خطبه

السید جعفر الحسینی

نسخه متنی -صفحه : 35/ 28
نمايش فراداده

ومن كلام له عليه السلام

وقد أَرسل رجلاً من أصحابه . يعلم له علم أحوال قوم من جند الكوفة ، قد همّوا باللحاق بالخوارج ، وكانوا على خوف منه 7 ، فلمّا عاد إِليه الرجل قال له : «أأمِنُوا فَقَطَنُوا [2364] ، أم جبنوا فَظَعَنُوا [2365] » فقال الرجل : بل ظَعَنُوا يا أَمير المؤمنين . فقال 7 :

بُعْداً لَهُمْ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ! أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ [2366] الاَْسِنَّةُ إِلَيْهِمْ وَصُبَّتِ السُّيُوفُ عَلَى هَامَاتِهمْ [2367] ، لَقَدْ نَدِمُوا عَلَى مَا كَانَ مِنْهُمْ . إِنَّ الشَّيْطَانَ الْيَوْمَ قَدِ اسْتَفَلَّهُمْ [2368] ، وَهُوَ غَداً مُتَبَرِّىءٌ مِنْهُمْ ، وَمُتَخَلٍّ عَنْهُمْ . فَحَسْبُهُمْ بِخُرُوجِهمْ [2369] مِنَ الْهُدَى ، وَارْتِكَاسِهِمْ [2370] فِي الضَّلاَل وَالْعَمَى ، وَصَدِّهِمْ [2371] عَنِ الْحَقِّ ، وَجِمَاحِهمْ [2372] فِي التِّيهِ [2373] .

ومن خطبة له عليه السلام

روي عن نوف البكالي قال : خطبنابهذه الخطبة أمير المؤمنين 7 بالكوفة وهو قائم على حجارة ، نصبها له جعدة بن هبيرة المخزومي ، وعليه مِدْرَعَةٌ من صُوف [2374] وحمائل سيفه لِيفٌ ، وفي رجليه نعلان من لِيف، وكأنّ جبينه ثَفِنَةُ [2375] بعير . فقال عليه السلام :

حمد الله واستعانته

الْحَمْدُ لله الَّذِي إِلَيْهِ مَصَائِرُ الْخَلْقِ ، وَعَوَاقِبُ الاَْمْرِ . نَحْمَدُهُ عَلَى عَظِيمِ إِحْسَانِهِ ، وَنَيِّرِ بُرْهَانِهِ ، وَنَوَامِي [2376] فَضْلِهِ وَامْتِنَانِهِ ، حَمْداً يَكُونُ لِحَقِّهِ قَضَاءً ، وَلِشُكْرِهِ أَدَاءً ، وَإِلَى ثَوَابِهِ مُقَرِّباً ، وَلِحُسْنِ مَزِيدِهِ مُوجِباً . وَنَسْتَعِينُ بِهِ اسْتِعَانَةَ رَاج لِفَضْلِهِ ، مُؤَمِّل لِنَفْعِهِ ، وَاثِق بِدَفْعِهِ ، مُعْتَرِف لَهُ بِالطَّوْلِ [2377] ، مُذْعِن لَهُ بِالْعَمَلِ وَالْقَوْلِ . وَنُؤْمِنُ بِهِ إِيمَانَ مَنْ رَجَاهُ مُوقِناً ، وَأَنَابَ إِلَيْهِ مُؤْمِناً ، وَخَنَعَ [2378] لَهُ مُذْعِناً ، وَأَخْلَصَ لَهُ مُوَحِّداً ، وَعَظَّمَهُ مُمَجِّداً ، وَلاَذَ بِهِ رَاغِباً مُجْتَهِداً .

