبة تثبت فيما لا يعلم. ومن هجم على أمر من غير علم جدع أنف نفسه( [111] ).

* * *

ونكتفي بهذا الموجز من البيان لبعض وصايا الإمام الصادق (عليه السلام) وحكمه، وسيأتي كثير منها في ثنايا البحث، وإنّ استقصاءنا لها يستلزم وضع مؤلف كبير في ذلك، لأنّها تشتمل على اُمور هامة ومواعظ نافعة تتناول كلّ نواحي الحياة ومشاكل عصره، وقد بذل جهده في ايجاد قوّة فعالة تتجه نحو الخير ليحيى المسلمون حياة طيبة، ولا يحصل ذلك إلا في توثّق العلاقات بينهم، وإيجاد المحبّة في قلب المسلم لأخيه المسلم في قمع غرائز الأثرة، والابتعاد عن الرذائل واتباع المثل العليا في الإسلام.

وكان الإمام الصادق (عليه السلام) وحيد عصره في مختلف العلوم والفنون، وظهرت في شخصيّته آثار الوراثة بأجلى صورها، إذ هو رضيع ثدي الإيمان، ووليد بيت الوحي، ووارث علم النبي، وحافظ لتراثه. وكانت الآمال تتركز حول شخصيته لذلك لم نجد مدرسة اسلامية تطاول مدرسته في الشهرة، أو تماثلها في منهجها الذي سارت عليه. وقد انتشر مذهبه في أقطار الأرض، رغم تلك الحواجز التي وقفت في طريقه، فهو بقوّته القدسيّة قد ذللّ المصاعب، وصارع الحوادث وشقّ طريقه الى التقدّم.

ومهما تكن العوامل في صرف الناس عنه، فإنّها لم تؤثر أثرها المطلوب. إذ العقيدة أكبر مؤثر في تكوين العقل الإنساني ـ رقياً وانحطاطاً - فإنّ الناس لا يجهلون ما لأهل البيت(عليهم السلام)من الأثر العظيم في المجتمع الإسلامي، وقد منحهم النبيّ(صلى الله عليه وآله) صفة لا يشاركهم فيها أحد، وهي الاقتران بالكتاب وعدم افتراقهما إلى آخر الزمن( [112] ) فهم دعاة للخير وأئمّة للهدى، وسفن النجاة إذا طغت أمواج النفاق. وهم أكثر الناس زهداً في الحياة وفناءً في الله.

وقد بذلوا نفوسهم الزكيّة لحفظ تعاليم الإسلام، ولم تقف أمامهم مقاومة الأعداء. وتحمّلوا قسوة الطغاة وعنت الباغين، وجور المستبدّين، انتصاراً للحق وثورة على الباطل. وامتازوا بقوّة الإيمان وصدق النية، وأخلاص العمل في سبيل حفظ الإسلام ونشر تعاليمه واحياء مآثره، وقد قال أمير المؤمنين علي(عليه السلام): فأين تذهبون وأنّى تؤفكون، والأعلام قائمة والآيات واضحة والمنار منصوبة، فأين يتاه بكم بل كيف تعمهون وبينكم عترة نبيّكم وهم أزّمة الحقّ. وأعلام الدين، وألسنة الصدق.( [113] )

ويقول (عليه السلام): انظروا أهل بيت نبيّكم فالزموا سمتهم، واتبعوا أثرهم; فلن يخرجوكم من هدى، ولن يعيدوكم في ردى.( [114] )

ويقول الإمام الصادق(عليه السلام): نحن أصل كلّ خير، ومن فروعنا كلّ بر. فمن البر: التوحيد، والصيام وكظم الغيظ، والعفو عن المسيء، ورحمة الفقير، وتعهّد الجار، والإقرار بالفضل لأهله، وعدّونا أصل كلّ شر، ومن فروعهم كلّ قبح وفاحشة، فمنهم: الكذب، والبخل، والنميمة، والقطيعة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم بغير حقّه، وتعدّي الحدود التي أمر الله، وركوب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، والزنا والسرقة وكلّ ما وافق ذلك من القبيح، وكذب من زعم أنه معنا وهو متعلق بفروع غيرنا.( [115] )

وإلى هنا ينتهي بحثنا فيما شرعنا فيه حول مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)وحملة فقهه، وبيان الفرق في عصره، وبيان بعض تعاليمه من حكمه ووصاياه. وننتقل الآن مع القارئ الكريم، إلى دراسة تتعلّق بالمذاهب الأربعة، من حيث الالتزام بأخذ الأحكام الشرعية عن الأئمة الأربعة دون غيرهم، ولا يصحّ العمل إلاّ بذلك. فعلينا إذاً أن ندرس القضية، ونقف على الأمر، وهل كان هذا الالتزام أمراً شرعياً قرّره الإسلام؟ وهل أنّ باب الاجتهاد مغلق بعد الأئمة الأربعة، ومتى كان هذا الألتزام؟ وبأيّ تاريخ وقع؟ وما هي أسبابه وعوامله؟

المذاهب الأربعةالتزام وآراء

تمهيد

إنّ أهمّ موضوع في تاريخ التشريع الإسلامي هو موضوع غلق باب الاجتهاد، وادعاء استحالته لأحد غير أئمّة المذاهب الأربعة: أبي حنيفة ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأنّ تقليدهم لازم، ولا يصحّ العمل إلاّ بما جاء عنهم، وأنّ من المستحيل حصول ملكة الاجتهاد لأحد غيرهم; حتى أنّ البعض يرى أنّ من يقلّد غيرهم زنديق، وأنّ العمل لا يصحّ إلاّ بالأخذ عن واحد من هؤلاء الأئمة، فهم أعلمالاُمة وسادات الأئمة الى غير ذلك من الإدّعاءات.

وقد تقدّم الكلام عن أسباب نشأة المذاهب وعوامل انتشارها، ولإيضاح مالعلّه لم يتّضح من هذا الموضوع، نستعرض هنا لما يتعلّق فيه من بيان تاريخ الالتزام، بالأخذ عن الأئمة الأربعة، وبيان العوامل التي أدّت إلى الجمود الفكري، فأغلق باب الاجتهاد في وجوه المسلمين، وادّعي استحالته بعد ذلك الزمن، وأنّ من يدّعي ذلك يوصم بالجهل، ويؤاخذ بدعواه، وربّما رمي بالزندقة، ومع ذلك فإنّ البعض من أهل السنة يعارضون هذه الفكرة، ويقفون أمام هذه الدعوة بشدّة إن ساعدتهم الظروف على ذلك، فهم يوافقون الشيعة في حريّة الرأي، وعدم القول بغلق باب الاجتهاد.

ولقد أثّر هذا الالتزام بوحدة المسلمين، ففرّق كلمتهم، ونشبت بين معتنقي المذاهب حروب دموية، نتيجة للخلافات المذهبية وادعاء كلّ فريق أنّ الحقّ له دون غيره، وأنّ إمامه هو المنفرد بمنزلة العلم وأهليّة الاتباع، واندفعوا بكلّ وسيلة لرفع مقام رئيس المذهب إلى منزلة لا يدانيه فيها أحد، وتحكّم التعصّب الطائفي، وكثر الجدل، وعظم الخلاف بين أتباع أئمّة المذاهب، ودبّ التقليد في صدورهم دبيب النمل وهم لا يشعرون، وكان سبب ذلك تزاحم الفقهاء وتجادلهم فيما بينهم.( [116] )

وبلغ الأمر بهم في صوغ عبارات المدح والثناء الى ما يقف العقل أمامه موقف الردّ والإنكار، كما ذهبوا الى أعلميّة هؤلاء الأئمة على جميع المسلمين، وأنّهم بلغوا درجة العصمة عن الخطأ، وأنّ الله لايقبل عمل عامل إلاّ من طريقهم وكلٌ يعتقد أفضلية إمامه على بقيّة الأئمة، وأنّ مذهبه هو الصواب.

إلى غير ذلك من التفريط والغلوّ، ممّا لم يعرفه معاصرو أولئك، ولم يجدوه هم في أنفسهم.الالتزام بالمذاهب الأربعة
تطوّرت الدعوة الى المذاهب الأربعة وتكثرت العوامل لاتباعهم بصورة خاصة، وقد ذكرنا في الجزء الأول أسباب نشأتها وعوامل انتشارها بما لا حاجة إلى اعادته.

والغرض: أنّ الالتزام بهذه المذاهب الأربعة كان بصورة تدريجيّة، حتى أدّى ذلك على مرور الزمن إلى أن ينحصر أخذ الأحكام عنها دون غيرها من المذاهب الإسلامية على كثرتها وانتشارها.

والشيء المحصّل من جميع الأقوال أنّ الأخذ بها ولزوم التقليد كان في القرن الرابع، أمّا الالتزام بها دون غيرها ووجوب أخذ أقوالهم وترك أقوال الآخرين وعدم السماح بالاجتهاد والاستنباط يرجع تاريخه إلى سنة (645 هـ)، وذلك عندما رأت السلطة أن تحصر الأخذ عن المشايخ الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، فأحضر مدرسو المدرسة المستنصرية إلى دار الوزير، وتقدّم إليهم أن لا يذكروا شيئاً من تصانيفهم، ولا يلزموا الفقهاء بحفظ شيء منها، بل يذكرون كلام المشايخ تأدّباً وتبركاً بهم، وأجاب جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي ـ مدرس الحنابلة ـ بالسمع والطاعة، ثم مدرس المالكية سراج الدين عبد الله الشرمساحي، وقال: ليس لأصحابنا تعليقة، فأمّا النقط من مسائل الخلاف فما أرتبه.

وأما شهاب الدين الزنجاني مدرس الشافعية، وأقضى القضاة عبد الرحمن ابن اللمغاني مدرس الحنفية فإنّهما قالا ما معناه: إنّ المشايخ كانوا رجالاً ونحن رجال ونحو ذلك من إبهام المساواة فانتهت صورة الحال، فتقدّم الخليفة أن يلتزموا بذكر كلام المشايخ واحترامهم فأجابوه بالسمع والطاعة ( [117] ).

وبذلك أصبح الالتزام بهذه المذاهب أمراً رسمياً لا يمكن خلافه، وقضي على غيرها من المذاهب المعمول بها في ذلك الوقت - على قلّة اتباعها - كمذهب سفيان الثوري، ومذهب داود بن علي الظاهري، حتى أدّت الحالة الى محو الجميع، وبقاء المذاهب الأربعة نظراً لما اظهرته السلطة من تهديد وتوعيد، وترغيب وترهيب ولم يبقَ لأهل السُنة إلاّ المذاهب الأربعة السابقة، لأنّها وجدت الملوك والوزراء من يحمل الناس عليها، وينشيء لها تلك المدارس، ويحبس عليها تلك الأوقاف، فلما طال العهد بها على الناس أخذوا يتعصّبون لها وينكرون ما عداها من المذاهب السابقة.( [118] )التطرّف بالتزام المذهب

واتسع الخلاف وكثر الجدل، وعظمت الفرقة، وذهب كلٌ إلى تأييد مذهبه وصواب رأيه، وإبراز صورة إمام مذهبه في صفحة الوجود بإطار الغلو والعبقرية الإدعائية لا العبقرية الواقعية، جهلاً منهم بعاقبة الأمر واتباعاً لهوى سلطان لا يروق له اتحادالاُمة.

وقد اندفع المتطرّفون إلى أبعد حدّ من الشذوذ، ولم يصغوا لأهل الاعتدال والتوازن منهم، ولم يجعلوا وزناً لأقوال أئمّتهم، وما هو مأثور عنهم بأنّهم لم يصلوا إلى تلك الدرجة التي يدّعونها لهم فإنّهم بشر يخطئون ويصيبون، وأنّ أقوالهم لا قيمة لها تجاه الأثر والنصوص النبويّة، كما يأتي بيانه. ولكنّهم لم يسمعوا ذلك ووصفوهم بما تهوى انفسهم، كما وصفوا أبا حنيفة بأنّه سراج الاُمة، وسيد الأئمة، ومحيي السنة، وأنّه إذا تكلّم خيّل إليك أنّ ملكاً يلقّنه، وما كلّم أحداً في باب من أبواب الفقه إلا ذل له، وإذا أشكلت مسألة على أعلم الناس سهلها عليه. كما تجد ذلك في كتب مناقبه للمكي( [119] )، والكردري( [120] )وغيرهما.

