عرفان الفهدي
{إنَّ أوّلَ بيت وضعَ للناس}1و (لَلّذي ببكة مباركاً وهدىً).
توضّح لنا أن هناك ثلاث قضايا عالجتها الرسالة الإسلامية في شعاعها الصادق الأول، هي:
1 - الانفراط في علاقة بين ما هو قلبي وبين ماهو عقلي.
2 - فوضى الزمان والتاريخ.
3 - ترمّل المكان وتصحّره.
الإسلام دين المعالجات الكبرى، وهو غالباً يوجز المعالجات في سلوكية نوعية، وكان عليه أن يصهر القضايا الثلاث السابقة في مركب، ويناضل من أجل دمجها في بوتقة واحدة، فبأي أسلوبية يمكن ذلك دون أن يسجل انسحاقاً للقناعات البشرية؟ فكان الحجّ .. فهو الفريضة من دون الفرائض الأخرى لها سعة الاستيعاب والامتداد والتنوّع، القادرة على طرح الزائد والناقص من الشعور الاجتماعي والفردي.
لانتحدث هنا عن كشوفات الإسلام على صعيد التشريع الخاص بالإطار العام للفريضة، وإنما نختصر على جانب واحد من جوانب الإبداع فيها.
فأُسلوبية الإبداع من طبعها أن تحتوي الموروث والتقليدي، وتصّبه في قوالب جديدة ممتعة تنعكس فيها تجربة المبدع ورؤيته الجمالية وهدفيته وهو قضيته في الحياة والجماعة والواقع .. من أجل مل الفراغات وإشباع العواطف، ولتتوائم مع الإحساس والتطلع والنزوع الكوني.
ويبرز المكان في الحجِّ ومناسكه كأحد أهم الصور الجمالية التي تعكس عناية الإسلام بالنصّ وبالصورة الذهنية، إذ تتبرعم لنا المناسك ـ وفي حالة الأداء الجماعي الواحد ـ على شكل مشاهد أخاذة، يكون فيها الجمال حالة حياة لها، إلى حدّ أن جعل الإبداع الإسلامي في الحجّ للجمادات استحقاقاً وحرمة، وتطالعنا في الوصف لوحة رائعة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو يصف البيت الحرام ( ... ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً، وأقل نتائق الدنيا مدراً ... بين جبال خشنة، ورمال دمثة ... ثم أمر آدم (عليه السلام) ووَلَدَهُ أن يثنوا أعطافهم نحوه ... تهوي إليه ثمار الأفئدة ...)2.
أسلوبية الإبداع، هي التي ساعدت التشريع الإسلامي على الانطلاق إلى أخصّ خصوصيات النفس الإنسانية وغوامضها القصّية،كما لم يكن قبول الآثار والتطبيقات العملية للتشريع فكرة قد تمّت بعيدة عن قطب الإبداع بمعية الاكتشاف، ولولا الابداع لما كانت عبادة الصلاة ومعركة الذات في المحراب والصوم والزكاة والجهاد والحجّ، وما تنطوي عليها من الزامات ومكابدات وممنوعات وتضحيات ومعاناة أعمالا مأنوسة جميلة، ويتهاتف معها بغرام فريد مقدس، يتحول فيها كل شيء إلى لذة مشوّبة بسرور فيّاض ... يعيش معها الموّحد كما لو أنه كائن غير ذي تراب.
ماهي أقدر العبادات على اكتشاف الفكرة والطاقة الجوهرية للإبداع؟ بل ماهي العبادات التي تكون كاشفةً ومبدعةً ومادةً للجمال بنفس الوقت؟ لعل البعض يلخصها بأنها الدعاء والمناجاة، أو أنها تلك التي ترشح اليقظة الروحية أثناء السجود، أو ...
لا يختلف متأملان على أن هذه أشكالا وظواهرَ صالحة تقع مع غيرها من مستلزمات بهذا الشكل أو ذاك; لتتم بها الوظيفة. أما الحج فهو الأقدر على الاكتشاف والابداع فهو الفريضة التي يكون الابتداء بل الأنتهاء من مناسكها المدخل الطبيعي للسلوك نحو الله تعالى ... فهو ليس فقط وظيفة .. كما أن السعي والطواف فيه ليسا ركناً أو واجباً فقط ... وأن قوة الواجب فيه ليس كقوة الواجب في إمساك الصوم أو تحديد صباح العيد في إخراج زكاة الفطرة ... إن الإطار العام للواجب في الحجّ لهو من القوة أن يمنع عن الحاج المباح والمندوب، الذي عادة لا يخلّ الإتيان بهما بواجب الصلاة أو الصوم ... يتكشف لنا أن في أداء مناسك الحج شيئاً وجامعاً مؤثراً ليس في العبادات الأخرى مثيل له.