الله الواحد وعظيم قدرته

لَمْ يُولَدْ سُبْحَانَهُ فَيَكُونَ فِي الْعِزِّ مُشَارَكاً ، وَلَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْرُوثاً هَالِكاً . وَلَمْ يَتَقَدَّمْهُ وَقْتٌ وَلاَ زَمَانٌ ، ولَمْ يَتَعَاوَرْهُ زِيَادَةٌ وَلاَ نُقْصَانٌ [2379] ، بَلْ ظَهَرَ لِلْعُقُولِ بِمَا أَرَانَا مِنْ عَـلاَمَاتِ التَّدْبِيرِ الْمُتْقَنِ ، وَالْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ .فَمِنْ شَوَاهِدِ خَلْقِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ مُوَطَّدَات [2380] بِـلاَ عَمَد ، قَائِمَات بِلاَ سَنَد . دَعَاهُنَّ فَأَجَبْنَ طَائِعَات مُذْعِنَات ، غَيْرَ مُتَلَكِّئَات [2381] وَلاَ مُبْطِئَات ; وَلَوْلاَ إِقْرَارُهُنَّ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَإِذْعَانُهُنَّ بِالطَّوَاعِيَةِ ، لَمَا جَعَلَهُنَّ مَوْضِعاً لِعَرْشِهِ ، وَلاَ مَسْكَناً لِمَـلاَئِكَتِهِ ، وَلاَ مَصْعَداً لِلْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ مِنْ خَلْقِهِ . جَعَلَ نُجُومَهَا أَعْـلاَماً يَسْتَدِلُّ بِهَا الْحَيْرَانُ فِي مُخْتَلِفِ فِجَاجِ الاَْقْطَارِ . لَمْ يَمْنَعْ ضَوْءَ نُورِهَا ادْلِهْمَامُ [2382] سُجُفِ [2383] اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ ، وَلاَ اسْتَطَاعَتْ جَـلاَبِيبُ [2384] سَوَادِ الْحَنَادِس [2385] أَنْ تَرُدَّ مَا شَاعَ [2386] فِي السَّمَاوَاتِ مِنْ تَلالـُؤِ نُورِ الْقَمَرِ". فَسُبْحَانَ مَنْ لاَ يَخْفَى عَلَيْهِ سَوَادُ غَسَق دَاج [2387] ، وَلاَ لَيْل سَاج [2388] ، فِي بِقَاعِ الاَْرَضِينَ الْمُتَطَأْطِئَاتِ [2389] ، وَلاَ فِي يَفَاعِ السُّفْعِ [2390] الْمُتَجَاوِرَاتِ ; وَمَا يَتَجَلْجَلُ بِهِ الرَّعْدُ [2391] فِي أُفُقِ السَّمَاءِ ، وَمَا تَـلاَشَتْ [2392] عَنْهُ بُرُوقُ الْغَمَامِ ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَة تُزِيلُهَا عَنْ مَسْقَطِهَا عَوَاصِفُ الاَْنْوَاءِ [2393] وَانْهِطَالُ السَّمَاءِ [2394] ! وَيَعْلَمُ مَسْقَطَ الْقَطْرَةِ وَمَقَرَّهَا ، وَمَسْحَبَ الذَّرَّةِ وَمَجَرَّهَا ، وَمَا يَكْفِي الْبَعُوضَةَ مِنْ قُوتِهَا ، وَمَا تَحْمِلُ الاُْنْثَى فِي بِطْنِهَا . وَالْحَمْدُ لله الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ عَرْشٌ ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إِنْسٌ . لاَ يُدْرَكُ بِوَهْم [2395] ، وَلاَ يُقَدَّرُ بِفَهْم ، وَلاَ يَشْغَلُهُ سَائِلٌ [2396] ، وَلاَ يَنْقُصُهُ نَائِلٌ [2397] ، وَلاَ يَنْظُرُ بِعَيْن ، وَلاَ يُحَدُّ بِأَيْن [2398] ، وَلاَ يُوصَفُ بِالاَْزْوَاجِ [2399] ، وَلاَ يَخْلُقُ بِعِلاَج [2400] ، وَلاَ يُدْرَكُ بِالْحَوَاسِّ ، وَلاَ يُقَاسُ بِالنَّاس .الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيماً ، وَأَرَاهُ مِنْ آيَاتِهِ عَظيماً ; بِلاَ جَوَارِحَ وَلاَ أَدَوَات ، وَلاَ نُطْق وَلاَ لَهَوَات [2401] . بَلْ إِنْ كُنْتَ صَادِقاً أَيُّهَا الْمُتَكَلِّفُ [2402] لِوَصْفِ رَبِّكَ ، فَصِفْ جبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَجُنُودَ الْمَـلاَئِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ ، فِي حُجُرَاتِ [2403] الْقُدْس مُرْجَحِنِّينَ [2404] ، مُتَوَلِّهَةً [2405] عَقُولُهُمْ أَنْ يَحُدُّوا أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ . فَإِنَّمَا يُدْرَكُ بِالصِّفَاتِ ذَوُو الْهَيْئَاتِ وَالاَْدوَاتِ ، وَمَنْ يَنْقَضِي إِذَا بَلَغَ أَمَدَ حَدِّهِ بِالْفَنَاءِ . فَـلاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ ، أَضَاءَ بِنُورِهِ كُلَّ ظَـلاَم ، وَأَظْلَمَ بِظُلْمَتِهِ كُلَّ نُور .

الوصية بالتقوى

أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ بِتَقْوَى اللهِ الَّذِي أَلْبَسَكُمُ الرِّيَاشَ [2406] ، وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمُ الْمَعَاشَ ; فَلَوْ أَنَّ أَحَداً يَجِدُ إلَى الْبَقَاءِ سُلَّماً ، أَوْ لِدَفْعِ الْمَوْتِ سَبِيلاً ، لَكَانَ ذلِكَ سُلَيمانَ بنَ دَاوُودَ عَلَيْهِ السَّـلاَمُ ، الَّذِي سُخِّرَ لَهُ مُلْكُ الْجِنِّ وَالاِْنْس ، مَعَ النُّبُوَّةِ وَعَظِيمِ الزُّلْفَةِ . فَلَمَّا اسْتَوْفَى طُعْمَتَهُ [2407] ، وَاسْتَكْمَلَ مُدَّتَهُ ، رَمَتْهُ قِسِيُّ الْفَنَاءِ بِنِبَالِ الْمُوْتِ ، وَأَصْبَحَتِ الدَّيَارُ مِنْهِ خَالِيَةً ، وَالْمَسَاكِنُ مُعَطَّلَةً ، وَوَرِثَهَا قَوْمٌ آخَرُونَ . وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْقُرُونِ السَّالِفَةِ لَعِبْرَةً ! أَيْنَ الْعَمَالِقَةُ وَأَبْنَاءُ الْعَمَالِقَةِ ! أَيْنَ الْفَرَاعِنَةُ وَأَبْنَاءُ الْفَرَاعِنَةِ ! أَيْنَ أَصْحَابُ مَدَائِنِ الرَّسِّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيِّينَ ، وَأَطْفَؤُوا سُنَنَ الْمُرْسَلِينَ ، وَأَحْيَوْا سُنَنَ الْجَبَّارِينَ ! أَيْنَ الَّذِينَ سَارُوا بِالْجُيُوشِ ، وَهَزَمُوا بِالالـُوفِ ، وَعَسْكَرُوا الْعَسَاكِرَ ، وَمَدَّنُوا الْمَدَائِنَ !

ومنها :

قَدْ لَبِسَ لِلْحِكْمَةِ جُنَّتَهَا [2408] ، وَأَخَذَهَا بِجَمِيـعِ أَدَبِهَا ، مِنَ الاِْقْبَالِ عَلَيْهَا ، وَالْمَعْرِفَةِ بهَا ، وَالتَّفَرُّغِ لَهَا ; فَهِيَ عِنْدَ نَفْسِهِ ضَالَّتُهُ الَّتِي يَطْلُبُهَا ، وَحَاجَتُهُ الَّتِي يَسْأَلُ عَنْهَا . فَهُوَ مُغْتَرِبٌ إِذَا اغْتَرَبَ الاِْسْـلاَمُ ، وَضَرَبَ بِعَسِيبِ ذَنَبِهِ [2409] ، وَأَلْصَقَ الاَْرْضَ بِجِرَانِهِ [2410] ، بَقِيَّةٌ مِنْ بَقَايَا حُجَّتِهِ ، خَلِيفَةٌ مِنْ خَـلاَئِفِ أَنْبِيَائِهِ .