وإنّك لتدهش من تلك الألفاظ الفارغة، التي لا تجد فيها سوى التهجّم على الحقائق، ومخالفة الحق والواقع، إذ هي وليدة عصور متأخرة لا يعرفها معاصروه، ولم يشهد له بذلك علماء عصره، وقد كان أكثرهم ينكرون عليه ويردون فتاواه. منهم : أيوب السجستاني، وجرير بن حازم، وهمام بن يحيى وحماد بن سلمة، وأبو عوانة، وعلي بن عاصم، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، و مالك بن أنس وغيرهم، وكلماتهم في الردّ عليه مشهورة مدوّنة( [121] ).

وكان هو بنفسه لا يرى ذلك، ويعترف بأنه يخطئ ويصيب، كما يتضح ذلك من أقواله المدونة والمشهورة عنه .( [122] )

والشيء الذي يلفت النظر هو تكرارهم لكلمة تنسب إلى الشافعي، وقد جعلوها من أعظم المؤيّدات لأتباع مذهب أبي حنيفة وهي أنّه كان يقول: الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة. مع أنّ المشهور غير هذا. والعبارة لم تصدر إلاّ من قبل دعاة مذهب، إذ المعروف عن الشافعي أنّه كان يقول: أبوحنيفة يضع أول المسألة خطأً ثم يقيس الكتاب كله عليه.

ويقول: ما أشبه رأي أبي حنيفة إلا بخيط سحارة، وهي شيء يلعب به الصبيان، تمده هكذا فيجيء أصفر، وتمده فيجيء أخضر.

ويقول: رأيت أبا حنيفة في النوم وعليه ثياب وسخة فقال: مالي ولك؟.( [123] )

وكان الشافعي يفضل مالكاً على أبي حنيفة. واشتهرت مناظرته لمحمد ابن الحسن الشيباني.

قال محمد بن عبد الحكم: سمعت الشافعي يقول: قال لي محمد بن الحسن: أيهما أعلم، صاحبنا أو صاحبكم؟ - يعني مالكاً وأبا حنيفة - قلت على الإنصاف؟ قال: نعم... قلت فانشدك الله من أعلم بالقرآن صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم - يعني مالكاً.

قلت فمن أعلم بالسنّة، صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: اللهم صاحبكم.

قلت فانشدك الله من أعلم بأقاويل أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) والمتقدّمين، صاحبنا أو صاحبكم؟ قال: صاحبكم.

قال الشافعي: قلت فلم يبق إلاّ القياس والقياس لا يكون إلاّ على هذه الأشياء، فمن لم يعرف الاُصول على أيّ شيء يقيس؟( [124] )

هذه هي أقوال الشافعي في أبي حنيفة. وتدلّنا بكل وضوح على بطلان ما نسبوه إليه أنّ الناس عيال في الفقه على أبي حنيفة.

وكذلك أقوال أحمد بن حنبل في مدح أبي حنيفة فإنّ التتبع يرفع الوثوق بها، وقد اشتهر عنه قوله: إذا رأيت الرجل يتجنّب أبا حنيفة ورأيه والنظر فيه، ولا يطمئن إليه ولا إلى من يذهب مذهبه، ويغلو، ولا يتخذه إماما، فارجُخيره.( [125] )

وكان يشتدّ على أصحاب الرأي في استعمال الحيل فيقول: هذه الحيل التي وضعها هؤلاء - أبو حنيفة وأصحابه - عمدوا إلى السنن فاحتالوا في نقضها. أتوا الذي قيل لهم أنّه حرام، فاحتالوا فيه حتى أحلوه.

وقال أيضاً: انّهم يحتالون لنقض سنن رسول الله (صلى الله عليه وآله) .( [126] )

وسئل أحمد عن مالك فقال: حديث صحيح ورأي ضعيف. وسئل عن أبي حنيفة فقال: رأي ضعيف وحديث ضعيف.( [127] )

وما أكثر الشواهد التي تدلّ على خلاف ما يذهبون إليه، من الإفراط والاندفاع وراء العاطفة، والتمسّك بأشياء بعيدة عن الصواب. فقد كثر الجدل وعظم الخلاف حتى آل بهم التعصّب إلى أنّ أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلاف مذهبه يجتهد في دفعه بكلّ وسيلة من التأويلات البعيدة، نصرة لمذهبه ولقوله.( [128] )

ونقل الرازي عن أكبر شيوخه في تفسير قوله تعالى: (أَفَلاَ يَتَدَبّرُونَ القُرآنَ) أنّه قال : قد شاهدت جماعة من مقلّدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوها، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إليَّ كالمتعجب - يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟ ولو تأمّلت حقّ التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من أهل الدنيا.( [129] )

قال أبو شامة:( [130] ) وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكلّ صنف على ما رأى، وتعقّب بعضهم بعضاً مستمدّين من الأصلين: الكتاب والسنّة، وترجيح الراجح أقوال السلف المختلفة بغير هدى، ولم يزل الأمر على ماوصفت إلى أن استقرّت المذاهب المدوّنة ثم اشتهرت المذاهب الأربعة وهجر غيرها، فقصرت همم أتباعهم إلاّ قليلاً منهم فقلّدوا بعد ما كان التقليد حراماً لغير الرسل، بل صارت أقوال أئمّتهم بمنزلة الأصلين ـ الكتاب والسنةـ وذلك معنى قوله تعالى: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللَّهِ)( [131] ) فعدم المجتهدون وغلب المتقلّدون، وكثر التعصّب وكفروا بالرسول حيث قال: يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وحجروا على ربِّ العالمين، مثل اليهود، أن لا يبعث بعد أئمّتهم وليّاً مجتهداً حتى آل بهم التعصّب إلى أنّ أحدهم إذا أورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلافه يجتهد في دفعه بكلّ سبيل من التأويلات البعيدة نصرة لمذهبه ولقوله . الخ( [132] ).

وهنا يستوقفني الفكر طويلاً عندما أتامّل أقوال العلماء المبرّزين، الذين ينتسبون لأحد المذاهب، وأنّهم كيف كانوا يتشدّدون في النهي عن التقليد ومضارّه، وكيف كانوا يخالفون رئيس المذهب في اجتهادهم، وانّهم لم يعرفوا عن أئمة المذاهب ما يدعيه المتأخّرون عنهم من المبالغات، وذلك التشديد في وجوب تقليد إمام بعينه.

فكم الفرق بين الفريقين؟ وإن الأمر ليبعث على الاستغراب، وإنّ المتتبع يقطع ببطلان ما يذهب إليه المتأخرون، وأنّهم قد خالفوا أئمّتهم ورؤساء مذاهبهم في اتّباع تلك الاُمور المبتدعة، وتعصّبهم لمذاهبهم بما لا يرضى به اُولئك الأئمة الذين ادّعوا أنّهم لهم متّبعون، ووصفوهم بأقصى ما يتصور من المدح والثناء، وجعلوا تقليدهم والرجوع لأقوالهم أمراً إلزاميّاً. ولا نعلم من أين جاء هذا الالتزام، والأئمة أنفسهم ينهون عن ذلك ؟

ولجلاء الأمر نضع صورة موجزة من أقوال أئمة المذاهب .الإمام أبو حنيفة لا يلزم بالرجوع إليه

إنّ أقوال أبي حنيفة وآثاره تدلّ على عدم الإلزام بالرجوع إليه، وأخذ قوله دون غيره، وأنّ حكمه هو الصواب لا غير، حتى أدّى الأمر إلى أن يتعصّب أكثر اتباعه في تقديم قوله على الآثار الصحيحة. وكيف ساغ لهم ذلك وهو ينهى عنه؟ كما كان ينهى عن تقليده، بما اشتهر عنه أنّه كان يقول : إذا صحّ الحديث فهو مذهبي ( [133] )

وقوله: لا ينبغي لمن لا يعرف دليلي أن يفتي بكلامي. وفي رواية: حرام على من لا يعرف دليلي.( [134] )

وكان يقول: هذا رأي النعمان بن ثابت - يعني نفسه - وهو أحسن ما رأيت فمن جاء بأحسن منه فهو أولى بالصواب .( [135] )

وقال: هذا الذي نحن فيه رأي لا يجبر أحد عليه ولا نقول يجب على أحد قبوله بكراهية، فمن كان عنده شيء أحسن منه فليأت به( [136] ).وقيل لأبي حنيفة: إذا قلت قولاً وكتاب الله يخالفه؟ قال: اتركوا قولي بكتاب الله، فقيل: إذا كان خبر الرسول (صلى الله عليه وآله)؟ فقال: اتركوا قولي لقول رسولالله(صلى الله عليه وآله). فقيل: إذا كان قول الصحابة يخالفه؟ قال: اتركوا قولي لقولالصحابة( [137] ).

وقد اشتهر منع الفتوى بدون معرفة الدليل عن أكابر اصحاب أبي حنيفة.

قال عصام بن يوسف: كنت في مأتم فاجتمع فيه أربعة من أصحاب أبي حنيفة : زفر بن الهذيل، وأبو يوسف، وعافية بن يزيد، وآخر، فكلّهم أجمعوا على أنّه قال: لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلناه. قال الشيخ صالح بن محمد العمري: إن هؤلاء الأئمة لا يبيحون لغيرهم أن يقلّدهم بغير أن يعلموا دليل قولهم .( [138] )

وقال أبو الليث السمرقندي: باب من يصلح للفتوى. قال الفقيه: لا ينبغي لأحد أن يفتي الا أن يعرف أقاويل العلماء - يعني أبا حنيفة وصاحبيه - ويعلم من أين قالوا، ويعرف معاملات الناس، فإن عرف أقاويل العلماء ولم يعرف مذاهبهم.. الخ .

وقال أبو يوسف بمثل قول أبي حنيفة وهو قوله: حرام على من لم يعرف دليلنا أن يفتي بقولنا.( [139] )

الإمام مالك ينهى عن التقليد

وقد اشتهر عن مالك: أنّه كان ينهى عن التقليد والرجوع لقول أيّ أحد دون كتاب الله وسنّة رسوله. ويعلن معارضته لمن كان يتعصّب له ويدّعي أعلميته على جميعالاُمة.

ويتّضح من مطاوي كلماته أنّ الحديث الذي ادّعوه في فضله، وهو حديث عالم المدينة، لم يكن يعرفه مالك، وإن كان معروفاً فلا يرى انطباقه عليه لوجود من هو أعلم منه، والمأثور عن مالك في ذلك كثير، كقوله: إنّما أنا بشر اُخطئ واُصيب، فانظروا في رأيي فكلّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكلّ ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه( [140] ).

وكان مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة ، ويصرّح في موطنه بأنّه أدرك العمل على هذا، وهو الذي عليه أهل العلم ببلدنا. ويقول في غير موضع إذا سئل عن شيء: ما رأيت أحداً أقتدي به يفعله( [141] ) أي يفعل ذلك الشيء المسؤول عنه.

وروى محمد بن محمد بن سنه بسنده عن مالك أنه قال: إنّما أنا بشر اُخطئ واُصيب، فانظروا في رأيي، فكلّ ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق فاتركوه. وروى مثله عنه أحمد بن مروان المالكي.( [142] )

وكان رأي مالك: أنّ من ترك قول أحد من الصحابة لقول تابعي أنّه يستتاب. وقد صرّح مالك بأنّ من ترك قول عمر بن الخطاب لقول إبراهيم النخعي أنه يستتاب. فكيف بمن ترك قول الله والرسول لقول من هو دون إبراهيم أو مثله( [143] )، وهذا على سبيل المثال لا التشخيص منه.

وقد اشتهر عن مالك كثرة قوله: لا أدري، في كثير من المسائل، وقد سئل عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنين وثلاثين منها: لا أدري.

وسئل من العراق عن أربعين مسألة فما أجاب منها إلاّ في خمس.

قال أبو مصعب: قال لنا المغيرة: تعالوا نجمع كلّ ما نريد ان نسأل عنه مالكاً. فمكثنانجمع ذلك، ووجّه به المغيرة إليه، وسأله الجواب، فأجاب مالك في بعضه، وكتب في الكثير منه لا أدري.( [144] )

والروايات عنه في لا أدري و لا اُحسن كثيرة، حتى قيل لو شاء رجل أن يملأ صحيفة من قول مالك: لا أدري لفعل.

