ولاية الإمام الشافعي
نشأ الشافعي يتيماً في حجر اُمّه كما تقدّم، ولمّا اتصل بمالك اتّسعت حاله بواسطته، لأنّه كان يرعاه ويقوم بشؤونه، فلما توفي مالك سنة (179 هـ) اشتد الأمر عليه وضاقت حالته، فاتفق أنّ والي اليمن قدم المدينة فكلّمه بعض القرشيين في أن يصحبه. فأخذه ذلك الوالي معه واستعمله في أعمال كثيرة( [219] ). فبقي في العمل خمس سنوات، وبهذه المدة كان متّجهاً للعمل والولاية، وخمد ذلك النشاط الذي في نفسه نحو الاتجاه لطلب العلم، لأنّه مشغول في تدبير شؤون السلطان ومعاملة الناس إلى سنة (184 هـ) وهي السنة التي قدم فيها لبغداد المرة الأولى بسبب المحنة واتهامه بالميل للعلويين. وأنّ مطرفاً كتب إلى الرشيد: إن أردت اليمن لا تفسد عليك فاخرج محمد بن إدريس فحمل الى بغداد، وقد جاء عن الشافعي: أنّه نقل من اليمن إلى ولاية نجران فأحسن السيرةهناك.( [220] )الإمام الشافعي في بغدادقدم الشافعي العراق ثلاث مرات: الأولى سنة (184 هـ) حمل من اليمن إلى بغداد بسبب اتهامه بالميل للعلويين، والثانية سنة (195 هـ) بعد أن مات هرون الرشيد، والثالثة سنة (198 هـ).أمّا الأولى: فكانت بسبب اتّهامه بالميل للعلويين، أو أنّ عامل اليمن تغيّر عليه وثقل مقامه هناك، لأنّ الشافعي كان يعارض ظلم ذلك الوالي وينبّه الناس على مؤاخذته. وأنّ الشافعي أحسن إدارة العمل ونال ثناء الناس ممّا أوجب تغير قلب الوالي عليه واتهامه بالميل للعلويين، وذلك أعظم جرم تعاقب عليه الدولة، وإن كان هذا الاتهام وتلك القضية أشبه شيء بالأساطير.وعلى أيّ حال فقد حمل الشافعي إلى بغداد بتهمة المخالفة للدولة والانضمام لجانب العلويين. وتعرّض بتلك التهمة إلى خطر شديد، ولكنّه دافع عن نفسه، وتوسّط له الفضل بن الربيع وتشفّع له، فنجا بعد أن قتل من كان معه. وسيأتي البحث عن أسباب التشيّع وعن ميله للعلويين.وإذا أردنا البحث عن محنة الشافعي وقدومه لبغداد، وما قابل به الرشيد عند اجتماعه، ومناظرته مع محمد بن الحسن الشيباني، فالأمر يستدعي إطالة البحث واتساع شقّة المناقشة، للمناقضات في تلك الرحلة المروية عن الشافعي. ففي بعضها: أنّه ناظر أبا يوسف ( [221] )، وهذا غير صحيح لأنّ وفاة أبي يوسف كانت سنة (182 ـ 183 هـ) أي قبل ورود الشافعي بسنتين أو بأكثر منسنة.وفي بعضها: أنّ محمد بن الحسن انتصر للشافعي، واُخرى أنّه حرّض الرشيد على قتله، ووصفه بأنه يريد الخروج على الدولة، وأنّ الرشيد سأل أبايوسف عن صدق هذه الدعوة فأيّدها.وهناك اختلاف في حمله الى العراق، هل كان من اليمن أم من مكة؟ فابن عبد البر، يروي بسند عن المزني عن الشافعي أنّه قال: رفع إلى هارون الرشيد أنّ بمكة قوماً من قريش استدعوا رجلاً علوياً كان باليمن، فاجتمع إليه من قريش فتية جماعة، يريدون أن يبايعوه ويقوموا به، فأمر الرشيد يحيى بن خالد بن برمك أن يكتب إلى عامله بمكة أن يبعث إليه ثلاثمائة رجل كلّهم من قريش، مغلولة أيديهم الى أعناقهم. قال الشافعي: فأشخصت فيمن أشخص مغلولاً، فلما وردنا العراق أتي بنا إلى دار يحيى بن خالد وقال لنا: يامعشر قريش، قد رفع عليكم أمر كبير وعسى الله أن ينجيكم من البلاء إن كنتم قد بغي عليكم، والذي أراه أن تقدموا من أنفسكم رجلاً يخاطب الرشيد عنكم وعن نفسه، فقالوا كلّهم: هذا الشافعي يخاطبه. ثم حكى عن نفسه دفاعه عنها وعنهم، فكانت النتيجة أن عفى الرشيد عن الجميع وأمر لهم بجائزة.( [222] )وبصورة اُخرى: إنّه حمل من الحجاز مع تسعة من العلويين فضربت أعناقهم، ونجا الشافعي وأكرمه الرشيد.وفي الحلية : أنّ السّبب في حمله من اليمن : أنّ خارجيّاً خرج على هارون الرشيد، فأرسل الرشيد إليه جيشاً فقبض عليه وحمل الى العراق ومعه الشافعي، وأحضروا جميعاً وأمر بقتلهم، فعرض الشافعي عليه قصّته مع الخارجي، وبيّن له نسبه، وذكر كلاماً استحسنه الرشيد وطلب اعادته، وقال له: كثّر الله في أهل بيتي مثلك ( [223] ). وعفى عنه، إلى آخر الاختلاف في الصور، والزمان والأسباب .ومهما يكن من أمر فإنّ الغرض من اتساع هذا الحادث، وإيراده بصور مختلفة هو التعصّب للشافعي، ووصفه بعلوّ المنزلة واتّساع العلم وقوة الحجة، ونبوغه على القرشيين، كما رأيت في الصورة المتقدمة بأن اُولئك القرشيين الذين حملوا معه وكانوا ثلاثمائة رجل كأنّ الله سلب منهم كلّ موهبة الدفاع عن النفس، وقوّة الحجة، وطلاقة اللسان، وبلاغة البيان وهم أهله، فليس لهم قابلية على الدفاع، ولم يملكوا من الشجاعة والجرأة قليلاً أو كثيراً فيها، وانفرد الشافعي بالجرأة وقوّة البيان وثبات القلب، وهو شاب قد تجاوز الثلاثين من عمره، وحاشى قريشاً أن يمثّلوا موقفاً كهذا الموقف، ولكن دائرة الاختراع واسعة، والتقوّلات لا حدّ لها. وقد اعترف الشافعي نفسه بقصوره عن إدارك منزلة الطالبيين وإحجامه عن الكلام بحضورهم كما يُروى: أنّه حضر الشافعي مجلساً فيه بعض الطالبيين فقال: لا أتكلم في مجلس أجدهم أحقّ بالكلام مني، ولهم الرياسة والفضل.( [224] )وقد وضع عبد الله بن محمد البلوي صورة لهذه الرحلة تتضمن أشياء كثيرة لا أصل لها ( [225] ) وهي طويلة، ذكر فيها دخول الشافعي على الرشيد مقيداً بالحديد، وسؤال الرشيد له بمختلف العلوم والفنون، وجواب الشافعي له، ووعظه، وبكاء الرشيد ومن حضر، إلى آخر ما فيها من الاُمور المكذوبة التي لا تمت بالواقع وقد نص ابن حجر ( [226] ) وابن قيم الجوزية ( [227] ) وغيرهما علىوضعها.وخلاصة القول: انّ مجموع الروايات في محنة الشافعي وحمله لبغداد مضطربة كلّ الاضطراب، وتشتمل على أشياء لا صحة لها، كما تشتمل على ما لا يصحّ صدوره من الشافعي كما نقلوا عنه في جوابه للرشيد - عند الدفاع عن نفسه من تهمة المبايعة للعلويين - أنّه قال للرشيد: أأدع من يقول أنّي ابن عمّه (يعني الرشيد) وأصير إلى من يقول إنّي عبده (يعني العلويين)؟...إنّ هذا من التجني على الحقائق والتهجّم على الواقع بأن ينسب العلويين إلى اتخاذ المسلمين عبيداً، وأنّهم يسيرون تحت طغيان الأنانية التي لا توضّح لهم إلاّ طريق الاستعباد للناس، والاستعلاء عليهم والاحتقار لهم، وحاشاهم من ذلك وهم أبعد ما يكون عن اتّصافهم بما يخالفون ما طبعوا عليه، من اتباع نظم الإسلام، وأنّ الناس عندهم سواسية لا يتفاضلون إلاّ بالأعمال الصالحة، وهم لم يكونوا كغيرهم ممن ولي أمر المسلمين الذين لا يشعرون إلاّ بوجودهم الخاص، ولا يفكرون إلاّ نحو مايعود عليهم بالنجاح، ولا يرون إلاّ مصلحة أنفسهم، ولا يقيمون لمصالح الاُمة وزناً.كلّ هذا لم يكن له أثر عند العلويين، وحاشاهم من إرتكاب ما يخالف نظام الإسلام وأحكامه. وصدور مثل هذا القول من الشافعي، تقوّل عليه بالباطل، ولا يصحّ ذلك عنه. وقد صح عنه أنّه بايع ليحيى بن عبد الله بن الحسنالمثنى.قال ابن العماد: قام يحيى بن عبدالله بن الحسن المثنى وبثّ دعاته في الأرض، وبايعه كثير من أهل الحرمين واليمن ومصر والعراقين، وبايعه من العلماء محمد بن إدريس الشافعي، وسليمان بن حرير.( [228] )وفي هذه المحنة التي امتحن بها الشافعي كان له اُسوة بمن قبله من أئمة المذاهب، فأبو حنيفة قتل مسموماً بدعوى أنه لم يقبل القضاء، ومالك بن أنس ضرب بالسياط لفتوى تخالف رأي السلطان، وليس ببعيد أنّ مخترع هذه المحنة أراد مساواة الشافعي بمن قبله وبمن بعده، فإنّ أحمد بن حنبل امتحن في مسألة خلق القرآن، وكذلك قالوا إنّ الشافعي امتحن باتهامه بالميل للعلويين وذكروها بصورة موسعة وألفاظ مختلفة. وهي من تصرّف كتاب المناقب والمنتصرين للمذهب.الإمام الشافعي في مصرقدم الشافعي إلى مصر سنة (198 هـ)، ونزل بالفسطاط ضيفاً كريماً على محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، فأكرم مثواه وآزره، وكانت لمحمد بن عبد الله مكانة في مصر ورياسة علمية، وكان أهل مصر لا يعدلون به أحداً، وتأكّدت بينه وبين الشافعي مودة وإخاء، وقام في معاونة الشافعيومؤازرته ونشر علمه. وكان قدوم الشافعي إلى مصر في صحبة الواليمن قبل المأمون، وهو العباس بن موسى بن العباس، فلقى هناك إقبالاً من المالكية، لأنّه من أشهر تلامذة مالك بن أنس، وكان يقول: هذا قول اُستاذنا (يعني مالكاً).ولما استقل بآرائه ووضع الكتب في الردّ على مالك، تنكر له المالكية وعارضوه وأرادوا إخراجه من مصر واتهموه بالتشيع مرة، وبمقاومة السلطة اُخرى، حتى اغتالوه فمات بسبب ضربة على رأسه سنة (204 هـ).والذي يظهر أن الشافعي عاد إلى مكة وبقي مدة، ثم رجع سنة(200 هـ) وفيها سطع نجمه وكثر أتباعه رغم تعصّب الحنابلة عليهوإيذائه له.( [229] )الإمام الشافعي وحياته العلميّة مناقبه
إنّ من الحقّ والإنصاف أن نعطي شخصية كلّ واحد من أئمة المذاهب الأربعة حقّها من الدراسة والعناية العلمية، وأن نتناول سيرهم من غير تعصّب وتحيّز، وننظر إلى ما كتب عنهم بعين تبصر الحقيقة، وتبرز جوهر تلك الشخصيات التي أخذت محلّها من التشريع الإسلامي.ومهما يكن من أمر فإنّ المؤثرات الاجتماعية والأحداث السياسية تشوه سير البحث، ولا يستنتج الباحث منها الغاية المطلوبة، إذ أنّ أكثرها مبالغات أوجدها التعصّب الطائفي، عندما كثر الجدل وعظم الخلاف بين أنصار المذاهب، وخاصة المؤرخين والراوين الذين ساروا على ما تقتضيه ظروفهم المعاشية أو السياسية لا لما يقتضيه واقع الأئمة الملموس، وقد وصفوهم بصفات بعيدة عن الحقيقة، إذ جعلوهم في أعلى درجة من الكمال، وأرفع منزلة من العلم. بحيث يمتنع على أيّ مخلوق أن يصل إلى تلك المنزلة.ولا حاجة بنا إلى إعادة النظر في الاُمور، ولسنا نرغب أن نستقصي القول فيما ادعي للشافعي من تلك المناقب الموضوعة، نعم لا بدّ لنا من التعرّض للأحاديث التي استدلوا بها على تقديم الشافعي على غيره، وترجيح مذهبه على سواه، في لزوم الأخذ به، ووجوب اتّباعه، والاقتداء به، وإلى القارئ طرفاً من تلك الأحاديث :1 - من يرد هوان قريش أهانه الله.2 - من أحبّ قريشاً أحبّه الله، ومن أبغض قريشاً أبغضه الله.3 - إذا اجتمعت جماعات من قريش فالحقّ مع قريش، وهي مع الحقّ.4 - إنّما نحن وبنو المطلب هكذا - وشبك بين أصابعه.5 - أمان أهل الأرض من الاختلاف الموالاة لقريش.6 - هذا الأمر في قريش، لا يعاديهم أحد إلا أكبّه الله على منخريه.7 - الأئمة من قريش.8 - إنّ الله يبعث لهذه الاُمة على كلّ مائة سنة من يجدّد لها دينها.( [230] )وبهذه العمومات بنوا حصر الأخذ عن الشافعي ووجوب الرجوع إليه.قال السبكي بعد إيراد هذه الأحاديث: والغرض الأعظم تبيين أنه - أي الشافعي - قرشيّ مطلبي، وذلك أمر قطعي، ومن أجله سقنا ما أوردناه من الأحاديث. ثم يمضي في الاستدلال على انحصار هذه الأحاديث وتخصيص عموماتها في الشافعي، وهي حصر المبتدأ بالخبر.( [231] )والواقع غير هذا، فإنّ هذه الأحاديث مع فرض صحّتها هي عامة شاملة، ولا سبيل إلى حصرها بالشافعي، والاستدلال بها غير وجيه. وقد فرّعوا على هذه الأحاديث أشياء كثيرة :منها حرمة نسبة الخطأ للشافعي في مسألة ما، لأنّ ذلك إهانة له، وإهانة القرشي غير جائزة.ومنها وجوب الحذر من معاندة الشافعي وبغضه وعداوته .( [232] )ومنها لزوم تقديم الشافعي، والابتداء بذكره لقول النبي (صلى الله عليه وآله) قدّمواقريشاً وتعلّموا من قريش. إلى آخر ما هنالك من اُمور أثبتوها فيتقديم الشافعي على غيره.وكان إمام الحرمين، وابن السمعاني، والكيا الهراسي، وغيرهم يقولون لتلامذتهم: يجب عليكم التقيّد بمذهب إمامكم الشافعي، ولا عذر لكم عند الله تعالى في العدول عنه.( [233] )ومهما يكن من أمر فإنّ هذه الأحاديث لاتنهض حجة على المطلوب، وليس فيها ما يصلح لإثبات المدّعى، وقد أجاب عنها أصحاب المذاهب الاُخرى بأجوبة كثيرة، منها :1 - إنّ المراد بحديث قدّموا قريشاً إنّما هو في الخلافة لا العلم.2 - إنّ قوله: تعلّموا من قريش ولا تعلموها فهذا الخبر لا أصل له.وكيف يظن به - عليه الصلاة والسلام - أن يقول: اُتركوا جهال قريش على جهلهم فلا تعلّموها، هذا محال.