فلسفة التلبية والدعاء في الحج
:
تنطلق التلبية والدعاء من قلوب الحجاج
لحظة الدخول في آخر نقطه من قنوات الميقات ... وبهذا يكون الحاج قد قام
بعمليتين التلبية والدعاء يؤشر إليهما الإحرام.
وللدعاء في الإسلام أهمية واعتبار
كبيران فهو ليس طلباً أو التماساً وتبريكاً لمشاعر النفس المؤمنة; بمعنى أن
الاستجابة ليست فقط الفعالية الموضوعية أو ما يعادلها في طريقة الدعاء، وإنما
هناك عنصر الإثارة ..
فالدعاء يثير الخوافي والمكاتم
والأحلام الراغدة ويدمجها في أجواء ساخنة. وحين يكون فضاء الكون الساحة
المقترحة التي ينطلق فيها خطّ الإثارة والاستجابة للدعاء فإنه والحال هذه
يحتاج إلى صيغة أكثر غنىً وثراءً .. ويحتاج إلى مكان وزمان متحدين يلمان
بأسباب الدعاء من حيث الإثارة والاستجابة فكان الميقات وكانت التلبية ..
الميقات هو زمن في مكان، ومكان في زمن، وسرُّ اسم المفعول فيه أقوى بياناً من
المفاعيل الأخرى في العربية .. لأنه اسم ينفعل فيه الزمان والمكان والإنسان
والدعاء والإحرام والتجرد .. و ... أما التلبية الخاصة فهي استجابة للإثارة
الشعورية وإثارة للاستجابة الموضوعية، وهذه الثنائية توفر لنا وعياً ومعرفة
لفلسفة الدعاء في الإسلام.
ومن الميقات وبالتلبية تنسجم النوايا
وتتماسك في نية واحدة. وفيما يكون التوازن بين نقطتي الانطلاق والنهاية في
الدعاء تحدّد لنا نيّة الحجّ نوعية الإجابة .. ومع أن المكان يتحرر من
قيوده الطبيعية، ويأخذ الطبيعة الجمالية لكن مع هذا يبقى العنصر الجمالي غير
قادر على رزم المساحات التي تطويها أسئلة الدعاء .. فنعود إذن إلى أن الدعاء
الصادر في التلبية ليس مطلبه الوحيد الاستجابة ولا توقّع زمانها، وإنما هناك
جانب الإثارة فيها ... الذي يحرّر الكائن الأرضي من محدودية المشاعر والحاجات
وضيق التطلعات إلى ماهو أوسع وأوجب.
إن هذا لا يلغي تدخل العمل بالمناسك
فيما بعد الميقات، في أن يكون محدداً لاتجاهات وتنويعات الدعاء وإجاباته،
ويستدعي هذا التدخل أن يُصار للشعيرة في الحجّ موضوعية تتبادل التأثير مع
موضوعية الدعاء. ويتفاعل الاثنان فيشكلان موضوعية أكبر، هي: موضوعية دعاء
الحج.
الدعاء في الحج يهدف أساساً إلى
التخطيط من أجل إبراز ظاهرة التجلي، ويتجاوز كونه مدعاة لالتماس العفو
والثواب والرزق ... ليهدف إلى رفع مستوى الإنسان إلى أن يكون كائناً مرهف
الشعور والأحاسيس، تتجلى فيه كلّ معاني الخير. وتحتشد فيه تجليات كلّ معاني
الكمال والسمو بعيداً عما هو أرضي ـ دنيوي ـ وبالتالي الإعراب عن مكنون
الهوية الأصلية للسرّ المودع في كيانه، ومعرفة ما إذا كان قابلا على تجربة
الاستخلاف، لا غرو أن نجد أساليب الدعاء جاءت على شكل آيات قرآنية مقدسة
نازلة بخط راجع على غير المألوف في اتجاه الدعاء .. وهذه الأدعية القرآنية
أكثر ما اختصّ بها الحج دون غيره من العبادات (قل ربّ أَدخلني مُدخَل صدق وأَخرجني مخرجَ صدق
...)5
(قل
إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريكَ له وبذلك أمرتُ وأنا أوّلُ المسلمين).6
(ربنا واجعلنا مسلمين لكَ ومن ذريتنا أُمةً مسلمة لك وأرنا مناسكناً وتب علينا ..)7
(رب اجعل هذا بلداً آمناً)8.