ثم قال عليه السلام :

أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنِّي قَدْ بَثَثْتُ لَكُمُ الْمَوَاعِظَ الَّتِي وَعَظَ الاَْنْبِيَاءُ بِهَا أُمَمَهُمْ ، وَأَدَّيْتُ إِلَيْكُمْ مَا أَدَّتِ الاَْوصِيَاءُ إِلَى مَنْ بَعْدَهُمْ ، وَأَدَّبْتُكُمْ بِسَوْطِي فَلَمْ تَسْتَقِيمُوا ، وَحَدَوْتُكُمْ بِالزَّوَاجِرِ فَلَمْ تَسْتَوْسِقُوا [2411] . لله أَنْتُمْ ! أَتَتَوَقَّعُونَ إِمَاماً غَيْرِي يَطَأُ بِكُمُ الطَّرِيقَ ، وَيُرْشِدُكُمُ السَّبِيلَ ؟!!!

أَلاَ إِنَّهُ قَدْ أدبَرَ مِنَ الدُّنْيَا مَا كَانَ مُقْبِلاً ، وَأَقْبَلَ مِنْهَا مَا كَانَ مُدْبِراً ، وَأَزْمَعَ التَّرْحَالَ عِبَادُ اللهِ الاَْخْيَارُ ، وَبَاعُوا قَلِيلاً مِنَ الدُّنْيَا لاَ يَبْقَى ، بِكَثِير مِنَ الاْخِرَةِ لاَ يَفْنَى . مَا ضَرَّ إِخْوَانَنَا الذِّينَ سُفِكَتْ دِمَاؤُهُمْ )

وَهُمْ( بِصِفِّينَ أَلاَّ يَكُونُوا الْيَوْمَ أَحْيَاءً ؟ يُسِيغُونَ الْغُصَصَ وَيَشْرَبُونَ الرَّنِقَ [2412] ! قَدْ ـ وَاللهِ لَقُوا اللهَ فَوَفَّاهُمْ أُجُورَهُمْ ، وَأَحَلَّهُمْ دَارَ الاَْمْنِ بَعْدَ خَوْفِهمْ .

أَيْنَ إِخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّريقَ ، وَمَضَوْا عَلَى الْحَقِّ ؟ أَيْنَ عَمَّارُ [2413] ؟ وَأَيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ [2414] ؟ وَأَيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ [2415] ؟ وَأَيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا عَلَى الْمَنِيَّةِ ، وَأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ [2416] إِلَى الْفَجَرَةِ ؟!!

قال : ثمّ ضرب بيده على لحيته الشريفة الكريمة ، فأطال البكاء ، ثمّ قال عليه السلام :

أَوِّهِ [2417] عَلَى إِخْوَانِي الَّذِينَ قَرَؤوا الْقُرْآنَ فَأَحْكَمُوهُ وَتَدَبَّرُوا الْفَرْضَ فَأَقَامُوهُ ، أَحْيَوُا السُّنَّةَ وَأَمَاتُوا الْبِدْعَةَ . دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأَجَابُوا ، وَوَثِقُوا بِالْقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ .

ثمّ نادى بأعلى صوته :

الْجِهَادَ الْجِهَادَ عِبَادَ اللهِ ! أَلاَ وَإِنِّي مُعَسْكِرٌ فِي يَوْمي هذَا ; فَمَنْ أَرَادَ الرَّوَاحَ إِلَى اللهِ فَلْيَخْرُجْ !

قال نوْفٌ : وعقد للحسين 7 في عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف ، ولابي أَيوب الانصاري في عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر ، وهو يريد الرجعة إلى صفين ، فما دارت الجمعة حتى ضربه الملعون ابن ملجم لعنه الله ، فتراجعت العساكر فكنّا كأغنام فقدت راعيها ، تختطفها الذئاب من كل مكان !

ومن خطبة له عليه السلام

الْحَمْدُ لله الْمَعْرُوفِ مِنْ غَيْرِ رُؤْيَة ، الْخَالِقِ مِنْ غَيْرِ مَنْصَبَة [2418] . خَلَقَ الْخَـلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ ، وَاسْتَعْبَدَ الاَْرْبَابَ بِعِزَّتِهِ ، وَسَادَ الْعُظَمَاءَ بِجُودِهِ ; وَهُوَ الَّذِي أَسْكَنَ الدُّنْيَا خَلْقَهُ ، وَبَعَثَ إِلَى الْجِنِّ وَالاِْنْس رُسُلَهُ ، لِيَكْشِفُوا لَهُمْ عَنْ غِطَائِهَا ، وَلِيُحَذِّرُوهُمْ مِنْ ضَرَّائِهَا ، وَلِيَضْرِبُوا لَهُمْ أَمْثَالَهَا ، وَلِيُبَصِّرُوهُمْ عُيُوبَهَا ، وَلِيَهْجُمُوا [2419] عَلَيْهِمْ بِمُعْتَبَر [2420] مِنْ تَصَرُّفِ [2421] مَصَاحِّهَا [2422] وَأَسْقَامِهَا ، وَحَـلاَلِهَا وَحَرَامِهَا ، وَمَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُطِيعِينَ مِنْهُمْ وَالْعُصَاةِ مِنْ جَنَّة وَنَار ، وَكَرَامَة وَهَوَان .

أَحْمَدُهُ إِلَى نَفْسِهِ كَمَا اسْتَحْمَدَ [2423] إِلَى خَلْقِهِ ، وَجَعَلَ لِكُلِّ شَيْء قَدْراً ، وَلِكُلِّ قَدْر أَجَلاً ، وَلِكُلِّ أَجَل كِتَاباً .