ثم قالوا: إنّ الشافعي كان قرشيّاً، ولم يكن له معلم من قريش وإنّما أخذ علمه من غير قريش، كمالك بن أنس، ومحمد بن الحسن، وخالد الزنجي، وهؤلاء من غير قريش .( [234] )3 - وقال ابن الجوزي: فأمّا قوله : قدّموا قريشاً فقد قال إبراهيم الحربي: سئل أحمد بن حنبل عن ذلك، فقال: يعني الخلافة .ويقول : فإن قالوا - أي الشافعية - إنّ الشافعي كان فصيحاً فمسلّم، وذلك لا يعطي التقدّم على غيره، لأنّ التقدّم بكثرة العلم. على أنّه قد أخذ عليه كلمات فقالوا: قد قال: ماء مالح. وإنّما يقال ماء ملح.وقال: إذا أشلا كلباً يريد أغراه وإنّما الإشلاء عند العرب الاستدعاء. وقال: ثوب يسوى كذا، والعرب تقول: يساوي. ثم ذكر ابن الجوزي أدلة ترجيح أحمد بن حنبل على الشافعيبالعلم.( [235] )وصفوة القول: إنّ ادعاء الشافعية بالأحاديث، في لزوم اتباع الشافعي لا يقرّها المنطق الصحيح، وأنّ جميع حججهم لاتنهض في إثبات المدّعى. على أنّنا نناقش في أصل لزوم الرجوع إلى مذهب معيّن، وأنّه أمر لا دليل عليه. وقد بيّنا ذلك في البحث السابق، بإشارة موجزة حول الاجتهاد والتقليد.فإذا كان أصل الإلتزام لا أصل له فلا حاجة إلى هذا التكلّف. كما لا حاجة إلى ذكر كثير من المناقب التي أسندوها للشافعي وغيره من منامات وغيرها، تدلّ بمؤدّاها على لزوم اتباعه والأخذ بمذهبه.والخلاصة: أنّ أتباع كلّ إمام قد أحاطوا شخصية إمامهم بهالة من التقديس، وسلكوا سبلاً مختلفة وطرقاً متعددة، لإقامة الدليل على أعلمية إمامهم، وأولويته بالاتّباع دون غيره، فنشبت خلافات وظهرت ضغائن ومرّت الاُمة نتيجة ذلك بفترة محزنة، توتّرت فيها العلاقات الاجتماعية، وصبغت بالحدّةوالعنف.ولقد كان الهدف الأوّل لاختراع تلك الاُمور ونشرها هو إثبات أعلمية ذلك الإمام، وأهليّته للاتّباع، لينتشر المذهب ويكتب له النجاح.ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل امتدّت الحركة الادعائية هذه لترتكز على قاعدة قوية يكون لها أثرها في رسوخ المذهب وثبوته في القلوب، وذلك ادّعاؤهم بالبشائر النبويّة، فكلّ سلك جانباً من الادّعاء على صاحب الرسالة، وقد ساهم القصاصون وأعوان السلطة بنشر تلك الأكاذيب.شيوخه وتلامذته
تلقّى الشافعي الفقه والحديث على شيوخ من مكة، والمدينة، واليمن، وبغداد، وقد ذكر ابن حجر منهم عدداً يتجاوز الثمانين( [236] )، أمّا غيره فاقتصر على المشهورين منهم. ونحن نشير اليهم هنا بترجمة قصيرة وهم تسعة عشر: خمسة من مكة، وستة من المدينة، واربعة من اليمن، واربعة من العراق. وقد ترك الفخر الرازي ذكر محمد بن الحسن الشيباني تعصّباً، ولا مجال لتركه فإنّ الشافعي قد اعترف بأخذه العلم عنه، وأنّه حمل عنه علماً كثيراً ونمت مواهبه في ملازمته، ويعدّ في الواقع من أشهر شيوخه، بعد مالك بن أنس، وأوّل شيخ تلقّى الشافعي عنه العلم هو :1 - مسلم بن خالد المخزومي أبو خالد المكي، المعروف بالزنجي المتوفى سنة (180 هـ) وهو من موالي مخزوم، وهو أوّل شيوخ الشافعي ، وابتدأ بأخذ الفقه والحديث عنه، ثم انتقل إلى المدينة وحضر عند مالك، ولم يكن مسلم بن خالد ممّن يعتمد عليه في الحديث، فقد طعن عليه وضعّفه كثير من الحفاظ، كأبي داود، وأبي حاتم، والنسائي، خرّج حديثه ابن ماجة وأبوداود .( [237] )2 - سعيد بن سالم القداح، أبو عثمان الخراساني، ثم المكي المتوفى سنة (171 هـ) وكانت له حلقة مسلم بن خالد الزنجي، بعد أن توفي مسلم، وقد أخذ الشافعي عنه وروى حديثه، وكان سعيد يُرمى بالإرجاء (أي أنّه منالمرجئة).( [238] )3 - داود، بن عبد الرحمن العطّار المتوفى سنة (175 هـ).قال الشافعي: ما رأيت أورع منه، ووثّقه ابن معين .( [239] )ولم تكن ملازمة الشافعي له كغيره من شيوخه، ولعلّ أخذه عنه كان قليلاً.4 - سفيان بن عيينة ابن أبي عمران المتوفى سنة (198 هـ)( [240] )تقدّمت ترجمته في هذا الكتاب في اسماء تلامذة الإمام الصادق(عليه السلام)، وهو من رؤساء المذاهبالبائدة( [241] ).5 - مالك بن أنس الأصبحي المتوفى سنة (179 هـ)( [242] )، تقدّمت ترجمته في الجزء الأول والثاني( [243] ).6 - عبد الله بن نافع الصائغ، مولى بني مخزوم المتوفى سنة (206 هـ).( [244] )7 - يحيىبن حسان بن حيان، البكريالمصري المتوفى سنة (208 هـ).( [245] )8 - إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى أبو اسحق المدني المتوفى سنة(184هـ)( [246] ).وقد أكثر الشافعي من الرواية عنه. وهو عندهم ضعيف. وقد رموه بالكذب. وطعنوا على الشافعي بالأخذ عنه، ولكن الشافعي كان يرى إبراهيم صدوقاً، وإنّما رمي بالكذب لغايات هناك، وقد روى الربيع بن سليمان عن الشافعي أنّه كان يقول: لئن ينحر إبراهيم من بعد أحبّ إليه من أن يكذب وكان ثقة في الحديث.وإبراهيم هذا كان من تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام) وخرّيج مدرسته، وكان يروي أحاديث أهل البيت(عليهم السلام)، وله مؤلّف مبوّب في الحلال والحرام على مذهب أهل البيت، وهو اُستاذ الواقدي، وكتب الواقدي أكثرها مأخوذة عنه. وحيث كان الشافعي يعتمد على كتبه ورواياته، فكان مرة يصرّح باسمه ومرة اُخرى يورّي عنه فيقول: حدثني الثقة، حدثني من لا اتهمه.( [247] )9 - حماد بن اُسامة الكوفي، مولى بني هاشم المتوفى سنة (201 هـ).( [248] )10 - وكيع بن الجراح بن مليح الرواسي، أبو سفيان الكوفي المتوفى سنة(196 هـ).( [249] )11 - إبراهيم بن سعد الأنصاري الزهري، المتوفى سنة (183 هـ) تقدّمت ترجمته في تلامذة الإمام الصادق (عليه السلام).( [250] )12 - محمد بن الحسن الشيباني القاضي، تلميذ أبي حنيفة، قال الشافعي: حملت عن محمد بن الحسن الشيباني حمل بختي (نوع من الابل، ليس عليه إلاّ سماعي) وقال: كان محمد بن الحسن جيد المنزلة، فاختلفت إليه فلزمته وكتبت كتبه.( [251] ) ولذلك قالوا: إنّ محمد بن الحسن اغزر منه - أي من الشافعي - علماً وأخطر أثراً، وإنّ علم الشافعي راجع إليه ومأخوذ عنه.13 - عبد الوهاب بن عبد المجيد بن الصلت البصري المتوفى سنة(194هـ)( [252] )، تقدّمت ترجمته في هذا الكتاب في تلامذة الإمامالصادق(عليه السلام).( [253] )14 - هشام بن يوسف أبو عبد الله قاضي صنعاء، المتوفى سنة (197 هـ) وهو من الأبناء، سمع معمراً، وابن جريح، وأخذ عنه ابن المدايني، توفي قبل عبد الرزاق بن همام .( [254] )15 - إسماعيل بن إبراهيم الأسدي القرشي. مولاه أبو بشر البصري المتوفى سنة (193 هـ) ويعرف بابن عليّة. وهي اُمه، مولاة لبني أسد بن خزيمة ولمّا ولي إسماعيل بن عليّة القضاء كتب إليه ابن المبارك :
ياجاعل العلم له بازياً
تحتال للدنيا ولذاتها
فصرت مجنوناً بها بعد ما
أين رواياتك فيما مضى
أين رواياتك في سردها
إن قلت اُكرهت فذا باطل
زل حمار العلم في الطين( [255] )
يصطاد أموال المساكين
بحيلة تذهب بالدين
كنت دواء للمجانين
عن ابن عون وابن سيرين
في ترك أبواب السلاطين
زل حمار العلم في الطين( [255] )
زل حمار العلم في الطين( [255] )
مرض الحبيب فعدته
فمرضت من حذري عليه
فمرضت من حذري عليه
فمرضت من حذري عليه
وأتى الحبيب يعودني
فبرئت من نظري إليه
فبرئت من نظري إليه
فبرئت من نظري إليه
الاختلاف حول كتاب الاُم
وقد ثار الخلاف في مصر حول هذه المسألة، وكثر الجدل فيها، وهو: هل أنّ كتاب الاُم ألّفه الشافعي أو ألّفه البويطي؟فمنهم، من ينفي تأليف الشافعي لهذا الكتاب، وانّه عكف على كتابته وتأليفه في هذا الموضع النهائي.ومنهم، من يرى أنّ الشافعي أملاه على تلامذته في حلقة درسه، وقسم آخر يرى أنّ الشافعي أملى مسائل، وكتب مسائل، وتحدث بمسائل، ثم ترك علمه ورسائله وأماليه وديعة في خزائن اصحابه وصدورهم بعد موته، فجاء البويطي فصنّف من ذلك كلّه كتاب الاُم وأعطاه الربيع، فزاد فيه وتصرّف. ولكلّ قول مرجحات ومؤيدات.يقول الدكتور أحمد أمين: فليس يستطيع أحد أن يقول أنّ ما بين دفتي الكتاب الذي بين أيدينا هو تأليف الشافعي، وأنّه عكف على كتابته وتأليفه في هذا الموضع النهائي. كما أنّه لا يستطيع أحد أن ينكر أنّ في الاُم مذهب الشافعي بقوله وعبارته، فالظاهر أنّها أمالي أملاها الشافعي في حلقته، وكتبها عنه تلاميذه، وأدخلوا عليها تعليقات من عندهم، واختلفت رواياتهم بعض الاختلاف.( [278] )وكتب الدكتور زكي مبارك رسالة خاصة في هذه المسألة تحت عنوان: إصلاح أشنع خطأ في تاريخ التشريع الإسلامي، كتاب الاُم لم يؤلّفه الشافعي، وإنّما ألّفه البويطي وتصرف فيه الربيع بن سليمان.يقول في المقدمة: وملك الدنيا بأسرها لا يساوي عندي تصحيح هذه الغلطة التي درج عليها الناس منذ أجيال; وهي نسبة كتاب الاُم إلى الشافعي (رحمه الله)، مع أنّ الشافعي لم يؤلّف ذلك الكتاب، ولم يعرفه على الاطلاق لأنّه ألّف بعد وفاته بسنين .ويقول: إنّ الفرق عظيم بين كتاب يؤلفه الشافعي أو يمليه ويرويه عنه أصحابه، وكتاب يؤلف بعد وفاته بسنين. الفرق عظيم جداً بين هذين في التأليف والتصنيف، إلاّ أن تكون الحقائق الأدبية في مصر ممّا يكال ويوضع في الأعدال .ويستمر الاُستاذ مبارك في مناقشته، وبحثه حول الكتاب، وهو المعروف بدقّة البحث وسلامة الذوق، ويقيم الأدلة على مايدّعيه، من اثبات تأليف الكتاب للبويطي، لا للشافعي، ويصف لنا مهاجمة الناس له، وقيام المعركة حول إثارة هذه المسألة وأنّ المعركة تنتهي على أنّ الشافعي لم يعرف كتاب الاُم بصورته، وأنّه لا مفرّ من الاعتراف بأثر أبي يعقوب البويطي، والربيع بن سليمان في تأليف ذلك الكتاب.ويقول: كتب الله لنا النصر في تلك الحرب الشعواء، واعترف خصومي بأنّ الشافعي لم يعرف كتاب الاُم في حياته، اعترفوا في محادثات شخصية وتلفونية، وسألتهم أن يذيعوا ما اقتنعوا به فلم يفعلوا; لأنّ الاعتراف بالهزيمة يصعب على كثير من الناس.ولكنّهم لم يكونوا جميعاً في درجة واحدة من المكابرة، فقد تفرّد الرجل الفاضل الاُستاذ محمد عرفة - وكيل كلية الشريعة - بكلمة وقعت منه قضاءً وقدراً، في مقال نشره بالبلاغ في مساء السبت 28 شعبان سنة (1352 هـ) إذ قال: إلاّ أنّه يحتمل أن يكون الشافعي أملى كتابه الاُم كتباً متفرقة ومسائل مجزّأة، والذي جمعه وجعله كتاباً مستقلاً، وسمّاه بهذا الاسم هو الربيع بن سليمان، ونحن نرجّح هذا الاحتمال.هذا كلام وكيل كلية الشريعة بالجامع الأزهر، فماذا ينتظر الناس من الفوز لرأي زكي مبارك، من أن يوافقه وكيل كلية الشريعة من حيث لا يحتسب؟ويختم الاُستاذ زكي مبارك رسالته، التي نشرها حول إثارة هذا الموضوعفيقول:وأظهر ما تكون عقبة التوحيد في الفقه الاسلامي، فقد رأينا كيف يتفق فقهاء الشافعية على اضافة مؤلفات أصحاب الشافعي إلى الشافعي، ومضوا على ذلك الرأي الموحّد إلى اليوم، حتى رأينا من فقهاء عصرنا من يضجر ويحزن ويكتئب حين يسمع من يقول: إنّ للبويطي والربيع بن سليمان يداً في تأليف كتاب الاُم لأنّ في ذلك اشراكاً بالشافعي (رحمه الله)!ولا ننسى أنّ من فقهاء الشافعية جماعة أنطقت الرسول (عليه السلام) بمدح الشافعي قبل ان يولد بزمان، فزعمت أنّه قال: عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً وأن المقصود بهذا الحديث محمد بن إدريس الشافعي. إلى أن يقول: لقد مرّت أجيال والمسلمون يعتقدون أنّه ليس لأحد بعد الأئمة الأربعة أن يجتهد في الشريعة الإسلامية. والخارج عن المذاهب الأربعة - وهو رأي الجمهور - صاحب بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة، وكلّ ضلالة في النار.ومن المؤسف، أن تتغلغل هذه العقيدة في الجماهير الإسلامية، حتى نجد من يسأل عن مذهب رسول الله (صلى الله عليه وآله) أشافعي هو أم مالكي؟ وغفلة العوام فرع عن غفلة الخواص.فإن لم يكن ذلك كذلك - كما كانوا يعبرون - فلم يصرخ بعض الناس فيقولوا في جريدة يومية : أنّه يعزّ عليه أن ينسب كتاب الاُم إلى غير الشافعي؟ مع أنّ في فحول المتقدمين من نسبه الى البويطي والربيع، مع أنّ الأدلة تظافرت على أنّه ألّف بعد وفاة الشافعي بسنين؟يقولون، إنّ أصحاب الشافعي كانوا جميعاً عالة عليه، ونحن نقول: لولا أصحاب الشافعي لكان مصيره مصير الليث بن سعد، فقد كان من كبار الأئمة، ولكن قعد عنه أصحابه فضاع. وفي عصرنا شاهد لذلك! فلولا رشيد رضا لما كان محمد عبده، وهل استطاع الشيخ محمد عبده أن يظفر بكلمة ثناء؟ وهل جرى في الدنيا أنّه الاُستاذ الإمام وأنّه (لوثر) هذا الجيل; لولا عناية رشيد رضا بطبع مؤلفاته وإذاعة ما وعى عنه من مختلف الأقوال؟إنّ التلميذ المخلص شريك اُستاذه في الفضل، فلا تغضّوا من قيمة أصحاب الشافعي لتصح لكم في الشافعي عقيدة التوحيد، فبعض التوحيد وثنية لو تعلمون. إنتهى. وفي الرسالة مباحث قيّمة لم يتّسع الوقت لإعطاء صورةعنها.وبهذا ينتهي بحثنا حول شبهة كتاب الاُم. ونسبته للشافعي، وللشافعي كتب اُخرى في علوم مختلفة، كالتفسير واللغة وغيرهما، كما أنّهم نسبوا إليه معرفة كثير من العلوم، والتحقيق لايقرّ ذلك، والتتبع لا يثبته، فمن ذلك: إنّ بعض من درسوا الشافعي ينسبون إليه تعلّم اليونانية، معتمدين على مانقله الرازي عن الشافعي: أنّه عندما دخل على الرشيد بتلك التهمة، سأله الرشيد عن علمه، فكان ممّا جاء في هذه المحاورة: قال الرشيد : فكيف علمك بالطب؟ قال الشافعي: أعرف ما قالت الروم، مثل ارسطاطاليس. وجالينوس، وقرقوريوس، وأبو قليس، بلغاتها وما نقله أطباء العرب، وقنّنه فلاسفة الهند، ونمقته علماء الفرس.والقصة مكذوبة لا يعتمد عليها، لاشتمالها على اُمور متناقضة وأشياء مكذوبة، وأوضح ما فيها من الكذب أنّ السؤال من الرشيد كان بمحضر أبي يوسف، مع القطع بأنّ الشافعي دخل بغداد بعد وفاة أبي يوسف، ولم يجتمع به قط. وكذلك تشتمل القصة على مناقشات فقهية تخالف مذهب الشافعي قديمهوجديده.( [279] )فليس من التحقيق العلمي التمسك بشيء ممّا جاء في هذه القصة; لأنّ راويها كذّاب وضّاع، وهو محمد بن عبد الله البلوي، وحاله أشهر من أن يذكر( [280] ) ولم نجد نسبة تعلمه للطب واللغة اليونانية إلاّ في هذه الرواية التي لا يعتمد عليها، ونصّ على ذلك كثير من المحققين.وليس لنا غرض في نفي ذلك عنه، إلاّ الالتزام بشرط الدراسة من التعرّض لكثير من الاُمور التي هي بعيدة عن الواقع.أما الكلام حول علم الاُصول، وهل كان الشافعي هو الواضع له، أو أنّه أوّل من ألّف فيه؟! فذلك ما يستدعي بيانه الإطالة في البحث لاستلزامه الرجوع إلى البحث عن تاريخ علم الاُصول ونشأته، وهو متأخر عن علم الفقه; لأنّه ميزان له، فالفقه هو المادة التي توزن والمادة سابقة على الميزان.وقد أشرنا في الجزء الثاني في فصل تدوين العلم: أنّ الإمام الباقر (عليه السلام) كان هو الواضع الأول لقواعده وأسسه، وقد ألّف تلامذته رسائل في مسائله. ومهما يكن من أمر فلا مجال إلى الاعتراف بوضع الشافعي لعلم الاُصول، ولا يمكن التمسك بما نقله البعض في ذلك، لبعده عن الحقيقة، وعدم مطابقته للواقع، لأنا نجد من كان قبل عصر الشافعي من علماء الإسلام من كان يستعمل في استنباطه للحكم كثيراً من القواعد الاُصولية، للوقوف على حقيقة الحكم الوارد من الشارع.وكان لكلّ مذهب اُصول وقواعد، وقد ألّف أبو يوسف كتاباً في اُصول الفقه، كما أنّ قواعد اُصول الفقه المالكي كانت سابقة على الشافعي، وقد ألف محمد بن الحسن الشيباني كتاباً أسماه اُصول الفقه، وتدّعي الحنفية أنّ أول من وضع الكتب في اُصول الفقه على مذهب أبي حنيفة هو أبو يوسف.( [281] ) وذكر ابن النديم كثيراً من كتب الاُصول لمن هو أسبق في التأليف من الشافعي من معاصريه وغيرهم.وقد تقدّم القول بأنّ الإمام الباقر (عليه السلام) هو الذي وضع قواعد علم الاُصول وفتح أبوابه، وأوّل من صنّف فيه هو هشام بن الحكم المتوفى سنة (179 هـ)، صنّف كتاب الألفاظ ومباحثها، ثم من بعده يونس بن عبد الرحمن مولى آليقطين، وهو مبحث تعارض الحديثين، ومسائل التعادل والتراجيح. وقد ذكر ابن النديم مؤلفات الشيعة في الاُصول لمن هو أسبق من الشافعي، وقد مرّ البحث في ذلك في الجزء الثاني من هذا الكتاب( [282] ).ونحن لا ننكر أنّ الشافعي له يد في علم الاُصول، وأنّه وسّع الدائرة في بعض المسائل، إلاّ أنّه لم يكن واضعاً لهذا العلم، بل هو مؤلف وله الرسالة المشهورة، وقد تصدّى أبو سهل النوبختي، وهو من علماء الشيعة فنقضها وبيّن أخطاء الشافعي، فيما كتب عن علم الاُصول. ولكنّنا ننكر أن يكون هو الواضع الأوّل لعلم الاُصول وهو ادّعاء لا يثبت أمام التفاصيل، التي حوتها كتب الشيعة والتي تبيّن الأبواب التي جرى عليها الإمام الباقر، في مسائله وأقواله وتظهر القواعد التي وضعها في استخراج الأحكام وتصنيف المسائل، والتي برزت أيضاً بمنهج الإمام الصادق ومدرسته الكبرى.بين قديم وجديدتختلف أقوال الشافعي وفتاواه في كثير من الموارد، وقد عُرف عنه أنّه عدل عن فتواه في العراق، وعرفت بالمذهب القديم، وهو الذي تحمّله عنه تلامذته في العراق وأخذوا عنه، وحفظوا مسائله، ودوّنوا كتبه كالزعفراني والكرابيسي وغيرهما. ومن كتب المذهب القديم المنسوبة للشافعي: الأمالي، ومجمع الكافي.ولما دخل مصر رجع عمّا أفتاه في العراق، وما دوّن عنه، حتى روى البويطي، أنّ الشافعي قال: لا أجعل في حلّ من روى عني كتابي البغدادي( [283] )، هذا مع العلم بأنّ تلك الآراء والأقوال قدّ انتشرت وأخذها من تتلمذ عليه في بغداد، ولا نعلم معنى هذا النهي ومؤدّاه - إن صح عنه - فهل كان الرجوع عنها لعدم مطابقتها للحقّ؟ أم أنّ استعداده الاجتهادي كان قاصراً عن إدراك الواقع الذي ادركه في مصر؟!وصفوة القول: أنّ ما تقدم يضع بين يدي الباحث حقيقة مذهبية طريفة هي تأثر ذهنية الفقيه بالمحيط الجغرافي، وهذا ما لم يصل إليه التصور أو الإدراك، فالشافعي صاحب المذهب المعروف هو الذي تفرّد مذهبه بهذه الصبغة - صفة الجديد وصفة القديم - فمذهبه الجديد هو ما أملاه في مصر، وأخذ عنه تلامذته هناك، والقديم هو مذهبه في بغداد، وقد عدل عنه ونهى عن نقله، ولكنّ تلامذته في بغداد لم يبلغهم نهيه وعدوله، فدوّنوها وتناقلوها وانتشرت بينهم، ولهذا تجد الأقوال عن الشافعي مختلفة. فيأتي في المسألة قولان أو أكثر، وقد يثبت رجوعه عن أحدها أولا يثبت، فيبقى القولان ثابتين في المذهب منسوبين إليه، كما جاء في كتاب الاُم وغيره. وقد يعتبر هذا الاختلاف دليلاً على النقص في اجتهاد الشافعي، لأنّ عدم الجزم دليل على نقص العلم.ذكر الفخر الرازي في المسألة الحادية عشرة: أنّهم - أي العلماء القائلون بنقص اجتهاد الشافعي - قالوا: أنه - أي الشافعي - ما كان كاملاً في الاجتهاد لأنه توقف في أكثر مسائل الفقه. وتساوت عنده الأدلة، وذلك يدل على ضعف الرأي وقلة الفقه.( [284] )واعتذر الرازي: بأنّ هذا يوجد عند أبي حنيفة أيضاً في مسألة الماء المستعمل في الوضوء، فقد نقلوا عن أبي حنيفة ثلاث روايات :1 - رواية محمد بن الحسن عن أبي حنيفة أنّه طاهر.2 - رواية أبي يوسف أنه نجس نجاسة خفيفة .3 - رواية الحسن أنّه نجس نجاسة غليظة، ولهم من هذا الباب مسائل كثيرة، فثبت أنّ هذا الاشكال مشترك من الجانبين (أي من الشافعي وأبي حنيفة في اختلاف الأقوال).وسنوقف القارئ الكريم على كثير من ذلك. وقد جعلوا قول الشافعي الجديد ناسخاً لقوله القديم، كما أنّهم قد اكثروا من الاعتذار عن وجود هذا الاختلاف الذي جعله بعض العلماء نقصاً في اجتهاد الشافعي وإدراكه.قال أبو منصور البغدادي: وليس الشافعي أجلّ من رسول الله (صلى الله عليه وآله) حين سئل عن قذف الرجل امرأته، حتى نزلت آية اللعان، وقد روي أنّ المؤمن وقاف والمنافق وثاب( [285] ).وأنت ترى أنّ هذا النوع من الدفاع عن الشافعي لا موجب له، وهو تعصّب محض وقياس مع الفارق، فليس من الصحيح أن تقاس حوادث الشافعي بالنبي(صلى الله عليه وآله) الذي كان يستمدّ تعاليمه من السماء، وأنّه لا ينطق عن الهوى، إن هو إلاّ وحي يوحى. على أنّ الشافعي قد أراحهم من هذا التكلف، فإنّه لم يدّع العصمة والكمال، وقد دلّت أقواله على خلاف ما يدّعونه له، من صفة الإنسان الكامل الذي لا يعتريه الخطأ والنسيان، كما تقدّم بيانه.وحدّث البويطي عن الشافعي أنّه قال: صنفت هذه الكتب فلم آل فيها الصواب، فلا بدّ وأن يوجد فيها ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله، فما وجدتم فيه ما يخالف كتاب الله وسنة رسوله فإنّي راجع عنه الى كتاب الله وسنة رسوله.وقال المزني: قرأت كتاب الرسالة على الشافعي ثمان مرات، فما من مرة إلاّ وقد كان يقف على خطأ، فقال لي الشافعي: أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه تعالى. فقول أبي منصور في نصرة الشافعي خطأ محض وجرأة على مقام الرسالة، وليس بغريب على من انغمس في بحر التعصّب للمذهب بأن تصدر منه أمثال هذه المخالفات ، فقد ترك قول النبي (صلى الله عليه وآله) لقول صاحب المذهب، وقد مرّ أنّ بعضهم يسأل عن مذهب النبي (صلى الله عليه وآله) هل كان حنفياً أم شافعياً؟( [286] )ولسنا الآن بصدد البحث عن هذا، ولكنّ الغرض أنّ أقوال الشافعي قد اختلفت في كثير من المسائل، فهو قد أفتى في بغداد بمسائل، ثم أعرض عنها في مصر، فسميت تلك الأقوال بالمذهب القديم.وإنّ أقواله القديمة منشورة في أبواب الفقه المختلفة، وأخذ العلماء يوازنون بينها، واختلفت ترجيحاتهم وتصحيحاتهم فيها، بل تناولوا ما رجّحه الشافعي نفسه بالدراسة والفحص، فكانوا يرجّحون القول الآخر إذا وجدواحديثاً صحيحاً سيراً على قاعدة الشافعي التي سنّها لنفسه إذا صحّ الحديث فهومذهبي.قال البجرمي: الفتوى على ما في الجديد دون القديم، وقد رجع الشافعي عنه، وهذا كلّه قديم لم يعضده حديث، فإن اعتضد بحديث فهو مذهب الشافعي، فقد صحّ عنه أنّه قال: إذا صح الحديث فهو مذهبي، واضربوا بقولي عرض الحائط .( [287] )ولكن بعض الشافعية تردّد في الأخذ بالحديث إن عارض قول الشافعي، لأنه عساه يكون منسوخاً في نظره أو مؤولاً، أو صحّ عند غيره بطريق أقوى من طريقه، وبعضهم إذا وجد حديثاً يخالف رأياً مأثوراً عن الشافعي يأخذ بالحديث الصحيح، ويترك رأي الشافعي.وقد افتى المتقدّمون من فقهاء الشافعية بعدة مسائل في القديم، وترجيحها على الجديد، واختلفوا في عددها، وحاولوا حصرها في عدد قليل أو أكثر، وقد منع بعضهم الحصر. وحصرها بعضهم في اثنين وعشرين منها :عدم وجوب التباعد عن النجاسة في الماء الراكد الكثير، والتثويب في الأذان، وعدم انتقاض الوضوء بمس المحارم، وطهارة الماء الجاري ما لم يتغير، وعدم الاكتفاء في الاستنجاء بالحجر إذا انتشر البول، وتعجيل صلاة العشاء، وعدم مضي وقت المغرب بمضي خمس ركعات، وعدم قراءة السورة في الأخيرتين، والمنفرد إذا أحرم الصّلاة ثم انشأ القدوة - أي جواز ذلك - وكراهية تقليم أظافر الميت ، وعدم اعتبار النصاب في الركاز، وشرط التحليل في الحج بعذر المرض، وتحريم جلد الميتة بعد الدباغ، ولزوم الحد بوطء المحرم بملك اليمين، وقبول شهادة فرعين على كلّ من الأصلين. إلى آخرماذكر.وصفوة القول: إنّ اختلاف الشافعية في أقوال الشافعي المختلفة قد فتحت لهم أبواب الترجيح، والتخريج، والموازنة بين أقواله وتطبيقها على الأحاديث، فما كان له شاهد من الحديث قدّم على مالم يكن له شاهد، واشترطوا لذلك شروطاً يأتي بيانها.وهاتان الناحيتان - القديم والجديد - تظهران جليّاً في كتاب الاُمّ، وفي اختلاف الشافعية المتأخرين، إذ يذكرون للمسألة قولين، ويقصدون القديم والجديد، وقد مرّ أنّ أتباع أئمة المذاهب يجعلون أقوالهم هي بمنزلة أقوال النبي (صلى الله عليه وآله)، وربّما ترك قوله (صلى الله عليه وآله) لقولهم.وقد قيل في أسباب تحول الشافعي عن أقواله في بغداد: أنّ إنتقاله من بغداد إلى مصر، وتقلبه في عادات جديدة أثّر ذلك في تبدل رأيه.وغير بعيد أنّ الشافعي عندما كان في بغداد كان يرى نفسه تلميذاً لمالك ابن أنس، وبعد ذهابه لمصر بقي مدة ينقل أقوال اُستاذه، ثم تحول إلى مرحلة النضوج الاجتهادي في تعمّقه ودراسته، فهجر ما قاله أوّلاً وانتقد اُستاذه مالكاً، ووضع الكتب في الردّ عليه، وأعلن بحرمة العمل في قوله الأوّل، ومنع من نقلهعنه.ولكن مدة بقائه بمصر لا تساعده على اكتساب تلك الملكة الاجتهادية، وذلك الاُفق الواسع من العلم كما ينقل عنه.
