الصورة الجمالية الثانية - تأملات جمالیة نسخه متنی

اینجــــا یک کتابخانه دیجیتالی است

با بیش از 100000 منبع الکترونیکی رایگان به زبان فارسی ، عربی و انگلیسی

تأملات جمالیة - نسخه متنی

عرفان الفهدی

| نمايش فراداده ، افزودن یک نقد و بررسی
افزودن به کتابخانه شخصی
ارسال به دوستان
جستجو در متن کتاب
بیشتر
تنظیمات قلم

فونت

اندازه قلم

+ - پیش فرض

حالت نمایش

روز نیمروز شب
جستجو در لغت نامه
بیشتر
لیست موضوعات
توضیحات
افزودن یادداشت جدید

الصورة الجمالية الثانية


:

الصورة الأولى كانت قد تناولت الصيغة
الجمالية لمفردة حاج واحد على انفراد، ولذلك فهي إجراء فني نقدي قرآني يصمم
لحالة العلاقة المثالية بين ما يجب أن تكون عليه كائنات الطبيعة في
ارتباطاتها مع الحج والحاج، أي إن الصورة الفنية وإن كانت لا تركَّز على حكم
معين إلاّ أنها تستبطن دعوة اجتماعية كونية يتعاطف فيها الإنسان مع غيره من
كائنات الوجود .. دعوة أرقى ما يكون عليها حالة الحج والحاج الحقيقية ...
ولذلك اختير المكان وينابيعه القصية (فج عميق) ليمهد إلى تمارين أولية .. وهو
رسم على المكان ... إذ توفرت أفعال ومفاعيل وروابط وأهداف وتحولات بين المنبع
المكاني الواحد وحتى مفتاح الميقات.

الصورة التي نحن بصددها هي: أن الآية
السابقة تثير في الاجتماع الإنساني مقترحاً خلاصة الدين الإسلامي، وحسب كونه
خاتم الأديان، وأنه لا نبيَّ بعد رسولها المصطفى (صلى الله عليه وآله) وعليه
فإنها ذات مهمة رسالية استثنائية أي إنها عالمية تتبنى على ضوء الثبات
والمتحرك في التشريع المتداخل مع جزئيات وفواصل الخطّ التاريخي الصاعد من أجل
تسيّس المستقبل والمصير الإنسانيين وتشدّهما بمحورية التوحيد الإلهي .. إن
هذا ومع تنوّع أداء الحضارات والمدنيات، وتعقّل الذهنية وانسحابها عن
النسبيات والمحدودات المادية، فإن الآية السابقة تركّز هذا الموج البشري،
وتستدعي موجاته بهدوء نحو المسرى الطبيعي، وتحشّده نحو بؤرة مكانية واحدة
كتمرين على وحدة العقيدة في المستقبل .. البؤرة التي انطلق فيها نداء التوحيد
المعبّر عن أصالة المشترك الفطري الإنساني. ولا بدَّ إذن من أن نواجه شكلا
مادياً يشبع الإحساس بالمكان، فكان الشكل المادي للكعبة يحقّق هذا الإشباع،
ويستعرض عبر فضاءاته كلّ العواطف البشرية على الدوام; لأنه الشكل الوحيد الذي
اتسع ويتسع لحركة الوجدان، وبنفس الوقت يتصل بالمطلق .. اتصالا من الداخل حيث
أداء المناسك المرتبطة بمركزية الشكل الكعبوي، وكذلك اتصالا من الخارج وعلى
السطح، حيث الخطوط النابعة من كلّ الأقاصي، كما هو شأن الدين الإسلامي حين
يكون ولا بدَّ من ذلك دين البشر قاطبة.

فهناك منابع بشرية هائلة تسبح في حركة
دائبة، وتتجه فيما تنتظم أخيراً عبر قنوات الميقات، وكلما اقتربت الروافد
البشرية من مصبات الميقات، فإن الدوائر المكانية على السطح وفي الخارج تصغر
حتى تكون في صغر طبيعي، وحينما تقترب المحيطات من دائرة المركز (الكعبة) تصبح
أنصاف الأقطار التي كانت في الخارج أقطاراً تندمج وتتكثف وتتكيّف.

