أمة القرآنیة

فلاح حسن

نسخه متنی -صفحه : 9/ 2
نمايش فراداده

الاُمّة القرآنية

فلاح حسن

إنّ فكرة وحدة الأمة الإسلامية والتنظير لها والإيمان الصادق بها قولاً وعملاً ومنهجاً وهدفاً . . يعود كلّ ذلك ـ بالضرورة ـ إلى عقيدة التوحيد نفسها ، هذه العقيدة التي يرتكز عليها فكرنا الإيماني ، وكلّ ما يترتّب عليه من آثار ومستلزمات في حياتنا العملية ، وما يتحدّد في ضوئه من علاقات وتصوّرات ورؤى . وما يترشّح من أنشطة مختلفة في جميع مفاصل حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية . .

فبالوحدة ـ هذا المفهوم العظيم والركن الرصين والهدف النبيل ـ يقوم الدين ، وتزدهر معالمه ، وتنتشر دعوته وتعمّ مبادئه ، ويحفظ كيانه ، ويُدحض أعداؤه ، ويُسعد أبناؤه . . لهذا جاءت الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وآثار الصالحين تترى بالحديث عنها والدعوة إليها ، وترسيخها في قلوب الناس وأخلاقياتهم وفي سلوك النخبة وأهدافهم . .

لقد أكّدت تلك الآيات والروايات والآثار . . هذه الوحدة في حياتنا منطلقاً وهدفاً ومنهجاً . . فالله الواحد الأحد الذي خلق وأبدع هذا الكون ، وقدّر ما فيه وما حوله وفق أنظمة دقيقة ما إن يختلّ جزء منها حتى يترك آثاره على باقي الأجزاء . إنه ـ حقّاً ـ جسم واحد يكمل بعضه بعضاً ، ويتضرّر بعضه ببعض . . .

ثمّ خلق فيه نواة تطوره وديمومته بل وسيده آدم وزوجه من نفس واحدة {هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها}1 . كان حفنة واحدة من تراب نفخ الله فيها من روحه فتمثّل بشراً سوياً . فقدّر لهذا المخلوق أن يكون سيّد الكائنات والمخلوقات بما أودعه الله فيه من جمال وجلال وقدرة {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم}2 وبما أهّله لأن يكون خليفة الله تعالى في أرضه {وإذ قال ربّك للملائكة إنّي جاعل في الأرض خليفة . .}3 ثم وضعت السماء بعد ذلك أمانتها في عنقه ، بعد أن امتنعت عن حملها السماوات والأرض والجبال وأشفقن منها: {إنّا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان . .}4 .

نعم حملها مختاراً طواعيةً لا كرهاً ، وثقةً منه بما أودعه الله تعالى فيه من قدرات ، وشعوراً بتكليفه ومسؤوليته; ليبدأ مشواره من الله تعالى ، مستمدّاً منه العزم والقوّة; لينتهي إلى الله تعالى أيضاً فيجد حسابه وينال ثوابه ، ويحصد ثمار أعماله وكدحه {يا أيّها الإنسان إنك كادحٌ إلى ربّك كدحاً فملاقيه}5 .

وفي كلّ خطوة يخطوها في مشواره ذاك ينظر نظرتين: نظرة إلى السماء يسأل رحمتها وتسديدها له وهو يردّد: إنّا لله وإنّا إليه راجعون ، إنّا لله بدءُنا وإنّا لله حياتنا وديمومتنا ، وإنّا لله مآبنا ، وإنا لله منتهانا . فهو بدون هذه النظرة لا يستطيع فعل شيء . وما بين البداية تلك والنهاية هذه ما بين أوّل الشوط وآخره راحت منطلقةً بكلّ وعي وصدق قوافلُ المجاهدين الصابرين; لتؤدي دورها العبادي بمعناه الأشمل والأتمّ ، الذي أرادته السماء ورسمته ريشتها لبني البشر {وما خلقت الجن والإنس إلاّ ليعبدون} ليعبدون ربّاً واحداً ، عبر عمل دؤوب ونشاط متواصل بالخير والعطاء يرضي الله وينفع الناس ، وقطعاً إنّ العمل الذي يرضي السماء وينتهل منه الناس خيراً وبركةً ونفعاً ليس العمل الذي يزرع البغضاء ويمزِّق الأمّة ، بل هو الذي يبذر الخير للجميع ، ويوحّد الصفوف ، ويلقي بظلاله الوارفة علينا جميعاً .