آراؤُه في القرآن
قيل إنّ الشافعي كان يرى أنّ القرآن كلام الله غير مخلوق ويقول: إنّ الله سبحانه وتعالى يقول: (وكلّم الله موسى تكليما)( [288] ).ومسألة خلق القرآن من المشاكل المهمّة التي حلّت بالجامعة الإسلامية، والتي أدّت موجة كلامية في تاريخ الإسلام، نجم من ورائها تباعد وعداء، واتّهام بالكفر، ورمي بالزندقة والإلحاد، وإثارة الفتن، وإيقاد نار البغضاء، حتى عدّ من لم يقل بخلق القرآن خارجاً عن الدين ويقتل.وقد تطوّرت هذه المسألة بعد وفاة الشافعي، وظهر الامتحان بها في سنة (218 هـ) ففيها دعا المأمون المحدّثين والقضاة الى القول بخلق القرآن، محتجاً على أنّه محدث، وكلّ محدث مخلوق، وهذا الرأي السائد عند كثير من علماء عصره. وكان معارضو هذا الرأي يقولون: إنّ القرآن كلام الله تعالى: القائم بذاته المقدسة، وما كان قائماً بذاته لا يكون مخلوقاً.( [289] )وأخذ المأمون جماعة من الفقهاء فحبسهم وماتوا في السجن( [290] ).وأجاب كثير منهم تقيّة. طمعاً في الوظائف، وإبقاء على النفس. ويتجاوز عدد الذين أجابوا أكثر من ستين عالماً كلّهم من كبار المحدثين، كيحيى بن معين المتوفى سنة (233 هـ). ومحمد بن سعد صاحب الطبقات المتوفى سنة (230هـ) وقتيبة بن سعيد المتوفى سنة (240 هـ) وغير هؤلاء يأتي الكلام عليهم إن شاء الله تعالى.ولقد تجاوز أكثر الفقهاء الحدّ في هذه المسألة، فذهبوا إلى كفر من قال بخلق القرآن، وبطلان نكاحه، وأنّ امرأته قد بانت منه، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ولا يدفن في مقابر المسلمين.وقال: إنّ من وقف وقال: لا أقول أنّ القرآن مخلوق أو غير مخلوق فقد ضاهى بالكفر، ومن زعم أنّ لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع، لا يجالس ولايكلّم.وكان أحمد بن حنبل لم يقبل توبة أحد ممن يقول بخلق القرآن، بل كان يرتب عليهم آثار الكفر وأحكامه، فلم يشيّع جنائزهم، ولم يُصلّ على واحد منهم، وحرّم الكلام معهم.ولقد أخذت هذه المسألة دورها في ذلك العصر، حتى أنّ امرأة جاءت إلى القاضي فقالت: طلقني فإن زوجي يقول بخلق القرآن.ثم اتسعت الحالة فخرجت عن اعتقاد البشر الى الجنّ، وأنّهم يقولون بذلك إلى آخر مافيها من تطور وتأزم كما سيأتي في الجزئين: الرابع والسابع إن شاءالله.وبالجملة، فإنّي أرى أنّ ما ينقل عن الشافعي من التشدد في هذه المسألة لا يخلو بعضه من مبالغة، كما لا يخلو من زيادة - نسبة للظروف المتأخرة - إذ المسألة في عصر الشافعي لم تأخذ أثرها في المجتمع بذلك الشكل الذي يجعلنا نثق بصحة كل ما جاء عن الشافعي فيه، مع أنّا لا نريد ان ندفع عن الشافعي ما كان يراه، أو نقول بعدم صحة النقل عنه، ولكنّا نشكّ في تشدّده في أمر من يقول بخلق القرآن.قال الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي يقول: من حلف باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفّارة، لأنّ اسم الله غير مخلوق، ومن حلف بالكعبة أو بالصفا والمروة فليس عليه كفارة، لأنّه مخلوق وذاك غير مخلوق .( [291] )وقال الربيع بن سليمان: حدّثني من أثق به، قال: كنت حاضراً في المجلس فقال حفص الفرد: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم .وقال الربيع أيضاً: حضر عبد الله بن عبد الحكم، ويوسف بن عمر، وحفص الفرد، وكان الشافعي يسمّيه حفص المنفرد، فسأل حفص عبد الله بن عبد الحكم وقال: ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيبه، ثم سأل يوسف بن عمر فلم يجبه، وكلاهما أشارا للشافعي، فسأل الشافعي فاحتجّ عليه الشافعي، وأقام الحجّة عليه بأنّ القرآن كلام الله غير مخلوق، وكفّر الشافعي حفصاً. قال الربيع: فلقيت حفصاً في المجلس فيما بعد فقال: أراد الشافعي قتلي.( [292] )رأيه في الرؤية قال الربيع: كنت يوماً عند الشافعي، وجاءه كتاب من الصعيد يسألونه عن قوله تعالى: (كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئذ لَّمَحْجُوبُونَ)( [293] ).فكتب الشافعي: لمّا حجب قوماً بالسخط، دلّ على أنّ قوماً يرونه بالرضا، قال الربيع: أو تدين بذلك ؟قال: والله لو لم يدن محمد بن إدريس أنّه يرى ربّه في المعاد لما عبده في الدنيا.( [294] )وبهذا يتضّح لنا رأي الشافعي: أنّ الرؤية محقّقة في الآخرة، ولولا ذلكلما عبد الله في الدنيا.وقد اختلف المسلمون في رؤية الله تعالى، فذهب قوم الى جوازها في الدنيا والآخرة، ومنعها آخرون في الدنيا ووقوعها في الآخرة، كما هو مذهب الشافعي.( [295] )وذهب أهل البيت(عليهم السلام)وشيعتهم إلى استحالة الرؤية في الدنيا والآخرة، وعدم امكانها لأنه تعالى (لاَّتُدْرِكُهُ الاَْبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاَْبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)( [296] ) لأنّ الأبصار إنّما تتعلّق بما كان في جهة أصلاً أو تابعاً، كالأجسام، والهيئات، وعلل ذلك بأنّ الباصرة لا تكون في حيّز الممكنات مالم تتصل أشعة البصر بالمرئي، ويمتنع اتصال شيء ما بذاته جلّ وعلا.وللإمام أبي الحسن الهادي (عليه السلام) اُسلوب آخر في تقرير هذا الوجه، يوافق رأي الفلاسفة من أهل هذا العصر. أخرج الكليني في باب إبطال الرؤية،من كتاب التوحيد من اُصول الكافي، بسنده إلى أحمد بن إسحاق قال: كتبت إلى أبي الحسن الثالث أسأله عن الرؤية؟ فكتب (عليه السلام): لا تجوز الرؤية - عقلاً - ما لم يكن بين الرائي والمرئي هواء( [297] ) ينفذ البصر، فإذا انقطع الهواء عن الرائي أو المرئي لم تصحّ الرؤية.( [298] )قال سيدنا شرف الدين ( [299] ) : إنّ العقل الذي عرفنا الله تعالى به يحكم مستقلاً بامتناع رؤية الباري سبحانه، سواء أكانت الرؤية بصرية، أم قلبية، أم خيالية، أم وهمية، لامتناع لوازمها بحكم العقل.نعم، ندرك بأبصارنا آيات الله في عجائب مخلوقاته (إِنَّ فِى خَلْقِ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَاخْتِلافِ الَّليْلِ وَالنَّهَارِ لاَيَات لاُِّوْلِى الاَْلْبَابِ)( [300] ).