إن التماس مع الميقات والعبور إلى
الكعبة يحرّر في ذات الاتجاه المستقيم أشكالا ورسوماً بعدد الكتل البشرية مما
يحدث تحوّلا هندسياً في الروافد البشرية، عملية التحوّل هذه يرشحها الدخول في
الإحرام والشروع في التلبية وأداء المناسك، فتتساوق الأعمال هذه مع تلاقي
أنصاف الأقطار البشرية على دائرة ضيقة نسبياً، ويكاد ينعدم الفراغ المكاني
(الخلاء) وتتماسك خلاياه فيحدث إحساسٌ كبيرٌ بأهمية اللوحة (الرقعة) المكانية
المقدسة، وإذْاك تفرغ الروافد المكانية كلّ ما في طبيعتها من لائقية مادية
مقبولة، وتتواشج نحو التحام حقيقي يطيح بفوضوية الأجزاء، إن هذا يدعو إلى
اعتبار قياسات جديدة للمكان .. القياسات الجديدة للمواقيت والمشاهد تنبع من
الذاكرة .. الذاكرة الجمعية التي هي سنة من سنن الفطرة.

المكان في الصورة المقدسة هذه يصبح
كائناً حيّاً فاعلا، له موضوعية في تجربة المناسك; ولذا يكون قابلا لفرضيات
الإنسان والاجتماع، لأن مواجهته بهذه القوة والامتداد المفروضة في التشريعات
والأحكام تضفي عليه لوناً من الحركة والتجدد والصيرورة، فلا يكون موضوعاً أو
مادة للتاريخ أو حدثاً لزمان معين، إنما يصبح خلية منتجةً من خلايا الوجود
تتعاطف إبداعياً مع طهارة الإنسان الحاج. يؤدي هذا إلى تلاشي المقاومة
الطبيعية السلبية للمكان وعبر مقابلة اعتراف الحاج وقراره بإقصاء الأنا أو
الذات المضافين واللذين هما طرفا النزاع والخصومة والمقاومة مع غفلة الطبيعة
وتحجرها.

كلّ هذا يحدث في لحظة الولوج إلى ما
بعد الميقات .. وحين يتمُّ انسحاب الأنا المؤثثة بالكثير من التوابع المادية
والترابية، تسلم الطبيعة إلى شكلها الأصيل، وتنتمي للحاج وتتصافح معه بقوة
وعنف، وتتجلى عن مواقف ومشاهد مشرّفة طاهرة، تؤرخ وتضبط للإنسان حدود وكيفيات
أداء المناسك، وتشترك فعلياً في رسم صور السنن الشرعية الخاصة بفريضة
الحج.

التنازل الطوعي الذي يحدث للذات
ومصافحة الطبيعة للحاج، لم يكن وليد لحظة الولوج في الميقات، وإنما وليد
مجموعة من التحولات على المكان يجمعها تمرين (يأتين من كلّ فج عميق) وتطور
عملية (الإتيان) إلى (يأتين) المركّزة المشددة، فهذا التنازل إذن كان قد بدأ
ليشطب عليةَ الصراع الداخلي، وإذا ما شعر الإنسان الحاج فعلا أنه في حضرة
تجربة يكون فيها الاتجاه عملياً نحو تصفية منابع هذا الصراع من داخله ومن
موقع القرار والحكم، فإن ما يُسمى بالصراعات المادية الأخرى والعراك البشري
والحروب والكوارث والنزلات التاريخية سرعان ما تتداعى وتنتفي
حيثيتها.

