تُعدّ الكعبة المشرَّفة من أجمل أماكن الحرمين الشريفين وأكثرها جاذبية وقُدسية. وهي في تراثنا الديني قبلة المسلمين في كلّ أقطار الدنيا، وقد ورد في الأخبار أنَّ مجرَّد النظر إليها يكيل للناظر ثواباً جزيلا.
لقد مرّت على البيت العتيق عِبْرَ مختلف مراحل التأريخ حوادث تعرّضت جدران الكعبة خلالها إلى الانهيار في بعض الأحيان. وقد أسهبَ المؤرّخون في نقل أدقّ التفاصيل عن هذه الحوادث المؤسفة وبحث دقائق أُمورها.
في حج العام الماضي (1416هـ )، وبعد انتهاء مراسم الحج الشريفة، بادرت الحكومة السعودية، ودون انذار مُسبق بنصب السّقالة وأحاطت الكعبة الشريفة بجدار خشبي مرتفع ضَمَّ خلاله الكعبة وحجر إسماعيل (عليه السلام)إلاّ الحجر الأسود الذي بقي خارج الجدار الخشبي، مثيرةً بهذا العمل تساؤلات شتّى، وتاركة المعتمرين في حيرة من أمرهم وألم شديد، ذلك أنّهم ما تحمّلوا كلّ تلك المشاق إلاّ من أجل التشرّف بالنظر إلى بيت الله الحرام والتمتّع بكلّ ركن وجانب منه.
وقد أورد بعض المعتمرين ـ مِمّن أُتيحت له الفرصة ودخل الجدار الخشبي إلى داخل الكعبة من خلال باب في الجدار ـ أنّ الحكومة السعودية أزالت السقف الخشبي للكعبة المشرَّفة، وأقامت بالفعل عدّة أعمدة خرسانية، وغطّت أرضية الكعبة كذلك بالاسمنت، وساوته ببوّابة البيت العتيق. ولكي تبقى الباب بمنأىً عن أيّ ضرر أو تلف (حسب ادعاء المسؤولين السعوديين) فقد خُلعت الباب من مكانها، ووُضعت في زاوية بعيدة عن متناول الأيدي. ثمّ بَنَتِ الحكومة المذكورة سقفاً جديداً على الأعمدة الخرسانية التي نصبتها آنفاً، في حين بقي الحائط الخارجي للكعبة من دون أن يطرأ عليه أدنى تغيير. وطالت تعميرات الشاذروان وهو القاعدة السفلية المحيطة بالبيت الشريف، واستُبدلت الأحجار المحيطة بحجر إسماعيل (عليه السلام). هذا وقد تمّ البناء في شهر رجب من عام 1417هـ.
ومن جانب آخر فقد وصلت إليَّ نسخة مخطوطة باسم مرآة الحرمين تأليف أيوب صبري باشا، وبعد إلقاء نظرة على تلك المخطوطة تبيّن لي أنَّ المؤلّف تطرّق فيها إلى تأريخ التعميرات والترميمات التي أُجريت على الكعبة الشريفة، حيث يعرض أوجه الشبه بين أساليب التعمير والبناء في الماضي وما هي عليه في وقتنا الحاضر. ومن جملة ما ذكر، أنَّ فيضاناً عظيماً حدث في زمن الشريف مسعود والي مكة تَسبَّب في تهدّم جزء من جدار الكعبة الشريفة، فأوفدت الدولة العثمانية في حينها مبعوثاً لها يدعى «رضوان آقا» للنظر بما يمكن القيام به من أجل إعادة بناء تلك الجُدران وتعميرها. وبالفعل فقد أُقيم جدارٌ خشبي حول الكعبة المشرَّفة واستُؤنِفَ البناء في الحال.
ويستطرد صبري باشا قائلا: لقد حذا مبعوث الدولة العثمانية لهذا العمل حَذْوَ عبد الله بن الزبير، بمعنى أنّ مبعوث الدولة كان قد اتَّبع الخطوات نفسها التي اتّبعها عبد الله ابن الزبير، واستخدم الأساليب نفسها.