وفي كلّ شيء له آية
تدلّ على أنّه واحدُ
تدلّ على أنّه واحدُ
تدلّ على أنّه واحدُ
رأيه في الصفات
عن يونس بن عبد الأعلى المصري، قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن إدريس الشافعي يقول وقد سئل عن صفات الله وما ينبغي أن يؤمن به: لله تبارك وتعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيّه (صلى الله عليه وآله) اُمته، لا يسمع أحداً ممن خلق الله قامت عليه الحجة: أنّ القرآن نزل به وصحّ عنه بقول النبي(صلى الله عليه وآله)، فما روي عنه العدل، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجّة عليه فهو والله كافر، فأمّا قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل، لأنّ علم ذلك لايدرك بالعقل ولا بالرؤية والفكر، ونحو ذلك اخبار الله سبحانه وتعالى، أتانا أنّه سميع وأنّ له يدين، بقوله: (بل يَداهُ مَبسُوطَتان) وأنّ له يميناً بقوله: (والسَّمَاوَاتُ مَطويَّاتٌ بِيَمِينه) وأنّ له وجهاً، بقوله: (كُلّ شَيء هَالِكٌ إلاّ وَجهَهُ)وقوله: (وَيَبقَى وَجهُ رَبّك ذو الجلالِ والإكرام) وأنّ له قدماً، بقول النبي (صلى الله عليه وآله): حتى يضع الربّ فيها قدمه يعني جهنم. وأنّه يضحك من عبده المؤمن بقول النبي (صلى الله عليه وآله)- للذي قتل في سبيل الله - : أنّه لقي الله وهو يضحك إليه( [304] ) وأنّه يهبط كلّ ليلة إلى سماء الدنيا بخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وأنّه ليس بأعور، بقول النبي (صلى الله عليه وآله) - إذ ذكر الدجال - فقال: إنّه أعور، وأنّ ربّكم ليس بأعور، وأنّ المؤمنين يرون ربّهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون القمر ليلة البدر وأنّ له اصبعاً، بقول النبي(صلى الله عليه وآله): ما من قلب إلا هو بين اصبعين من أصابع الرحمن عزّ وجلّ.( [305] )فإنّ هذه المعاني التي وصف الله بها نفسه، ووصفه بها رسوله. ممّا لا تدرك حقيقته بالرؤية والفكر، فلا يكفر بالجهل بها أحد إلا بعد انهاء الخبر إليه بها.فإن كان الوارد بذلك خبراً يقوم في الفهم مقام المشاهدة في السماع، وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته والشهادة عليه، كما عاين وسمع من رسولالله(صلى الله عليه وآله). ولكن يثبت هذه الصفات وينفي التشبيه، كما نفى ذلك عن نفسه تعالى ذكره، فقال: (لَيسَ كَمِثلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيع البَصِيرُ).( [306] )رأيه في الإمامة
كان الشافعي يرى أنّ الإمامة في قريش، ولا يشترط البيعة، روى عنه تلميذه حرملة أنّه قال: كلّ شيء غلب على الخلافة بالسيف، واجتمع عليه الناس فهو خليفة ( [307] ) فالعبرة عنده في الخلافة بأمرين: كون المتصدّي لها قرشيّاً، واجتماع الناس عليه، سواء أكان الاجتماع سابقاً على إقامته خليفة، كما في حال الانتخاب والبيعة، أم لاحقاً لتنصيبه نفسه خليفة، كحال التغلب، وهذا لا يُسمّى اجتماعاً.ولم يشترط الهاشمية، بل القرشية كافية. وكان يرى: أنّ علي بن أبيطالب هو الإمام الحقّ في عصره، وأن معاوية وأصحابه كانوا الفئة الباغية، ولذلك اتخذ في كتاب السير سنّة عليّ (عليه السلام) في معاملة البغاة، كما هو مدون ثابت في كتاب (الاُم) وغيره من كتب الشافعية، لذلك اتهم الشافعي بأنه رافضي. كما تقدم بيانه.فهو لا يبالي بأن يظهر حبّ آل محمد. وإن اعترضت حواجز في طريق إظهار الحبّ، كما شاءت السياسة بأن يرمى محبّ أهل البيت(عليهم السلام)بكلّ تهمة، ويكون عرضة للخطر. وقد أعلن الشافعي ذلك بقوله :
إن كان رفضاً حبُ آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي
فليشهد الثقلان أني رافضي
فليشهد الثقلان أني رافضي
لقد كتمت آثار آل محمد
فشاع لهم بين الفريقين نبذة
بها ملأ الله السماوات والأرضا( [309] )
محبوهمو خوفاً وأعداؤهم بغضاً
بها ملأ الله السماوات والأرضا( [309] )
بها ملأ الله السماوات والأرضا( [309] )
إذا في مجلس ذكروا علياً
يقال تجاوزوا ياقوم هذا
برئت إلى المهيمن من أناس
يرون الرفض حبّ الفاطمية( [310] )
وسبطيه وفاطمة الزكية
فهذا من حديث الرافضية
يرون الرفض حبّ الفاطمية( [310] )
يرون الرفض حبّ الفاطمية( [310] )
هل تطمعن من السماء نجومها
أو تدفعون مقالة عن ربّكم
شهدت من الأنفال آخر آية
بتراثهم فأردتمو إبطالها
بأكفّكم أو تسترون هلالها
جبريل بلّغها النبيّ فقالها
بتراثهم فأردتمو إبطالها
بتراثهم فأردتمو إبطالها
أنّى يكون وليس ذاك بكائن
لبني البناتِ وراثة الأعمام
لبني البناتِ وراثة الأعمام
لبني البناتِ وراثة الأعمام
لكمو تراث محمّد
وبعدلكم تشقى الظلامة
وبعدلكم تشقى الظلامة
وبعدلكم تشقى الظلامة
ما للذين تنحلوا
ميراثكم إلاّ الندامة
ميراثكم إلاّ الندامة
ميراثكم إلاّ الندامة
على الأقل.وقد نبغ رجال من علماء المسلمين في علم الكلام، وعرفوا بقوة المناظرة والتفوق في الحجة، وعقدت المجالس والحلقات للمناظرة دفاعاً عن المبادئ الصحيحة والعقائد الاسلامية، وقابلوا تلك النزعات التي نشرت لواء الشك في عقائد ذلك المجتمع، وكان النصر لمن قرّبهم الخلفاء وأدنوا مجالسهم وفتحوا لهم باب قصورهم، أمّا الذين لم يكونوا كذلك فتردّ أقوالهم ولا يصغى لما يدلون به من الحجاج، ومايقيمونه من الأدلة القوية ذوداً عن الإسلام وذبّاً عنحياضه.وأستطيع أنّ أؤكّد أنّ تلك الحركات الفكرية كانت لها صلة وثيقة بالسياسة، وهي التي تدير كفّتها لتلعب دورها من وراء الستار.وكانت هذه الناحية وذلك التطور في الآراء والعقائد من أخطر العوامل التي نجم من ورائها تفكك في المجتمع، وتكوين جماعات تختلف في الآراء، وكلٌ يذهب إلى أنّ الحق في جانبه دون غيره.الزندقة في عرف العباسيين ومن المشاكل ذات الخطورة في ذلك العصر، مشكلة ظهور الزنادقة وانتشارهم. وأهمّ من ذلك هو أنّ تشخيص الزنديق بطابعه الخاص، الذي يكشف عن شخصيته، لم يكن واضحاً عندما أصبح انطباق هذه اللفظة على معان مختلفة، لأنّ الاتهام بالزندقة كان لأسباب سياسية، عندها اتخذها الخلفاء وسيلة للقضاء على خصومهم، بل كان هناك من الوزراء من يتّخذون من الاتهام بالزندقة سبيلاً للكيد والوقيعة بنظرائهم الذين يحقدون عليهم. لذلك أصبح لفظ الزنديق لفظاً مشتركاً غامضاً، فأطلق على معان مختلفة بعد أن كان يطلق على من يؤمن بالمانوية ويثبت أصلين أزليين للعالم : هما النور، والظلمة، وهذا المعنى هو المطلوب أولاً وبالذات، ثم اتّسع المعنى حتى أطلق على كلّ صاحب بدعة وكلّ ملحد، بل انتهى به الأمر أخيراً إلى أن يطلق على من يكون مذهبه مخالفاً لمذهب أهل السنة، أو حتى من كان يحيى حياةالمجون.كان شريك بن عبد الله القاضي لا يرى الصلاة خلف المهدي، فأحضره وتكلّم معه، فقال له المهدي في جملة كلامه: يا ابن الزانية! فقال شريك: مه مه يا أمير المؤمنين، فلقد كانت صوّامة قوّامة.فقال له المهدي: يا زنديق لأقتلنّك، فضحك شريك وقال: يا أمير المؤمنين، إنّ للزنادقة علامات يعرفون بها: شربهم القهوات واتخاذهم القينات. فأطرق المهدي.( [342] )فنرى أنّ المهدي كان يطلق كلمة زنديق على من لم يعترف بخلافته أو عدالته، وما أكثر الذين يذهبون لذلك من رجال الاُمة وعلمائها، كما أنّ شريكاً القاضي أطلق لفظ الزندقة على من كان يحيى حياة المجنون. وأنّ من أوضح الاُمور انطباق ذلك على المهدي نفسه، فهو الشخص الوحيد الذي يمثّل دور المجون والاستهتار، فاطلق عليه شريك لفظ الزندقة بالتلميح.وكذلك أطلق لفظ الزندقة على من يناقش أحاديث الصحابة أو يردّها لعدم صحتها .( [343] )وكذلك أطلق لفظ الزندقة على المفكّرين الذين يقفون أمام الحوادث التأريخية موقف تثبّت، لاستجلاء الواقع ومعرفة الحقيقة. فالأمر الذي يتعلّق بالبحث حول بعض الصحابة وما صدر منهم قد أصبح محظوراً، فلا يمكن إلاّ التسليم بصحة ما صدر منهم - وإن خالف الشرع - لأنّ البحث عن ذلك أمر يستوجب الاتهام بالزندقة، وليس وراء ذلك إلاّ السيف. حتى أصبح ذلك من القواعد المقررة المعمول بها طبقاً لإرادة الدولة، وتلك القاعدة هي: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب محمد (صلى الله عليه وآله) فاعلم أنّه زنديق .( [344] )يقول الدكتور أحمد أمين: إنّ الاضطهاد والرّمي بالزندقة عنوان الشخصية. فالرجل إن كان ضعيف الهمّة، فائل الرأي، أو ذا رأي ولكنّه ملق يكلّم كلّ إنسان بما يحبّ فلم يضطهد; وإذا كان يسير في العلم حسب رأي الأغلبية، ويرى من النظريات والقواعد والتعاليم ما يراه الناس في عصره فلم يضطهد. إنّما يضطهد القويّ في الرأي، لايتنزل عنه لسلطان أو أمير، المستقل الفكر يؤديه فكره إلى نتائج قد يخالف فيها أهل عصره جميعاً، فلا يعبأ بمخالفتهم ولا يأبه لنقدهم... إذ ذاك يكون الاضطهاد وتكون الحرب العوان بين الآراء، فيقف ذو الشخصية وأتباعه القليلون في جانب، وذوو الجاه والسلطان أحياناً في جانب آخر، ويكون النضال وتكون الدسائس والمؤامرات، وماشئت من صنوف القتال!( [345] ).فلهذه الأسباب كان الاتهام على الزندقة لأقلّ شبهة، وقد سجّل التاريخ كثيراً من تلك الحوادث التي كان مبعثها الحقد والانتقام والتشفّي.وصفوة القول: إنّ تلك الحملة على الزنادقة لو تجرّدت عن تلك الزوائد لكان أثرها أكثر نفعاً لتطهير المجتمع الإسلامي من اُولئك النفر الذين لعبوا دوراً هاماً في نشر الخرافات والأساطير، والتحلل من قيود الشريعة الإسلامية، ممّن هم زنادقة فعلاً عندما وجد أكثرهم طريقاً يسلكون فيه، وكان منهم ذوو مكانة في الدولة: كمطيع بن أياس، وابن المقفع، وابن أبي العوجاء، وقد وضعوا حوادث وأحاديث يقصدون بها إفساد الرأي العام، وعندما قدّم ابن أبي العوجاء للقتل قال: أما والله لئن قتلتموني لقد وضعت أربعة آلاف حديث أحرّم فيه الحلال واُحل فيه الحرام، والله لقد فطرتكم يوم صومكم وصومتكم في يوم فطركم( [346] ) كما أنّهم وضعوا كثيراً من القصص في المجون والهزل، وخلقوا شخصيات لا وجود لها، واخترعوا حوادث لا واقع لها، كما أنّهم ترجموا كتب الزنادقة ونشروها في المجتمع للتضليل والخداع، وقد قام جماعة منهم - وعلى رأسهم سيف بن عمرو - بالدس الشائن في تاريخ الإسلام فحوّروا وبدّلوا واخترعوا، وقد اشتهر كتاب الردة لسيف بن عمرو، وأصبح مصدراً لكثير من المؤرخين، وسيف هو رأس الزنادقة والكذابين، كما نصّ عليه علماء الرجال واشتهر عنه ذلك.وكيف كان فإنّ وضعهم سيّء واثرهم في المجتمع أسوأ، وكما قلنا إنّ لفظ الزندقة أو الاتّهام بها لم يكن على واقعه كما يرام، فقد أتّهم أبرياء وقتل صلحاء تحت غبار هذه الحملة، واطلقت هذه اللفظة على بعض من لم يصحّ أن يكون موضوعاً لمحمولها; ولكنّ ذلك كان لأسباب سياسية، أو أغراض انتقامية، كما قدّمنا.وقد اعتمد عليها أكثر الباحثين، فلم يكلّفوا أنفسهم بالبحث عن الحقائق لمعرفة الأسباب، والوقوف على العوامل التي دعت إلى اتهام الكثيرين من رجال الاُمة وصلحائها بالزندقة، والحكم عليهم بدون مبرر، لأنّ تلك اللفظة قد اتّسع معناها إلى حدّ لا يسمح بتحديده تحديداً دقيقاً. وأصبح الزنديق الواقعي آمناً إن أمنت السلطة سطوته.وهذا ما حمل الكثيرين من الكتّاب إلى إيجاد رابطة بين الزندقة وبين التحرر الفكري والنقد للأوضاع، ذهولاً منهم عن التوصل الى الحقيقة، وقصوراً عن الوصول إلى معرفة الأسباب، التي جعلت الانتساب إلى التشيّع دليلاً على الزندقة، وداعياً إلى الاتهام بها، ولا شيء هناك إلا عدم إرتباط العقائد بالدولة، وأنّ انفصالهم الروحي وعدم امتزاجهم بالسلطان وأعوانه لأكبر دليل على الاستهانة بتوجيه الأسباب التي توجب اتّهامهم بذلك، وأهمّ شيء اتّهامهم بسبّ الشيخين، فإنّ هذه التهمة هي فوق جريمة الإلحاد، فإنّ المتّهم بالزندقة تقبل توبته، أمّا المتّهم بهذه التهمة فلا تقبل توبته، ويحكم بكفره وإلحاده مع إيمانه بالله ورسوله وإقامة الفرائض، ولكن للسياسة حكم فوق ما يثبته الواقع ويقرّه الحقّ، إذ هي عمياء لا تبصر، ولهذه المشاكل كان ذلك العصر يموج بحوادث لها أهميّتها في تاريخ الإسلام.