الخلاصة التي يرسمها القرآن الكريم
لعملية تصعيد التعاطف بين الإنسان الحاج ودواخله من جهة وبين العالم الخارجي
وتحدياته من جهة أخرى تكمن في دلالة الآية
{وإذ جعلنا البيتَ مثابةً للنّاس وأمناً}28. فالأمن وليس السلام مصداق التصالح الكامل في مجتمع الحاج
المقترح مستقبلياً .. الأمن هو أفصح بيان في لغة التعامل مع الموجودات في
الكون، وما كان السلام يوماً حقيقةً اجتماعية مالم يشبع بالأمن الاجتماعي،
فهو ليس إلاّ حالة تعقب الحرب أو الخلاف ومن هنا فهو مهدد بالاختراق من أحد
أو من كلا الطرفين، لكنه أي (السلام) مناط بحركة الآتين على الضامرات من كلّ
فج عميق .. إنه مداخله مع نوعية القوى المقاومة .. حتى إذا امتزج الجهد
الإنساني بحركة الطبيعة وتهادى إلى الميقات كان يجب أن يتحول السلام فيه إلى
جوهر حياتي .. إلى حقيقة وينطلق في خطوة نوعية أرقى هي (الأمن). السلام في
المنظور الاجتماعي ليس إلاّ تدبيراً قانونياً عازلا يعتمله الإنسان والآخر مع
أرضية وحيثية الصراع من أجل أن تكون الأسباب المؤدية ومقاومة الطبيعة حيادية،
أو في بعض الحالات يكون السلام مفروضاً، ويمتاز بالصيغة السلبية.

أما في حالة الأمن يكون السلام نفسه
منطوياً على اطمئنان، كما أن الطبيعة وعناصر الصراع والنزاع تنقلب إلى عوامل
ايجابية تدر بالرحمة والبركة والحرية .. أي تتصل بأصالتها وفيضها
وجمالها الكوني، مما يجعلها في التصاق مع جهد الإنسان في انتاج الهدف الأعلى
في الأرض، وتسيّس باقي المعطلات.

ولعل مفردة (ميقات) فيها إيحاء
وإيماءة على توقيت الفصل بين ما هو سلام وتطويره عبر تحوّلات مشاعر وألفاظ
وحركات ولباس الحجاج إلى ما يجب أن يكون عليه السلام، وبين ما يجب أن يكون
عليه الواقع الأمني العام لمجتمع الحاج. فللأمن في وجدان الإنسان والحاج
ذاكرة عجيبة، إذ إنه من وحي الفطرة ويدّر من نميرها ... ولها تعلق قديم في
مسلكية الجماعة الأولى ... وتشكل مفردة الأمن معادلا موضوعياً لمجتمع الجنة
... ولقد توثبت ألفاظ بعينها على تسمية بعض مناسك الحج وذلك ما نلحظه في
تسمية (مِنى): (إن جبرائيل (عليه السلام) لما أراد أن يفارق آدم (عليه
السلام) قال له: تَمنَّ. قال: أتمنى الجنة، فسميت ـ مِنى ـ بذلك
لأمنيته).29

فهناك إذن ذاكرة جماعية راجعة، تكيّف
إثاراتها واستجاباتها أجواء تلاقي الروافد البشرية بين نقطتي الميقات وباقي
مناسك الحج، وتدعوها للتأمل وللالتحام حول شكل مادي إلهي يدعى (الكعبة)
بإعتباره مركز كلّ دوائر أمكنة الاجتماع الإنساني في النهاية.

هناك فرق خفي يؤشر لحالتين من توارد
المشاعر في سياق الآيات التالية: {وإذ جعلنا
البيت مثابة للناس وأمناً ... وعَهِدنا إلى إبراهيمَ وإسماعيلَ أن طهِّرا
بيتي}30.

{فسيحُوا في الأرض أربعة أشُهر}31.

{أَوَ لَم يَروا أنّا جعلنا حرماً آمناً}32.

{ .. فلا رفثَ ولا
فُسوقَ ولا جِدالَ في الحجِّ}33.

{ ... فإجعل افئدةً
مِنَ النّاسِ تهوِي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون}34.