منها في ذكر القرآن

فَالْقُرْآنُ آمِرٌ زَاجِرٌ ، وَصَامِتٌ نَاطِقٌ . حُجَّةُ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ . أَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُمْ )

أخذ عليهم ميثاقَه( وَارْتَهَنَ عَلَيهِ أَنْفُسَهُمْ [2424] . أَتَمَّ نُورَهُ ، وَأَكْمَلَ بِهِ دِينَهُ ، وَقَبَضَ نَبِيَّهُ صلى الله عليه وآله وَقَدْ فَرَغَ إِلَى الْخَلْقِ مِنْ أَحْكَامِ الْهُدَى بِهِ . فَعَظِّمُوا مِنْهُ سُبْحَانَهُ مَا عَظَّمَ مِنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُخْفِ عَنْكُمْ شَيْئاً مِنْ دِينِهِ ، وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئاً رَضِيَهُ أَوْ كَرِهَهُ إِلاَّ وَجَعَلَ لَهُ عَلَماً بَادِياً ، وَآيَةً مُحْكَمَةً ، تَزْجُرُ عَنْهُ ، أَوْ تَدْعُو إِلَيْهِ ، فَرِضَاهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ ، وَسَخَطُهُ فِيَما بَقِيَ وَاحِدٌ .

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَنْ يَرْضَى عَنْكُمْ بِشَيء سَخِطَهُ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُم ، وَلَنْ يَسْخَطَ عَلَيْكُمْ بِشَيْء رَضِيَهُ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ . وَإِنَّمَا تَسِيرُونَ فِي أَثَر بَيِّن ، وَتَتَكَلَّمُونَ بِرَجْعِ قَوْل قَدْ قَالَهُ الرِّجَالُ مِنْ قَبْلِكُمْ . قَدْ كَفَاكُمْ مَؤُونَةَ دُنْيَاكُمْ ، وَحَثَّكُمْ عَلَى الشُّكْرِ ، وَافْتَرَضَ مِنْ أَلْسِنَتِكُمُ الذِّكْرَ . وَأَوْصَاكُمْ بِالتَّقْوَى ، وَجَعَلَهَا مُنْتَهَى رِضَاهُ وَحَاجَتَهُ مِنْ خَلْقِهِ . فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ [2425] ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ ، وَتَقَلُّبُكُمْ فِي قَبْضَتِهِ .إِنْ أَسْرَرْتُمْ عَلِمَهُ ، وَإِنْ أَعْلَنْتُمْ كَتَبَهُ; قَدْ وَكَّلَ بِذلِكَ حَفَظَةً كِرَاماً ، لاَ يُسْقِطُونَ حَقّاً ، وَلاَ يُثْبِتُونَ بَاطِلاً .

وَاعْلَمُوا أنـّهُ مَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً مِنَ الْفِتَنِ ، وَنُوراً مِنَ الظُّلَمِ ، وَيُخَلِّدْهُ فِيَما اشْتَهَتْ نَفْسُهُ ، وَيُنْزِلْهُ مَنْزِلَةَ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ ، فِي دَار اصْطَنَعَهَا لِنَفْسِهِ ; ظِلُّهَا عَرْشُهُ ، وَنُورُهَا بَهْجَتُهُ ، وَزُوَّارُهَا مَلائِكَتُهُ ، وَرُفَقَاؤُهَا رُسُلُهُ ; فَبَادِرُوا الْمَعَادَ ، وَسَابِقُوا الاجَالَ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُوشِكُ أَنْ يَنْقَطِعَ بِهِمُ الاَْمَلُ ، وَيَرْهَقَهُمُ الاَْجَلُ [2426] ، وَيُسَدَّ عَنْهُمْ بَابُ التَّوْبَةِ . فَقَدْ أَصْبَحْتُمْ فِي مِثْلِ مَا سَأَلَ إِلَيْهِ الرَّجْعَةَ [2427] مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، وَأَنْتُمْ بَنُو سَبِيل ، عَلَى سَفَر مِنْ دَار لَيْسَتْ بِدَارِكُمْ ، وَقَدْ أُوذِنْتُمْ مِنْهَا بِالاِرْتِحَالِ ، وَأُمِرْتُمْ فِيهَا بِالزَّادِ .

وَاعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ لِهذَا الْجِلْدِ الرَّقِيقِ صَبْرٌ عَلَى النَّارِ ، فَارْحَمُوا نُفُوسَكُمْ ، فَإِنَّكُمْ قَدْ جَرَّبْتُمُوهَا فِي مَصَائِبِ الدُّنْيَا .

أَفَرَأَيْتُمْ جَزَعَ أَحَدِكُمْ مِنَ الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ ، وَالْعَثْرَةِ تُدْمِيهِ ، وَالرَّمْضَاءِ تُحْرِقُهُ ؟ فَكَيْفَ إِذَا كَانَ بَيْنَ طَابَقَيْنِ مِنْ نَار ، ضَجِيعَ حَجَر ، وَقَرِينَ شَيْطَان ! أَعَلِمْتُمْ أَنَّ مَالِكاً [2428] إِذَا غَضِبَ عَلَى النَّارِ حَطَمَ بَعْضُهَا بَعْضَاً لِغَضَبِهِ ، وَإِذَا زَجَرَهَا تَوَثَّبَتْ بَيْنَ أَبْوَابِهَا جَزَعاً مِنْ زَجْرَتِهِ !

