الصورة الجمالية الأُولى لمكانيّة الحج
:
تنطلق فريضة الحج من تصوّر هائل
للمكان، ولعل أرقى ما يشير إلى صورة التصور المكاني هذا هي آية {وأذّن في النّاس بالحجِّ يأتوك رجالا وعلى كلّ
ضامر يأتينَ من كلّ فجّ عميق}26. إذ تكثّف الصورة الفنية في سياق الآية،
حركة الإنسان وهي متجهة من
الآقاصي، فالضامرات اللواتي حملن الناس من نقاط وأفجاج بعيدة، تدلنا على
رمزية متحركة بسرعة الرهان في ميدان سباق مشهود، وبقدر ما تكون الضامرات قد
خاضت تجربة الذهاب إلى بؤرة الميقات، فهذا الأخير يكشف عن مستويين جماليين
للآية .. إذ تنحلّ عملية (الاتيان) ومن ثم (يأتين) إلى ممارسة مباشرة مع
المكان، وباستثناء الضرورات تصبح رحلة ما بعد الميقات المستوى الدلالي الآخر
لرحلة ما قبل الميقات، وهنا تنبع حكمة خط العودة من الحج، ولعلّ انغراس مفردة
(ضامر) ومفردة (عميق) في أفق النص يقصّ لنا عن محتويات المكان، وكائنات
الطبيعة المطوّاعة المتمثلة للناس، وهي إشارة إلى تمرين الحج على الطبيعة،
واشتراك المخلوقات ضمن إنسيابية التسخير مع الإنسان.
إن مفردة «عميق» تفرض مقاومة طبيعية
على «ضامر» والمقاومة هذه متمثلة بطبيعة الخط المكاني المتصل (من كلّ فج)
وينتج من الأمر بالحج حالة تعاطي «تعاط» لمنظومة من القوى يفجرها في الأداء
التشكيل والتنويع، فيكون الإنسان الحاصد الأخير لجماع المعطيات، وبفضل كيفيات
التسخير تتقد مفردة (يأتين) وتومض منها شواظّ تسلّط الأشعة ليس على مستطيل
النص فحسب، وإنما على تحوّلات وتضاريس الخط المكاني الرابط بين سكن الحاج
والميقات، بمعنى أن البؤرة من جهة والواقع من جهة أخرى يتعاطفان في الإفصاح
عن الخوافي والكوامن المعدّة تكوينياً وطبيعياً في رحلة الحج، فيما يكون
الحرص على تقريب المفاهيم تمهيداً للقراءة الواضحة البعيدة عن التغميض
وتعسفات التأويل.
تبرز لنا القيمة الجمالية هدفاً من
انسكاب السرد القرآني في خلاصات بيانية، وذلك في اصطفاء الجمال كأرقى عملية
لتوضيح المقاصد العليا للفريضة العبادية، والجمال لا ينبسط بصورة عامة في عرض
النص، إنما يترمز في وقفات خاصة ومن عدة زوايا، وهذه الرموز تنقل النصّ نقلات
هائلة، وهي تتقدم مع حداثة العصر وتأملات المياه المقدسة لسواقي القرآن، بحيث
كلما يتسع المكان وتتنوّع تضاريسه وتتركب معطلاته وتعقيداته فإن نسغاً خالداً
في طول النص يعكس أطيافه، ويتوالد بعدة ألوان تغطي آخر قافية معرفية في
القرآن.
النسغ هذا: هو وجود الحقيقة المكانية
في النصوص كمكون وكجزء صميمي في عملية الشروع بفريضة الحج، وفي أداء مناسكه
على السواء. لكن وجودها فرع على وجود الأصل العبادي الخالص. وهذا هو التكافؤ
الذي يحقق النسبية المكانية في القرآن وفي الحج خاصةً {جعل اللهُ الكعبةَ البيتَ الحرامَ قياماً
للنّاس}27.
النسبية المكانية هذه توِّلد لنا
المعالجات والأسلوبية المتطورة، وتلائم بين المكان في الخارج وحسيته
الواقعية، وبين المحتوى الديني الثابت لفريضة كالحج.
فعنصر المكان هنا لم يكن مقترحاً من
الخارج لتفسير النص، كما لم يكن مساعداً كيمياوياً مؤقتاً في تجربة النص
والحج، وإنما لكي ينسحب الجدل ومعه صعوبات الانسجام فإن عنصر المكان نابعٌ من
ذات الصورة المعنوية للقرآن، وارتبط بجملة رموز طبيعية تسجل للناقد الشكلية
الجمالية النسبية; ولهذا تأخذ المشاهد المقدسة تسلسلها في القيمة والوسيلة
العبادية دون أي انفراط أو ترّخص في أيٍّ من مكونات عبادة الحج.