ومن هنا فقد عقدتُ العزم على نشر هذه المعلومات والأخبار التأريخية القيّمة، ووضعها في متناول أيدي قرّاء مجلّة ميقات الحجّ الأعزّاء، وأبدأها بإعطاء نبذة ولو مختصرة عن الكتاب ومؤلّفه ومترجمه:
وُلِدَ أيّوب صبري باشا بن السيد شريف الإسلام بن الحاج أحمد في مدينة (أرمية) إحدى توابع (روم ايلي)1 أو (تساليا) من توابع بني شهر التركية.
وقد استهلَّ حياته الإجتماعية والوظيفية بالإلتحاق بدار صناعة الأسلحة في القوّة البحرية التركية، واعتلى مناصب كثيرة بسرعة حتّى وصل إلى منصب قائد، ثمّ أُوفِدَ إلى الحجاز بما يتناسب ومنصبه الجديد، وقضى فترة لا بأس بها في مكّة والمدينة المنورة، فكانت نتيجة ذلك أن تعرّف على مُجمل تأريخ هذه المنطقة. ومع أنَّ تأريخ وصول صبري باشا إلى الحجاز لم يُعرف بالتحديد، إلاّ أنّه ذكر في مُؤلَّفة (مرآة الحرمين) ما يلي2:
«تشرّف الحقير مؤلف الكتاب بالوصول إلى مكة المكرمة في أواسط شهر شعبان سنة (1289هـ . ق.)3.
وقد سجّل صبري باشا في خلال رحلته تلك الكثير من المعلومات والمذكّرات وكان أحياناً كثيرة يقوم بالبحث والتقصّي شخصياً، فألَّف بعد ذلك كتابه المعروف بـ (مرآة الحرمين). وإذا ما اعتبرنا سنة (1289هـ ) هي السنة التي قام فيها صبري باشا بالسفر لأوّل مرة إلى الحجاز وعلمنا أنَّ سنة (1299) كانت السنة التي ألَّف فيها المذكور كتابه (مرآة الحرمين) لاستنتجنا أنَّ هذا الكتاب القيّم استغرق حوالى عشر سنوات للظهور بمظهره ذاك4.
وقد أُلّف الكتاب المذكور في ثلاثة أجزاء، يضمُّ الجزء الأوّل كتاب (مرآة مكّة)، والجزء الثاني (مرآة المدينة) وأمّا الجزء الثالث فيدعى بـ (مرآة الجزيرة العرب)،وطُبِعت الأجزاء الثلاثة على التوالي سنة (1301) و(1304) و(1306) في مطبعة (سنده) بالقسطنطينيّة ـ اسطنبول ـ بتركية باللغة التركية الاسطنبولية.
ويصف أيوب صبري باشا الهدف من تأليفه كتاب (مرآة الحرمين) قائلا: «حيث إنّه لم يُؤَلَّف لحدّ الآن كتابٌ مستقلٌّ باللغة التركية حول ذلك، وحيث إنّ الروايات التي تداولتها ألسن وأفواه العامّة، كانت مختلفة ومتضادّة; لهذا فإنّ الوصول إلى الحقيقة المطلوبة كان في غاية الصعوبة، ممّا أدّى إلى عدم اطّلاع أبناء البلد بشكل مطلوب على فوائد وفضائل هاتين البلدتين الطيّبتين، وصعوبة الحصول على المعلومات المطلوبة على حدٍّ سواء... لذا فقد عزم العاجز الفاني على توفير تلك المعلومات، ووضعها في متناول أيدي الخاصّة والعامّة من الناس نظراً لإحساسي بفوائدها الجمّة ومنزلتها العالية التي لا يمكن وصفها أو ايجاد نظير لها». وقد أُلـِّف كتاب مرآة الحرمين باللغة التركية في مجلّدين اثنين، وهو يتحدّث بالتفصيل عن الجغرافية العامّة لمكّة والمدينة المنوّرة; تأسيس هاتين المدينتين، الأبنية الإسلامية والتأريخيّة الموجودة فيها، الحوادث والمناسبات التي طرأت على الحرمين الشريفين على مرِّ التأريخ، الفتنة الوهابية وغير ذلك. وقد احتوى المجلّد الأوّل على (434) صفحة بينما احتوى المجلّد الثاني من الكتاب على (294) صفحة حيث زُيّنت صفحته الأُولى والثانية بنقوش ذهبيّة ولاجوردية وخضراء، واحتوت صفحاته الخمس الأُولى على تذهيب ما بين السطور، وكُتبت عناوين صفحاته بالحبر الأحمر محاطةً بإطار أسود اللون مُطَعّم باللونين الأزرق والأحمر كذلك، ثمّ أُحيط الإطار المذكور بإطار خارجي حوله أيضاً5.