إنك تجد في هذه الطائفة من الآيات
الكريمة «المثال الأعظم» للدعاء .. وأنه شديد الارتباط بالبيت الحرام ... وأن
فيه تَمَثُلا لدعاء إبراهيم (عليه السلام). فإذا كان الدعاء بهذه الشخصية
المحملة بجلال المعاني فإنه يحوّل الخطّ الواصل بين سكن الحاج ومناسك الحج
إلى خطّ مستقيم يصلح لقياس وتقييس الفسحة الرحيبة بين الأرض والسماء، ودائماً
تقترن حالة التطهّر من النجاسات والخبائث بالاقتراب من نقطة التكليف الخاص
بشعائر الحج، وتتناسب طردياً مع الدخول إلى دائرة الأداء الفعلي المباشر
للمناسك بحيث تنسحب «الطهارة» على الذات وحركة الجوارح .. فيصبح كلّ كيان
الحاج في أداء منظّم غاية في الدقة.
من المفاهيم الكبرى في الحج التركيز
على مصطلح (أرض الله) انطلاقاً من قاعدة عباد الله وسوف يبلور المتأملون في
أداء المناسك مصداقاً أكثر تكثيفاً وحسية لمفهوم أرض الله، وهذا المصداق، هو
الكعبة، فالمصداق يؤشر دلالة الطهارة والتطهر للتراب الأرضي والآدمي وبها
تصلح أن تكون الأرض الطاهرة قاعدة لنشر حركة الدعاء وخطوطه الصاعدة من أي
مكان ونقطة.
ومن داخل كرة الكعبة الكونية يتحول
شعور الحاج بالسلام إلى تجربة عملية، ويتمثل إلى حالة القبول النفسي الذي هو
أساس وتطوير للالتزام بالأمر والنهي، وقد عبرت المناسك عن هذا القبول النفسي
وتجربة السلام بطريقة حرمة الاعتداء عمداً أو سهواً على حيوان أو دابة أو طير
إن داخل الكعبة، أو ما يتصل بها أثناء الأداء والإحرام من الداخل أو الماحول
أو الفضاء، وفي بعض الأحيان حتى في حالة الحلّ من الإحرام داخل الحرم، ولعلّ
ما يشابه هذا السلام والأمن هو ما جُبِل عليه الحيوان والمخلوقات الأخرى على
أسباب حماية البيت والمقام. ويشار إلى هذا الأمن (بالأمن التكويني) حتى في
الزمن الذي لم يكن فيه أثر للتشريع والأحكام {الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من
خـوف}9 وهي اشارة واضحة على أمن البيت التكويني وما حوله،
الذي يوِّلد لنا أمناً آخر (مَنْ دخله كان آمناً)
وأقصى ما يستعرضه القرآن دلالة على الأمن التكويني في سورة الفيل
{ ألم تر
كيف فعل ربُّكَ بأصحاب الفيل ...}10.
الأمن التكويني جعل البيت هدىً
ومباركاً، ومن هذه الأرضية يصبح الدعاء رسالة ... وذا معرفة، وليس تقليداً أو
ترديداً للصيغ الموروثة، فالحج وتكرار الدعاء في مناسكه يحول الإنسان إلى
كلمة طاهرة من كلماته سبحانه .. إلى حرف ذي إيقاع فريد من حروف القداسة
المتعالية، ومعنى أن يكون الإنسان (الحاج) كلمة أو حرفاً في أدعية المناسك هو
احتفاظه بالشكل .. وبقابلية التجربة الموضوعية المقروءة، وبوجود ثرٍّ للوصف
والوصفية والانطباعية والتعبيرية. ويصحح لنا هذا الحضور الشكلي قبالة الحضور
الإعاني في كليه الإنسان الحاج فكرة الانفراط بين الإنسان وأشيائه الدنيوية.
فالتجرّد المقصود في الدعاء والحج ليس إقصاء ما هو دنيوي ترابي أرضي إنساني،
فهذا ما يواجهه بكلّ حسية وبطريقة جمالية ممتعة في رمزية الأشكال والأشياء في
المناسك .. وانطلاقاً من وحدة الزماني والمكاني في بوابة الميقات، بل التجرد
هو تحريك كلّ ماهو دنيوي إنساني بعيد عن النواقص والنقائض، ودمجه مع مكملاته
الأخرى التي سوف تترافد في مسيرة المناسك، واعتماد تشكيلة رمزية للجميع
ودفعها في ساحة الكعبة; لتمارس أعنف وأجمل تمارين السباحة الكونية والتلاقي
مع جذبات جواهرها الساكرة في العلو، والتي إلى ما قبيل الحجّ والميقات كانت
تعاني من عوازل وعازلات مصطنعة سميكة ناتجة من عدم اقتراب الزمان إلى المكان
والذي يتكفل «الميقات» بالتقريب بينهما في حالة الاستعداد النفسي للورود داخل
البيت الحرام.