نشاط العلماء وتأييد الدولة وكان من أهم مظاهر ذلك العصر انصراف علماء الإسلام إلى دراسة العلوم المختلفة، كما اتّسعت حركة التأليف، وزاد نشاط العلماء في تدوين علوم الإسلام، ورتّبوا أبواب الفقه وأنواع الحديث. وكان الخلفاء ـ مع إنغماسهم في الشهوات والترف وارتكابهم المحرّمات ـ يتظاهرون بخدمة العلماء ويتحلّون بالنزعة الدينية، وبهذا تمكّنوا من استخدام رجال منهم وسيلة لتوطيد استبدادهم، وذريعة لإخضاع العامّة لهم، وأنّهم ملزمون بإطاعة السلطان إطاعة عمياء، وأنّ تصرفه لا يجوز الاعتراض عليه وإن انْحَرف عن حدود طاعة الله، وبهذا وقع تطور أوجد مشاكل خطيرة، فكانت في ذلك العصر للفقهاء والمحدّثين درجات عالية عند الخلفاء، وقد كثر الجدل والنقاش في أهمّ المسائل الفقهية، كما كثر في العقائد والمسائل الكلامية. كما وقد اشتدّت قضية أهل الرأي وأهل الحديث، وأصبح لكل جانب أنصار، وهم يقيمون الحجج والبراهين على مايذهبون إليه. إلى غير ذلك من مميّزات ذلك العصر الذي نشأ فيه الشافعي.كما وقد اُثيرت هناك مسائل كثيرة تتعلق بالتوحيد وبالصفات. ورؤية الله بالأبصار، وغيرها من المسائل ذات الأهمية في ذلك العصر. كالبحث حول الحديث وصحته، والاجتماع وكيفية الاستدلال به. ولقد جاء عن الشافعي في كتاب الاُم أنّه ناظر في كثير من هذه المسائل، وقد كانت طريقة الشافعي في النقل عن كثير من المناظرات، نقل الحجة عن لسان واحد بدون تعيين، ولعلّ ذلك طريقة علميّة للتوصل الى إيضاح الأمر وبيانه.الخلاصة والخلاصة، أنّ العصر الذي نشأ فيه الشافعي كان أزهر العصور من جهة، ومن جهة اُخرى كان عصر مشاكل للاُمة عندما استبدّ ولاة الأمر باُمور المسلمين، فاستأثروا بالأموال وتحكّموا بالرقاب وخالفوا حدود الله مع ادعائهم - الأجوف - بالمحافظة عليها، وقد تجاوزوا الحدّ في تعدي حدود الله ومخالفة أحكامه حتى لقد استعملوا في معاملة الرعية أشدّ أنواع التعسّف والجور، الأمر الذي دعا رجال الاصلاح والمحافظين على نواميس الإسلام إلى متابعة الإنكار ورفع اصواتهم بالمؤاخذة، فكان نصيبهم القتل والتشريد وظلمة السجون.وقد أدّى ذلك الظلم إلى عواقب وخيمة، كان من ورائها عدم استقرار الأمر وضياع الحقّ، وقد حاولنا أن نلمس موقف الشافعي وسط ذلك المعترك، ومواجهته تلك الأوضاع الشاذة، وهو ذلك الرجل الطموح الذي كان يتحسس إلى النهوض في وجه الظلم، بانضمامه لجانب العلويين كما نقل عنه. فإنّا لم نجد للشافعي موقفاً يدلّنا بصراحة على إنكاره للأوضاع، ولعلّ قضية اتّهامه بذلك حالت بينه وبين نشاطه وشعوره المتوقد، هذا إن كان لقضية الاتهام أصل، وإلاّ فلا شيء يدلّ على أيّ أثر هناك، لأنّ القضية مكذوبة ولا أصل لها.ولا تهمّنا هذه الجهة، ولكن يهمّنا معرفة تأثره بطابع ذلك العصر، من حيث النشاط العلمي، والتقدم بين أقرانه، لما أتّصف به من ذكاء وفطنة. ونحن عندما ندرس تلك الجهة عن طريق المعجبين به نجد أنّ له نشاطاً عظيماً وتقدّماً فائقاً يوم كان ببغداد، ولكن هناك أيضاً من ينفي هذا ويصفه بالانسحاب عن ميدان المقابلة لعلماء عصره، ويجعل ذلك سبباً لخروجه إلىمصر .يقول البزاز: كان الشافعي (رضي الله عنه) بالعراق يصنّف الكتب، وأصحاب محمد - أي الشيباني - يكسرون عليه أقاويله بالحجج ويضعّفون أقواله، وقد ضيّقوا عليه، وأصحاب الحديث أيضاً لا يلتفتون إلى قوله، ويرمونه بالاعتزال، فلما لم يقم له بالعراق سوق خرج إلى مصر، ولم يكن فقيه معلوم، فقام بها سوقه .( [347] )ويقول أيضاً : عن علي بن حسين الرازي قال: اجتمع في عرس هو وسفيان بن سحبان، وفرقد، وعيسى بن أبان، وأخذوا في مسألة غامضة وفيهم الشافعي،فدخل في نكتة من المسألة غامضة، فظنّ الإمام الشافعي أنّه فطنللمسألة - ولم يكن كذلك -، فجرّه سفيان إلى أغمض منها حتى تحيّر،ولم يتهيأ له الكلام، فحكى ذلك لمحمد فقال: إرفقوا به فإنه جالسنا وصحبنا، ولا تفعلوا بههذا.( [348] )أمّا الأولون، فقد وصفوه بأنّه قد أحدث في بغداد تغيراً محسوساً، وقد ثقل مقامه على أهل الرأي، لأنّه كان ينتصر لمذهب اُستاذه مالك ويدفع عنه، وحوّل أكثر المبرزين منهم الى حلقته.حدّث الفضل الزجاج فقال: لمّا قدم الشافعي إلى بغداد سنة (195 هـ) وكان في الجامع إمّا نيف وأربعون حلقة، أو خمسون حلقة. فلما دخل بغداد مازال يقعد في حلقة حلقة ويقول لهم: قال الله وقال الرسول، وهم يقولون: قال اصحابنا. حتى مابقي في المسجد حلقة غيره.( [349] )ومعنى هذا أنّ الدراسة توحّدت للشافعي، ولم يبق لأهل الرأي مجال لمقابلة ذلك النشاط الذي لقيه الشافعي. وهذا أمر موكول إلى صحة أحد القولين، ولا مجال لنا في تأييد جانب دون آخر، على أنّنا لا ننكر منزلة الشافعي العلميّة، كما لا ننكر مقابلته لأهل الرأي، مع أنّا نعلم أنّه أخذ أكثر معلوماته عن محمد بن الحسن الشيباني.وعلى أيّ حال: فإنّ أكثر الروايات حول الشافعي مضطربة - كما قدّمت - ولكن مقتضى شرطنا في هذه الدراسة التعرّض لكثير من ذلك، ولنا الحقّ في المناقشة، وقد رأينا ترك هذا الموضوع، ونريد أن نلتحق بركب صاحبنا لمعرفة أخباره، وأكثرها كانت في مصر، ولنأخذ على ضوئها صورة عن طابعشخصيته.أخبـاره نشأ الشافعي يتيماً في حجر اُمّه، وقدمت به مكة خوفاً عليه من الضيعة، وليتلقّى دراسته، فاستقبل عهد دراسته على خالد الزنجي ومالك، وكان بطبيعة الحال شديد الحاجة الى ما يساعده على مواصلة دراسته، لأنّه كان فقيراً لا يجد ثمن القرطاس الذي يكتب عليه دروسه، فكان يتعوّض عنه بأكتاف الغنم.وقد ساعده مالك بن أنس لسعة حاله، وبعد وفاة مالك إلتجأ الى الوساطة لأن يلي عملاً للدولة، ليستعين به على زمانه، فعيّن في اليمن، وحمل منها أو من مكة الى بغداد بتهمة التشيّع أو غير ذلك، وكانت بغداد في عنفوان نهضتها العلميّة وحركتها الثقافية، واتّجاهها الفكري الى مختلف العلوم.وكان الفقهاء في ذلك العصر قد انقسموا إلى أهل رأي يعتمدون في نهضتهم على سرعة أفهامهم، ونفاذ عقولهم وقوّتهم في الجدل، وأهل حديث يعتمدون على السنن والآثار، ولا يأخذون من الرأي إلاّ ما تدعو إليه الضرورة.وكان الشافعي قد تفقّه على أهل الحديث من علماء مكة، وعلى مالك من علماء المدينة. وكان يعترف لمالك بالفضل والمنّة فكان يقول: إذا ذكر العلماء فمالك النجم، ما أحد أمنّ عليّ من مالك بن أنس.ولمّا ذهب الى العراق استرعى نظره تحامل أهل الرأي على اُستاذه والمنعم عليه مالك بن أنس وعلى مذهبه. وكان أهل الرأي أقوى سنداً وأعظم جاهاً بما لهم من المكانة عند الخلفاء، وبتوليتهم شؤون القضاء، ذلك لأنّهم أوسع حيلة في الجدل من أهل الحديث وأنفذ بياناً( [350] ). وقد وقعت لكثير من الخلفاء وغيرهم مشاكل، فكان لها مخرج عند أهل الرأي، لذا كانت منزلتهم في الدولة أعظم من غيرهم.وكان الشافعي قد لازم محمد بن الحسن عند قدومه العراق، ودرس كتبه وأخذ عنه الشيء الكثير، واطلع على كتب فقهاء العراق، فأضاف ذلك إلى ماعنده من طريقة أهل الحديث.وعاد الشافعي من العراق الى الحجاز، واستمر بمكة يواصل استفادته من الوافدين الى مكة من علماء الأمصار، واختلط بهم ثم عاد الى العراق مرة ثانية سنة (195 هـ) في خلافة الأمين، وهناك أملى على من التفّ حوله كتبه التي كتبها في مذهبه في العراق - وهو المعروف بمذهبه القديم - وقد رجع عن ذلك عندما نزل في مصر وحرّم الرواية لذلك عنه، وكان نزوله في هذه القدمة على محمد بن أبي الحسن الزيادي، ومقامه هناك سنتان.وقد توفّي محمد بن الحسن، وقام مقامه، من أصحاب أبي حنيفة الحسن ابن زياد اللؤلؤي، ثم عاد إلى الحجاز، وفي سنة 198 هـ قدم العراق قدمته الثالثة فأقام هناك أشهراً، ومن العراق سافر الى مصر فنزل في الفسطاط ضيفاً كريماً على عبد الله بن عبد الحكم.كانت الأسباب التي حملت الشافعي للرحيل الى مصر كثيرة مختلفة، فبعض يقول: إنّه كان يتشوق إلى مصر دائماً، ورووا له ذلك شعراً:
أرى النفس قد اضحت تتوق الى مصر
فو الله ما أدري أللفوز والغنى
أساق إليها أم أساق إلى القبر؟( [351] )
ومن دونها قطع المهامه والقفر
أساق إليها أم أساق إلى القبر؟( [351] )
أساق إليها أم أساق إلى القبر؟( [351] )
ولمّا أتى مصر إنبرى لأذائه
أتى ناقداً ما حصلوه وهادماً
فدسّوا عليه عندما إنفردوا به
فشجّ بمفتاح الحديد جبينه
نعم قد نعاه الدين والعلم والحجا
وترداد صوت في الدجا يسرد الوحيا( [359] )
اُناس طووا كشحاً على بغضه طيا
لما أصّلوا إذ كان بنيانهم وهيا
شقياً لهم شل الإله له اليديا
فراح قتيلاً لا بواك ولا نعيا
وترداد صوت في الدجا يسرد الوحيا( [359] )
وترداد صوت في الدجا يسرد الوحيا( [359] )
أأنثر دراً بين سارحة النعم
وأنظم منثوراً لراعية الغنم( [363] )
وأنظم منثوراً لراعية الغنم( [363] )
وأنظم منثوراً لراعية الغنم( [363] )
وانزلني طول النوى دار غربة
اُحامقهُ حتى تقال سجية
ولو كان ذا عقل لكنت اُعاقله
إذا شئت لاقيت امرأً لا اُشاكله
ولو كان ذا عقل لكنت اُعاقله
ولو كان ذا عقل لكنت اُعاقله
لعمري لئن ضيعت في شرّ بلدة
لئن سهل الله العظيم بلطفه
بثثت مفيداً واستفدت ودادهم
ومن منح الجهال علماً أضاعه
ومن منح المستوجبين فقد ظلم( [365] )
فلست مضيعاً فيهم غُرر الكلم
وصادفت أهلاً للعلوم وللحكم
وإلا فمكنون لديّ ومكتتم
ومن منح المستوجبين فقد ظلم( [365] )
ومن منح المستوجبين فقد ظلم( [365] )
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فتلك سبيل لست فيها بأوحد
كلّ العداوات قد ترجى مودّتها
إلا عداوة من عاداك عن حسد
إلا عداوة من عاداك عن حسد
إلا عداوة من عاداك عن حسد
ولابن معين في الرجال وقيعة
فإن كان صدقاً فهو لا بدّ غيبة
وان كان كذباً فالعذاب شديد( [371] )
سيسأل عنها والمليك شهيد
وان كان كذباً فالعذاب شديد( [371] )
وان كان كذباً فالعذاب شديد( [371] )
ومازال كتمانيك حتى كأنني
واكتم ودي في صفاء مودتي
لتسلم من قول الوشاة وتسلم( [376] )
برد جواب السائلين لأعجم
لتسلم من قول الوشاة وتسلم( [376] )
لتسلم من قول الوشاة وتسلم( [376] )
الإمام الشافعي والتشيّع
الاتّهام بالتشيّع خطر عظيم، ومشكلة لا يقوى على تحملها كلّ أحد، كيف وقد صور التشيع بعدسة الاتهامات الكاذبة في الابتعاد عن الدين؟ تلك التّهم التي تثير في النفوس اشمئزازاً، وفي العواطف ثورة، حتى أصبح من اللازم التظاهر بالعداء لمن يعرف به، وقد أدّى الموقف السياسي إلى أنّ اتّهام الرجل بالزندقة والإلحاد أهون عليه من الاتهام بالتشيّع. فالزنديق آمن مع كفره، والشيعي مطارد على إيمانه.وقد مرّ بيان الدور الاُموي، وما اقترفوا فيه من الذنوب، وارتكبوا من وحشيّة في معاملة شيعة أهل البيت(عليهم السلام)بالطرق السيئة: فمن دفن للناس وهم أحياء، إلى صلب على جذوع النخل، إلى حرق وحبس، ومنع الهواء والأكل والماء عن المحبوسين. حتى يقضي المسجون نحبه جوعاً وعطشاً. وكانوا يرتكبون من الآثام في وحشية لم يعرف لها التاريخ مثيلاً، فيقطعون رأس الابن أو الزوج ويبعثون بهذا الرأس إلى الاُمّ أو الزوجة ويلقونه في حجرها. وكانوا يصلبون الناس ويتركونهم حتى تنبعث منهم الروائح الكريهة،ثم يحرقونهم ويذرونهم في الهواء. ولا ذنب لهم إلا حبّ أهل البيت(عليهم السلام)وأتباعهم.امّا في الدور العباسي فالأمر أشدّ وأعظم. وقد تعرّضنا للبعض من ذلك في مطاوي الأبحاث، ونعود بعد هذا التمهيد إلى أسباب اتّهام صاحبنا الشافعي بالتشيّع، حتى جعل ذلك طعناً عليه مما اضطرّ أتباعه إلى الدفاع عنه وإخراجه من قفص الاتّهام. ولابدّ لنا من ان نتعرّض لأسباب اتهام الشافعي بعرض موجز فنقول :لقد توسّع الناس في تطبيق لفظ الشيعي فاستعملوه بغير ما وضع له، فهو بعد أن كان لا يطلق إلا على من يوالي علياً وأهل بيته(عليهم السلام)ويقدّمه بالخلافة ويفضّله على الاُمة - كما هو رأي كثير من الصحابة والتابعين - أصبح يستعمل في معان كثيرة. وعلى سبيل المثال نضع بين يدي القراء صوراً من ذلك. في ذكر رجال اتّهموا بالتشيّع وليسوا هم من الشيعة في شيء، وهم كما يأتي :1 - خثيمة بن سليمان العابد، ألّف في فضائل الصحابة وذكر فضائل علي(عليه السلام)، فاتهم بالتشيّع لذلك. وشهد الخطيب البغدادي بأنّه ثقة وأنّه ألّف في مناقب الصحابة ولم يخصّ علياً.( [383] )2 - الحاكم أبو عبد الله النيسابوري، اُتّهم بالتشيّع لأنّه ذكر في كتابه المستدرك أحاديث في فضل علي منها: حديث الطائر المشوي .( [384] )وحديث من كنت مولاه... ( [385] ) وزاد الذهبي: أنّه كان منحرفاً عنمعاوية وآله.( [386] )3 - عبد الرزاق بن همام المتوفى سنة (211 هـ) الحافظ الكبير، ومن رجال الصحاح، قال الذهبي: إنّه صاحب تصانيف، وثّقه غير واحد، وحديثه مخرّج في الصحاح، وله ما ينفرد به. ونقموا عليه التشيّع، وما كان يغلو به بل كان يحبّ علياً ويبغض من قاتله .( [387] )ويقول في ترجمة جعفر بن سليمان الضبعي: هو من ثقات الشيعة، حدّث عنه سيار بن حاتم، وعبد الرزاق بن همام، وعنه أخذ بدعة التشيّع.( [388] )فأنت ترىأنّهم نقموا علىابن هماملتشيّعه - وهوحبّ عليّ وبغض قاتلهـ وبهذا أصبح مبتدعاً كما يقولون.4 - محمد بن طلحة بن عثمان أبو الحسن النعالي، أتّهم بالتشيّع وتعرّض للخطر، لأنّ أبا القاسم نقل عنه: أنّه شتم معاوية.( [389] )5 - قاضي القضاة محيي الدين الاُموي المتوفي سنة (268 هـ) يرجع بنسبه إلى عثمان، قال ابن العماد في ترجمته: وكان شيعيّاً يفضّل عليّاً على عثمان، مع كونه أدعى نسباً إلى عثمان وهو القائل:
