مهمات مشبوهة فی الدیار المقدسة (6)

حسن السعید

نسخه متنی -صفحه : 11/ 2
نمايش فراداده

بورتون; ضابط مخابرات متنكِّر يطالب باحتلال مكّة

في الحلقات السابقة من هذا الموضوع ، تطرّق الحديث إلى ظاهرة قيام عدد من الغربيّين بالمجيء إلى المنطقة الإسلامية ، خاصّة الحجاز بغية استكشافها والاطّلاع عليها عن كثب . كانت البدايات المتردّدة الخجول مطلع القرن السادس عشر ; لتغدو لاحقاً ظاهرة مثيرة للانتباه ، لاسيّما في أعقاب حملة نابليون على مصر (1798م) ، عبر الحضور المكثّف لشتّى الدول المتنافسة على إيجاد مواطئ قدم . .

وفي غمرة تصاعد التنافس الاستعماري . . أمست جزيرة العرب بشكل عام ، والحجاز خاصّة ، مسرحاً لمغامرات عديدة ، قام بها دبلوماسيّون وضبّاط وموظّفون ومغامرون وجواسيس ، مع حرص شديد على إخفاء هويّاتهم الحقيقيّة ، والتظاهر بأنّهم مسلمون يؤدّون فريضة الحجّ ، منتحلين أسماء إسلامية إمعاناً في التمويه ، بل ذهب بعضهم إلى الزعم بأنّه من سلالة الأشراف!

هنا نواصل رصد هذه الظاهرة ، من خلال التعرّف على أبرز شخوصها ، محاولين تسليط الضوء الكاشف على الجزء الطافي من مهمّاتهم المشبوهة .

***

(الحاج) بورتون!

صبيحة يوم الخامس والعشرين من تموز (يوليو) 1853م ، وصل المدينة المنوّرة بريطاني متنكِّر باسم «الحاج عبدالله» ; ليغدو أحد أبرز الرحّالة الأوروپيين الذين قاموا بمهمّتهم المناطة بهم خير قيام .

ولم يكن هذا (الحاج) سوى «السير ريتشارد فرنسيس بورتون» الموظّف في شركة الهند الشرقية المعروفة ، وقد حظي «بورتون» من الشهرة الواسعة ، بسبب مهمّته تلك ، حتّى إنّ العديد من الأوساط قد أولته اهتماماً خاصّاً ، إذ لم يُكتب عن أحد بقدر ما كُتب عن رحلة «بورتون» إلى جزيرة العرب1 .

هذا الاهتمام الخاصّ لم يولد من فراغ ، كما لم يكن محض تقليد بريطاني إزاء رجالاتها المغامرين الكبار ، بقدر ما يتعلّق الأمر بالديناميكية التي اتّسم بها بورتون . فليس هناك بين جميع الرحّالة الذين ذهبوا إلى الوطن العربي من هو أكثر نشاطاً أو أغزر قلماً من الرحالة الفيكتوري ، في أواسط القرن التاسع عشر وريتشارد بورتون . ما من رحّالة في جزيرة العرب ، باستثناء تي . إس . لورنس ، كتبت سيرة حياته مرّات أكثر منه ، بل إنّ أوّل سيرة نُشرت عنه قبل عشر سنوات من وفاته . لقد رحل إلى افريقيا والهند وسوريا وشمال أفريقيا والبرازيل وجزيرة العرب التي ظلّت بين هذه جميعاً ، كما قال هو نفسه: «البلاد التي تولّعت بها»2 .

كتب بورتون تقريباً في كلّ المواضيع من تربية الصقور ، إلى المناجم ، إلى الآثار ، إلى الطبّ ، إلى الهندسة ، إلى تسلّق الجبال إلى آخره . وكتب عن رحلاته في كلّ مكان من الأرض تقريباً ، ووضع عن أفريقيا وحدها 13 كتاباً تقع في 4600 صفحة ، غير أنّ الجزيرة العربية ورحلته إليها ظلّت ، كما قال أفضل ما فعله في حياته3 .

وإذا كانت مقولة «المرء ابن بيئته» تحظى بقدر كبير من المصداقية ، فإنّ بورتون سيكون بالتأكيد ابن عصره الفيكتوري [نسبة إلى عهد حكم ملكة بريطانيا فيكتوريا الممتدّ من 1838ـ 1901م] والذي اتّسم بتصعيد وتائر التطلّع الاستعماري ، في الغرب عموماً ، وفي بريطانيا بشكل خاصّ .

من هنا; كان مستشرق القرن التاسع عشر إمّا باحثاً (مختصّاً بالصين ، أو بالإسلام ، أو بالدراسات الهندو ـ أوروپية) ، أو متحمّساً موهوباً (مثل هوغو في «الشرقيون» ، وغوته في «الديوان الغربي الشرقي») ، أو كلا هذين (مثل ريتشارد بورتون ، ادواردلين ، فردرك شليغل)4 ، وقد كان بورتون ـ كرحّالة ـ مغامراً حقيقيّاً ، كما كان ـ كباحث ـ قادراً على الوقوف ندّاً لأيّ مستشرق جامعي في أوروپا ، وكان ـ كشخصيته ـ واعياً وعياً تامّا لضرورة التصادم بينه وبين المعلّمين الرسميّين ، الذين أداروا أوروپا والمعرفة الأوروپية بهذه اللاهويّة الدقيقة وتلك الصرامة العلمية . ويشهد كلّ شيء كتبه بورتون ، لهذا الاستعداد للصدام ، بازدراء لمنافسيه نادراً ما بلغ الدرجة التي بلغها في تمهيده لترجمته لألف ليلة وليلة . ويبدو أنّه قد وجد نوعاً خاصّاً من المتعة الطفولية في إظهار أنّه كان ذا معرفة تفوق معرفة أيّ باحث محترف ، وأنّه قد اكتسب تفاصيل تفوق كلّ ما اكتسبوه ، وأنّه كان قادراً على التعامل مع المادّة بفطنة وكياسة وطراوة هم عنها عاجزون .

وقد اعتبر بورتون بحقّ الأوّل في سلسلة من الرحّالة الفيكتوريّين إلى الشرق الذين كانوا فرديين بعنف5 . . وسيكون لتصاعد روح الثقة بالنفس والشعور بالقوّة في أوروپا القرن التاسع عشر مع تقدّم عقود القرن ، أثره في نوع الرحالة ومهمّاتهم ومقدار تصميمهم . وسنجد في هذا العصر رجلاً مثل بورتون يتجوّل في طول الجزيرة وعرضها ، غير متورّع عن ارتكاب جريمة القتل بعد شكّ أحد الأهالي بأنّ (الحاج) عبدالله ليس سوى رجل نصراني لا يحسن المعرفة بالإسلام أو اللغة العربية . ولكنّ (الحاج) عبدالله سيعود ليغذّي المخيّلة العربية من خلال أوراقه التي نشرتها زوجته بعد وفاته ومن قصص ألف ليلة وليلة التي ترجمها . كما أنّه سيمهِّد السبيل إلى مكتشف آخر هو بلغريف وتاليه داوتي . وسيضع هذان الرجلان تقليداً جديداً في تاريخ الرحلات إلى الجزيرة العربية ذلك هو تخلّيهما عن اتّخاذ صفة المسلم6 .