وقد اعتمد صبري باشا في تأليفه الكتاب المذكور على عدّة مصادر، أهمّها: أخبار مكّة للأزرقي، أخبار مكّة للفاكهي، التفسير الكبير للفخر الرازي، وتفسير روح البيان، وتفسير أبي السعود، تفسير ابن كثير... وصحيح البخاري، وفتاوى قاضي خان، وخلاصة الوفاء بأخبار مدينة المصطفى، ووفاء الوفا، وتاريخ الخُميس، وتاريخ ابن هشام، والعقد الثمين في فضائل البلد الأمين، وبدائع الزهور في وقائع الدهور، وشفاء الغرام، ونور العين في مشهد الحسين، وقرة العين في أخذ ثأر الحسين والأحكام السلطانية للماوردي، فذلكة الكتاب للچلبي، تدقيقات وتحقيقات الدكتور رائف أفندي، فضائل بيت الله، ذراع الكعبة المشرَّفة، مضبطة سهيلي أفندي، فتوح الحرمين، تاريخ نوح أفندي، روضة الصفا لمحمّد خاوند شاه، التواريخ التركية، وغيرها.
وكتب أيّوب صبري باشا هذا الكتاب باللغة التركية واستفاد من الحكايات والأشعار التركية والعربية والفارسية.
وقد أثنى عليه البعض كعاتق بن غيث البلادي في كتابه: نشر الرياحين في تأريخ البلد الأمين في الجزء الأوّل، الصفحة86. ومحمّد طاهر الكردي صاحب كتاب التأريخ القويم، حيث قال: «والحقّ يقال، إنّه كتابٌ فريد في بابه، وحيد من نوعه... وإنّه لكتاب مشحون بالفوائد والمعلومات التأريخية الوثيقة وحبّذا لو ترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية ثم يطبع وينشر لأنّه كتاب خاصّ بتأريخ الحرمين فقط».
وقد كتب الأديب الكبير «نجيب نادر أفندي» تقريظاً جميلا لكتاب مرآة الحرمين: «طالما طالعت أطايب المطولات، وتفرست في أفخر المفصلات، قصد الوصول لا صدق التفاصيل، متوقياً الوقوع بسقطات الأقاويل، حتّى حان الحين وحلّت الحان، ورق يراع مرآة الحرمين الرنّان، وهتف هاتف التهليل، بسل سبيل السلسبيل وخل الدخيل، وواصل الأصيل، فافترست فرصة التفرس، واسترقت ساعة التجسس، فإذا بذوات الذوابل، ومنهومات النهى وناعمات الأنامل، يحتجبن المحاسن حياء، ويتوارين من أنوار المرآة الوراء، فراعتني يراعتها، وبهرتني براعتها وقلت إنّ هذه:
هذا وإنّ صبري باشا بعد عودته من الحجاز حاز منصب رئاسة المحاسبات في القوة البحرية التركية وبعد أن حصل على رتبة لواء وهي من الرتب العسكرية بدأ بالتدريس في الكليّة البحرية التي تُسمّى «شاهانية» في إسطنبول.
وأخيراً توفي صبري أيوب باشا في 15 من شهر صفر 1308هـ الموافق 30 أيلول 1890 الميلادي في إسطنبول ودفن في مقبرة قاسم باشا.
وقد صمَّم وزير الانطباعات7أيام حكومة ناصر الدين شاه على ترجمة الكتاب المذكور فأعطاه عبد الرسول المنشي (السكرتير) وكان مترجم البلاط آنذاك،وفعلاتمّت ترجمته في سنة (1307هـ ) في دار الترجمة المعروفة بـ (همايوني)، فخرج الكتاب على هيئة قطعة منثورة نثراً جميلا ومسبوكة سبكاً دقيقاً.
وتصدّى محمّد القزويني المعروف بالآشوري العاشر لنسخ الكتاب بالخط النستعليق وتذهيبه بدقّة مزّيناً بالأشكال الجميلة وذلك سنة (1308هـ ) أي قبل ما يزيد على مئة عام.