وقيل لمالك إذا قلت - أنت - يا أبا عبد الله: لا أدري، فمن يدري؟ قال: ويحك؟ أعرفتني؟ ومن أنا؟ وأيش منزلتي حتى أدري مالا تدرون؟ ثم أخذ يحتّج وقال: قد ابتلي عمر بن الخطاب بهذه الأشياء فلم يجب فيها.

وقال عبد الله بن مسلمة: دخلت على مالك - أنا ورجل آخر - فوجدناه يبكي، فسلمت عليه، فرد عليَّ ثم سكت عني وهو يبكي، فقلت: يا أبا عبد الله، ما الذي يبكيك؟ فقال لي: يا ابن قعنب، أبكي لله على مافرط مني من هذا الرأي وهذه المسائل. وقد كان لي سعة فيما سبقت، فقلنا له: ارجع عن ذلك، فقال: وكيف لي بذلك وقد سارت به الركبان ( [145] ).

وسأل رجل مالكاً عن مسألة، وذكر أنّه أرسل فيها من مسيرة ستة أشهر من المغرب فقال له: أخبر الذي أرسلك أنّه لا علم لي بها، قال: ومن يعلمها؟ قال مالك: من علّمه الله.

وسأله رجل عن مسألة استودعه إياها أهل المغرب، فقال: ما أدري، ما ابتلينا بهذه المسألة ببلدنا، ولا سمعنا أحداً من أشياخنا تكلّم فيها ولكن تعود، فلما كان من الغد جاء الرجل وقد حمل ثقله على بغله يقوده، فقال: مسألتي. فقال مالك: ما أدري ما هي؟ فقال الرجل: يا أبا عبد الله، تركت خلفي من يقول: ليس على وجه الأرض أعلم منك، فقال مالك غير مستوحش: إذا رجعت إليهم فاخبرهم إني لا اُحسن.( [146] )

وهذا مما يدلّ على خطأ ذلك الاعتقاد الذي كوّنته عوامل غير مشروعة، وأيّدته ظروف خاصة، لذلك انكر عليهم مالك، إذ هو لم يعرف من نفسه ما قد ادعاه فيه غيره، وكذلك لم يكن يعرف المتصلون بمالك، والذين عرفوا منزلته كما عرفه الناؤون عنه، وأخذوا عنه صورة مكبّرة رسمتها يد المبالغة والغلو فأنكر مالك عليهم ما يدّعونه فيه من العصمة والوصول الى درجة الإحاطة بكلّ العلوم. واتسع الأمر بعد زمن مالك حتى أصبح قوله يقدّم على الكتاب والسنة كما أشرنا لذلك.

الإمام الشافعي ينهى عن التقليد

وكذلك الإمام الشافعي كان ينهى عن التقليد، ويدعو إلى العلم من طريقه. وقد روي عنه انّه قال: مثل الذي يطلب العلم بلا حجّة كمثل حاطب ليل، يحمل حزمة حطب وفيه أفعى تلدغه، وهو لا يدري. ذكره البيهقي.( [147] )

وقال إسماعيل بن يحيى المزني في أول مختصره: اختصرت هذا من علم الشافعي ومن معنى قوله: لاُقرّبه على من أراده، مع إعلامية نهيه - أي الشافعي - عن تقليده وتقليده غيره، لينظر فيه لدينه، ويحتاط فيه لنفسه.( [148] )

ومختصر المزني هذا قد أصبح للشافعية فيه اعتقاد وتمسّك شديد، وامتلأت به البلدان، حتى أنّ المرأة كانت إذا جهزت للدخول على زوجها حمل في جهازها مصحف ونسخة من مختصر المزني.( [149] )

وقال ابن حجر في توالي التأسيس( [150] ): قد اشتهر عن الشافعي: إذا صحّ الحديث فهو مذهبي. قال ابن القيم: هذا صريح في مدلوله، وأنّ مذهبه مادلّ عليه الحديث لا قول له غيره، ولا يجوز ان ينسب إليه ما خالف الحديث، فيقال: هذا مذهب الشافعي، ولا يحلّ الإفتاء بما خالف الحديث على انّه مذهب الشافعي، ولا الحكم به، صرّح بذلك جماعة من أئمّة أتباعه.

وقد اعترف الشافعي بعدم إحاطته بالأخبار الصحيحة، كما روي عن أحمد بن حنبل أنّه قال: قال الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح فأعلمني حتى أذهب إليه( [151] )، ولذلك قال أبو ثور: إنّ الشافعي ما كان يعرف الحديث وإنّما كنّا نوقفه عليه ونكتبه.

وقال الربيع: سمعت الشافعي يقول: ما من أحد إلاّ وتذهب عليه سنة لرسول الله(صلى الله عليه وآله) وتعزب عنه، فمهما قلت من قول، وأصّلت من أصل فيه عن رسول الله خلاف ما قلت، فالقول ما قاله رسول الله وهو قولي، وجعل يردّد هذه الكلمات; وقال أيضاً: أجمع الناس على أنّ من استبانت له سُنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله)لم يكن ليدعها لقول أحد( [152] )، وستأتي زيادة بيان لهذه الأقوال عند بحثنا عنه.

الإمام أحمد يحارب التقليد

وكذلك الإمام أحمد بن حنبل فإنّ المأثور عنه والمشهور من أقواله أنّه كان يحارب التقليد، ويحثّ الناس على طلب الحكم من دليله، ويقول: كثرة التقليد عمى في البصيرة.( [153] )

وقال أبو دواد، قلت لأحمد: الأوزاعي هو اتبع من مالك؟ فقال أحمد: لا تقلّد دينك هؤلاء، ماجاء عن النبيّ وأصحابه فخذ به .( [154] )

وكان ينهى عن الكتابة عنه ويقول: لا تكتبوا عني ولا تقلدوني، ولا تقلّدوا فلاناً وفلاناً، وخذوا من حيث أخذوا.( [155] )

وقال أحمد أيضاً : لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً، ولا الثوري ولا الأوزاعي، وخذ من حيث أخذوا. وقال : من قلة فقه الرجل ان يقلّد دينه الرجال .( [156] )

قال صاحب المنار : وقد كان هذا الإمام الجليل متأخراً قليلاً عن الأئمة الثلاثة وإن أدرك بعضهم وصحب أحدهم وكان قد رأى بوادر التزام تقليد الذين تكلّموا في الأحكام وكتبوا فيها، وعلم أنّ مالكاً رحمه الله قد ندم قبل موته إذ نقلت أقواله وفتاواه قبل موته، ولذلك لم يدون مذهباً واقتصر على كتابة الحديث، ولكن أصحابه جمعوا من أقواله وأجوبته وأعماله ما كان مجموعه مذهباً، كما قال العلاّمة ابن القيم .( [157] )

وقال سلمة بن المسيّب: سمعت أحمد بن حنبل يقول: رأي الأوزاعي ورأي مالك، ورأي أبي حنيفة كله رأي، وهو عندي سواء وإنّما الحجة فيالآثار!( [158] )

يقول السيد صديق حسن، بعد نقله لأقوال أئمة المذاهب في النهي عن تقليدهم: فإنّهم - رضي الله عنهم - قد نهوا عن الرأي والتقليد، وصرّح بعضهم بأن الاستحسان بدعة ولكنّ مقلّديهم باللسان دون الجنان، لم يرضوا بهذا النهي; وقالوا نحن مقلدوكم شئتم أو أبيتم - وهم والله يعلم - أنّهم كاذبون.( [159] )

والشيء الذي نودّ التنبيه عليه هنا أنّ أتباع أحمد قد تمسّكوا بتقليده والأخذ بأقواله، بل جعلها بعضهم كأقوال النبيّ(صلى الله عليه وآله)، وهي بمثابات ما يُروى عن النبي(صلى الله عليه وآله) من الآثار .( [160] )

هذا ما أردنا ذكره في هذا العرض الموجز عن أئمة المذاهب، ونحن لا نريد أن نحطّ من كرامة واحد منهم، أو نتعصّب عليه، ولكنّي كما قلت سابقاً : إنّ من الحقّ والإنصاف أن نعطي شخصيّة كلّ واحد من أئمة المذاهب حقّها من الدراسة المتجردة عن التعصّب والتحيّز، وأن لا ننقاد للعواطف ولننظر الواقع بعين تبصر الحقائق كما هي.

وبدون شك أنّ ذلك التعصب الطائفي قد أوجد مشاكل اجتماعية فرّقت الكلمة وكدّرت صفو الاُخوة. وما أحوج المسلمين الى الإلفة والاتحاد! وهي دعوة رفع الأئمة بها أصواتهم، وكانت تعاليمهم تحثّ على الوحدة والاتفاق. فالتعصّب ينافي المبادئ الصحيحة ويدعو الى الفرقة. ونحن بأمسّ الحاجة الى التفاهم من طريق العلم والواقع.

ولا يتسنى لنا حصول الغرض إلاّ برفع تلك الزوائد التي أوجدتها عوامل التعصب، وأن لا نقيم وزناً لعوامل السياسة التي قضت على المسلمين باتساع شقّة الخلاف، فهي تساعد الضعيف ليقوى على مقابلة خصمه، فإذا ما بلغ الغاية أو كاد سحبت يد المساعدة خلسة لتضمّها للجانب الآخر، وهكذا على ممرّ الزمن واختلاف العصور.

أسباب التعصب المذهبي وتطور الدعوة

والغرض أنّ التعصب قد شوّه وجه الحقيقة، وقلب الاُمور عن واقعها، ولعلّ أسباب ذلك تعود الى مايلي :

1 - كان لتطور الدعوة إلى الالتزام بالمذاهب الأربعة، أثر في تحيّز كلّ جانب إلى المذهب الذي يعتنقه، ممّا يؤدّي إلى الاندفاع بنوع من التعصّب وراء طلب المؤيدات لذلك المذهب، بدون التفات إلى مؤاخذة، أو إستناد لأمر ملموس. وكانت الظروف تساعد على تنمية تلك الاندفاعات، إذ وجدت نشاطاً ساذجاً في المجتمع، وقبولاً في العقول المتبلبلة فكالت المدحلها جزافاً ما شاءت بدون حساب.

2 - إنّ التزاحم على مناصب الدولة من قضاء وتولي حسبة، كان يؤدي إلى المجادلة والمناضلة والتحزّب، ولا يحصل من وراء ذلك إلا خلاف وتباعد، وادعاء كلّ الحقّ في جانبه، وأنّ مذهبه هو المذهب الذي لا يقبل الله عملاً إلاّ به، وأنّ رئيس المذهب هو المتفرد بعلوم الإسلام لا غير، لتكون له الغلبة على غيره. وقد تزلّفوا للأمراء والخلفاء طلباً للحصول على ذلك المنصب ولذلك تجد الوطيس لم يُحم إلاّ بين الحنفية والشافعية، لأنّ المناصب كانت

محصورة فيهم( [161] )

3 - مزاحمة المذهب الجعفري وانتشاره في المجتمع الإسلامي، مع بذل الجهد من السلطات في معارضته، والقضاء على المنتمين إليه مرّةً، وبتشجيع غيره من المذاهب تارةً اُخرى، مما يبعث معتنقيها على التفاني في التعصّب لها، والتحامل على هذا المذهب الذي فرض نفسه على المجتمع بدون مشجّع مادي.

وقد أفصح التاريخ عن كثير من ذلك ممّا لا حاجة لذكره الآن. ومن المناسب أن نختم هذا الفصل بما ذكره الاُستاذ السيد محمد رشيد رضا، في جواب الأسئلة التالية الموجّهة إليه من باريس، من صديقه أحمد زكي بك وهي :

1 - متى اُقفل باب الاجتهاد؟ وماذا ترتب على هذا الإقفال من المنافع والمضارّ ؟

الجواب: زعموا أنه اُقفل بعد القرن الخامس، ولكنّ كثيراً من العلماء اجتهدوا بعد ذلك، فلم يكونوا يعملون إلاّ بما يقوم عندهم من الأدلة، ولا يخلو زمن من هؤلاء، كما صرّح بذلك علماء الشافعية.

ولولا خوفهم من حكومات الجهل; لبيّنوا للناس مفاسد التقليد الذي

حرّمه الله. ودعوهم إلى العمل بالدليل كما أمر الله، وقد علمت الحكومة العثمانية - منذ عهد قريب - بأنّ بعض علماء الشام يحملون تلاميذهم على ترك التقليد والعمل بالدليل، فشدّدت عليهم النكير حتى سكتوا عن

الجهر بذلك .

ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وأما مضاره فكثيرة وكلّها ترجع الى إهمال العقل وقطع طريق العلم، والحرمان من استقلال الفكر. وقد أهمل المسلمون كلّ علم بترك الاجتهاد فصاروا الى ما نرى.

2 - ما معنى قولهم اُقفل باب الاجتهاد ؟

الجواب: معناه انّه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل، وإنّما قال هذا القول بعض المقلّدين، لضعف ثقتهم بأنفسهم، وسوء ظنّهم بالناس، وزعمهم أنّ العقول دائماً في تدلَّ وانحاط، وغلوّ في تعظيم السابقين.

وقد رأيت أن تلك الشروط - أي شروط الاجتهاد - ليست بالأمر الذي يعزّ مثاله، وتعلم أنّ سُنّة الله تعالى في الخلق الترقّي إلا أن يعرض مانع، كما يعرض لنمو الطفل مرض يرجعه القهقرى. كان آخر الأديان أكملها.

3 - مامعنى هذه العبارة: قفل باب الاجتهاد، عند العامة وعند أهل التحقيق؟

الجواب : العامة يقلّدون آباءهم ورؤساءهم في قولهم: إنّ أهل السنة

ينتمون إلى أربعة مذاهب من شذّ عنها فقد شذّ عن الإسلام. ولا يفهمون

أكثر من هذا.

وأمّا المشتغلون بالعلم أو السياسة، فالضعفاء المقلّدون منهم يفهمون

من الكلمة ما فسرناها به في جواب السؤال السابق، ويحتجّون على ذلك

بأنّ الناس قد أجمعت كلمتهم على هذه المذاهب، فلو اُجيز للعلماء

الاجتهاد لجاؤونا بمذاهب كثيرة، تزيدالاُمة تفريقاً، وتذهب بها في

طرق الفوضى.

والمحقّقون، يعلمون أنّ منشأ هذا الحجر هو السياسة، فالسلاطين والاُمراء المستبدّون لا يخافون إلاّ من العلم، ولا علم إلاّ بالاجتهاد فقد نقل الحافظ ابن عبد البر وغيره الاجماع على أنّ المقلد ليس بعالم، ونقله عنه ابن القيم في (أعلام الموقعين) وهو ظاهر، إذ العالم بالشيء هو من يعرفه بدليله، وإنّما يعرف المقلد أنّ فلاناً قال كذا فهو ناقل لا عالم. وربما كانت آلة (الفوتغراف) خيراً منه.( [162] )

آراء حول الاجتهادوالتقليد

حول الاجتهاد والتقليد

اُغلق باب الاجتهاد في وجوه المسلمين، وأصبح الالتزام بالمذاهب الأربعة لازماً، حتى جعلت أحكام الإسلام مقصورة على الأئمة الأربعة دون غيرهم، لأنّ درجة الاجتهاد مستحيلة على أيّ أحد من علماء الاُمة - كما يقولون - مع سهولة الوصول إليها، وقد اتّضحت لنا الأسباب التي دعت الى هذا الالتزام وقد وقفنا على الاُمور التي أدّت الى قفل باب الاجتهاد. ومعناه الضربة القاضية على حرّية الفكر بل على الإسلام، الذي جاء للناس كافة ليساير مختلف العصور والشعوب.

يقول الاُستاذ عبد المتعال الصعيدي: وإنّي أستطيع أن أحكم بعد هذا بأنّ منع الاجتهاد قد حصل بطرق ظالمة، وبوسائل القهر والإغراء بالمال، ولاشكّ أنّ هذه الوسائل لو قدرت لغير المذاهب الأربعة - التى نقلّدها اليوم - لبقي جمهور يقلدها أيضاً، ولكانت الآن مقبولة عند من ينكرها، فنحن إذاً في حلّ من التقيّد بهذه المذاهب الأربعة التي فرضت علينا بتلك الوسائل الفاسدة، وفي حلّ من العود الى الاجتهاد في أحكام ديننا لأنّ منعه لم يكن إلاّ بطريق القهر، والإسلام لايرضى إلاّ بما يحصل بطريق الرضى والشورى بين المسلمين، كما قال تعالى: (وأمرُهُم شُورَى بَيْنَهُم).( [163] )

وقد ذكرنا فيما سبق عرضاً موجزاً لأقوال العلماء الأعلام منالاُمة في الإنكار على غلق باب الاجتهاد، ومنع المسلمين من الاهتداء بهدى القرآن وصحيح الحديث، والاقتصار على أقوال المذاهب الأربعة، وليس من الصحيح الاعتقاد بأنّهم أحاطوا بأسرار القرآن وعلوم الحديث، فدوّنوها فى كتبهم أو لقنوها لتلامذتهم، مع انّ كلماتهم تدل على عدم بلوغهم تلك الدرجة من الكمال، ولا ارتياب بأنّه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وعاشوا الى اليوم، لداموا مجتهدين مجدّين يستنبطون لكلّ قضيّة حكماً، وكلّما زاد تعمّقهم زادوا فهماً وتدقيقاً.

إلى آخر ما تعرضنا لذكره من الآراء والأقوال في الإنكار على غلق باب الاجتهاد، ومنعه وهو سرّ تأخّر المسلمين، وهو الباب المرن الذي عندما قفل تأخّر المسلمون بقدر ما تقدّم العالم، فأضحى ما وضعه السابقون لا يمكن أن يغيّر ويبدل. لاعتبارات سياسية.

وعلى أيّ حال فإنّ هناك طائفة من العلماء يحاولون رفع ذلك الجمود الفكري وفتح باب الاجتهاد الذي دعت السياسة لإقفاله، ولم يعرف هناك دليل شرعي يؤيده ما ذهب إليه المقلّدون والقائلون بلزومه، ووجوب الرجوع إلى المذاهب الأربعة دون غيرها من علماءالاُمة.

وقد عقد ابن القيّم فصلاً طويلاً في أعلام الموقعين ( [164] ) استقصى فيه أدلة القائلين بذلك وإبطالها بالأدلة القويّة، كما قد اُلّفت رسائل عديدة لهذا الغرض، وكلّها تدعو الى التحرر من تلك القيود التي أخذت بأعناق العلماء، وإذا رفع أحد منهم صوته بالدعوة إلى رفع تلك القيود اُلقي في غيابة السجن، ولقي العذاب والتنكيل، لأنّ السلطان كان مؤيداً لأهل التقليد، لأنّهم آلة السياسة

وأعوان الرياسة، فكان صوت المصلحين بينهم خافتاً ومقامهم خافياً.

وها نحن اُولاء نلقي نظرة خاطفة حول الاجتهاد والتقليد ونقف على شروط الاجتهاد، كما وقفنا على كلمات الأئمة من الدعوة إليه والنهي عن التقليد ونستطرد حجج القائلين به.الاجتهـاد

الاجتهاد في اللغة: بذل المجهود واستفراغ الوسع في فعل من الأفعال، ولا يستعمل إلاّ فيما فيه كلفة، فيُقال: اجتهد في حمل حجر الرحى، ولا يُقال: اجتهد فى حمل خردلة. ثم صار هذا اللفظ في عرف العلماء مخصوصاً ببذل الفقيه وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة.

والاجتهاد التام: أن يبذل الوسع في الطلب بحيث يحسّ من نفسه بالعجز عن مزيد طلب( [165] ).

وقال في كشّاف اصطلاحات الفنون( [166] ): الاجتهاد في اللغة استفراغ الوسع في تحصيل أمر من الاُمور مستلزم للكلفة والمشقّة، وفي اصطلاح الاُصوليين: استفراغ الفقيه الوسع في تحصيل ظنّ بحكم شرعيّ. والمستفرغ وسعه في ذلك التحصيل يُسمى مجتهداً بكسر الهاء ثم ذكر بعد ذلك بحثاً في التعريف والقول بتجزئ الاجتهاد - أي جواز كونه في بعض الأحكام دون بعض - وشروط المجتهد فقال: للمجتهد شرطان :

1 - معرفة الباري تعالى وصفاته وتصديق النبيّ بمعجزاته، وسائر ما يتوقف عليه علم الإيمان، كلّ ذلك بأدلة إجمالية وإن لم يقدر على التحقيق والتحصيل، على ماهو دأب المتبحرين في علم الكلام.

2 - ان يكون عالماً بمدارك الأحكام وأقسامها، وطرق اثباتها ووجوه دلالتها، وتفاصيل شرائطها ومراتبها، وجهات ترجيحها عند تعارضها، والتقصّي عن الاعتراضات الواردة عليها فتحتاج الى معرفة حال الرواة، وطرق الجرح والتعديل، وأقسام النصوص المتعلقة بالأحكام، وأنواع العلوم الأدبية من اللغة والصرف وغير ذلك، هذا في حقّ المجتهد المطلق الذي يجتهد فيالشرع.

وجعل الشاطبي في الموافقات العمدة فيها: فهم العربية متناً واُسلوباً، ومعرفة مقاصد الشريعة، وأجاز تقليد المجتهد لغيره في الفنون التي هي مبدأ الإجتهاد، كأن يقلّد المحدثين في كون هذا الحديث صحيحاً وهذا ضعيفاً، من غير أن يعرف هو حال الرواة وطرق الجرح والتعديل.( [167] )

ومن الأقوال ما يجمع بين التزام الاجتهاد والتقليد، وهي مما اقتضاه الحال في مواجهة تحرير المسائل ومقالات المتأخرين في الاُصول، حيث ينمّ تصريحهم عن رغبة في الاجتهاد أو عمل به بالفعل، وقد ورد هنا قول محمد ابن عبدالعظيم الرومي الموردي الحنفي في الفصل الأوّل من كتابه (القول السديد) الذي ألّفه سنة (1052 هـ): إعلم أنّه لم يكلّف الله أحداً من عباده بأن يكون حنفياً أو مالكياً أو شافعياً أو حنبلياً، بل أوجب عليهم الإيمان بما بعث محمداً(صلى الله عليه وآله) والعمل بشريعته، غير أنّ العمل بها متوقف عليها. والموقوف له طرق، فما كان منها ممّا يشترك بها العوام وأهل النظر كالعلم بفريضة الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء إجمالاً، وكالعلم بحرمة الزنا والخمر واللواطة وقتل النفس وغير ذلك ممّا علم من الدين بالضرورة، فلذلك لا يتوقف فيه على اتباع مجتهد ومذهب معين، بل كلّ مسلم عليه اعتقاد ذلك. فمن كان في العصر الأوّل فلا يخفى وضوح لك في حقّه، ومن كان في الأعصار المتأخرة فلوصول ذلك الى علمه ضرورة من الاجماع والتواتر وسماع الآيات والسنن، أي الأحاديث الشريفة المستفيضة المصرّحة بذلك في حقّ من وصلت إليه، وأما ما لا يتوصل إليه إلاّ بضرب من النظر والاستدلال، فمن كان قادراً عليه بتوفر الآلة وجب عليه فعلاً كالأئمة المجتهدين(رضي الله عنهم) ومن لم يكن له قدرة عليه; وجب عليه الاتباع الى من يرشده الى ما كلّف به ممّن هو أهل النظر والاجتهاد والعدالة.التقليد

التقليد: هو قبول قول بلا حجة. وليس من طرق العلم لا في الاُصول ولا في الفروع، إلاّ أنّه لما كان الظن في الفروع كافياً للعمل وفي الاُصول غير كاف جاز في الفروع دون الاُصول.

وقال قوم: إنّ طريق معرفة الحقّ التقليد، وإنّ ذلك هو الواجب، وإنّ النظر والبحث حرام.( [168] )

قال الذين جوّزوا التقليد أيضاً في الاُصول: أنّ النظر لو كان واجباً لفعله الصحابة وأمروا به، ولكنّهم لم يفعلوا، ولو فعلوا لنقل عنهم كما نقل النظر فيالفروع.