من هذه الأرضية، ومن هذه التسامت بين
الإنسان وأشيائه يحرّك لنا الدعاء طيفاً من الشعور الحرّ، لا ليجرد الأشياء
عن أشكالها المادية الحسّية، كما هو شأن المألوف عن التجرد المثالي، وإنما في
اكتشاف الخيوط الرابطة الدقيقة المبعثرة، وضبطها من جديد ونسجها بكيفية أخرى
أمثل للحس، ونظراً لاعتبار الحجّ وقفة عبادية سنوية، وأن فيها تتلامس وتتجاور
الألسنة والدماء والأمزجه والمذاهب والقناعات فإنه وعبر تكراره في حياة
الأجيال يحتوي على بنيوية شاملة تظم من الخارج منظومة كبيرة من الأصوات،
وينبثق فيها من الداخل وبالضرورة صوت واحد.
ومهما يكن فإن التركيب بين الأصوات
والأمزجة والألوان والانتماءات في وحدة أداء الحجّ لم تكن عملية سهلة يمكن
اتقانها ومن ثم تكرارها في يوم أو شهر أو سنة، لكنها تميل إلى الانتظام
والاتساق والتوافق على المدى، وفي فرصة تكاد تكون نادرة في وحدة عمر الإنسان
الفرد والجماعة.
فإذا كان الإسلام أو بالأحرى الإيمان
بالصوت الداخلي الذي يوّحد أصداء النزوع الروحي للجماعة المسلمة هو العنوان
العام الذي لا يتعارض مع خصوصيات أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب في إطار
الانتماء العقيدي الواحد، فإن هذا يدعونا إلى تأمل الأصوات الخارجية للجماعة
العامة، ورصدها بعدد المرات التي يتشكل منها اتجاهات اللغات والطبائع
والمذاهب في الجماعة الكبرى، ويمكن إحصاء الأصوات الخارجية للجماعة الإسلامية
الكبرى، ثم إخضاعها في عملية توافق أخرى تتكفل بها تجربة الحج .. وهذه
العملية الثانية تحوّل الأصوات إلى صوت واحد لكنه على شكل مستويات. وإذن
فالحج يتقدم على العبادات الأخرى في تحويل الأصوات المختلفة في الخارج ونظمها
في صورة واحدة محددة بإطار تميل إلى صوت واحد ذي عدّة مستويات ... ثم الجهاد
من أجل تقريب المستويات نحو الشكل الواحد، وقد تتعهد المسيرة التاريخية
المستقبلية لتحويل المستويات إلى شكل واحد طاغ.
وللتوافق بين المستويات الخارجية عدّة
أشكال ستستقر على أحدها الجماعة الإسلامية أخيراً في إحياء تجربة الحجّ
الواقعية في الحياة مستقبلا، وهي:
1 - مستوى اللغة التي ينطق بها
الناس.
2 - مستوى المشاعر والعواطف الإنسانية
الإسلامية.
3 - مستوى وحدة المذاهب.
4 - مستوى وحدة الهموم والتطلعات
الاجتماعية.
5 - مستوى الانتقاء الثقافي والتقني
والمنهجي.
هذه المستويات وربما غيرها لم تكن في
منأى عن التحقيق الذي تكفلت به مسيرة الحج التاريخية وقد دفعت بعض تجارب الحج
بعض هذه المستويات إلى الإحياء الحقيقي .. ولكن لما لم تنفذ رسالة الحج على
عموم المجتمع البشري يبقى لنا في المنظور، على المدى البعيد الكثير من
إشكاليات تحويل المستويات بكاملها إلى مستوى الصوت والشكل الواحد ... بمعنى
أن هناك اشكاليتين متقابلتين لم يتطور إلى واقع وعي ومنهج ومعالجة هما: أن
بعض قوانين تجربة الحجّ لم تكن في مقدور الجماعة البشرية والمسلمين خاصة أن
يتفهموها، والأخرى أن الحاج وقوانين موسم الحج لم يكن بمقدورهما أن يستوعبا
فهم قوانين الاجتماع البشري حتى الآن.