أَيُّهَا الْيَفَنُ الْكَبِيرُ [2429] ، الَّذِي قَدْ لَهَزَهُ الْقَتِيرُ [2430] ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا الْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الاَْعْنَاقِ ، وَنَشِبَتِ الجَوَامِعُ [2431] حَتَّى أَكَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ . فاللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ ! وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ ، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّيقِ . فَاسْعَوْا فِي فَكَاكِ رِقَابِكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا [2432] . أَسْهِرُوا عُيُونَكُمْ ، وَأَضْمِرُوا بُطُونَكُمْ ، وَاسْتَعْمِلُوا أَقْدَامَكُمْ ، وَأَنْفِقُوا أَمْوَالَكُمْ ، وَخُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَلاَ تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا ، فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)

[2433] وَقَالَ تَعَالَى : «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ)

[2434] فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ ، وَلَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ ; اسْتَنْصَرَكُمْ (وَلَهُ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْض وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

[2435] . وَاسْتَقْرَضَكُمْ (وَلَهُ خَزَائِنُ السِّمَاوَاتِ وَالاَْرْض ، وَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)

[2436] . وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنْ يَبْلُوَكُمْ [2437] أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً . فَبَادِرُوا بِأَعْمَالِكُمْ تَكُونُوا مَعَ جِيرَانِ اللهِ فِي دَارِهِ . رَافَقَ بِهمْ رُسُلَهُ ، وَأَزَارَهُمْ مَـلاَئِكَتَهُ ، وَأَكرَمَ أَسْمَاعَهُمْ أَنْ تَسْمَعَ حَسِيسَ [2438] نَار أَبَداً ، وَصَانَ أَجْسَادَهُمْ أَنْ تَلْقَى لُغُوباً وَنَصَباً [2439] : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ، وَ اللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)

[2440] .

أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ ، وَ اللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى نَفْسِي وَأَنْفُسِكُمْ ، وَهُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الْوَكِيلُ !

ومن كلام له عليه السلام

قاله للبرج بن مسهر الطائي ، وقد قال له بحيث يسمعه : «لاحكم إلا للّه» ، وكان من الخوارج :

اسْكُتْ قَّبَحَكَ اللهُ [2441] يَا أَثْرَمُ [2442] ، فَوَ اللهِ لَقَدْ ظَهَرَ الْحَقُّ فَكُنْتَ فِيهِ ضَئِيلاً [2443] شَخْصُكَ ، خَفِيّاً صَوْتُكَ; حَتَّى إِذَا نَعَرَ [2444] الْبَاطِلُ نَجَمْتَ [2445] نُجُومَ قَرْنِ الْمَاعِزِ .

ومن خطبة له عليه السلام

حمد اللهِ تعالى

الْحَمْدُ لله الِّذِي لاَ تُدْرِكُهُ الشَّوَاهِدُ ، وَلاَ تَحْوِيهِ الْمَشَاهِدُ ، وَلاَ تَرَاهُ النَّوَاظِرُ ، وَلاَ تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ ، الدَّالُّ عَلَى قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ ، وَبِحُدُوثِ خَلْقِهِ عَلَى وَجُودِهِ ، وَبِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أَنْ لاَ شَبَهَ لَهُ . الَّذِي صَدَقَ فِي مِيعَادِهِ ، وَارْتَفَعَ عَنْ ظُلْمِ عِبَادِه ، وَقَامَ بِالْقِسْطِ فِي خَلْقِهِ ، وَعَدَلَ عَلَيْهِمْ فِي حُكْمِهِ . مُسْتَشْهِدٌ بِحُدُوثِ الاَْشْيَاءِ عَلَى أَزَلِيَّتِهِ ، وَبِمَا وَسَمَهَا بِهِ مِنَ الْعَجْزِ عَلَى قُدْرَتِهِ ، وَبِمَا اضْطَرَّهَا إِلَيْهِ مِنَ الْفَنَاءِ عَلَى دَوَامِهِ . وَاحِدٌ لاَ بِعَدَد [2446] ، وَدَائِمٌ لاَ بِأَمَد [2447] ، وَقَائِمٌ لا بِعَمَد . تَتَلَقَّاهُ الاَْذْهَانُ لاَ بِمُشَاعَرَة [2448] ، وَتَشْهَدُ لَهُ الْمَرَائِي [2449] لاَ بِمُحَاضَرَة . لَمْ تُحِطْ بِهِ الاوْهَامُ ، بَلْ تَجَلَّى لَهَا بِهَا ، وَبِهَا امْتَنَعَ مِنْهَا ، وَإِلَيْهَا حَاكَمَهَا . لَيْسَ بِذِي كِبَر امْتَدَّتْ بِهِ النِّهَايَاتُ فَكَبَّرَتْهُ تَجْسِيماً ، وَلاَ بِذِي عِظَم تَنَاهَتْ بِهِ الْغَايَاتُ فَعَظَّمَتْهُ تَجْسِيداً ; بَلْ كَبُرَ شَأْناً ، وَعَظُمَ سُلْطَاناً .

الرسول الاعظم

وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّفِيُّ ، وَأَمِينُهُ الرَّضِيُّ صلى الله عليه وآله أَرْسَلَهُ بِوُجُوبِ الْحُجَجِ ، وَظُهُورِ الْفَلَـجِ [2450] ، وَإِيضَاحِ الْمَنْهَجِ ; فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ صَادِعاً [2451] بِهَا ، وَحَمَلَ عَلَى الَْمحَجَّةِ دالاًّ عَلَيْهَا ، وَأَقَامَ أَعْـلاَمَ الاهْتِدَاءِ ، وَمَنَارَ الضِّيَاءِ ، وَجَعَلَ أَمْرَاسَ [2452] الاِْسْـلاَمِ مَتِينَةً ، وَعُرَا الاِْيمَانِ وَثِيقَةً .