ودليل الجمهور في منع التقليد في الاُصول: انعقاد الإجماع على وجوب العلم بالله تعالى، ولا يحصل ذلك بالتقليد لإمكان كذب المقلّد، إذ أنّ صدقه إنّما يُعرف بالضرورة أو النظر، والأوّل منتف، وإذا عُلم ارتفع التقليد.بين طائفتين
ها نحن ذا بعد هذا البيان الموجز للاجتهاد والتقليد نقف بين طائفتين من المسلمين، وكلّ واحدة تخالف الاُخرى فيما تذهب إليه من حيث الاجتهاد والتقليد، وأنَّ النزاع لا يزال يشتدّ، كلّما اتسع الفكر وانتشر العلم ورفعت القيود كانت كفّة القائلين بالجواز أرجح.

وإنّ استقصاء حجج كلّ من الطرفين يستدعي الإطالة في الموضوع والخروج عن شرط الكتاب، ولكنّا نكتفي بالإشارة للبعض منها، والاطلاع على التفصيل في الكتب المختصّة بذلك. وأنّ أكثرها فائدة واستقصاء هو كتاب الدين الخالص للسيد صديق حسن وكتاب أعلام الموقعين لابن القيم الجوزية فليراجع من أراد الوقوف على ذلك .حجّة المقلّدين

لقد سرت روح التقليد سرياناً عاماً بعد أن كان مريد الفقه يشتغل أولاً بدراسة الكتاب، ورواية السنة اللّذين هما أساس الاستنباط ، أمّا في هذا الدور - أي دور غلق باب الاجتهاد - فأصبح مريد الفقه يتلقّى كتب إمام معيّن، ويدرس طريقته التي استنبط بها ما دوّنه من الأحكام، فإذا أتمّ ذلك صار من العلماء الفقهاء. ومنهم من تعلو به همّته فيؤلّف كتاباً في أحكام إمامه. ولا يستجيز الواحد منهم لنفسه أن يقول في مسألة من المسائل قولاً يخالف ما أفتى به إمامه. كأنّ الحقّ كلّه نزل على لسان إمامه وقلبه، حتى قال طليعة فقهاء الحنفية في هذا الدور، أبو الحسن عبيد الله الكرخي: كلّ آية تخالف ما عليه أصحابنا فهي مؤوّلة أو منسوخة، وكلّ حديث كذلك فهو مؤوّل أو منسوخ. وبمثل هذا أحكموا دونهم أرتاج باب الاختيار.

والتزم كلّ منهم مذهباً معيّناً لايتعدّاه، ويبذل كلّ ما أوتي من مقدرة في نصرة ذلك المذهب جملة وتفصيلاً. مع أنه لا يخطر ببال هؤلاء الفحول ثبوت العصمة لأيّ إمام في اجتهاده، وقد كان الأئمة أنفسهم يعترفون بجواز الخطأ عليهم، وأن تكون هناك سُنة لم يطّلعوا عليها.( [169] )

وعلى هذا سارت قافلة الزمن، ولم يكن هناك طريق لرفع ذلك التحجير. وإيقاف تسريات تلك الروح. ومن يحاول الاجتهاد والاتصال بالأدلّة الشرعية يكون نصيبه النكال والتعذيب، ويُرمى بالبدعة والضلالة. وقد وقع ذلك لكثير من العلماء.

وعلى أيّ حال فقد احتجّ القائلون بلزوم التقليد باُمور :

1 - قوله تعالى: (فَاسألُوا أهلَ الذِكرِ اِن كُنتُم لاَ تَعلَمُون)( [170] ) وبقوله تعالى: (أَطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمرِ مِنكُم)( [171] ) وقالوا: إنَّ أهل الذكر واُولي الأمر هم العلماء.

2 ـ إنّ النبي (صلى الله عليه وآله) أرشد إلى التقليد وسؤال من لا يعلم لمن يعلم، فقال في حديث صاحب الشجة: ألا سألوا إذ لم يعلموا إنّما شفاء العيّ السؤال؟( [172] )

3 - تصريح الشافعي بتقليده لعمر: في الضبع بعير، أي كفّارة قتل الضبع بعير، أنّه قال: قُلته تقليداً لعمر، وفي مسألة بيع الحيوان بالبراءة من العيوب، تقليداً لعثمان. وفي مسألة الجد مع الاُخوة، تقليداً لزيد. وعنه - أي عن زيد - قبلنا أكثر الفرائض. وهذا أبو حنيفة ليس معه في مسائل الآبار إلاّ تقليد من تقدّمه من التابعين فيها. وهذا مالك لا يخرج عن عمل أهل المدينة، وقال محمد بن الحسن الشيباني: يجوز للعالم أن يقلّد من هو أعلم منه، ولا يجوز له أن يقلد من هو مثله.( [173] )

4 - استدلّوا بقول عمر: إنّي لأستحي من الله أن اُخالف أبا بكر. وقال لأبي بكر: رأينا تبع لرأيك ( [174] ) إلى آخر ما أوردوه من الاحتجاج لذلك. وأنت ترى أنّ حججهم خارجة عن محل النزاع.

أما الآيات فهي عامّة، فما الدليل على تخصصها بالأربعة، وأنّه لا يجوز سؤال غيرهم؟ وأنّ جميع ما ذكروه لا يصلح لإثبات المدّعى. وقد أجاب عنه مانعو التقليد وفنّدوا ما ذهبوا اليه.

وقال أبو عمر: يقال لمن قال بالتقليد : لم قلت به وخالفت السلف في ذلك فإنّهم لم يقلّدوا؟

فإن قال : قلت لأنّ كتاب الله لا علم لي بتأويله، وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم اُحصها، والذي قلدته قد علم ذلك، فقلدت من هو أعلم مني.

قيل له: أمّا العلماء إذا أجمعوا على شيء من تأويل الكتاب، أو حكاية عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أو اجتمع رأيهم على شيء فهو الحقّ لا شكّ فيه، ولكن قد اختلفوا فيما قلّدت فيه بعضهم دون بعض، فما حجّتك في تقليد بعضهم دون بعض وكلّهم عالم؟ ولعلّ الذي رغبت عن قوله أعلم من الذي ذهبت إلىمذهبه.

فإن قال: قلّدته لأنّي أعلم أنّه على صواب.

قيل له: علمت ذلك بدليل من كتاب الله أو سُنّة أو اجماع ؟

فإن قال: نعم. أبطل التقليد وطولب بما ادّعاه من الدليل.

وإن قال: قلدته لأنّه أعلم مني. قيل له : فقلد كلّ من هو أعلم منك، فإنك تجد من ذلك خلقاً كثيراً، ولا تحصي من قلّدته إذ علّتك فيه أنّه أعلم منك.

فإن قال: قلّدته لأنّه أعلم الناس.

قيل له: إذاً أعلم من الصحابة وكفى بقول مثل هذا قبحاً!! إلى أن يقول : ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد.( [175] )

وعلى أيّ حال فإنّ روح التقليد قد سرت واُشرب في قلوب المقلّدين حبّ التعصّب للمذهب الذي يتّبعونه، وحكموا بخلوّ الأرض من القائمين لله بحجة، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ الأعصار المتقدّمة.

فقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر بن الهذيل، ومحمد بن الحسن الشيباني، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وهذا قول كثير من الحنفية.

وقال بكر بن العلاء القشيري: ليس لأحد أن يختار بعد المائتين منالهجرة.

وقال آخرون: ليس لأحد أن يختار بعد الأوزاعي، وسفيان الثوري، ووكيع ابن الجراح، وعبد الله بن المبارك.

وقالت طائفة: ليس لأحد أن يختار بعد الشافعي.

وعند هؤلاء أنّ الأرض قد خلت من قائم لله بحجة، ولم يبق فيها من يتكلّم بالعلم، ولم يحلّ لأحد بعدُ أن ينظر في كتاب الله و لا سُنّة رسوله لأخذ الأحكام منها، ويقضي ويفتي بما فيهما حتى يعرضه على قول مقلّده ومتبوعه، فإن وافقه حكم به وافتى به، وإلاّ ردّه ولم يقبله.

وهذه أقوال - كماترى - قد بلغت من الفساد والبطلان والتناقض والقول على الله بلا علم، وإبطال حججه، والزهد في كتابه وسُنّة رسوله .( [176] )

وإنّ منهم من أقام رؤساء المذاهب مقام الأنبياء، بل إنّ من أتباعهم من قدّمهم عليهم عند تعارض كلامهم مع الحديث الصحيح، فإنّهم يردّون كلام النبيّ المعصوم مع اعتقادهم صحة سنده، لقول نقل عن إمامهم، ويتعلّلون باحتمالات ضعيفة كقولهم: يحتمل أن يكون الحديث نسخ، ويحتمل أنّ عند إمامنا حديثاً آخر يعارضه.

ولا شكّ أنَّ هؤلاء المقلّدين قد خرجوا بغلوهم في التقليد عن التقليد، لأنّهم لو قلّدوا الأئمة في آدابهم وسيرتهم وتمسّكهم بما صحّ عندهم من السنّة; لما ردّوا كلام المعصوم لكلام غير المعصوم، الذي يجوز عليه الخطأ والجهل بالحكم، وكانوا يأمرون بأن يُترك قولهم إذا خالف الحديث. بل تسلق هؤلاء الغالون - بمثل ذلك - إلى القرآن نفسه، وهو المتواتر القطعي والإمامالمبين.

وتجرّأ بعضهم أنّه لا يجوز لأحد أن يأخذ دينه من الكتاب، لأنّه لا يفهمه، وإنّما يفهمه رجال الدين، فيجب عليه أن يأخذ بكلّ ما قالوا وإن خالف الكتاب، ولا يجوز له أن يأخذ بالكتاب إذا خالف ما قالوا، بل لا يجوز لأحد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام، لأنّ الله قال كذا، أو لأن رسول الله قال كذا، بل لأنّ فلاناً الفقيه قال كذا!!( [177] )

وجملة القول إنّهم انقسموا إلى فئتين : فئة ترى بقاء القديم على قدمه والمحافظة على إبقاء ما قرّر في تلك العصور، حتى عدّوا محاولة الخروج عن ذلك ضلالاً وبدعة.

وفئة ترى وجوب حلّ تلك القيود وإطلاق حريّة الفكر والرجوع إلى اُصول استنباط الحكم، وكلّما طال الزمن اتّسع نشاط هذا الرأي وكثر الإنكار على من يقول بغلق باب الإجتهاد.

ذكروا يوماً في مجلس السيد جمال الدين الأفغاني( [178] ) قولاً للقاضي عياض، واتخذوه حجة، واشتدّ تمسّكهم بذلك القول حتى أنزلوه منزلة الوحي، بأنّه لايأتيه الباطل لا من خلفه ولا من أمامه.

فقال جمال الدين: يا سبحان الله! إن القاضي عياض قال ما قاله على قدر ما وسعه عقله، وتناوله فهمه وزمانه، أفلا يحق لغيره أن يقول ما هو أقرب للحق، وأوجه وأصح من قول القاضي عياض أو غيره من الأئمة؟

وذكروا أن باب الاجتهاد مسدود لتعذر شروطه، فتنفس جمال الدين الصعداء وقال: مامعنى باب الاجتهاد مسدود؟ وبأيّ نصّ سدّ باب الاجتهاد، أو أيّ إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه بالدين؟! وأن يهتدي بهدي القرآن، وصحيح الحديث، أو ان يجدّ ويجتهد لتوسيع مفهومه منها، والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه، ولا ينافي جوهر النص؟

إنّ الله بعث محمداً رسولاً بلسان قومه العربي يفهمهم ما يريد إفهامهم، وليفهموا منه مايقوله لهم (وَمَا أرسَلنَا مِن رَسُول إلاّ بِلِسانِ قَومِهِ).( [179] )

وقال: (إنَّا أنزَلنَاهُ قُرآناً عَرَبِياً لَعَلَّكُم تَعقِلُون)( [180] ) وفي مكان آخر (إنّا جَعَلنَاهُ قُرآناً عَربيّاً لَعَلَّكُم تَعقِلُون).( [181] )

فالقرآن ما اُنزل إلاّ ليفهم، ولكي يعمل الإنسان بعقله لتبديل معانيه. وفهم أحكامه، والمراد منها.( [182] )

وكان تلميذه الشيخ محمد عبده( [183] ) يدعو لفتح باب الاجتهاد، وينكر الجمود على القديم، ويدعو لحلّ تلك القيود، وإطلاق حريّة الفكر والرجوع الصحيح إلى قواعد الدين. وكان يناضل عن هذه الفئة بلسانه وقلمه، وإليك بيان وجهة نظره في قوله :