وكما ذكرنا آنفاً فإنّ لصبري باشا مؤلّفات عدّة، أهمها:
1 ـ تأريخ الوهابيّين: باللغة التركية وقد تمّ طبعه من قبل «منشورات بدر» سنة (1992) باسطنبول.
2 ـ تكملة المناسك.
3 ـ ترجمة الشمائل.
4 ـ عزيز الآثار.
5 ـ رياض الموقنين.
6 ـ محمود السّير.
يُعدّ السلطان مراد خان رابع بن السلطان أحمد خان أحد السلاطين العثمانيّين الباني الحادي عشر لبيت الله الحرام، حيث لم يجز شرعاً8 تجديد بناء البقعة المقدّسة أو طرف منها إلاّ بعد إنهدامها وسقوطها، ولذا فلم يجرأ أحد على تجديد أو تعمير البقعة المقدّسة المباركة منذ أيّام الحجّاج الظالم، وحتى زمن السلطان المشار إليه آنفاً، حتى استوجب تعمير تلك البقعة المقدّسة بعد أن اندرست أركانها الأربعة وآلت إلى السقوط، ممّا حدى بالمسؤولين إلى تعميرها9. وبالنظر إلى المسألة المذكورة لم يتمكّن السلاطين سابقاً من تعمير أو تجديد تلك البقعة الشريفة، حتّى وصل حالها في أيّام السلطان أحمد خان إلى وضع حرج وكادت أن تتهدّم كلّياً، مع أنّ السلطان أحمد خان كان ينوي قبل ذلك تجديد الأبنية الرخوة من البيت الحرام، ولكن لعدم حصوله على مجوّز يسوّغ له ذلك العمل، فقد تمّ تقوية البيت بالأحزمة والمفاصل الحديدية، وتمّ تعمير وترميم أحد الأركان الأربعة على قدر ما أمكن ذلك.
وبالرغم من أنّ الترميمات المذكورة ساعدت على صيانة البيت المعظّم إلى ما يقارب ثماني عشرة سنة ومنعته من الانهدام والسقوط، إلاّ أنّ الأمطار الغزيرة ـ التي رافقها الرعد والبرق والصواعق ـ سالت مياهها من الجبال المحيطة بالبقعة المقدّسة، وتجمّعت مكونةً سيلا كسيل العرم10 فهجم السيل المذكور من أطراف الحرم الأربعة ودخل المسجد الحرام، وكانت شدّته تزداد ساعة بعد أُخرى، وارتفع مقدار ذراعين بمحاذاة مفتاح باب الكعبة الشريفة. وقد تهدّمت المتاجر والبيوت التي كانت في طريق مسير السيل المذكور، ولم تستطع جدرانها من مقاومة قوّة السيل واندفاعه فجرفتها مياه السيل دافعة إيّاها داخل الحرم الشريف، وأحاطت به من كلّ جانب. ولا توجد إحصائية دقيقة حول عدد الأفراد الذين قُتلوا من جرّاء السّيل والذين كانوا في تلك المتاجر والبيوت.
ولمّا كانت حيطان البيت المعظّم عرضة للانهدام والسقوط فقد سقط فعلا في اليوم الثاني من دخول السيل إلى الحرم الشريف (والمصادف لليوم الحادي عشر من شعبان) سقط الركن الشامي والعراقي دفعة واحدة وذلك بعد صلاة العصر من ذلك اليوم. وقد رافق ذلك السقوط والهدم صوت الرعد والبرق ممّا أحدث صوتاً رهيباً أثار في نفوس أهالي مكّة الخوف والهلع ممّا حدى ببعضهم إلى مغادرة منازلهم، وترك وسائلهم داخل تلك البيوت. وقد أثار ذلك الانهدام والسقوط دهشة المكّيين وحيرتهم حتّى انّ البعض منهم وصفَ صورة ذلك اليوم وما حصل فيه بأنّها علامة من علامات يوم القيامة.
هذا وقد هامت النساء والرجال على وجوههم، ولم يعرفوا أيّ بلاء نزل بهم! فافترقت الأُمّ عن ولدها ولم تسأل عنه، وانفصل الابن عن أُمِّه وأبيه ولم يبادر أحد أن يجد من فقد، أو يتعقّبه. وقد ظلّت المياه داخل الحرم الشريف مدّة ثلاثة أيام بعد انقطاع السيل، وتمَّ في اليوم الرابع خروج الماء من داخل الحرم إلى خارجه وذلك بعد انفتاح ممرّ السيل (المسيل). سالكاً الطرق التي سلكها السيل من قبل بينما ظلّت الأحجار والأتربة التي كان السيل قد أتى بها داخل الحرم بارتفاع قامة انسان مكوّنة تلالا صغيرة تُذكّر بما حدث.