إننا نجد على صعيد الآيات السابقة
مجموعة إشارات:

أولا: أن الأمن فيها يأخذ مستويات متعدّدة
يتصاعد مع حركة الزمن، فمن البيت الحرام وأمر إبراهيم وإسماعيل إلى السياحة
الزمنية المحددة بالأشهر الأربعة، إلى التركيز والتأكيد والاستفهام في الآية
الثالثة، وهي إشارة إلى غفلة الإنسان عن حقيقة البيت .. إلى تكثيف أدق لحالة
الأمن وذلك في نفي مطلق يشمل جنس (الجدال). وحتى مخاطبة الأفئدة وتوليف
العلاقة بين البيت وما حوله.

ثانياً: امتزاج عناصر التكوين والتشريع،
وذلك في ورود فعل الأمر مقروناً أو متعلقاً بمفردة (الجعل).

ثالثاً: علاقة الأمن بالطهر، بالرزق،
بالهوى، (الحب) وكلّها تؤشر اتساق الآثار العملية مع قوة الميل الإنساني
لمعرفة حقيقة البيت الحرام.

هذه الأمور الثلاثة لا تلغي خصوصية
كلّ آية عن الأخرى، فالآية الأولى ترمز إلى خصوصية البيت ذاته وطهارته من كل
ما يشوّه معالمه ورسالته، وتبين بعض أحكامه وتأتي الآية الثالثة لتثير قضية
خطيرة (الأمن) عبر مقطع (استفهامي) {أو لم
يروا} وتقتطف الحسّ الإنساني بمعية الذاكرة وتوجيههما نحو
(أمن الحرم) فإن الرؤية هنا تمتزج بالرؤيا .. لكن الآية رشحت أولا عنصر الحس
في مفردة (يروا) ثم عبر الاستفهام دمجت من بعيد عنصر الرؤيا، التأمل،
الذاكرة {أو لم ...}إذ يكون
الأمن هنا مسلكاً اجتماعياً وهدفاً متعلقاً بمشاهد الحج ويستتلي هذا ذاكرة
كيف يكون مجتمع الجنة .. إن الآية ترمز إلى التفاتة دقيقة نحو المقارنة،
والمقاربة بين مجتمع الجنة ومقترح قريب منه هو مجتمع الحجاج، لكن هذه
الالتفاتة القرآنية لا تخلو من المضمون المكاني .. أي جهة الالتفاتة ...
فتصبح ( حرماً آمناً )
شكلاً مادياً يفي بالمطالب الحياتية الدنيوية النقية، وسيان كان
الشكل مادياً أم غير مادي فجماعة الحجاج لم يكونوا طبقة أو جهة متميزة عن
الوسط الاجتماعي العام .. إنما هم يؤدون الحجّ ضمن أدوار معينة تحوي أروع
محاكاة اجتماعية لوضعية الفائزين بالجنة، ويضعون اناملهم على أدق الحوافز
التي تفصلهم عن تمثُل الدرجة العليا التي تطمح لها ذاكرة الجميع.

أما الآية الثانية فقد استخدمت مفردة
(السياحة) وهو إشباع لطيف
ليس لعموم المكان، بل لأخص رقعة فيه ... وهي حتماً ما تناسب الذوق السليم ...
وهذا توّجه كلي بلغة الوجدان إلى خلاصة الطبيعة الجميلة .. لكن الآية تحدّد
السياحة بزمن محدّد حاد حاسم فيتدخل الأمر والتشريع، وهذا التحديد جاء من أجل
مفهوم «الحج الأكبر» الذي
يقع يوماً واحداً في الأشهر الأربعة ... وكان بإمكان القرآن أن يسمي ويحدّد
الحج الأكبر .. لكنه أي ـ القرآن ـ أراد أن تحدث جولة سياحية في المكان
وتتناهى إلى حصيلة زمنية .. وما كان لهذا الايقاع الزمني والحج الأكبر أن
ينسكب في طهارة وفي اختتام المناسك، لو لم يكن هناك انتظار .. فالانتظار في
الآية جعل المكان في حالة قلق .. أي إنه في النهاية سيتكلس وسيسفر عن
المشركين، ورغم أن أربعة الأشهر تحدّد يوم الحج الأكبر مع اختلاف بسيط في
الروايات35 إلاّ
أنها تتفق على أن الرسول (صلى الله عليه وآله)أرسل الإمام علياً (عليه
السلام)لقراءة آيات البراءة
من المشركين.