(وارتفع صوتي في الدعوة إلى أمرين عظيمين: الأول تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الاُمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه من ينابيعها الأولى، واعتباره من موازين العقل البشري التي وضعها الله لتردّ من شططه، وتقلّل من غلطه وخبطه، لتتمّ حكمة الله في حفظ نظام العالم الإنساني، وأنّه على هذا الوجه يعدّ صديقاً للعلم، باعثاً على البحث في أسرار الكون، داعياً إلى احترام الحقائق الثابتة، مطالباً بالتعويل عليها في آداب النفس واصلاح العمل.( [184] )

وقام السيد رشيد رضا تلميذ الشيخ محمد عبده في المطالبة بفتح باب الاجتهاد، وشدّد النكير على من يذهب إلى غلقه، في لزوم اتباع مذهب معين، ومن أقواله: ولا نعرف في ترك الاجتهاد منفعة ما، وامّا مضاره فكثيرة، وكلّها ترجع إلى إهمال العقل، وقطع طريق العلم، والحرمان من استغلال الفكر، وقد أهمل المسلمون كلّ علم بترك الاجتهاد، فصاروا إلى ما نرى .( [185] )

وذكر : أنّه لولا خوفهم - أي العلماء - من حكومات الجهل لبيّنوا مفاسد التقليد الذي حرّمه الله، ودعوا الناس إلى العمل بالدليل كما أمر الله، وقد علمت الحكومة العثمانية منذ عهد قريب، بأن بعض علماء الشام يحملون تلاميذهم على ترك التقليد، والعمل بالدليل، فشددت عليهم النكير حتى سكتوا عن الجهر.( [186] )

ويقول الدكتور أحمد أمين: وقد اُصيب المسلمون بحكمهم على أنفسهم بالعجز وقولهم بإقفال باب الاجتهاد، لأنّ معناه أنّه لم يبق في الناس من تتوفر فيه شروط المجتهد، ولا يرجى أن يكون ذلك في المستقبل، وإنّما قال هذا القول بعض المقلدين لضعف ثقتهم بأنفسهم وسوء ظنّهم بالناس، وزعمهم عكس ما يقول أصحاب النشوء والارتقاء من دعواهم أن العقل دائماً في

تدن وانحطاط، وغلوهم في تعظيم السابقين... ( [187] ).

وقد تقدّم في الجزء الأوّل( [188] ) بعض ما يتعلق بمسألة الاجتهاد والتقليد، وذكرنا هناك آراء كلٍّ من الفريقين من العلماء المعاصرين وغيرهم.التلفيق
وهو الأخذ برأي إمام في مسألة، والعدول عن رأيه إلى رأي غيره في مسألة اُخرى. وقد وقع الخلاف في جوازه ومنعه.

وقال الشاطبي: إنّه ليس للمقلّد أن يتخيّر في الخلاف، كما إذا اختلف المجتهدون على قولين، فوردت كذلك على المقلّد، فقد يعدّ بعض الناس القولين بالنسبة إليه مخيّراً فيهما، كما يخيّر في خصال الكفارة، فيتبع هواه وما يوافق غرضه إلى أن يقول : وقد أدّى إغفال هذا الأصل إلى أن صار كثير من مقلدة الفقهاء يفتي قريبه أو صديقه بما لا يفتي به غيره من الأقوال، اتباعاً لغرضه وشهوته، أو لغرض ذلك القريب وذلك الصديق. ثم أورد قصصاً عن القضاة والمفتين الذين طلبوا الرخص في الفتوى، نزولاً لرغبة السلطان أو الأصدقاء أو الأقارب، كقصّة قاضي قرطبة الذي قضى بما يرضي المخلوقين، وقصّة يحيى بن لبانة عندما عزل عن القضاء لسقوط عدالته، ولكنّه عاد الى المنصّب عندما أفتى الخليفة بما يرضيه.( [189] )

وأجاز ذلك آخرون. وقد نسبوا التخير في القولين، وتتبع الرخص لأكثر أصحاب الشافعي. وقد منع الحنفية ذلك، ولكنّه واقع عندهم في أكثر الفتاوى. واستدل المجوزون بما فعله أبو يوسف من التلفيق، وذلك أنّه لمّا صلّى بالناس الجمعة فأخبر بوجود فأرة في ماء الحمام الذي كان قد اغتسل منه للجمعة، فقال: نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة: إذا بلغ الماء قلتين لم يحملخبثاً.( [190] )

وكان أبو يوسف ومحمد بن الحسن - وهما عماد المذهب الحنفي - يكبّران في العيدين تكبير ابن عبّاس، لأنّ هارون الرشيد كان يحبّ تكبيرجدّه( [191] ).

قال الاُستاذ السيد محمد رشيد رضا في تعليقته على قول الشاطبي في الاعتصام في الوجه الثامن من الوجوه التي جعلها لمعرفة الانحراف عن السُنة والميل للبدعة : ومن فروع هذه البدعة أنّ بعضهم يستحل أن يجعل المرجّح لأحد القولين في الفتوى ما يعطيه المستفتون من الدارهم، فإذا جاء مستفتيان في مسألة واحدة فيها خلاف يطلب أحدهما الفتوى بالجواز أو الحل، والآخر يطلب الفتوى بالمنع أو الحرمة، يفتي من كان منهما أكثر بذلاً للمفتي، فهو تارة يفتي بالحلّ وتارة يفتي بالحرمة، والقاعدة في ذلك ما صرّح به بعض الفقهاء في بعض الكتب التي تدرّس في الأزهر: نحن مع الدراهم قلةً وكثرةً فإذا كان القولان المتناقضان صحيحين في المذهب; جاز أن يكون السحت هو المرجّح في الفتوى، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم أ هـ ( [192] ).وقال الشيخ محمد عبدالله درّاز شارح الموافقات: بل أخرجوا الأمر عن كونه قانوناً شرعيّاً وعدّوه متجراً، حتى كتب بعض المؤلّفين في الشافعية ما نصّه: نحن مع الدراهم كثرةً وقلةً .( [193] )نسبة المذهب إلى أبي حنيفة

وقبل أن نترك الكلام حول الاجتهاد والتقليد لا بدّ لنا من الإشارة لاُمور:

إنّ المذهب الحنفي لم يكن ينتسب لأبي حنيفة لأنّه مرجع جميع

أحكامه ومصدر فقهه، ولكن تلك النسبة اصطلاحية. فإنّا نجد أنّ المذهب

قد تكوّن من مجموعة أقوال وآراء لأبي حنيفة ولأصحابه من بعده،

وأنّ اُصول المذهب مشتملة على أقوال أبي يوسف( [194] )، وأبي حنيفة،

ومحمد بن الحسن .

وكان أبو يوسف ومحمد بن الحسن يجتهد كلّ منهما، وربّما يتفق مع قول أبي حنيفة أو يخالفه، كما أنّ أبا يوسف ومحمد بن الحسن كانا يختلفان في كثير من المسائل، على أنّا نقطع بأنّ كثيراً من الحوادث والوقائع لم يكن لأبي حنيفة فيها رأي، ولكن استنبطها المجتهدون المتأخرون عنه، بل لم تكن فيها رواية عن أبي يوسف وغيره من الطبقة الاُولى من مجتهدي المذهب، فنسب تلك المسائل التي استخرجها المتأخرون إلى المذهب باعتبار أنّ هؤلاء مجتهدون في المذهب فحسب، وإن كانت لهم ملكة الاستنباط والاستدلال والقوّة علىالاجتهاد.

ومن مجموع تلك الأقوال التي صدرت عن أبي حنيفة وأصحابه، وما خرّجه المتأخرون تكوّن المذهب الحنفي، فأصبح المجموع ينسب لأبيحنيفة.

والظاهر أنّ منعهم اجتهاد أيّ أحد، والالتزام بقول إمام المذهب، لا يعود لأبي حنيفة وحده، وإنّما هو لأبي حنيفة وأصحابه معاً.طريق الاُصول للمذاهب

إنّ اُصول الفقه للمذاهب قد اتفّقت طريقتهم في الاُصول في الجملة، وإنّ اُصولهم لم تكن كاُصول المذهب الشافعي، فهو يعدّ في الواقع أصلاً لاُصولهم وإن خالفوه في كثير منها.

فالحنفية قد اتفقت طريقة استنباطهم في الجملة مع اُصول الاستنباط

عند الشافعي، وكذلك المالكية اتّحدت طريقتهم مع أكثر ما جاء في

رسالة الشافعي، والخلاف بينهم وبينه أكثر ممّا بيّنه وبين الحنفية،

وقد تجاوز الخلاف التفصيلات الى بعض الاُصول العامة، فعمل أهل

المدينة حجة عندهم. وقد شدّد الشافعي عليه في ردّه في مواضع كثيرة

من كتاب الاُم.

والحنابلة قد أخذوا باُصول الشافعي، ولكنّهم لم يتصوروا إجماعاً غير إجماع الصحابة، وفي التحقيق أنّهم وإن خالفوا الشافعي في ظاهر الأصل فإنّهم لم يتعدوا عن روح الرأي عند الشافعي، لأنّ الشافعي وإن اطلق حجّية الإجماع فلم يفرضها في عصر ولا في أمر، فالفرق في الإجماع بين الشافعي وأحمد ليس كبيراً، وإن كان في ظاهر القول لا يبدو صغيراً.

ومن هذا نرى المذاهب الأربعة تتلاقى اُصولهم وتتقارب ينابيع

استنباطهم، ولا تتباعد وإن جاءت الفروع مختلفة اختلافاً كبيراً في بعضالأحيان.( [195] )الشيعة والاجتهاد

كان من المناسب ذكر شروط الاجتهاد عند الشيعة في هذا البحث، ولكن رأينا تأخير ذلك لمحلّه، عند ذكرنا لنهضة الشيعة العلميّة، وأنّهم لم يخضعوا لنظام السلطة في غلق باب الاجتهاد، إذ لم يكن تعليمهم يدخل تحت نظام الدولة، ولم تخضع مدارسهم لذلك المنهج الذي سارت عليه أكثر المدارس الإسلامية، بل ساروا على منهج أهل البيت(عليهم السلام)في عدم مؤازرة الدولة، وباب الاجتهاد عندهم لم يغلق، ولا زال مفتوحاً، وهذا ممّا يفاخر به الشيعة سائر جماعات المسلمين اليوم.( [196] )

ومن الخطأ القول بأنّ الشيعة تقدّم أقوال الأئمة على نصّ الكتاب وحديث الرسول (صلى الله عليه وآله)، كيف وأنّ أئمة أهل البيت(عليهم السلام)هم حملة علم الكتاب وسنة رسوله، فهم المبلّغون لهما، وهم أصدق الناس حديثاً وأتقاهم وأشدّهم خوفاً من الله، وأزهدهم في الحياة الدنيا.

وإنّ الغلوّ الذي يدّعونه على الشيعة في أهل البيت(عليهم السلام)، إنّما هو دون الغلوّ المدَّعى لأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، من إعطاء أقوالهم وآرائهم منزلة تهجر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في جانبها، وسيتضّح ذلك في بحث الفقه إن شاء الله.الخلاصة

إنّ تفرّق المسلمين واختلافهم في المذاهب، وتعصّب كلّ لمذهبه والانتصار له قد ملأ جوّ العالم الاسلامي بفتن يتّبع بعضها بعضاً، وكان التعصّب والتحزّب وراء أن يشهر المسلمون سيوفهم بعضهم على بعض، والسبب الذي حلّل دماءهم وأموالهم وأعراضهم، وحرّف الكتاب والسُنة ثم صيرهما كالعدم بسدّ باب الاجتهاد.

ثم ترتّب على هذا الافتراق تقويم كلّ لعمود الشقاق، وصار كلّ منهم يعتزّ بمن مال إليه من الملوك على خصمه، وعظمت المجادلة واشتدّت المناضلة. وأسباب ذلك ترجع إلى التزلّف للأمراء والخلفاء، والتزاحم على منصب القضاء، كما ذكر ذلك الغزالي وغيره، وقد شدّد النكير على من ينتقل من مذهب لآخر .