أدين بما دان الوصيّ ولا أرى
ولو شهدت صفين خيلي لأعذرت
وساء بني حرب هنالك مشهدي( [390] )
سواه وإن كانت اُميّة محتدي
وساء بني حرب هنالك مشهدي( [390] )
وساء بني حرب هنالك مشهدي( [390] )
آل النبيّ ذريعتي
أرجو بأن اُعطى غداً
بيدي اليمين صحيفتي
وهمو إليه وسيلتي
بيدي اليمين صحيفتي
بيدي اليمين صحيفتي
يا آل بيت رسول الله حبكموا
يكفيكموا من عظيم الذكر انكموا
من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
فرض من الله في القرآن انزله
من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له
قالوا ترفضت قلت كلاّ
لكن توليت دون شكّ
إن كان حبّ الوصيرفضاً
فإنني أرفض العباد( [397] )
ما الرفض ديني ولا اعتقادي
خير إمام وخير هادي
فإنني أرفض العباد( [397] )
فإنني أرفض العباد( [397] )
يموت الشافعي وليس يدري
عليّ ربّه أم ربّه الله
عليّ ربّه أم ربّه الله
عليّ ربّه أم ربّه الله
ياراكباً قف بالمحصّب من منى
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى
إن كان رفضاً حبُ آلِ محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي( [398] )
واهتف بقاعد خيفها والناهضِ
فيضاً كملتطم الفرات الفائض
فليشهد الثقلان أني رافضي( [398] )
فليشهد الثقلان أني رافضي( [398] )
أنا الشيعي في ديني وأصلي
بأطيب مولد وأعزّ فخراً
وأحسن مذهب سمّوا البرية ( [399] )
بمكة ثم داري عسقلية
وأحسن مذهب سمّوا البرية ( [399] )
وأحسن مذهب سمّوا البرية ( [399] )
إن كان رفضاً حبّ آل محمد
فليشهد الثقلان أني رافضي
فليشهد الثقلان أني رافضي
فليشهد الثقلان أني رافضي
يا آل بيت رسول الله حبكموا
فرض من الله في القرآن أنزله
فرض من الله في القرآن أنزله
فرض من الله في القرآن أنزله
إذا نحن فضّلنا علياً فإننا
وفضل أبي بكر إذا ما ذكرته
فلا زلت ذا رفض ونصب كلاهما
أدين به حتى أوسّد في الرمل
روافض بالتفضيل عند ذوي الجهل
رميت بنصب عند ذكراي للفضل
أدين به حتى أوسّد في الرمل
أدين به حتى أوسّد في الرمل
مذهبه وانتشاره
كانت مصر هي المكان الذي صدر عنه المذهب الشافعي ومنه انتشر في الأقطار، وذلك بفضل جهود تلامذته المخلصين الذين شغلوا الناس عن دراسة المذهب المالكي والمذهب الحنفي. وكانا قد انتشرا هناك.قال السبكي في الطبقات عن مصر والشام بالنسبة للمذهب الشافعي: هذان الإقليمان مركز ملك الشافعية، منذ ظهر المذهب الشافعي، اليد العالية لأصحابه في هذه البلاد، لا يكون القضاء والخطابة في غيرهم ، أمّا الشام فقد كان مذهب الأوزاعي حتى ولي القضاء أبو زرعة محمد بن عثمان الدمشقي الشافعي. ويقول: كان محمد بن عثمان رجلاً رئيساً، يقال: أنّه هو الذي أدخلمذهب الشافعي الى دمشق، وأنّه كان يهب لمن يحفظ مختصر المزني منهمائة دينار.( [404] )وعلى أيّ حال، فإنّ المذهب الشافعي كانت بذرته الأولى في مصر، ومنها انتشر بفضل جهود أصحاب الشافعي، ولولاهم لكان أثراً بعد عين، ولكان مصيره مصير مذهب الليث بن سعد، الذي لم يتهيأ له أصحاب مخلصون يقومون بنشره. ولعلّ أهمّ العوامل التي هيّأت الشافعي أسباب النجاح في مصر هي كما يلي.1 - إنّه كان معروفاً بأنّه تلميذ مالك وخرّيج مدرسته، وكان لمالك هناك ذكر ولمذهبه انتشار فقوبل بالعناية، وذلك قبل إظهاره المعارضة لمذهب مالك والرّد عليه :2 - نشاط الشافعي وعلوّ همته وتفوّقه بالأدب ومعرفة اللغة، واحاطته بأقوال مالك وأهل العراق، وما عرف عنه أنّه كان ينتصر لأهل الحديث ويردّ على أهل الرأي.3 - اشتهار قرشيته واعتصامه بالإنتساب للنبي (صلى الله عليه وآله) وهذا له أثره في قلوب المصريين.4 - صلته بحاكم مصر الجديد عبد الله بن العباس بن موسى، ومعرفته بهيوم كان بمصر، وأنّه سافر معه عند تعيينه، أو أنّه حمل له وصية منالخليفة في بغداد.5 - اختياره في النّزول عند أقوى بيت في مصر وأعزّهم جانباً، وهمبنو الحكم، والتفاف أعيان أصحاب مالك حوله، كأشهب وابن القاسموابن المواز وغيرهم.تغلّب المذهب الشافعي على المذهب المالكي بمصر بعد أن كان هو السائد وله السلطان هناك. وقد ذكرنا مقابلة أنصار المذهب المالكي لأصحاب الشافعي. وتمّت له الغلبة هناك أيام الدولة الأيوبيّة، لأنّهم كلّهم شوافع إلاّ عيسىبن العادل( [405] ) سلطان الشام، فإنّه كان حنفيّاً، ولم يكن في هذه الأسرة حنفي سواه، ثم تبعه أولاده، وكان شديد التعصّب لذلك المذهب، ويعده الحنفية من فقائهم، وله شرح على الجامع الكبير في عدة مجلدات. ولمّا خلفت دولة المماليك البحرية دولة الأيوبيين لم تنقص حظوة المذهب الشافعي، فقد كان سلاطينها من الشافعية إلاّ سيف الدين، الذي كان قبل بيبرس، فقد كان حنفيّاً، ولكن لم يكن له أثر في الدولة لقصر مدته.تعيقبٌ وتصْويب
وبعد هذا العرض لأخبار الشافعي وآثاره نودّ أن نسجّل بعض الملاحظات إتماماً لتصوير الشافعي الفقيه وعهده فنقول :إنّ قضية ادعاء الأفضلية في العلم والتفرّد في الفقه لرؤساء المذاهب أو غيرهم أصبحت قضية متعلقة بروح التعصّب والعداء تجري مجراها، ولو انعدمت هذه الروح ولم توجد الأعراض التي خلقت الفرقة والتعدد لما استخدمت أساليب الوضع واتخاذ البشائر والمقامات بدلاً من موازين العلم ومعاييره، فالعالم بآثاره وأعماله ومن صفاته العزوف عن التظاهر أو إعلان التفوق إنّما يزداد العالم منزلة بزيادة علمه ويعلو شأنه بعلوّ كعبه في ميدان التصنيف وإحياء الآثار، ولا تتحقق الأفضلية بالادّعاء أو الحجب عن الآخرين. وممّا يجعل هذه القضية قضية غير موفقة أو غير ناجحة هو وضعها في جملة وسائل التحكم أو التأثير في معتقدات الناس أو أفكارهم، فالأمر العلمي يمضي بخصائصه من دون حاجة الى دعوى لا برهان عليها. على أنّ العلماء أنفسهم يندر أن يصدر منهم شخصياً مثل ذلك، ولكنّ الأعوان، أو مصالح الحكام هي التي تقف وراء مثل هذه الادعاءات ونموّها، لأنّ العالم الحقّ بقوّة إيمانه وورعه وبتحصيله وعطائه تصان مكانته ويصون نفسه.حول تمييز الشافعيإنّ ما بأيدينا من أخبار الشافعي وما وقفنا عليه من آثاره، وما يحكيه هو عن نفسه، لا يدلّ على ما يذهب إليه الشافعية من القول: بأنّ الشافعي هو أعلم الاُمة. أو فوق علمائها أجمع، وأنّه أعلم قريش وأشهرهم ذكراً، بل العلم بالكتاب والسنة له دون غيره، في عصره وقبل عصره، كما جاء في آداب الشافعي لابن أبي حاتم الرازي عن عبد الرحمن قال: سمعت دبيساً يقول: جئت الى حسين الكرابيسي فقلت له: ما تقول في الشافعي؟فقال: ما أقول في رجل ابتدأ في أفواه الناس الكتاب والسنّة، نحن ولا الأوّلون حتى سمعنا من الشافعي الكتاب والسنة والاجماع.( [406] )ويقول السبكي في وصفه: أنّه الإمام الأعظم المطلبي والعالم الأقوم ابن عمّ النبي (صلى الله عليه وآله)، فإنّه عالم قريش الذي ملأ الله به طباق الأرض علماً، ورفع من طباقها الى طباق السّما بذاته الطاهرة من هو أعلى من نجومها وأسمى، وأثبت باسمه في طباق أجزائها اسم من يسمع آذاناً حُما، ومن لو قالت بنو آدم: علمه الله الأسماء كما ابرز منه لكم اباً ومن تصانيفه أمّاً والحبر الذي أسّس بعد الصحابة قواعد بيته بيت النبوة واقامها وشيّد مباني الإسلام بعد ما جهل الناس حلالها وحرامها وأيّد دعائم الدين .( [407] )وأمثال هذا كثير، ونحن لانثب معهم هذه الوثبة; بل نقف عند حدود الواقع، ولا نأخذ هذا بعين الاعتبار بدون تثبّت، مع العلم بأنّ هذا بعيد عن الواقع. ولا نفهم من ذلك الاندفاع لتصوير شخصية الشافعي إلاّ التعصّب. ونحن حين نتعرّض لأمثال هذه الاُمور; إنّما نقصد اعطاء صورة عن ذلك التدرّج إلى اعلاء مكانة الشخص، طلباً للتفوق في ظروف التدافع والتقابل وتلاحي كلّ فريق مع منافسه، بدون التفات إلى مؤاخذة عند مخالفة الواقع.واتّخذ سبيل انتحال الأقوال ونسبة المديح الى رجال معروفين لتحقيق التفوّق، ولكنّ التدقيق والتمحيص يكشفان حقيقة الادّعاء.وإليك مثلاً من ذلك :يروي ابن عبد البر بسنده عن سويد بن سعيد قال: كنّا عند سفيان بن عيينة بمكة، فجاء رجل ينعى الشافعي ويقول: إنّه مات. فقال سفيان: إن مات محمد إبن ادريس فقد مات أفضل أهل زمانه.( [408] )هذا ما ورد في مناقب الشافعي، وإذا أردنا أن نقف وقفة قصيرة لاستجلاء الواقع فسيتّضح لنا كذب هذا القول، لأنّ وفاة سفيان كانت سنة (198 هـ) في جمادى الآخرة أي قبل وفاة الشافعي بست سنين وأشهر، مع أنّ سويد بن سعيد هو البورفي - راوي هذا القول - كان من أكذب الناس، وممّن يضع الحديث، كما نصّ علماء الرجال على ذلك.( [409] )التناقض في التصوير وهناك أقوال لابدّ لنا من عرض بعضها والنظر إليها بدقّة وتمحيص:جاء عن أحمد بن حنبل أنّه كان يقول: إنّ هذا الذي ترون - أي العلم - كلّه أو عامّته من الشافعي. ويقول الميموني: قال لي أحمد بن حنبل: مالك لا تنظر في كتب الشافعي؟ ما من أحد وضع الكتب منذ ظهرت أتبع للسنة من الشافعي، وروى أبو نعيم في مناقب الشافعي: أنّ أحمد قال ليحيى بن معين: إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة - أي بغلة الشافعي - .( [410] )هذا وأمثاله ترويه كتب الشافعية. وحينما نطمئنّ إلى هذا النقل مدة قصيرة; لانلبث حتى نواجه ما يخالفه ويناقضه من الجانب الآخر.قال أحمد بن الحسن الترمذي: سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل: أأكتب كتب الشافعي؟ فقال: ما أقلّ ما يحتاج صاحب حديث إليها.( [411] )وقال أبو بكر المروزي: قلت لأحمد بن حنبل: أترى الرجل يكتب كتب الشافعي؟ قال: لا قلت: أترى أن يكتب الرسالة؟ قال: لا تسألني عن شيء محدث. وقال أيضاً: لا تكتب كلام مالك، ولا سفيان، ولا الشافعي.( [412] )ونحن لا يدهشنا هذا التناقض بعد وقوفنا على الأصل الذي أثر على الآراء والحقائق، وبعد ما سمعنا في مدح الشافعي وغيره بما هو أكثر من هذا، وفي انتقاصه بما هو أعظم كالحديث الذي يرويه أحمد بن عبد الله الجويباري عن عبد بن معدان عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله): يكون في اُمتي رجل يقال له محمد بن إدريس أضرّ على اُمتي من إبليس ويكون في اُمتي رجل يقال له أبو حنيفة هو سراج اُمتي.( [413] )وأحمد بن عبد الله الجويباري أمره مشهور وحاله معروف في وضع الأحاديث. وقد استخدموه لصالح التعصّب والتنافس.( [414] )فهذه التيارات من الجانبين تستدعي الوقوف والتريث.. وبهذالا نصغي لأقوال المندفعين وراء العاطفة كقول أحمد بن يسار: لولاالشافعي لدرس الإسلام ( [415] )، وقول البرذعي: سمعت أبا زرعة يقول:ما أعلم أحداً أعظم منّة على أهل الاسلام من الشافعي، ويقول أحمد بن سنان: لولا الشافعي لاندرس العلم .