لما قررت قريش إعادة بناء الكعبة، وقف ابن وهب بن عمرو بن عائذ ـ وهو خالُ والد النبيّ، وكان شريفاً ممدوحاً ـ وقال: يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلاّ طيباً، لا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة أحد من الناس. وقال غيره مثل قوله .. فلما قصرت عندهم الأموال الطيبة والهدايا والنذور، ولأنهم تجنبوا المال الخبيث، تركوا من جانب الحجر بعض البيت، وخلفوا الركنين الشاميين من قواعد إبراهيم (عليه السلام) ... فأدخلت في الحِجر أذرعاً من الكعبة المشرّفة، أعادها عبد الله بن الزبير حينما كان أميراً للحجاز بعد أن هدم الكعبة وبناها سنة 64هـ24، وكانت أعادته لتلك الأذرع استناداً لرواية نقلها عن خالته أم المؤمنين عائشة، قال: أشهد لسمعتُ عائشة تقول: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن قومك استقصروا في بناء البيت، وعجزت بهم النفقة، فتركوا في الحجر منها أذرعاً، ولولا حداثة قومك بالكفر لهدمتُ الكعبة وأعدتُ ما تركوا منها .. فإن بدا لقومك هدمها، فهلمي لأريك ما تركوا في الحجر منها، فأراها قريباً من سبعة أذرع. وقال ابن الزبير وأنا أجد ما أنفق ولستُ أخاف الناس. فلما هدم الكعبة وسوّاها بالأرض، كشف عن أساس إبراهيم فوجدوه داخلاً في الحجر نحواً من ستة أذرع وشبر ... فدعا ابن الزبير خمسين رجلاً من وجوه الناس وأشرافهم، وفي قول العدول من أهل مكة، وأشهدهم على ذلك الأساس ... فقال لهم ابن الزبير: اشهدوا، ثم وضع البناء على ذلك الأساس ... وجعل ميزابها يسكب في الحجر .... فلما طاف بالكعبة استلم الأركان الأربعة جميعاً، وقال: إنما كان ترك استلام هذين الركنين الشامي والغربي; لأن البيت لم يكن تاماً. فلم يزل البيت على بناء ابن الزبير إذا طاف به الطائف استلم الأركان جميعاً.
ولما قتل الحجاج ابن الزبير ودخل مكة، كتب إلى عبد الملك بن مروان: أن ابن الزبير زاد في البيت ما ليس منه.. ويستأذنه في ردِّ البيت على ما كان عليه في الجاهلية. فكتب إليه عبد الملك بن مروان ... واهدم ما كان زاد فيها من الحِجر أو ما زاد فيه من الحِجر فرده إلى بنائه، واكبسها به على ما كانت عليه.
فهدم الحجاج منها ستة أذرع وشبراً مما يلي الحجر، وبناها على أساس قريش الذي كانت استقصرت عليه، وكبسها بما هدم منها .. فكلّ شيء فيها اليوم بناء ابن الزبير إلاّ الجدر الذي في الحجر فإنه بناء الحجاج.
وبعد أن أتمَّ الحجاج بناء الكعبة، وفد الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي على عبد الملك بن مروان، فقال له عبد الملك: ما أظن أبا خبيب ـ يعني ابن الزبير ـ سمع عن عائشة ما كان يزعم أنه سمع منها في أمر الكعبة. فقال الحارث: أنا سمعته من عائشة. قال: سمعتها تقول ماذا؟ قال: سمعتها تقول: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن قومك استقصروا في بناء البيت. ولولا حداثة عهد قومك بالكفر، أعدتُ فيه ما تركوا منه، فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمّي لأريك ما تركوا منه، فأرها قريباً من سبعة أذرع ...
قال عبد الملك: أنت سمعتها تقول هذا، قال: نعم يا أمير المؤمنين أنا سمعت هذا منها، قال فجعل ينكث منكساً بقضيب في يده ساعة طويلة، ثم قال: وددت والله أني تركت ابن الزبير وما تحمل من ذلك25، فإذن رواية ابن الزبير ورواية الحارث رواية واحد ومتفقة على الأذرع السبعة تقريباً. والحارث هذا كان والياً على البصرة من قبل ابن الزبير، توفي في الكوفة26 سنة 72هـ .
ولما تولى هارون الرشيد الخلافة سأل مالك بن أنس عن هدمها وردّها إلى بناء ابن الزبير للأحاديث المذكورة في الباب. فقال مالك: ناشدتُك اللهَ يا أمير المؤمنين أن تجعل هذا البيت لعبةً للملوك لا يشاء أحد إلا نقضه وبناه، فتذهب هيبته من صدور الناس.
إذن: إن هذا التغيير في بناء الكعبة (بناء قريش، بناء ابن الزبير، بناء الحجاج) كان سبباً لانقسام المؤرخين والفقهاء حول حجر إسماعيل، وأنه دخل فيه شيءٌ من الكعبة 5ـ7 أذرع على اختلاف الروايات في ذلك ونأتي الآن إلى ذكر أدلة القائلين بالنقص في مساحة الكعبة وانضمام قسم منها إلى الحِجر.