وحدث من وراء ذلك فتن ومشاغبات بين المذاهب، كما حدث للسمعاني( [197] ) عندما انتقل من مذهب النعمان الى مذهب الشافعي، فقامت الحرب على ساق واضطرمت بين الفريقين نيران فتنة كادت تملأ ما بين خراسان والعراق، واضطرب أهل مرو لذلك اضطراباً، وذلك في سنة (468 هـ) وأدّى الأمر الى غلق باب الجامع، ورفعوا الأمر للسلطان فنفاه من مرو، ولم يعد إليها إلا بعد مدّة( [198] ). وكثير أمثال السمعاني قد واجهوا مصائب عند تحوّلهم من مذهب إلىمذهب.

وأدّى الخلاف بين المذاهب الى رمي بعضهم بعضاً بالكفر، كما صرّح القشيري في كلامه للوزير عندما أراد حلّ مشكلة الخلاف بين الحنبلية والشافعية. وكان القشيري زعيم الشافعية، فقال للوزير: أيّ صلح يكون بيننا؟ إنّما يكون الصلح بين مختصمين على ولاية أو دين أو تنازع في ملك. فأمّا هؤلاء فإنّهم يزعمون أنّا كفّار، ونحن نزعم أن من لا يعتقد ما نعتقده كافر، فأيّ صلح يكون بيننا؟.( [199] )

وذهب بعضهم الى لزوم تعزير من انتقل من مذهب لمذهب، وعدم قبول شهادته كما اشتهر بين الحنفية: من أنّ الحنفي إذا انتقل إلى مذهب الشافعي يعزّر، وإذا كان بالعكس يخلع، وقيل: لا تقبل شهادته، ( [200] ) ومنعوا اقتداء بعض أهل المذاهب بالبعض الآخر، بل تجد الحنفي في كثير من البلاد لا يصلّي خلف الشافعي. وكسر بعضهم سبابة مصلّ لرفعه إياها في التشهد; لأنّ ذلك محرّم عندهم، كما ذهب إليه الكيداني وغيره من الحنفية، واختلفوا في تزويج الحنفية بالشافعي، لقول بعضهم: لا يصح ذلك لأنّها تشكّ في إيمانها، يعني أنَّ الشافعية وغيرهم من الأشعرية يجوّزون أن يقول المسلم: أنا مؤمن إن شاء الله. وقال آخرون: يصحّ نكاحها - أي الشافعية - قياساً على الذمّية.( [201] ) الى غير ذلك من الاُمور البعيدة عن روح الإسلام ولا يقرّها اُولئك الأئمة ولا يرضونبها.

وبهذا الاختلاف وقع من الفتن بين المختلفين في الفروع وفي الاُصول ما سوّد وجه التاريخ، وكدّر صفو الاُخوة، وذهب بجهود المصلحين أدراج الرياح، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.

وفي الحقيقة إنَّ مبعث ذلك إنّما هو حبّ الرياسة والأثرة، وشغب المتدخلين في صفوف المسلمين لإيقاظ نار البغضاء والحقد، ولو رجعنا إلى الواقع; نجد ذلك الشذوذ والتطرّف الذي ارتكبه المتعصّبون بعيداً كلّ البعد عنالدين.

ولم يكن الأمر ليصل الى هذا الحد من التطاحن والتفرق لولا الأخذ بأساليب الحكام والميل الى سبلهم في حماية أشخاصهم ومصالح ملكهم، وقد كان غلق باب الاجتهاد من تصرّفات الحكام بعد أن تمكّن غيرهم من توجيه الأحداث كما يشاؤون والتدخّل في معتقدات الناس وأفكارهم وحتى يأمنوا جانب العلماء خشية مضيهم على ما ركّبه الله فيهم من آلة العقل وأداة التفكّر فيقولوا أو يفتوا بما يضرّ الجور ويقف بوجه الظلم فأغلقوا الباب الذي كان يمكن أن يتسلل منه هذا الخطر وبذلك دخلت الاُمة في دور من الجمود والحجر ـ وصفنا جانباً منه في الأجزاء السابقة وسنأتي على صور منه فيما يأتي من أجزاء ـ ولم يخضع الشيعة لمثل هذه السياسة التعسّفية، وإنّما بقي للعقل مكانته فكيف تهمل الوسيلة من وسائل التدبّر والحكمة التي ـ بضبطها بقواعد الاستخدام الشرعية المستمدّة من الكتاب والسنّة ـ تنتج أحكام ليس فيها شطط الرأي ولا ميل الهوى ومن نتائج البعد عن العقل ومجافاة الصواب انقياد المسلم لما ارتأها الحكّام لمصلحتهم واتفقت الأدلّة على منافاته لروح الاُخوة الإسلامية.

وبعد أن مرّت تلك الأدوار وما فيها - وفي ذمّة التأريخ ذلك - فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى الوحدة والتفاهم، لرفع تلك الأشواك التي غرست في طريق التفاهم المسلم مع أخيه، لأنّا في مشاكل أمام خصوم الإسلام لا يحلّها إلا الاتحاد والرجوع إلى الأمر الأول، واتّباع أوامر الرسول (صلى الله عليه وآله) وتعاليم القرآن، وأخذ العلم من أهله، وأن نعرف الحقّ حقّاً فنتّبعه والباطل باطلاً فنتجنّبه، لنعيش عيش سعادة وهناء تحت ظلال الدين الحنيف.

وإلى الله نبتهل أن يجعل كلمة الإسلام هي العليا، وأن يجمع شمل المسلمين وينصرهم على خصومهم الذين يكيدون لهم ويسعون في تفريق كلمتهم، وما النصر إلاّ من عند الله.

(وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَتَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)( [202] ).

الإمام الشافعي

تمهيد

مرّ بنا من قبل أنّ البحث عن حياة أئمّة المذاهب الأربعة معقد يحتاج إلى مزيد من العناية; لكثرة الحكايات والقصص التي لا تتّسق مع الواقع ولا أثر لها في تمييز الطابع الذي طبع عليه، لذلك نرى من الحقّ علينا أن نتناول دراسة حياة كلّ واحد منهم من طرقها المختلفة، لكي يتسنّى لنا الوقوف على الواقع بعد التمحيص والتثبّت في جميع ما ورد بمختلف المصادر، من اُمور متباينة وأقوال متناقضة، كان مبعثها اندفاع بعض معتنقي المذهب وراء العاطفة، والخروج عن حدود الواقع، إذ العاطفة تغلب على العقل فتعطّله، وتطغى على الواقع فتخفيه، وتجعل الاُمور الوهمية كحقائق لا تقبل النقاش والجدل، وبذلك تضاعفت تلك الصعوبات التي تقف أمام الباحث، وها نحن أمام البحث عن حياة الإمام الشافعي، وقد وقفنا على كثير من الزوائد فأهملنا ذكرها، وإنّ من الغريب أن يجمد بعض أساتذة العصر الحاضر على ما وقفوا عليه في دراسة حياة الإمام الشافعي بدون تمحيص، وكان الواجب يقضي عليهم أن يتتبعوا الحقائق التاريخية ولا يقتنعوا بكلّ ما ورد، واليك مثلاً من ذلك:

الاُستاذ علي فكري الأمين الأول لدار الكتب المصرية يحدّثنا أنّ الشافعي سافر إلى العراق في حياة الإمام مالك ودخل الكوفة واجتمع بأبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني، وجرت بينهم مناظرات ومسائل، ونزل في الكوفة ضيفاً على محمد بن الحسن ونسخ كتبه. ثم ذكر رحلته إلى بلاد فارس وما حولها من بلاد العجم، ثم سافر الى بلاد ربيعة ومضر وشمال العراق حتى وصل الى جنوب بلاد الروم - وهي الأناضول الآن - وعرّج على حرّان وأقام فيها زمناً، ثم سافر منها إلى فلسطين وأقام في الرملة في جنوب بيت المقدس. وقد استغرقت هذه السياحة حولين كاملين من سنة (172 هـ) إلى سنة (174هـ). ثم رجع إلى المدينة لرؤية مالك. إلى آخر ما ذكره.( [203] )

وجميع ما ذكره لا أصل له، والاُستاذ عوّل على مخيّلته أو على كتب لا يعتمد عليها. وكان بوسعه - وهو الأمين الأول لمكتبة عامة - أن يراجع ويبحث وينقّب عن مصادر يستمدّ منها ما يكتب.

كان بوسع الاُستاذ أن يقف على الحقائق التاريخية، وأن يعلم أنّ رحلة الشافعي كانت لبغداد لا للكوفة، وذلك سنة (184 هـ)، وهي الرحلة الأولى، وأنّ وفاة أبي يوسف كانت سنة (182 أو 183هـ)، أي قبل دخول الشافعي لبغداد بأكثر من سنة.

وكان بوسع الاُستاذ أن يعرف وفاة الإمام مالك وهي سنة (179 هـ)، وأنّ رحلة الشافعي سنة (184 هـ)، ليتّضح له أنّ رحلة الشافعي كانت بعد وفاة مالك بخمس سنوات.

ولعلّه استند في بعض ما نقله إلى الرحلة التي وضعها عبد الله بن محمد البلوي، وهي مكذوبة لا أصل لها، كما نصّ على ذلك حفّاظ الحديث، كأبي نعيم، والفخر الرازي، وابن حجر وابن القيم وغيرهم. وكثيراً من الاُمور التي تخالف الواقع أوردوها على علاّتها في ترجمة الشافعي بدون تثبّت وترو.

وعلى أيّ حال فإنّ من الحقّ أن نتناول دراسة حياة الإمام الشافعي من مختلف المصادر، ولنا الحقّ في التنبيه إلى بعض ما يخالف الواقع خدمة للعلم وطلباً للحقّ، والله هو المسدّد للصواب.نسبه ونشأته

أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب ابن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.

ولد سنة (150 هـ) نهار الجمعة آخر يوم من رجب، وقيل في اليوم الذي مات فيه أبو حنيفة، وقيل غير ذلك على اختلاف الأقوال.

واختلفوا في محل ولادته فقيل بغزة، أو عسقلان، أو اليمن وهنا قول شاذ: أنّه ولد بمكة، وقد اجهد أصحاب المناقب أنفسهم بالجمع بين هذه الروايات ولا حاجة لذكرها هنا.

أما وفاته فكانت سنة (204 هـ) بمصر، وحمل على الأعناق من فسطاط حتى دفن في مقبرة بني زهرة، وتعرف بتربة ابن عبد الحكم وفيه يقول الشاعر :




  • أكرم به رجلاً ما مثله رجلٌ
    أضحى بمصر دفيناً في مقطمها
    نعم المقطم والمدفون في تربه



  • مشارك لرسول الله في نسبه
    نعم المقطم والمدفون في تربه
    نعم المقطم والمدفون في تربه



والمطلب الذي ينتهي اليه الشافعي هو أحد أولاد عبد مناف الأربعة، وهم: المطلب وهاشم وعبد شمس جد الاُمويين ونوفل. والمطلب هو الذي ربّى عبد المطلب ابن أخيه هاشم جد النبي(صلى الله عليه وآله).

فالشافعي بهذا السياق قرشيّ النسب، يلتقي مع النبي(صلى الله عليه وآله) في عبد مناف. هذا ما عليه الأكثر.

وذهب بعضهم أنّ الشافعي لم يكن قرشيّاً بل كان قرشيّاً بالولاء. فهو مولى لهم وليس منهم، لأن شافعاً جدّه كان مولىً لأبي لهب، فطلب من عمر أن يجعله من موالي قريش فامتنع، فطلب من عثمان ذلك ففعل، فعلى هذا التقدير يكون الشافعي من موالي قريش، كما ذكر ذلك بعض المالكية والحنفية( [204] ).

وأما اُمّه فهي من الأزد وكنيتها اُم حبيبة كما ذكر ذلك الساجي، والأبري والبيهقي والخطيب والاردستاني وغيرهم.

وقيل: إنّها أسدية، مستدلّين على ذلك بما روي عن الشافعي: أنّه لما قدم مصر سأله بعضهم أن ينزل عنده فأبى وقال: أنزل على أخوالي الأسديين فنزل عليهم.( [205] )

وقيل : إنّها فاطمة بنت عبد الله، أو عبيد بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب، قال الرازي: وهذا القول شاذّ رواه الحاكم، وضعّفه البيهقي، وذهب المقري الى نفيه، ولكنّ السبكي ذهب الى تأييده وليس له شاهد على ذلك.( [206] )

وقيل أيضاً: إنّها فاطمة بنت عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبيطالب، أو أنها بنت عبدالله المحض بن الحسن المثنى بن الحسن السبط.( [207] )

وعلى أيّ حال أنّ الادعاء بكرامة قرشية علويّة مخالف لما عليه

الإجماع وعلماء النسب، ولكنّ ذلك تعصب محض وادعاء يخالف

ما جاء عن الشافعي في عدّة روايات: أنّ اُمّه أزدية لا قرشية وانعقد

الإجماع على ذلك.