منها في صفه خلق أصناف من الحيوان

وَلَوْ فَكَّرُوا فِي عَظِيمِ الْقُدْرَةِ ، وَجَسِيمِ النِّعْمَةِ ، لَرَجَعُوا إِلَى الطَّرِيقِ ، وَخَافُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ ، وَلكِنِ الْقُلُوبُ عَلِيلَةٌ ، وَالْبَصَائِرُ مَدْخُولَةٌ ! أَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى صَغِيرِ مَا خَلَقَ ، كَيْفَ أَحْكَمَ خَلْقَهُ ، وَأَتْقَنَ تَرْكِيبَهُ ، وَفَلَقَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ ، وَسَوَّى لَهُ الْعَظْمَ وَالْبَشَرَ [2453] ! انْظُرُوا إِلَى الَّنمْلَةِ فِي صِغَرِ جُثَّتِهَا ، وَلَطَافَةِ هَيْئَتِهَا ، لاَ تَكَادُ تُنَالُ بِلَحْظِ الْبَصَرِ ، وَلاَ بِمُسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَى أَرْضِهَا ، وَصُبَّتْ عَلَى رِزْقِهَا ، تَنْقُلُ الْحَبَّةَ إِلَى جُحْرِهَا ; وَتُعِدُّهَا فِي مُسْتَقَرِّهَا . تَجْمَعُ فِي حَرِّهَا لِبَرْدِهَا ، وَفِي وِرْدِهَا لِصَدَرِهَا [2454] ; مَكْفُولَةٌ بِرِزْقِهَا ، مَرْزُوقَةٌ بِوِفْقِهَا [2455] ; لاَ يُغْفِلُهَا الْمَنَّانُ ، وَلاَ يَحْرِمُهَا الدَّيَّانُ ، وَلَوْ فِي الصَّفَا [2456] الْيَابِس ، وَالْحَجَرِ الْجَامِسِ ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِي مَجَارِي أَكْلِهَا ، فِي عُلْوِهَا وَسُفْلِهَا ، وَمَا فِي الْجَوْفِ مِنْ شَرَاسِيفِ [2457] بَطْنِهَا ، وَمَا فِي الرَّأْس مِنْ عَيْنِهَا وَأُذُنِهَا ، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً ، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً ! فَتَعَالَى الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى قَوَائِمِهَا ، وَبَنَاهَا عَلَى دَعَائِمِهَا ! لَمْ يَشْرَكْهُ فِي فِطْرَتِهَا فَاطِرٌ ، وَلَمْ يُعِنْهُ عَلَى خَلْقِهَا قَادِرٌ . وَلَوْ ضَرَبْتَ فِي مَذَاهِبِ فِكْرِكَ لِتَبْلُغَ غَايَاتِهِ ، مَا دَلَّتْكَ الدَّلاَلَةُ إِلاَّ عَلَى أَنَّ فَاطِرَ النَّمْلَةِ هُوَ فَاطِرُ النَّخْلَةِ ، لِدَقِيقِ تَفْصِيلِ كُلِّ شَيْء ، وَغَامِض اخْتِلاَفِ كُلِّ حَيٍّ . وَمَا الْجَلِيلُ وَاللَّطِيفُ ، وَالثَّقِيلُ وَالْخَفِيفُ ، وَالْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ ، فِي خَلْقِهِ إِلاَّ سَوَاءٌ .

خلقة السماء والكون

وَكَذلِكَ السَّمَاءُ وَالْهَوَاءُ ، وَالرِّيَاحُ وَالْمَاءُ . فانْظُرْ إِلَى الشَّمْس وَالْقَمَرِ وَالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ ، وَالْمَاءِ وَالْحَجَرِ ، وَاخْتِلاَفِ هذَا اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَتَفَجُّرِ هذِهِ الْبِحَارِ ، وَكَثْرَةِ هذِهِ الْجِبَالِ ، وَطُولِ هذِهِ الْقِلاَلِ [2458] وَتَفَرُّقِ هذِهِ اللُّغَاتِ ، وَالاَْلْسُنِ الُْمخْتَلِفَاتِ . فَالوَيْلُ لِمَنْ أَنْكَرَ الْمُقَدِّرَ ، وَجَحَدَ الْمُدَبِّرَ ! زَعَمُوا أَنَّهُمْ كَالنَّبَاتِ مَا لَهُمْ زَارِعٌ ، وَلاَ لاِخْتِلاَفِ صُوَرِهِمْ صَانِعٌ ; وَلَمْ يَلْجَؤُوا [2459] إِلَى حُجَّة فِيَما ادَّعَوا ، وَلاَ تَحْقِيق لِمَا أَوْعَوْا [2460] ، وَهَلْ يَكُونُ بِنَاءٌ مِنْ غَيْرِ بَان ؟ أَوْ جِنَايَةٌ مِن غَيْرِ جَان ؟

خلقة الجرادة

وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ فِي الْجَرَادَةِ ، إِذْ خَلَقَ لَهَا عَيْنَيْنِ حَمْرَاوَيْنِ ، وَأَسْرَجَ لَهَا حَدَقَتَيْنِ قَمْرَاوَيْنِ [2461] ، وَجَعَلَ لَهَا السَّمْعَ الْخَفِيَّ ، وَفَتَحَ لَهَا الْفَمَ السَّوِيَّ ، وَجَعَلَ لَهَا الْحِسَّ الْقَوِيَّ ، وَنَابَيْنِ بِهِمَا تَقْرِضُ ، وَمِنْجَلَيْنِ [2462] بِهِمَا تَقْبِضُ . يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِي زَرْعِهمْ ، وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ ذَبَّهَا [2463] ، وَلَوْ أَجْلَبُوا بِجَمْعِهِمْ ، حَتَّى تَرِدَ الْحَرْثَ فِي نَزَوَاتِهَا [2464] ، وَتَقْضِي مِنْهُ شَهَوَاتِهَا . وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً .

فَتَبَارَكَ اللهُ الَّذِي يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالاَْرْض طَوْعاً وَكَرْهاً ، وَيُعَفِّرُ لَهُ خَدّاً وَوَجْهاً ، وَيُلْقِي إِلَيْهِ بِالْطَّاعَةِ )

بالطاعة إليهِ( سِلْماً وَضَعْفاً ، وَيُعْطِي لَهُ الْقِيَادَ رَهْبَةً وَخَوْفاً ! فَالطَّيْرُ مُسَخَّرَةٌ لاَِمْرِهِ ; أَحْصَى عَدَدَ الرِّيش مِنْهَا وَالنَّفَسَ ، وَأَرْسَى قَوَائِمَهَا عَلَى النَّدَى [2465] وَالْيَبَس ; وَقَدَّرَ أَقْوَاتَهَا ، وَأَحْصَى أَجْنَاسَهَا . فَهذَا غُرَابٌ وَهذَا عُقَابٌ .وَهذَا حَمَامٌ وَهذَا نَعَامٌ دَعَا كُلَّ طَائِر بَاسْمِهِ ، وَكَفَلَ لَهُ بِرِزْقِهِ . وَأَنْشَأَ السَّحَابَ الثِّقَالَ فَأَهْطَلَ [2466] دِيَمَهَا [2467] ، وَعَدَّدَ قِسَمَهَا [2468] . فَبَلَّ الاَْرْضَ بَعْدَ جُفُوفِهَا وَأَخْرَجَ نَبْتَهَا بَعْدَ جُدُوبِهَا [2469] .