إن الزمن بين المنسكين في الحجّ زمن مقدسٌ، ويقع في إطار الرصيد العبادي، ولا يجوز في الغالب ممارسة المباحات فيه ... وهذه الالتزامات لا تقرّرها طبيعة وشخصية فريضة الحجّ فحسب، وإنما للحج بكامله أبعد أخرى لاتقل أهمية عن الفريضة نفسها .. ومساحة هذه الأبعاد ليس المخلوق العاقل فقط .. بل الأشياء والجمادات والكائنات غير العاقلة وغير الناطقة أيضاً .. ومن هذه الأبعاد جميعاً تنبع القيمة الجمالية للعبادة ..
فالمناسك أداء آخر داخل إطار الأداء العام لفريضة الحج التي تغطي المساحة الزمنية والاجتماعية الواقعة بعد الانتهاء من الحجّ .. ولهذا كان وجوبه مرة واحدة في العمر ...
الجمال في حياة المؤمن وفي العبادة وفريضة الحج خاصة، له أهمية كبرى ويشكل مضموناً فكرياً لصياغة النظرية الفنية في الإسلام ... ولهذا فإن المنبع الذي يرفد الجمال بالواقعية ويسدّد حياة المؤمن وعباداته بالأثر الطيب هو الإيمان .. لكونه الطاقة العظمى التي توازن بين طرفي الانتماء بالمطلق من جهة، وبالواقع العملي والموضوعي من جهة أخرى.
فيكون عندنا أن المناسك في الحج تقوم بعملية ربط منظم ومرتّب ومحدّد ببرنامج زماني ومكاني بين طرفي الطاقة الإيمانية .. فتصبح وظيفة المناسك في الحجّ وظيفة نوعية تنفتح على الساحات بقدر علاقتها مع طرفي الإيمان، المطلق والواقع ...
وعليه فإن الوظيفة في المناسك حين تقع صريحة لا تؤرخ وتضبط لنا الفراغ اليقيني أو تشتبك مع الاشتغال اليقيني فقط بل هي أوسع وأشمل من هذا وذاك وهذا هو الفرق بين الوظيفة في الحج و الوظيفة في الأعمال الصالحة والواجبة الأخرى ...
إذاً وظيفة الحجّ تبقى بعد الإتيان الصحيح بها مقلعاً للخيال والجمال، وتدعو المؤمن الموّحد أن يوّحد بين مشاهد .. مشاهد حياته والمجتمع ومشاهد الحجّ ... وبالرغم من أن العبادات تشترك في هذا الهدف السامي إلاّ أن وظيفة الحج ومن موقع الإشباع والتسلل والتنقل بين مختلف الأشكال والأشياء والنسبيات توحي بفعالية أقوى على رسم الصورة في ميدان حياة الفرد والأمة.
إن مفهوم {كنتم خير أُمة أُخرجت للناس ...}3 له علاقة عضوية موضوعية مع التجمع الإسلامي الهادف في الحجّ .. ويتفرع من مفهوم ( الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ) وهما أقوى مصاديق الجمال والامتداد غير المحددين بسلوك عبادي واحد معين.
ثم إن مفردة «الإفاضة» تركّز لنا اللون البارز في صور الرابطة الجمالية الإيمانية من خلال أداء المناسك .. (ثم أفيضوا من حيثُ أَفاض الناسُ واستغفروا الله)4.
وما تفيده دلالة الإفاضة هو التلاحم في الموج البشري العائد من مكان الحج .. وإذن فالمكان هنا ليس كأي مكان يفصل أو يعزل أو يصنّف الروافد على ضوء طبيعة التضاريس والأعماق والسطوح .. الإفاضة صيغة جمالية في نص الآية السابقة استدعت فكرة أخرى سابحة في فضاء حياة الجماعة المؤمنة .. هي فكرة الاستغفار غير المحددة بكمٍّ أو زمن أو مكان أو مسلكية خاصة واحدة .. فالاستغفار يتّجه بضوء قاعدة الإفاضة على شكل تيار جمالي صاعد حيث الفضاء الإلهي.
ذكرت هذه النماذج .. لتوكيد مفهوم الجمال في العبادة النابع من مفهوم الإيمان الرابط بين المطلق والواقع.