أمّا أبوه إدريس فلم يفصح التاريخ عن شيء من حياته وسيرته ووفاته، ولم يحتفظ إلا بالاسم فقط; فليس له ترجمة في جميع الكتب التي ذكرت الشافعي، ولا في غيرها من كتب الحديث والرجال والأدب.

وبذلك حرمنا معرفة كثير من الاُمور التي نودّ أن نعرفها عن حياة إدريس والد هذا الإمام العظيم. وقد ذكر بعضهم أشياء مرتجلة لا صحّة لها كقول هداية الله الحسيني :إنّ والد الشافعي سلّمه للتفقه إلى مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة، وهذا غير صحيح بالإجماع، لأنّ جميع الروايات متضافرة على أنّ الشافعي نشأ يتيماً في حجر اُمه، وتولّت تربيته عندما خشيت عليه الضيعة فأرسلته الى مكة وهو ابن عشر سنين.

فالشافعي إذاً لم يَتَرَبَّ في ظلال أبيه ولم يتولّ ذلك إلا اُمّه، ولا نعلم أنّه عرف أباه وحدّث عنه، كما لا نعلم هل ولد الشافعي في حياة أبيه أم أنّه مات أبوه وهو حمل في بطن اُمه؟ وهل أنّ إدريس كان في مكة ورحل الى اليمن. وما هي أسباب رحلته؟ كلّ ذلك مجهول وفي ذمة التاريخ.

وجاء في مقدمة كتاب الاُم: أنّ والد الشافعي كان رجلاً حجازياً فقيراً خرج مهاجراً من مكة الى الشام وأقام بـ غزة وعسقلان ببلاد فلسطين، ثم مات بعد ولادة الشافعي بقليل.

ولكن هذا القول لم يستند الى نصّ تاريخي، وأيّاً كان فالروايات مختلفة والأقوال متفرّقة في ولادته ومحلّها، وهجرته ووقتها وكذلك رحلاته المتعددة وتحصيله للعلم بأيّ زمن. فهل كان من صغر سنه أم بعد نشأته. وكذلك دخوله إلى مكة فقيل: إنّه لما بلغ من العمر سنتين وأصبح قرة عين والدته، فرأت اُمّه أن تحمله الى مكة المكرمة، صوناً لنسبه من الضياع إذا بقي في غزة فهاجرت به، ونزلت بجوار الحرم بحيّ يقال له شعب الخيف ولمّا ترعرع أرسلته اُمه الى الكتاب وحفظ القرآن وعمره سبع سنوات. وقيل: إنّ الشافعي ولد بغزة وحمل إلى عسقلان ودخل مكة وهو ابن عشر .( [208] )طلبه العلم في مكة

كان دخول الشافعي الى مكة وهو صغير السن، ولمّا ترعرع سلّمته اُمّه إلى الكتّاب فحفظ القرآن الكريم، وتعلّم الكتابة، وكان حريصاً على استماع الحديث، وكان يكتب على الخزف مرة وعلى الجلود اُخرى.

وخرج الى البادية فلازم هذيلاً، وحفظ الأشعار وكان يرحل برحيلهم وينزل بنزولهم، فرجع الى مكة ينشد الأشعار ويذكر الآداب والأخبار، وقد تأثر بالبداوة واكتسب من هذيل فصاحتهم، كما يحدّث عن نفسه .( [209] )

ويظهر أنّ مقامه في البادية كان أكثر من عشر سنين، وفي إحدى الروايات أنّه أقام عشرين سنة( [210] ) وفي اُخرى سبع عشرة سنة، كما حدّث هو عن نفسه( [211] ).

وفي هذه المدة لم تكن له شهرة علمية ولم يتجه لطلب الفكر ولم يعرفبه.

قال النووي: كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب والأدب ثم أخذ في الفقه، ثم ذكر سبب ذلك.( [212] )

وأفاد كثيراً من ملازمته أهل البادية، وظهر عليه ذلك بقدرته الشعرية وتمكّنه من اللغة والمعرفة بفنونها ممّا لا يخفى في بعض إجاباته وأقواله وما روي عنه من شعره.

وقد صرّح الشافعي بسبب اتّجاهه لطلب الفقه فيما يروى عنه أنّه قال بعد أن ذكر ابتداء تعلّمه للقرآن والكتابة في مكة: ثم إنّي خرجت عن مكة فلزمت هذيلاً في البادية أتعلّم كلامها، وآخذ طبعها، وكانت أفصح العرب، فبقيت فيهم سبع عشرة سنة، أرحل برحيلهم وأنزل بنزولهم، فلمّا رجعت إلى مكة جعلت أنشد الأشعار وأذكر الآداب والأخبار وأيام العرب، فمرّ بي رجل من الزبيريين من بني عمّي، فقال لي: يا أبا عبد الله، عزّ عليّ أن لا يكون مع هذه اللغة وهذه الفصاحة والذكاء فقه ( [213] ). فهو لهذا الحدّ وطول ذلك الزمن لم يعرف الفقه، وكان قول الزبيري سبباً لتوجيهه إلى طلب الفقه والحديث، فقصد لمجالسة مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة المتوفى سنة (180 هـ) وهو أوّل شيوخ الشافعي.

وروى النووي عن مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: كان الشافعي في ابتداء أمره يطلب الشعر وأيام العرب، ثم أخذ في الفقه، وكان سبب ذلك: أنّه كان يسير يوماً وخلفه كاتب لأبي فتمثّل الشافعي ببيت شعر فقرعه الكاتب بسوطه ثم قال: مثلك يذهب بمروته؟ أين أنت من الفقه؟ فهزه ذلك فقصد مجالسة مسلم بن خالد الزنجي.( [214] )

والذي نستظهره من مجموع الروايات، أنّ اتّجاه الشافعي لطلب العلم كان في العقد الثالث من عمره، وعلى رواية ابن كثير أنّ بقاءه في البادية عشرين سنة. فيكون طلبه للفقه في العقد الرابع، أي بعد تجاوزه الثلاثين من عمره، فتكون ملازمته لمسلم بن خالد الزنجي قصيرة جداً.

فما يُروى عن الحميدي، أنّه قال: سمعت خالداً الزنجي وقد مرّ على الشافعي وهو يفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة، فقال: يا أبا عبد الله، إفت فقد آن لك أن تفتي، فإنّه لا أصل له; نظراً لما بين أيدينا من الأدلة التاريخية المصرّحة بأنّ الشافعي لم يعرف بالفقه إلا من بعد مدة طويلة، مع أنّ الحميدي لم يدرك مثل هذا التاريخ. قال الخطيب البغدادي بعد نقل هذه الحكاية: وليس ذلك بمستقيم، لأنّ الحميدي كان يصغر عن إدراك الشافعي وله تلكالسن.( [215] )

ومن الغريب إرسال ذلك إرسال المسلّمات، وقد جعلوا هذا النقل من المؤيّدات لعلم الشافعي وعلوّ منزلته، لأنّه كان يفتي وهو ابن خمس عشرة سنة. وبعضهم يرجع إلى الوراء فيقول: إنّه كان يفتي وهو ابن عشر سنين، وكلّ ذلك غير صحيح; لأنّ المشهور عن الشافعي أنّه قدم مكة وهو ابن عشر سنين أو أكثر وتعلّم القرآن فيها، وانصرف إلى حفظ الأشعار، ولازم هذيلاً، وكان مقامه في البادية أكثر من عشر سنين، وقيل عشرين سنة، وقيل سبع عشرة سنة كما تقدّم بيانه.

ومهما يكن من أمر فإنّ الشافعي لم يعرف الفقه والحديث وهو في مكة، ولكنه اتّصل بعد ذلك بمالك بن أنس، ورحل إلى المدينة لتعلّم الفقه والحديث، وواصل دراسته فكانت له تلك الشهرة بعد مدة طويلة.

قال ابن حجر: انتهت رياسة الفقه في المدينة إلى مالك، ورحل الشافعي إليه ولازمه، وأخذ عنه، وانتهت رياسة الفقه إلى أبي حنيفة، فأخذ عن صاحبه محمد حملاً ليس فيها شيء إلاّ وقد سمعه عليه، فاجتمع له علم أهل الرأي وعلم أهل الحديث.

وكان محمد يواسيه بالبر ويتعاهده بالأعطيات بخمسين ديناراً فما فوقها بين حين وآخر، وبمحمد اكتمل بدر الشافعي، وبه تخرّج حتى أصبح له شأن في العلم...( [216] )طلبه العلم في المدينة

اتّجه الشافعي لطلب الفقه، وحضر على بعض علماء مكة كخالد الزنجي وسعيد بن سالم القداح، واشتهر مالك بن أنس في المدينة وشاع ذكره، فتاقت نفس الشافعي إلى الهجرة للمدينة طلباً للعلم والحضور عند مالك بن أنس، فأخذ وصية من والي مكة إلى والي المدينة يطلب منه إيصال الشافعي إلىمالك.

قال الشافعي: فأوصلت الكتاب إلى الوالي، فلما أن قرأه قال: يافتى، إنّ مشيي من جوف المدينة إلى جوف مكة حافياً راجلاً أهون عليَّ من المشي الى باب مالك بن أنس، فلست أرى الذلة حتى أقف على بابه، فقلت: أصلح الله الأمير إن رأى يوجه إليه ليحضر، قال: هيهات ليت إنّي إذا ركبت أنا ومن معي وأصابنا من تراب العقيق نلنا بعض حاجاتنا.

قال: فواعدته العصر وركبنا جميعاً فوالله لكان كما قال. فتقدّم رجل فقرع الباب، فخرجت إلينا جارية سوداء، فقال لها الأمير: قولي لمولاك إنّي بالباب، فدخلت فأبطأت ثم خرجت فقالت: إنّ مولاي يقرؤك السلام ويقول: إن كانت لك مسألة فارفعها في رقعة يخرج إليك الجواب، وإن كان للحديث فقد عرفت يوم المجلس فانصرف. فقال: قولي له إنّ معي كتاب والي مكة إليه في حاجة مهمة، فدخلت وخرجت وفي يدها كرسيّ فوضعته ثم إذا أنا بمالك قد خرج وعليه المهابة، فرفع إليه الوالي الكتاب.( [217] )

وهنا يحدّثنا الشافعي عن انتقاد مالك له بحمله الكتاب من الوالي وتأثّره من ذلك، يقول الشافعي: إنّ مالكاً عندما قرأ الكتاب رمى به من يده، ثم قال: سبحان الله أو صار علم رسول الله يُؤخذ بالوسائل؟ فأجابه الشافعي معتذراً وأخبره بقصّته.

اتّصل الشافعي بمالك وأخذ عنه وقرأ الموطأ، ولا نعرف بالضبط متى كان قدوم الشافعي إلى المدينة وحضوره عند مالك وكم كانت سنّه يوم ذاك والأخبار مضطربة مشوّشة جداً لانكاد نلمس الواقع منها، فالحكايات الواردة عن الشافعي مختلفة، فمرّة أنّه اتّجه لمالك بعد عودته من البادية، واُخرى بعد وفاة خالد الزنجي.

وعلى أيّ حال: فالمحصّل من مجموع الروايات أنّه قدم على مالك وقد تجاوز عمره الثلاثين سنة. وما يرويه ابن حجر في مناقب الشافعي أنّه حضر عند مالك وعمره ثلاث عشرة سنة هو خطأ بيّن ونقل بدون تثبّت، إذ لا خلاف بأنّ وروده على مالك كان بعد عودته من البادية، وقد مكث فيها مدة تزيد على خمس عشرة سنة .

ومن المحقّق أنّ ملازمته لمالك كانت أربع سنوات وتوفي مالك سنة (179هـ) فيكون عمر الشافعي (29 سنة). وبقي الشافعي بعده في ضنك من العيش، وبسبب ذلك كانت رحلته إلى اليمن مع واليها وليس له ما يستعين به من المال فرهن داره وأخذ ثمنها.( [218] )

/ 5