[2364] قَطَنوا: أقاموا .

[2365] ظَعَنوا: رحلوا .

[2366] أُشرعت: سُدّدت وصُوّبت نحوهم .

[2367] الهامات: الرؤوس .

[2368] استفلَّهم: دعاهم للتفلّل: وهو الانهزام عن الجماعة .

[2369] حَسَبُهُم بخروجهم: كافيهم من الشرّ خروجهم ، والباء زائدة .

[2370] الارتكاس: الانقلاب والانتكاس .

[2371] صدّهم: إعراضهم .

[2372] الجِماح: الجموح وهو أن يغلب الفرس راكبه . والمراد تعاصيهم وغلوّهم وإفراطهم .

[2373] التيه: الضلال .

[2374] المِدْرعة: ثوب يعرف عند بعض العامة بالدراعية ، قميص ضيق الاكمام ، قال في القاموس: ولا يكون إلاّ من صوف .

[2375] الثَفِنَة ـ بكسر بعد فتح ـ: ما يمس الارض من البعير بعد البُروك ويكون فيه غلظ من ملاطمة الارض . وكذلك كان في جبين أمير المؤمنينعليه السلام من كثرة السجود .

[2376] النوامي: جمع نام بمعنى زائد .

[2377] الطَوْل ـ بفتح الطاء وسكون الواو ـ: الفضل .

[2378] خَنَعَ: ذل وخضع .

[2379] يتعاوره: يتداوله ويتبادل عليه .

[2380] موطَّدات: مُثبـّتات في مَداراتها على ثقل أجرامها .

[2381] التلكّؤ: التَوقّف والتباطؤ .

[2382] ادلهمام الظلمة: كثافتها وشدّتها .

[2383] السُجُف ـ بضمتين ـ: جمع سِجاف ـ ككتاب ـ: الستر .

[2384] الجلابيب ـ جمع جِلْبَاب ـ : ثوب واسع تلبسه المرأة فوق ثيابها كأنه مِلْحَفة . ووجه الاستعارة فيها ظاهر .

[2385] الحَنادس: جمع حِنْدِس - بكسر الحاء ـ: الليل المظلم .

[2386] شاع: تفرق.

[2387] الغَسَق: الظلمة ، والداجي: الشديد الظلام .

[2388] الساجي: الساكن .

[2389] المُتَطَأطئات: المنخفضات .

[2390] اليفـاع: التل أو المرتفع مطلقاً من الارض . والسُفْع ـ جمع سَفْعاء ـ السوداء تضرب إلى الحمرة ، والمراد منها الجبال ; عبر عنها بلونها فيما يظهر للنظر على بعد .

[2391] ما يَتَجَلْجَل به الرعد: صوته ، والجَلْجَلَة: صوت الرّعد .

[2392] تَلاشت: اضمحلت ، وأصله من لَشِىء بمعنى خَسّ بعد رفعة . وما يضمحل عنه البرق هو الاشياء التي تُرى عند لمعانه .

[2393] العواصف: الرياح الشديدة ; وإضافتها للانواء من إضافة الشيء لمصاحبه عادةً . والانواء ـ جمع نَوْء ـ: أحد منازل القمر ، يعدّها العرب ثمانية وعشرين يغيب منها عن الافق في كل ثلاث عشرة ليلةً منزلةٌ ويظهر عليه أخرى .

[2394] السماء هنا: المطر .

[2395] الوهم هنا: الفكرة والتوهم .

[2396] «لا يَشْغَلُه سائل»: لاحاطة علمه وقدرته .

[2397] النائل: العطاء .

[2398] الاين: المكان .

[2399] الازواج: هنا القُرَناء والامثال ، أي لا يقال: ذو قرناء ، ولا هو قرين لشيء . ويراد من هذا نفي الاثنينية والتعدد عنه جلّ شأنه .

[2400] «لا يُخْلَقُ بعلاج»: أي أنه لا يشبه المخلوقات في احتياج وجودها إلى معالجة ومزاولة ، لانه بذاته واجب الوجود سبحانه .

[2401] اللَهَوَات ـ جمع لهَاة ـ: اللحمة المشرفة على الحلق في أقصى الفم .

[2402] المتكلف: هو شديد التعرض لما لا يعنيه .

[2403] الحُجُرات: جمع حُجْرة - بضم الحاء ـ: الغرفة .

[2404] المُرْجَحِنّ ـ كالمقشعرّ ـ: المائل لثقله والمتحرك يميناً وشمالاً .

[2405] متولّهة: أي حائرة أو متخوّفة .

[2406] الرياش: اللباس الفاخر .

[2407] الطُعْمة ـ بالضم ـ: المأكلة ، أي ما يؤكل . والمراد الرزق المقسوم .

[2408] جُنّة الحِكْمة: ما يحفظها على صاحبها من الزهد والورع . وأصل الجُنّة الوقاية . ومنه الدّرع والمجنّ . وما يُتّقَى به .

[2409] عَسِيب الذَنَب: أصله .

[2410] الجِران ـ ككتاب ـ: مقدّمُ عُنُق البعير من المذبح إلى المَنْحَر . والبعير أقل ما يكون نفعه عند بروكه . وإلصاق جِرانِهِ بالارض كناية عن الضعف .