ولا بدَّ من حسم الموقف ... ولا شك في
أن جمرة الانتظار في الآية ستنطفأ وتتجه الموجه باتجاه آخر .. في زحمة تيار
أقوى داخل البيت .. وهنا تنتظرنا الآية الرابعة ... وعند مقطع {ولا جدال في الحج}. وللإشارة;
فإن الجدال نوع من الحوار الفكري وضرب من التأمل والمناظرة ليس فيه في ذاته
حرارة وآلة أو سلاح، كما هو في أشكال الصراعات الأخرى .. الانطلاقة نحو
(اللاجدال) ستلقي في النفوس
نشوة الإحساس بالسرور .. إذ يعزل الحاج على دائرة المكان كلّ حوافز ومسوغات
الجدل حتى على صعيد الشعور والتأمل .. مما يدعو الذاكرة إلى أن تنداح أقوى;
لأنها تحيا حالة قصوى من التهذيب والتشذيب ... وحتماً أن مستوىً كهذا من
الصقل والاستقامة سينقّح لها الفراغ ... وتتوفر لها مجالات أكبر للتنقل
والتذكير والإنابة.

ارتفاع حركة النفس والروح إلى مستوى
الأمن الحقيقي، يعني أنها تدخل في تجربة التعايش الكامل مع الموجودات .. ولما
كانت التجربة في ضمن إطار شكل مادي وبتماوج بشري مختلف، فإن هذا لا يجعل
الإتقان سهلا دون إنزال الدلالات الجمالية بكاملها في عبادة الحج. مقطع {ولا جدال في الحج }
يصبّ في بلورة موقف الحاج تجاه أنماط الحياة، التي تزخر بها
الدوائر البشرية المتتابعة الدوران حول الكعبة والمناسك .. وهذا الموقف له
قطبان، هما: الإنسان مع أخيه، والثاني: الطبيعة، ومهمة الحاج داخل البيت لا
تسمح له بالتأجيل أو النقض فيها .. ولما كان هناك حركة دائبة للأشياء
فمعناه أن قبالة الحاج نماذج مختلفة من كائنات الطبيعة والبشر .. وهي في حالة
حضور وامتثال واصغاء، فما تبقى إذن؟ إنها قيادة البشر والطبيعة وإلى من؟
قطعاً باتجاه المطلق. طالما تعرّف الحاج على نمطية الأسباب المعطلّة للانطلاق
نحو الله سبحانه ومن قرب.

المطلق يعني الله ـ سبحانه ـ ولا يمكن
أن يستوعب الحاج كلّ المساحات والمسافات نحوه ـ سبحانه ـ حتى لو كان طاهراً
.. لا يمكن له هذا مالم يصحب في رحلته الفريدة التي تقع في أول عمره أو وسطه
أو أخريات أيامه عناصر أخرى لها استحقاق الوجود; تلك العناصر السايحة، التي
تسبح بميلها الطبيعي في الطبيعة، وأهم العناصر في دنيا الطبيعة في زمن الحج
هو المكان، ومنه يُدرك أنه الصبغة الطاغيه على فريضة الحج .. وأن هذا المكان
سوف يتّحد مع الزمان فيما بعد الميقات، ويحدث بينهما التعجيل فيما تعود
الأمكنة بعد الاتحاد في الميقات إلى حالتها الطبيعية المتناثرة في الحرم
وفيما حوله .. إن هذا الاتحاد والتعجيل يكون معنوياً ويرمز لها في شكل
الميقات، والتعجيل من القوة بحيث يصبح في منظور الحج أن كلّ ما في الطبيعة
يحمل قابلية ومزاجية عبادية، وتنقلب نسبة البيت الحرام المنحوتة في صدر
الآية {مثابة للناس}
إلى نسبة إلهية {طهّرا
بيتي} ويتطابق اتجاه هذه الآية مع مدلول {وأتمّوا الحجَّ والعمرةَ للهِ}36.