وقد عقد الشريف مسعود بن إدريس (أمير مكّة آنئذ) مجلس استشارة داخل الحرم الشريف ضَمَّ جمهور الأشراف وسكان بلد الله الحرام، فانتُزعت قناديل الذهب والفضة، التي كانت معلّقة داخل الحرم الشريف. وكتب محمّد باشا والي مصر تفاصيل الحادثة وسقوط بيت الله الحرام وأرسلها إلى السلطان. ولمّا كان وصول تلك المعلومات إلى دار الخلافة في اسطنبول وإيصالها إلى البلاط العثماني يكلّف وقتاً طويلا، وحيث إنّه لم يكن من اللائق ترك الكعبة المشرَّفة على حالها تلك، فقد كتب (محمّد باشا) إلى مصطفى آقا (أمين جدّة في ذلك الوقت) يأمره بتحضير الآلات والأدوات اللازمة فوراً لتعمير بيت الله الحرام، وكتب في الوقت نفسه إلى الشريف بن مسعود يأمره بتطهير البيت الحرام من الحجارة والطين إلى حين وصول خبر من اسطنبول وأن يطلب من مصطفى آقا كلّ ما يلزمه أو يحتاجه لعمل ذلك.
وقد هيّأ الشريف مسعود بمساعدة مصطفى آقا وعلي بن شمس الدين أفندي (مهندس مكّة المشرَّفة) الأخشاب اللازمة من جدّة، وأحكم بواسطتها حيطان البيت المعظَّم، التي لم تتهدّم بعد ودَعَمَ أطرافه الثلاثة بالسقالة اللازمة. ولغرض حفظ السقف الشريف والحيلولة دون سقوطه، أُقيمت أعمدة من الخشب القوي عن أطرافه الأربعة ثمّ رُبطت تلك الأخشاب بعضها مع بعض وقد غطّت تلك الأخشاب والألواح بيت العزّة إلى سقفه.
وقد شرع في تلك الأعمال يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر رمضان المبارك، وانتهت في الثالث عشر من شهر شوال، حيث استمرّت أربعة عشر يوماً، وتمَّ إكساء بيت الله الحرام بالدَّنيم الأخضر، الذي كان قد هُيّئ من قبل في المدّة التي تمَّ فيها التعمير، وذلك في السابع عشر من شهر شوال. وقد كان تأثير انهدام بيت الله الحرام كبيراً على المسلمين في الأقطار الإسلامية كافة، وقد سيطر عليهم الحزن و الألم ، خاصّة المصريين لقرب المسافة بين بلدهم والبلد الحرام.
وبما أنّ موسم الحج كان قريباً، ولم يكن الجواب ورد بعد من اسطنبول ممّا هَزَّ مشاعرهم وأثَّر في نفوسهم أيما تأثير، ممّا حدى بمحمّد باشا والي مصر إلى احضار رضوان آقا (أحد المقرّبين للحرم الخاص بالسلطان) وأعطاه خلعة وأوكل إليه أمانة أبنية بيت الله الحرام حتّى وصول الأمر السلطاني من اسطنبول; لأنّ موسم الحج كان قد قرب، وأمَرَه بالسفر إلى مكّة المكرّمة فوراً، وتحضير وتهيئة كلّ المستلزمات الضرورية للتعمير، وأخبره بلزوم طلب ما يحتاجونه هناك من مصر والكتابة إليه حول ذلك.
هذا وقد بعث محمّد باشا خلعة أيضاً إلى الشريف مسعود وبرسالة توصية، وأوفد رضوان آقا إلى مكّة المكرّمة.