[2411] استَوْسَقَتِ الابِل: اجتمعت وانضمّ بعضها إلى بعض .

[2412] الرَنِقُ ـ بكسر النون وفتحها وسكونها ـ: الكَدِر .

[2413] عمار بن ياسر: من السابقين الاولين .

[2414] أبو الهيثم مالك بن التّيهان - بتشديد الياء وكسرها: من أكابر الصحابة .

[2415] ذو الشهادتين: خُزَيْمة بن ثابت الانصاري ، قبل النبيصلى الله عليه وآله وسلم شهادته بشهادة رجلين في قصة مشهورة .

[2416] أُبرِدَ برؤوسهم: أي أُرسلت مع البريد بعد قتلهم إلى الفجرة البغاة للتشفي منهم رضي الله عنهم .

[2417] أوِّهِ: بفتح الهمزة وكسر الواو وتشديدها وكسر الهاء ـ: كلمة توجّع .

[2418] المَنْصبَة ـ كمصطبة ـ: التعب .

[2419] هجَم عليه ـ كنصر ـ: دخل غفلة .

[2420] المُعْتَبَرُ مصدر ميمي: الاعتبار والاتعاظ .

[2421] التصرف هنا: التبدّل .

[2422] المصاحّ جمع مَصِحّة - بكسر الصاد وفتحها ـ بمعنى الصحة والعافية .

[2423] استَحْمَد: أي طلب من خلقه أن يحمدوه .

[2424] ارتهَنَ عليهم أنفسَهم: حبس نفوسهم وجعلها رَهْناً على الوفاء بميثاقهم .

[2425] يقال «فلان بعين فلان» إذا كان بحيث لا يخفى عليه منه شيء .

[2426] يَرْهَقُهُم بالاجل: أي يَغْشاهم بالمنية .

[2427] يريد بالرجعة هنا مايسأله الانسان المذنب من العودة إلى الدنيا ليعمل صالحاً كما قال الله تعالى : ربّ ارجعونِ لعلي أعملُ صالحاً فيما تركت... المؤمنون : 100 .

[2428] مالك: هو الموكّل بالجحيم .

[2429] اليَفَن ـ بالتحريك ـ: الشيخ المسنّ .

[2430] لَهَزَهُ: أي خالطه . والقَتير: الشيب .

[2431] نَشِبَتْ ـ كفرحت ـ: عَلِقَت . والجوامع ـ جمع جامعة ـ: الغُلّ لانها تجمع اليدين إلى العنق .

[2432] غَلِقَ الرهنُ ـ كفرح ـ: استحقّه صاحب الحق ، وذلك إذا لم يكن فكاكه في الوقت المشروط .

[2433] محمّد: 7 .

[2434] الحديد: 11 .

[2435] الفتح: 4 .

[2436] المنافقين: 7 .

[2437] يَبْلوكم: يختبركم .

[2438] الحسِيس: الصوت الخفي .

[2439] لَغِب: كسمع ومنع وكرم ـ لَغَباً ولُغُوباً: أُعيي أشد الاعياء . والنَصَب: التعب أيضاً .

[2440] الحديد: 21 .

[2441] قَبَّحَكَ اللهُ : كسرك ، كما يقال: قبحت الجوزة: كسرتها .

[2442] أثْرَمُ: ساقط الثنيّة من الاسنان .

[2443] الضئيل: النحيف المهزول ، كناية عن الضعف .

[2444] نَعَرَ : أي صاح .

[2445] نَجَمَتْ: ظهرت وبرزت . والتشبيه بقرن الماعز في الظهور على غير شرف ولا شجاعة ولا قدم ، بل على غفلة .

[2446] واحد لا بعدد: أي لا يتكون من أجزاء .

[2447] الامَد: الغاية .

[2448] المُشَاعَرة: انفعال إحدى الحواس بما تحسّه من جهة عُروض شيء منه عليها .

[2449] المَرَائي ـ جمع مِرْآة بالفتح ـ: وهي المنظر ، أي تشهد له مناظر الاشياء لا بحضوره فيها شاخصاً للابصار .

[2450] الفَلَج: الظفر ، وظهوره: علو كلمة الدين .

[2451] صادعاً: جاهراً .

[2452] الامراس: جمع مَرَس بالتحريك وهو جمع مَرَسة - بالتحريك ـ: وهو الحبل .

[2453] البَشَر جمع بَشَرة ، وهي ظاهر الجلد الانساني .

[2454] الصَدَر ـ محرّكاً ـ: الرجوع بعد الورود .

[2455] بِوِفْقِها: بكسر الواو ، أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها .

[2456] الصَفا: الحجر الاملس لا شقوق فيه . والجامس: الجامد .

[2457] الشَرَاسِيف: مَقَاطّ الاضلاع: وهي أطرافها التي تشرف على البطن .

[2458] القِلال ـ جمع قُلّة بالضم ـ وهي رأس الجبل .

[2459] لم يلجؤوا : لم يستندوا .

[2460] أوْعاه: كَوَعاه - بمعنى حفظه .

[2461] قَمْرَاوَيْن: أي مضيئين ، كأن كلا منهما ليلة قمراء أضاءها القمر .

[2462] المِنْجَل ـ كمنبر ـ آلة من حديد معروفة يُقْضَبُ بها الزرع . قالوا: أراد بهما هنا ، رِجْلي الجرادة ، لاعوجاجهما وخُشونتهما .

[2463] ذَبَّها: دفعها .

[2464] نَزَواتها: وثباتها ، نزا عليه: وثَبَ .

[2465] «الندى»: هنا مقابل اليَبَس بالتحريك .

[2466] الهَطْل ـ بالفتح ـ: تتابع المطر والدمع .

[2467] الدِّيَم ـ كالهِمَم ـ جمع دِيمة: مطر يدوم في سكون بلا رعد ولا برق .

[2468] تعديد القِسَم: إحصاء ما قُدّر منها لكل بقعة .

[2469] جُدوب الارض: يَبَسها لاحتجاب المطر عنها .