على هذا فإن التحشيد الفني في الآية
يشمل الطبيعة وما تنطوي عليه من أحجار ونبات وحيوان وهوام، إذ تقرر التشريعات
حرمة الاعتداء عليها والتعهد بالقضاء والكفارة في بعض حالات العمد والنسيان،
إذ لم يكن قبل الميقات أي حرمة أو التزام ...

يكشف لنا الحج ومناسكه أن لغير
العاقلات حرمة وبأي نسبة فإنها تشبه حرمة الاعتداء على الإنسان، بيد أن هذه
الكرامة لم تكن وليدة العقل في الكائنات غير الإنسانية .. إنما هي لحيثية
الوجود ... فللموجود قدسية في أيّ محل وشكل .. وهذا هو المشترك بين الإنسان
وغيره فمعنى «أنسنة» الأشياء ليس إحلال العقل فيها، بل في وعي علاقة الوجود
وأنماطه بحركة الإنسان.

تزول كلّ الفواصل بين ما يسمى بالمكان
الطبيعي، وبين ما يسمى بالزمان الطبيعي، فيما بعد الولوج في الدائرة المتصلة
بين البيت والميقات، ويتواصل هذا الالتحام بينهما حتى يوم النحر فينطلق
الدعاء من فم الخليل (عليه السلام) (فاجعل
أفئدة ...) وهو المصب والمستوى
الاجتماعي الأخير للأمن الإلهي. وفي الآية نطالع مفردات (أفئدة ـ الثمرات ـ
يشكرون) وهي محملة بومضات وجدانية تومئ إلى أن الفؤاد مكان يغلّف لبَّ الكيان
الداخلي للإنسان، والثمرات هي لباب وجوهر النعم والأرزاق، فيما تنفرد مفردة
يشكرون بأقصى صيغة إيقاع للحمد والثناء والاعتراف.

اللباب الثلاثة وماتستتليه من جذبات
على المكان تحدّدلنا ذات الجهة التي يعتاد أن تكون فيها معاً .. إذاً، إنها
حركة نحوها معاً .. وعبرها تترشح رسالة البحث عن الأمن الحقيقي، فليس هذا
الأخير خلوداً إلى اللذة والراحة والاستلقاء، الأمن الحقيقي في بيت الله، وهو
تجربة ومعركة تبدأ من الفرد، الذات، ولها آثار تكوينية وتشريعية تصل إلى خارج
البيت فضلا عن داخله وحتى أهل إبراهيم (عليه السلام)وعلى جنبات واد غير ذي
زرع تلك المعطيات التي تكفلت الآية بإبرازها. إنها تصفية للذات في كهوف الذات
والذات الأخرى في أروقة النفس الإنسانية وغوامضها، وهي بدورها نقلة مكانية
مثيرة تشكل خطّ النهاية في صيرورة المكان الإبراهيمي.

في الذات. وأين يقع هذا الذات؟ في أي
زاوية من المكان تتناسل نوية الذات .. إنها مواجهة حساسة فعلا تقتضي متتاليات
هندسية على خط المكان، بعدما نزع الإنسان الحاج كلّ ما عليه من مقاسات يمكن
أن تُستنفذ زواياها. لقد علمناأن بؤرة المكان التي توجهت نحوها «أنصاف
الأقطار» من «كلّ فج عميق» هي الكعبة. فأين المكان الذي تلوذ فيه الذات
وتتعرى على حقيقتها؟. من الطبيعي أن نفس الذات لا تظفر بالتشخيص السليم، فلا
بد من ذات أخرى تألف المسلك الشائك، ووجهاً لوجه يتصالب الحاج مع أخيه في
أقرب نقطه مكانية وزمانية وهو يتقن الطواف والسعي والركعات ورمي الجمرات
وغيرها. فما معنى {طهرّا بيتي للطائفين
والعاكفين ..}؟ هل في إقصاء رموز الوثنية
والجاهلية؟ هل في إبعاد اليهود والنصارى والمشركين؟ وما معنى (والركع السجود)؟ أو ليس الطائفون
العاكفون مصلين؟ وهل توجد صلاة ومصل بدون ركوع وسجود؟

تساؤلات تتوالد ويتوارد طيفها
...