( [416] )ولو أردنا أن نبحث بدقّة عن هذه الأقوال وغيرها لمعرفة نصيبها من الصحة; فالأمر لا يحتاج إلى تكلّف. بعد أن وقفنا على المبادئ الأساسية التي دعت إلى وضع هذه الأقوال، وأهمّها ثورة العواطف وتيّار التعصّب.وما لنا نستغرب أو نستكثر على أصحاب الشافعي هذه المغالاة في مؤسّس فقههم ورئيس مذهبهم ونحن نرى أصحاب أبي حنيفة لم يقصروا عن هذه الخدمة في حقّ إمامهم؟ وبهذا استوت كفّة الميزان في كلّ ماورد من مبالغات معتنقي المذاهب، كالحنفية في حديث: أبي حنيفة محيي السنة، والمالكية في حديث: عالم المدينة، والشافعية أيضاً في حديث: عالم قريش، فجعلوا العلم وقفاً على شخصية الشافعي دون غيره من قريش وحصروه عليه بمعناه الكامل - إن صحّ الحديث - وإلاّ فهو موضوع من قبل المتعصّبين كغيره من الأحاديث والمناقب التي كثيراً ما تبدو في مظهر جدّ براق خلاب، ومما يؤيّد ذلك أنّ ذوي الاستقامة من علماء المذاهب لم يجعلوا لأكثرها وزناً كبيراً من الاعتماد والاحتجاج.أمّا الحنابلة الذين لم يستطعيوا خلق حديث في إمامهم فإنّهم اعتمدواعلى الأطياف فوضعوا عن النبي (صلى الله عليه وآله) كثيراً من ذلك وسيأتي بيانها،وهي اُمور كان مبعثها احتدام النزاع الطائفي الذي أصبح ميداناًللخلاف ومحوراً للتخاصم آنذاك.نقول هذا بدون طعن على اُولئك الرجال، ولا حطّاً من كرامتهم، لأنّ الواقع الذي نلمسه من سيرتهم وما طبعوا عليه يقضي علينا ببراءتهم من ذلك الادعاء الأجوف. وقد دلّت آثارهم على خلاف ما يذهب إليه المتعصّبون لهم. وقلنا أنّ العالم بآثاره وأسفاره ومن صفاته البحث في العلم وليس البحث عن التفوّق ولا ادعاء الأفضلية، لأنّ العلم ما تشهد به الحقائق.مذهبه الفقهيإذا أردنا أن نقف على مدى نشاط الشافعي في فقهه فلا نستطيع تحديد ذلك; بعد أن وقفنا على نشاط أصحابه وتلامذته الذين نما المذهب بجهودهم واجتهادهم بكثرة التخريج. ولهم آراء كثيرة وأقوال متعددة اجتهدوا فيها، ولم يؤثر عن الشافعي نصّ فيها، ونسبوا الجميع إليه وعُدّت من مذهبه، وهم وإن كانوا لا يقولون إنّها أقوال الشافعي، لكنهم يقولون إنّها أوجه بمذهبه.وبفضل جهود أصحابه قد اكتسب المذهب من البيئات المختلفة والأحوال الاجتماعية المتباينة والشؤون الاقتصادية المتخالفة الشيء الكثير، ممّا كان يتأثر به المجتهدون عند تخريجهم للمسائل، إذ كانوا بلا ريب متأثرين ببيئاتهم الجغرافية والاجتماعية والاقتصادية، وأنّك لو درست ذلك المذهب على ضوء هذا، وفحصت الآراء بين المختلفين على ذلك النور، لعلمت أثر البيئات في أقوال المختلفين وآراء المتنازعين، وإنّ الذين يدرسون فروع ذلك المذهب بل فروع المذاهب المختلفة، درسوها منسوبة لأصحابها، وعرفوا البيئات المختلفة; فإنّهم حينئذ يرون تلك الآراء صوراًصادقة لعصورها، حاملة ألوانها ومنازعها الاجتماعية والاقتصاديةوأعراف الناس فيها.( [417] )وقد نشأ في عصور الاجتهاد وحرية الفكر رجال لهم الأثر العظيم في التخريج وسعة دائرة المذهب كالاسفرائيني الذين قالوا في حقّه: إنّه أنظر وأفقه من الشافعي; ومثل القفّال وأبو العباس، وغيرهم ممّن اشتهر بالاجتهاد المطلق ونسب الى الشافعي، ولهم الفضل في التخريج للمسائل.ولمّا اُغلق باب الاجتهاد أصبح المذهب مقصوراً على دراسة أقوال المتقدمين، والمحافظة على ماورثوه عنهم، واستخراج الفتاوى والأحكاممن بين الأقوال المختلفة والآراء المتنازعة. وبمجموعها قد تكوّنالمذهب الشافعي. وعلى أيّ حال; فإنّا لا نستطيع تحديد فقه الشافعي من أقواله وآرائه بعد ما أصبح المذهب المنسوب إليه، مجموعة أقوال أئمة مختلفين، متباعدة أوطانهم مختلفة آراؤهم، وضمن تلك الأقوال انضمت أقوالالشافعي وآراؤه، ولا سيّما أكثر المؤلّفين قد نسبوا ما ألّفوه للشافعيطلباً للقبول ودعاية للرواج.نهيه عن مذهبه القديم إنّ من أهم الظواهر التي لاحظناها عند دراستنا لحياة الشافعي هي نهيه عن الأخذ بمذهبه القديم الذي أفتى فيه ببغداد; فأصبح المعوّل على ما أفتاه في مصر، ومثل هذا التطور يوجد لنا إحجاماً عن تحقيق ذلك التكامل في تلك المدة القصيرة، التي لا تسمح لمثله من البشر ان يبلغ تلك الدرجة التي أدعيت له في بلوغ أعلى منزلة علمية، مع وجود شواغل وموانع تحول بينه وبين استخدام قوّته واستعمال فطنته، لاستنتاج مسائل تكون شاملة لأحكام قرون متوالية.لقد كان الشافعي في مصر مشغولاً بمرضه الذي اعتوره مدة طويلة، مع وجود مشاحنات ومقابلات بين اصحابه وبين خصومهم من المالكية، بالإضافة إلى ما وصفوه به من طول العبادة والتهجّد. يضاف إلى ذلك ما كان يعلوه من دين لعسر حاله، فيقال: إنّه مات وعليه من الديون ستون ألف دينار، وهذا له أثره في الطبيعة البشرية، إذ هو بحكم الطبع الإنساني شاغل مجهد، مع أنّ الشافعي معروف ببلاغته ومعرفته بلغة العرب وأشعارهم، وكان هو ينظم الشعر الرائق أيضاً ، وقد التفّ حوله كثير من طلاب مصر لمعرفة الآداب واكتسابها منه. إلى آخر الاُمور التي وصفوه بها، وبطبيعة الحال أنّ ذلك يوجب التوقف عن اعطاء الحكم بما يدّعونه له، وكان اللازم أن نوفّق بين تلك الروايات الدالة بمنطوقها على تكامله واستعداده وتفوقه الاجتهادي من صغر سنه، وبين نهيه وتحريمه لمذهبه القديم، لأنّ هذا التطور الغريب يستلزم الاستغراب في تحقيق ذلك التكامل. ونظراً لضيق المجال أرجأنا الكلام حول هذا الموضوع إلى محل آخر.الخصومة المذهبيةلقد أصبح الخلاف في المذاهب ميداناً للنزاع ومحوراً للتخاصم ومثاراً للفتن، وقد تعرضنا لكثير من ذلك، ممّا يوضح للقارئ النبيه أنّ الكثير منهم قد استساغ الوقيعة بمن يخالفه في المذهب، وكانت المعركة الجدلية بين الحنفية والشافعية أكثر منها بين سائر المذاهب، حتى خرج الأمر عن حدود الجدل إلى الحروب الدموية، مما أدّى إلى خراب البلد من جراء هذا الخلاف. يقول ياقوت عند الكلام على اصفهان بعد أن ذكر مجدها القديم : وقد فشا فيها الخراب في هذا الوقت وقبله. وفي نواحيها، لكثرة الفتن والتعصّب بين الشافعية والحنفية، والحروب المتصلة بين الحزبين. فكلّما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى، واحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌ ولا ذمّة. ومع ذلك فقلّ ان تدوم بها دولة سلطان، او يقيم بها فيصلح فاسدها وكذلك الأمر في رساتيقها وقراها التي كلّ واحدة منها كالمدينة.ويقول عند وصفه للرّي ووقوع العصبية بين الحنفية والشافعية: ووقعت بينهم حروب كان الظفر في جميعها للشافعية: هذا مع قلة عدد الشافعية، إلا أنّ الله نصرهم عليهم. وكان أهل الرستاق - وهم حنفية - يجيئون الى البلد بالسلاح الشاك ويساعدون اهل نحلتهم، فلم يغنهم ذلك شيئاً حتى افنوهم.( [418] )ولشدّة الخلاف والجدل بينهم ألّفت الكتب في بيان الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي، ونشأ من ذلك علم يسمّى: آداب البحث والمناظرة يقصدون منه الشروط التي يتبعها المجادل في جدله، إذ اصبح الأمر فوضى، وقد ذكر الغزالي شروطاً ثمانية لا يسع المجال ذكرها.( [419] )وعلى أيّ حال، فإنّ ذلك التعصّب كان من نتائجه ذلك الاندفاع والاغراق في المدح، بحقّ وبغير حقّ، إذ لم يضعوا الاُمور في نصابها بالتجرد عن الأهواء والعاطفة، ممّا شوّه وجه الحقيقة، فأوجد صعوبة كبيرة في تمحيص الأخبار التي اشتملت عليها المناقب، وبالأخص كتب الشافعية والحنفية للأسباب المتقدمة، لأنّها غير متناسقة ولا متماسكة، لذلك اقتصرنا في دراسة حياة الشافعي على العرض التأريخي. ونقف عند هذا الحد من البيان عن تاريخ حياته، وسنعود إن شاء الله تعالى الى استعراض آرائه.نتائج الخلافات المذهبيةوقبل الختام أودّ الإشارة بإيجاز إلى أنّ تلك الخلافات المذهبية والنعرات الطائفية قد أوجدت الفرقة بين المسلمين وكادت تكتسح صروح مجدهم المؤثل، لولا عناية الله تعالى ولطفه بالإسلام وأهله، ولم يكن منشأها سوى وجود الأيدي العابثة من الفئة الفاسدة أو من الذين دخلوا في الاسلام - لا رغبة - بل للوقيعة بأهله، فإذا بهم وقد فسحت السياسة لهم المجال ليحققوا سوياً الاهداف التي لا تتحقق مع وحدة الكلمة ولا تنال إلاّ بالفرقة، وتحكيم قانون فرّق تَسد.فكانت المؤامرات والدسائس تحاك من قبل خصوم الإسلام باتّخاذهم شتّى الأساليب في تفريق صفوف الاُمة. وقد أفصح التأريخ عن كثير من تلك الحوادث المؤلمة والوقائع المفجعة، التي أثارها أعداء الوحدة الإسلامية في شتّى الظروف السابقة.ولقد مرّت أحقاب من تلك الحياة المضطربة والأدوار المظلمة; والمسلمون في نزاع وتخاصم، كلّ يريد أن يكيل صاع الانتقام للآخر، فكان من ذلك أن اُريقت الدماء، ونهبت الأموال بدون مبرر. وبهذا وجدت الاُمم المغلوبة غايتها المنشودة، فعملوا بكلّ إمكانياتهم في زيادة التوتر بين طوائف المسلمين، ولم يسعد المسلمون بيقظة في زمن ما، فيستقبلوا أمرهم بفكر ثاقب وحرية رأي وتجرّد عن العواطف، ليرفعوا ذلك الستار الأسودويقطعوا تلك الأيدي العابثة، التي حملت لهم معاول الهدم وأدواتالتخريب أحقابا وقروناً.ولو رفع الستار لزال الخلاف، وأوقف ذلك الصراع الناتج من وراء التعصّب الجنوني، والجهل بالأمر الواقع، ولكان باستطاعة المسلمين ان يوحّدوا صفوفهم ليقفوا في وجه الخصم موقفاً مشرّفاً في سبيل المحافظة على العقيدة والدين، ولهدأت تلك الضوضاء التي ذهبت فيها أصوات المصلحين مع الرياح. ولأصبحنا (خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ( [420] ) كما وصفنا القرآن الكريم.قلت لو رفع الستار; لنظر بعضنا الى بعض نظر مودّة واُخوّة بدلا من نظرة البغض والكراهية. ولزالت تلك الرواسب التي أوجدتها عصور التطاحن والتعصّب لتكون عقبة كؤوداً في طريق وحدة المسلمين.هذا وقد مرّت العصور وذهبت الأيام بما فيها غير مأسوف عليها، ونحن أبناء اليوم، فهل لنا أن نشعر بوجود تيّارات دولية تعمل في السرّ والعلن، وتتكالب على السيطرة والاستعمار؟! وأنّ خير طريق لمعالجة الوضع هو الشعور بالمسؤولية تجاه الدين والوطن، لندرك الحقيقة الناصعة ونقف على الأمر الواقع، ونكون كما أمر الله تعالى (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ)( [421] ) أو (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَتَفَرَّقُواْ)( [422] )؟* * *هذا ماتيسر لنا - بعونه تعالى - بيانه، ونسأله تعالى ان يوفّقنا لإكمال بقيّة الأجزاء إنّه سميع مجيب.وقد أرّخ نخبة من العلماء لكتابنا الإمام الصادق والمذاهب الأربعة ننشر منها ما وردنا من سماحة العلامة الشيخ علي السماوي :
تحفتك الغرّاء قد أصبحت
ففقت أقرانك فيهابما
سفر به حبلك قد صار في
وحزت خيراً فيه والخير ما
فزت بمسعاك لتحقيق ما
ومن سنى الصادق قد أشرقت
لو النصارى قرأته لما
يا أسد الفضل ومن لم يزل
تاريخك العذب بسلساله
أيّدك العلم فدم سالماً
حسبك من سفرك أني به
حيث وجدت فيه ما ابتغي
بالعلم والتأريخ (مشغولا)
بمفرق التأريخ إكليلا
أمليت إجمالا وتفصيلا
حبل رسول الله موصولا
قد كان عند الله مقبولا
حقّ وابطلت الأباطيلا
به براهينك تدليلا
تلت بدنياها الأناجيلا
يحلل الأبحاث تحليلا
فاق الفرات العذب والنيلا
عضباً بوجه الجهل مسلولا
ارتل الإطراء ترتيلا
(وفوق ما قد كان مأمولا)
عانيت - ترحيباً وتبجيلا
أحسنت تحليلاً وتأويلا
بالعلم والتأريخ (مشغولا)
بالعلم والتأريخ (مشغولا)
هذا كتاب قد حوى كنزه
أبحاثه جاءت لمن أنصفوا
نمّقها من أسد مزبر
ويوضح الحق جلياً كما
فهنّه والثم وأرّخ فماً
يحكي عن المذاهب الأربعة
مباحثاً نافعة ممتعه
دلائل واضحة مقنعة
لأن مع الخصم لكي يقنعه
لم يخط في تأليفه موضعه
يحكي عن المذاهب الأربعة
يحكي عن المذاهب الأربعة
خير سفر أظهر الحق لنا
فتصفّحه وبالتاريخ (قل
مذهب الصادق بالإسلام حقْ)
(أسد) فيه وللزور محقْ
مذهب الصادق بالإسلام حقْ)
مذهب الصادق بالإسلام حقْ)