أما النظرة الثانية فهي إلى واقعه وما يتضمّنه ، وإلى منهجه ومسيرته ، وما تتركه حركاته من بصمات على حياته بكلّ ما فيها ، نظرة تأمّل ودراسة لساحته وميدان عمله بغية وضع يده على نقاط الضعف فيه لتقويتها . وعلى نقاط القوّة فيه لإدامتها ، وبالتالي تطويره وبرمجته وفق إرادة السماء وما خطّطت له {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}6 .

وأية أمّة هذه التي أرادها الله تعالى أن تكون؟! إنّها الاُمّة القرآنية الموحّدة; لأنّ أمانة السماء التي أبت السماوات والأرض حملها ، لا تؤدّيها أمّة متفرّقة ، أمّة متخاصمة ، أمّة متنازعة ومتناحرة ومتباغضة ومتحاسدة ، أمّة تنهشها هذه الأمراض من كلّ جانب لا تستطيع تحمّل شيء ، أو تحريك ساكن فضلاً عن فعل ما فيه خير وصلاح ، إنّ التي تحملها وتؤدّيها خيرَ أداء أمّةٌ قوّتها في وحدتها ، وعزّتها في تراصها ، وكرامتها في تآلفها ، وشموخها في تلاحمها ، وبقاؤها في تآزرها وانتصارها في تكاتفها . .

عندئذ تستطيع أن تحمل تلك الأمانة العظيمة ، وتكون جديرةً بها وبالمحافظة عليها وأدائها بالصورة التي تريدها السماء .

إنّ كلمة الاُمّة في النصّ القرآني {إنّ هذه اُمّتُكم اُمّةً واحدةً}7 تعني معنى واحداً جامعاً لكلّ من آمن بالإسلام ديناً لا خصوص جماعة معينة أو مذهب أو قومية محدّدة . فالمسلمون جميعاً اُمّة واحدة تدين بدين واحد وتعبد ربّاً واحداً {وأنا ربّكم فاعبدون} .

إذن هذه الاُمّة الواحدة ـ التي أردتها السماء ، وأمرت المؤمنين بالسعي لتحقيقها ، هي الاُمّة المسؤولة المكلّفة بأحكام السماء لا غيرها ، وإذا ما تفرّق أبناؤها وإذا ما تشتّت مذاهب وفرقاً ، فلا يصدق عليها حينئذ التعبير القرآني والكلمة القرآنية أنها (اُمّة) ولا تكون مشمولة بما أرادته الآية الكريمة هذه وكذلك الآية السابقة {كنتم خير اُمّة . . .} فبالتنازع والتناحر تلغى خصوصية الاُمّة ، وتلغى آثارها من القوّة والمنعة والقدرة والتآلف ، وتستبدل بالضعف والعجز والحقد والبغضاء وما إلى ذلك .

أرادنا الله أن نأمر بالمعروف جماعة وأرادنا أن نستنكر المنكر جماعة فـ «يد الله مع الجماعة» ، وهذا لا يعني أنّ الفرد بنفسه ليس مكلّفاً ومأموراً باستنكار المنكر والأمر بالمعروف وشجب الظلم ، فهذا واجب ومسؤولية ملقاة علينا كأفراد وجماعات ، ولكن الله سبحانه يحبّ أن يكون الأمر جماعة فهو أقوى أثراً وأدوم بقاءً ، فالصلاة جماعة أفضل من الصلاة فرادى . .

إنّ الاُمّة القويّة القادرة المتآلفة هي الاُمّة القرآنية ، التي لا تفاخر ولا تكاثر بينها بالأنساب والأموال والأنفس {ألهاكم التكاثر}8 ، وهذه عيوب تفتت جمعها وتمزّق شملَها ، وتبعثر وجودها ، وبالتالي تطيح بكيانها بعد أن تتركها أكلةً سائغةً للأعداء .