فلمّا نزل رضوان آقا في إحدى المحلاّت القريبة من مكّة، أرسل رسولا إلى الشريف مسعود وأعلمه بكلّ ما يتعلّق بمأموريّته، والخلعة التي معه فأوفدَ الشريف كذلك أعيان البلاد وأشرافها لاستقبال رضوان آقا. ثمّ انتقل رضوان آقا إلى مكّة بعد أربعة أيام من لقائه بالمبعوثين من مكّة (أي في السادس والعشرين من شوال) ووصل إلى الكعبة المشرَّفة، وأقام في المنزل الذي كان الشريف مسعود هيّأه له من قبل. واجتمع في اليوم التالي (27 من الشهر المذكور) كلّ الأهالي في الحرم الطاهر وذلك لمشاهدة مراسيم إكساء الكعبة الشريفة. وقد اتَّبع الشريف مسعود ورضوان آقا والعلماء وكلّ أعيان المملكة والقوات الحكومية الأُصول والتشريفات الخاصّة بتلك الشعيرة الشريفة، ووقف الجميع عند باب كعبة الله ومقام إبراهيم، وتمَّ تلاوة الأوامر العالية المكتوبة، التي نصَّت على إبقاء أصحاب المناصب في الحجاز على ما هم عليه، واحتوت الكتب كذلك على أوامر أُخرى. ثمّ تمَّ إهداء الخلعة الفاخرة التي أرسلها والي مصر إلى الشريف مسعود الذي أهدى من جانبه خلعاً فاخرة إلى رضوان آقا، وإلى الوفد الذي كان يرافقه حسب درجتهم ومنزلتهم. ثمّ شرع المجتمعون بتلاوة الأدعية الخاصّة بهذه المراسيم تجلّت من خلالها عظمة الإسلام وعزّته، ثمّ تفرّق الجمع بعد ذلك.
وبعد مرور ثلاثة أيام على وصوله إلى مكّة المكرّمة، دعا رضوان آقا إلى تجمّع في داخل الحرم الطاهر يضمّ الشريف مسعود وأعيان المملكة وذلك للنظر في أمر الأحجار والطين والغرين الذي تجمَّع داخل الحرم الشريف، ومداخل المحل المقدّس بسبب السيل الذي حصل من قبل، ثمّ تشاور المجتمعون حول كيفيّة تطهير وتنظيف تلك الأماكن، فأبدى الحضور آراءهم حول ذلك، وتلخّصت في أنّه من العسير القيام بتطهير وتنظيف الحرم الشريف في مدّة قصيرة. ولأنّ الوقت كان يقترب من موسم الحج، وكانت القوافل تتوافد على مكّة المكرّمة من شتّى الأقطار، رفض رضوان آقا كلّ الآراء التي قيلت في ذلك الاجتماع ولم يقبلها. وأرسل رجاله إلى القرى والقصبات الواقعة بين المدينة المنوّرة وجدّة، وأمرهم بجلب كلّ دابة مثل البغال والجمال واعطاء أصحابها ضعف الاجرة التي يحصلون عليها، واغرائهم بالحضور مع حيواناتهم إلى مكّة المكرّمة، فلمّا تمَّ له ذلك بدأ بالعمل بهمّة عالية وقام بتطهير البيت الحرام من الأحجار والطين خلال سبعة وعشرين يوماً وانتهى من ذلك في (19 من ذي القعدة الحرام).
والجدير بالذكر أنَّ مادة الطين والحجارة اللتين جاء بهما السيل إلى داخل الحرم الشريف كانا قد اختلطا وتحجّرا تحت شعاع الشمس مكوّنتين طبقة صلبة في الحرم المذكور، بلغ ارتفاعها حوالى (7 ـ 8) أذرع ممّا تعذّر تكسيرها حتّى بواسطة المعاول الحديدية. فكانوا يصبّون عليها الماء في الليل ليأتوا في اليوم التالي وقد لانت بعض أجزاء تلك الطبقة الجبلية فيعملون على تكسيرها. وكان العمّال يفصلون الرمل عن الحجارة وينقلون كلّ مادة إلى جهة معيّنة ويضعونها على شكل ركام هناك.
وذكر المرحوم سهيلي أفندي في مضبطته، انّه كانت تُنقل تلك الأحجار والطين والرمال وما إلى ذلك على نحو (30 ـ 40) ألف مرّة من الحرم إلى خارجه على الدواب. ولمّا امتلأ مجرى عين زبيدة من كثرة الأحجار والطين ابتلي أهل مكّة بعطش شديد وقلّة مياه الشرب، فقام رضوان آقا أيضاً بإصلاح وتعمير بعض أماكن ذلك المجرى الذي تهدّم فانتهى من هذا العمل والخدمة الجليلة في السادس من ذي الحجّة.