تبقى حالة مستوى أداء المناسك القمة
في تجربة استدعاء المستويات الخمسة السابقة إلى التوليف والائتلاف، وإذا كانت
مناسك الحج حظيت بمقام خاص ومتميز في التشريع لأمكنتها أجوائها، وأصالة
وجودها التاريخي وقدسية الأثار فيها، توفر للجماعة الإسلامية والإنسانية
خارطة مكانية متنوعة منسجمة مع الأبعاد التكوينية على الأرض وحول البيت
الحرام، فإن خارطة المشاهد في المناسك تقترح على الجماعة بيوتاً أخرى كالبيت
الحرام في أي أُفق مكاني { في بيوت أذن اللهُ أن ترفع ويذكر فيها
اسمه}11. وتقترح المناسك الزينة التي منعت في الحج أن تكون على أجملها وأروعها في أي
مسجد وبيت {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كلّ
مسجد ...}12 وكذلك جهزت الناس بالبلدان الآمنة بعدما حدّد أولا الأمن بالبيت الحرام فأصبحت مكة
بلداً آمناً {وهذا البلدِ
الأمين}13.
فتجربة الولوج إلى الميقات وترديد
الدعاء ابتداءً منه وحتى الانتهاء من المناسك تدعوا إلى عملية اجتماعية تشترك
فيها كلّ عناصر الطبيعة والاجتماع والتاريخ، وأول خطّ يواجه الاختبار هو خطّ
عودة الحاج من المناسك، ومعنى هذا إحداث مقارنة حيّة، فالذاكرة هنا تحمل
مستويات متعددة الدلالة لأمكنة المناسك وأصوات الإنسان الآخر، وهي مادة
المقارنة ومعرفة ما إذا كان الحاج قادراً على إنزال الدعاء في ساحته الفردية
والاجتماعية، وما إذا كان لمفهوم الميقات (وحدة الزمان والمكان) تعبيرات
وتطبيقات في قنوات محلته وقريته وجيرانه ومؤسسته أم لا؟
الميقات والدعاء في الحجّ ومناسكه
يبدأ بهما الحاج وينتهي بهما ذهاباً وإياباً، ويشكلان المدخل العملي الذي
يتداخل معه التجمع البشري المنتخب بالاستطاعة في كلّ عام لمعرفة وقياس قرب أو
بعد المستويات الخمسة السابقة، أو ما يقترح غيرها من محورية الصوت الداخلي،
المحور الذي تعبر عنه وعن مضمونه العام صياغيّة (نيّة الحج).
وقبل أن نتأكد من قرب أو بعد
المستويات بالنسبة لمحور الحج، فإن مجرد التجمع للأصوات الخارجية في فريضة
الحج هو موِّلد آني للكثير من الاقتراحات والصّيغ .. إنه مجرد موّلد آني، وإن
هذا الشكل العام للتجمع يشير في الأحساس نوعين من الأشكال المنسجمة،
هما:
الشكل الأول: انسجام وحدة المكان في الحج:
وهو أداء الحجاج لمناسكهم على المكان المحدّد، وأن تجمعهم لا يجوز أن يؤدي
المناسك المفروضة والمستحبة في غير المشاهد المقررة، فكل منسك خاص لا يمكن أن
ينجز اليقين في الفراغ منه مالم يؤد في جزء المكان ودائرته العامة الواحدة،
وهذا ما يفترق فيه الحج عن بقية الفرائض والواجبات. اذ بإمكان الإنسان أن
يأتي بالصلاة جماعة أو فرادى في المسجد أو البيت، في السفينة أو على الجمل
أداءً أم قضاءً خارج وقتها أو في زمن وجوبها ومع كلّ هذا تقع صحيحة.
فالانسجام في أداء المناسك يرشح وحدة مكانية للجميع وهو أحد ركني الجمال في
الحج، ويقرر لنا في النهاية مفهوم مكان القبلة وحالة التوّجه. إذ المكان في
الحج له واقع وموضوعية. (جعل اللهُ الكعبةَ
البيتَ الحرامَ قياماً للناس)14.
الشكل الثاني: انسجام وحدة الزمان في
الحج، وهو الركن الجمالي الثاني لأداء المناسك ويكون أداؤها في زمن واحد
معين {والشهرَ الحرامَ والهديَ
والقلائدَ}15 وقوله:
{الحجُّ أشهر معلومات ...}16.
ولوحدة الزمان في الحج بعدان، عام: إذ
يكون واجباً مرة واحدة في العمر على المستطيع، والآخر: أن تقع المناسك جميعها
في وحدة زمنية محددة ويكون أداء جزء المناسك في جزء الزمن المحدد، وإذا ما
حدث اختراق ما لزمن بعض المناسك فإن الإتيان به يقع في ضيق دائرة الزمن
المحدد قضاءً.
ونحن نقتصر على إبراز الدلالات
الجمالية في الانسجام المكاني فقط; وذلك في رسم صور ثلاثة للجمالية المكانية
في أداء مناسك الحج.