فالاُمّة القرآنية وهي الهدف الذي كانت تهفو إليه قوافل الأنبياء والمرسلين ، وجدّت في المسير إليه ولا زالت كلّ مواكب الصالحين ، كما راحت ترفرف حوله وتطوف به أرواح الشهداء ، بعد أن عبّدته جماجمهم وسقته دماؤهم . . وظلّت الأجيال المؤمنة المتعاقبة تتوارث كنوزه المضرّجة بدماء الشهداء والمعفّرة بتراب ساحات الفداء حتى وصل إلينا وها هو بين أيدينا هدفاً سامياً عظيماً ، أفيصح منا أن نفرّط به وأن نضيّع ما قد وفّرته لنا تلك الجهود المباركة وتلك الحشود الصادقة ، فنفد على ربّنا ببضاعة كاسدة فيقول كلّ منّا {أين المفرّ}9 بعد أن {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر}10 ويومها {يتذكّر الإنسان وأنّا له الذكرى* يقول يا ليتني قدّمت لحياتي}؟

لا أريد أن يُفهم ممّا أقوله أنّ الماضين لم يكن بينهم خلاف ، ولم تكن هناك مواقف كادت أن تمزّقهم . لا ، أبداً ، بل أريد أن أقول: إنّ هناك قواسم مشتركة بينهم ، زيّنت صفحات حياتهم ، وكانت نقاط خير وعطاء للقائهم وتوحّدهم . . . فما أحرانا وقد كثر أعداؤنا والمتربّصون بنا ـ أن نلتقي نحن أيضاً عند القواسم المشتركة وما أكثرها . فخلافات الرأي وما يترتّب عليها من مواقف ماثلة أمامنا ، ولكن بوجود الصالحين الواعين تضيق دائرتها ويمنع من تجذّرها; لنبدأ حياة أكثر إشراقاً وأكثر أملاً دون أن نكبت صوت الحق أو نلغي الآراء المبرّرة والاجتهادات العلميّة ، أو أن نصادر الرأي الآخر إذا ما توفّرت أدلّته وقام على ركن قوي . وبذلك نستطيع أن نحفظ لاُمّتنا دينها وأصالتها ، وأن نصون وحدتها ونقوي شوكتها ونديم وجودها ، فتقف شامخةً بين الاُمم ، ومتعاليةً على ما فيها من خلافات فرضتها طبيعة الحياة وطبيعة العمل والكدح ما دام الهدف الأعلى والغاية الأسمى التي نسعى جميعاً لتحقيقها ، هو الاُمّة القرآنية التي بها كلّ خير وعطاء وبها رضا الله سبحانه وتعالى .

لهذا كلّه ولغيره ممّا لا يسع المقام ذكره بادر السيّد الإمام رضوان الله عليه بعد أن وعى كلّ ذلك وآثاره ، وعرف أنّ قيمة هذه الاُمّة بوحدتها ، وأنّ للوحدة قيمة كبرى ، وأنّ رسالة السماء ودعوتها يتوقف تبليغها على وحدة الاُمّة ، وأن انتصارها وبقاءها رهين بوحدتها وأنّ موتها وانقراضها بتفرّقها ، وبالتالي فإنّ وحدتها فوق كلّ اختلاف . . بادر سماحته يحول نقاط الخلاف بين أبنائها إلى نقاط ائتلاف ضمن رؤية عقائدية وفقهية وسياسية تبحث عن القواسم المشتركة ، فيقف عندها دون أن يغور بالخلافات الاُخرى فتتعمّق ، أملاً أن تجد حلاًّ في المستقبل ، فالزمن كفيل بحلّ كثير من المعضلات ، وما استعصى حلّه اليوم يتيسّر حلّه غداً ، وهكذا راح سماحته بحكمته العالية وهمّته التي لا تعرف الكسل ، وبأمله الذي لا يشوبه اليأس ، يدلي بوصاياه وأوامره في هذا الخصوص ، وسنذكر بعضها بعد أن نقف قليلاً;