رواية عائشة تعدُّ أقوى أدلتهم، وقد اختلفت واضطربت ألفاظها، ففي رواية أن النقص كان ستّ أذرع وشيئاً، وفي رواية أخرى أن النقص كان ستّ أذرع، وفي رواية ثالثة أن النقص كان ستّ أذرع وشبراً، وفي رواية رابعة أنه قريب من سبع أذرع، وفي خامسة سبع أذرع، وهناك رواية بأنه خمس أذرع كما أن بعضها مطلق وآخر مقيد، ويمكن علاجه بحمل المطلق على المقيد .. وفي رواية أن ابن الزبير سمع عن الأسود ولم يسمع مباشرة عن عائشة كما هي رواية البخاري27.
حدثنا عبيدُ الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الأسود قال: قال لي ابن الزبير: كانت عائشة تُسِرُّ إليك كثيراً، فما حدثتك في الكعبة؟ قلتُ: قالت لي: قال النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم): (يا عائشةُ لولا قومُكِ حديثٌ عهدهم ـ قال ابن الزبير ـ بكفر، لنقضتُ الكعبة، فجعلتُ لها بابين: باب يدخل الناس وبابٌ يخرجون).
رواية مسلم28
حدّثنا هَنَّادُ بْنُ السَّرِىِّ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَائَدَةَ أَخْبَرَني ابْنُ أَبِي سُلَيَْمانَ عَنْ عَطَاء قَالَ لَمَّا احْتَرَقَ الْبَيْتُ زَمَنَ يَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ حِينَ غَزَاهَا أَهْلُ الشَّامِ فِكَانَ مِنْ أَمْرَهِ مَا كَانَ تَرَكُه ابْنُ الزُّبَيْرِ حَتَّى قَدِمَ النَّاسُ الْمَوْسِمَ يُرِيدُ أَنْ يُجَرِّئَهُمْ أَوْ يُحَرِّبَهُمْ عَلَى أهْلِ الشَّامِ فَلَمَّا صَدَرَالنَّاسُ قَالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ أَشِيرُوا عَلَيَّ فِى الْكَعْبَةِ أَنْقُضُهَا ثُمَّ أَبْني بِنَاءَهَا أوْ أُصلِحُ مَا وَهَى مِنْهَا قَالَ ابْنُ عَبَّاس فَانِّي قَدْ فُرِقَ لِي رَأْيٌ فِيهَا أَرَى أَنْ تُصْلِحَ مَا وَهَى مِنْهَا وتَدَعَ بَيْتاً أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَأَحْجَاراً أَسْلَمَ النَّاسُ عَلَيْهَا وَبُعِثَ عَلَيْهَا و النَّبِيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ لَوْ كَانَ أَحَدُكُمُ احْتَرَقَ بَيْتُهُ مَا رَضِيَ حَتَّى يُجِدَّهُ فَكَيْفَ بَيْتُ رَبِّكُمْ إنِّي مُسْتَخيرٌ رَبِّي ثَلاَثاً ثُمَّ عَازِمٌ عَلَى أَمْرِي فَلَّما مَضَى الثَّلاَثُ أَجْمَعَ رَأْيَهُ عَلَى أَنْ يَنْقضَهَا فَتَحَامَاهُ النَّاسُ أَنْ يَنْزِلَ بأَوَّلِ النَّاسِ يَصْعَدُ فِيهِ أَمْرٌ مِنَ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدَهُ رَجُلٌ فَأَلْقَى مِنْهُ حِجَارَةً فَلَمَّا لَمْ يَرَهُ النَّاسُ أَصابَهُ شَىْءٌ تَتَابَعُوا فَنَقَضُوهُ حَتَّى بَلَغوُا بِهِ الاَْرْضَ فَجَعَلَ ابْنُ الزُّبَيْرِ أَعْمدَةً فَسَتَّرَ عَلْيْهَاالسُّتُورَ حَتَّى ارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْر إنِّي سَمِعْتُ عَائِشَةَ تَقُولُ إنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) قَالَ لَوْلاَ أَنَّ النَّاسَ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِكُفْر وَلَيْسَ عِنْدِي مِنَ النُفَقَةِ مَايُقَوِّى عَلَى بِنَائِهِ لَكُنْتُ أَدْخَلْتُ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ خَمْسَ أَذْرُع وَلَجَعَلْتُ لَهَا بَابَاً يَدْخُلُ النَّاسُ مِنْهُ وَبَابَاً يَخْرُجُونَ مِنْهُ قَالَ فَأَنَا الْيَوْمَ أَجِدُ مَا أُنْفِقُ وَلَسْتُ أَخَافُ النَّاسَ قَالَ فَزَادَ فِيهِ خَمْسَ أَذْرُع مِنَ الْحِجْرِ حَتَّى أَبْدَى أُسّاً نَظَرَ النَّاسُ الَيْه فَبَنَى عَلَيْه الْبِنَاءَ وَكَانَ طُولُ الكعبة ثماني عشرةَ ذراعاً فلمّا زاد فيه استقصَره فزادَ في طوله عشرَ أذرُع وجعل له بابين أحدُهما يُدخَلُ منه والآخر يُخرجُ منه، فلما قُتل ابنُ الزبير كتب الحجّاجُ إلى عبد الملك بن مروان يُخبِرهُ بذلك ويُخبِره أنّ ابن الزبير قد وَضع البناءَ على أسٍّ نظر إليه العُدول من أهل مكة، فكتب إليه عبد الملك إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء، أما ما زاد في طوله فأقرَه وأما ما زاد فيه من الحِجَر فردّه إلى بنائه وسدّ الباب الذي فتحه. فنقضهُ وأعاده إلى بنائه.