وقبل التلامس مع الإجابة يحسن بنا أن
نذكر الخلاصات التي انتهت إليها الآيات الخمسة السابقة.

فالآية الأولى: قررت تطهير البيت،
والثانية: قررت إشباع
المكان بالحركة والانتظار، والثالثة: قررت الأمن كذاكرة جمعية
والرابعة: اقصت كلّ منابع الصراع
على الصعيد النظري فضلا عن الصعيد المادي، فأقرت أن الأمن ينسحب على النفس
فيمتّعها بالسرور، ثم قررت الآية الخامسة: أن آل إبراهيم ومن ثم المجتمع
وبقدر ارتباطهم بالبيت هم محل الرزق والثمرات والإلفة والمحبة.

هذا التطوير في تكامل الحرمة البشرية
كان قد بدأ ولا زال ... وأنه مع الزمن لم ينته إلى النتائج المطلوبة بشكل
كامل ... مما يجعل قسماً من النظرية في صيغة فرض أو فرضية مجردة تلّح على
برهانها ...

أين نعثر على البرهان ليتحول باقي
النظرية الافتراضي إلى تجربة عملية تامة وأن تكاملها يعكس اجتماعية العقيدة
وعالميتها؟ التساؤلات السابقة يعضّدنا على معالجة واستنباط الحلول لها نفس
مكان الحج، وفي واحد هو من أهم مناسك الحج .. كما أن الآية التي تضمنت
الإشارة إلى الطائفين والعاكفين يتَجلى لنا ختامها وهو يقفل على بيان المطلع
فيها في مقطع (الركع السجود)
.

لما كانت حركة الحجاج في البيت ومن
حوله من طواف وأشواط وهرولة وذهاب وإياب. ولما كان الطوّافون في حركة دائرية،
وباتجاه لا يحيد ولا تنفصل فيه أداء اليد اليمنى عن أداء اليسرى.

ولما كانت حركة السعي والأشواط بين
الصفا والمروة هي التي تفصل بين الطوافين، وهي حركة أفقيه مستقيمة .. لما
توضّح كلّ هذا; فإننا نحصل على نوعين رئيسيين من أنماط الحركة، ويشكلان
أساساً لباقي الأنماط وهما: الحركة الدائرية، والحركة المستقيمة ... وأن
المكان الذي صنف الحركة الواحدة إلى صنفين هو نفسه الذي سوف يعيد الاتجاه في
نمط أو نوع واحد.

الدائرة والمستقيم على المكان هما أهم
إحداثيتين اجتماعيتين للناس في مناسك الحج وما عداهما ليس إلاّ انحرافاً
مسدداً بالتشريع .. فالشكل الدائري والمستقيم للحركة يمكن أن يتداخلا في
المكان الواحد فيشكلا معاً دائرة كبرى ومحوراً أكبر وقطراً أعظم.

لقد كان الحاج قد توصل إلى دائرة
الكعبة، وذلك عبر التكرار المنظّم للطواف حولها، فهل تسنى له أن يقطع أو يكرر
الاندفاعة في كلّ الخطوط المستقيمة ليلخصها، من ثم في سباعية الأشواط بين
الصفا والمروة؟

تلك مساءلة جمالية ... وليس بالضرورة
أن تنفصل العبادة عن الجمال في سائر الواجبات الدينية وخاصة الحج
..

إذن ماذايقترح علينا الحج من مناسك،
ومن مكانية لاكتشاف الزاوية التي يكمن فيها عملاق الذات .. بعدما اكتشفنا أن
سياقات النصوص تقذف في الذهن أن بؤرة المكان المشعّة المكتنزه هي الكعبة،
فليس حتماًأن يكون الشكل الدائري أتمّ الأشكال وأجملها، فهوبالتحليل خطّ
مستقيم، قديتّضح في صوراخرى للأبعاد المكانية في مناسك الحج، والتي منها وحدة
المركز المكاني المسمى بالكعبة.

/ 9