كرامات ومعجزات بيت الله الحرام
لمّا آلت الكعبة الشريفة، تلك البقعة
المقدّسة إلى السقوط، تغيّر طعم ماء زمزم وأصبح مُرّاً لا يُطاق شربُه،
فاجتمع العلماء الأعلام ورجال البلد وقرّروا تطهير وتنظيف البئر المذكورة
قائلين: إنّ أهل الإيمان يحتاجون إلى شرب الماء من زمزم ويتحسّرون على ذلك.
إلاّ أنّ تلك العملية كانت تحتاج إلى مبلغ كبير (30) ألف قرش فى ذلك الوقت،
وصرف مبلغ كهذا كان بالطبع يتطلّب أمراً من السلطان نفسه، ولم يكن رضوان آقا
موكلا بصرف مبلغ يزيد على (5 ـ 6) آلاف قرش، فقد أخبر رضوان آقا الجموع بأنّه
سيرسل بكتاب إلى والي مصر، ويطلب منه الإذن بصرف ذلك المبلغ، ولكي لا تبقى
الأحوال هكذا ويتوقّف العمل إلى حين وصول الجواب قرّر أن يشغل نفسه بعمل ما
غير ذلك. هذا وقد توقّف رضوان آقا عن تطهير بئر زمزم حتّى اشعار آخر. ومن جهة
أُخرى بدأت مرارة بئر زمزم الشريف تتناقص تدريجيّاً منذ البدء ببناء الكعبة
الشريفة، ولمّا انتهت عملية البناء، صار ماء بئر زمزم حلواً بالمرّة، سائغاً
شرابه وبهذا فهو لم يحتج إلى تنظيف ولا تطهير.
هذا وكان رضوان اقا قد كتب إلى والي
مصر في أوائل ذي القعدة، ذاكراً كلّ ما يحتاجه من الأدوات والآلات والألواح
والأخشاب التي يلزم تحضيرها للبناء، وطلب ارسال تلك المواد في أسرع وقت ممكن.
وبمجرّد وصول خطاب رضوان آقا قام والي مصر محمّد باشا بتحضير وتهيئة كلّ تلك
المستلزمات على الفور، وأحضر كذلك بعض النجّارين والحرفيين وأرسلهم جميعاً
نحو الحجاز، فوصلت تلك الأشياء مع أصحابها جدّة في أواخر ذي القعدة وسلّموا
مسودّة تضمّ تلك الأشياء إلى أحمد قبّاني أفندي كاتب المالية في جدّة، وقام
هذا الأخير (وحسب الأمر الذي كان لديه من قبل رضوان اقا) بإرسال تلك الأشياء
إلى مكّة المكرّمة في
قافلتين. وقد وضعت الأشياء التي أُرسلت في القافلة الأُولى في البيوت التي
تعرف بمضارب عبد الرحمن بن عقيق وحُفظت هناك. وأمّا رضوان آقا فكان قد أصلح
ورمَّم الطرق المائية التي كانت تمرّ بوادي خليص، والتي كانت قد تعرّضت
للخراب من جرّاء السيل، وذلك قبل وصول القافلة، ولهذا فقد انقطعت المياه عن
تلك المناطق تماماً. وقد أصلح رضوان آقا المجرى المذكور وعمّره، وبقي أيّاماً
في الوادي المُشار إليه وبيّنَ لعلي بن شمس الدين مهندس مكّة المكرّمة كلّ
الأماكن الخربة التي يتوجّب إصلاحها وتعميرها. فجرت المياه في العين المذكورة
فى التاسع من ربيع الثاني وأُقتيدت تلك المياه إلى مكّة المشرَّفة، وعاد بعد
ذلك إلى مكّة. وكان قد عيّن رجالا لتحضير الحطب والفحم والجص وكلّ المستلزمات
الأُخرى التي يحتاجها بناء وتعمير الأماكن الشريفة، وأعطى كلاّ منهم ما يكفيه
من الأجر إزاء ذلك، ثمّ جمع الأحجار التي كانت قد سقطت من تلك الأبنية، وتمَّ
وضعها في أماكنها المناسبة وأُصلحت وعُمّرت على أكمل وجه وأُعطي النجّارون
والبنّاؤون الأوامر والتعليمات اللازمة حول ذلك. ولمّا كان قد شاع بين
الأهالي أنّ الاحجار الخاصّة بالأبنية ستوضع في أماكنها المناسبة، تردَّدت
أقوال بين الأهالي وكلٌّ عبّر عن ذلك بما ارتآه، فاعترض بعض العلماء ممّن لم
يجيزوا ذلك على هذا العمل وقدّموا احتجاجهم إلى رضوان آقا. وكان من بين
العلماء المعترضين، محمّد علي بن علان مُفتي الشافعية، إذ قال: إنّه ما لم
يصل نائب أو وكيل معيّن من قِبل السلطان لا يمكن الشروع في تلك الأعمال، وعلى
الجميع أن ينتظروا أمر السلطان في كلّ الأحوال، وقد كتب العالم المذكور فتوى
بذلك مصرّحاً برأيه.
فدعى رضوان آقا فقهاء المذاهب الأربعة
للاجتماع في الحرم الشريف، وأخبرهم أنّ البعض قد اعترض على أعمال التعمير في
بيت الله الحرام، وطلب منهم
أن يفتوه في انّه: هل يجوز لمن يرسله البلاط العثماني أن يتولّى مسؤولية تلك
التعميرات أم لا؟
فأجاب العلماء الأعاظم من أهل الفتوى
وكان من بينهم شيخ الإسلام خالد بن أحمد المالكي، وعبد العزيز الزمزمي (مُفتي
الشافعية) وأحمد بن محمّد آقا شمس الدين (مُفتي الحنفيّة) وعبد الله بن أبي
بكر القرشي (مُفتي الحنابلة)، بما يلي: «إنّ هذا العمل فرض كفائي، وكلّ من
أخذ على عاتقه عمل ذلك فله الأجر والثواب». وبعد صدور هذه الفتوى بدأ رضوان
آقا العمل طبقاً لتلك الفتوى، وتهيّأ لإصلاح الأحجار المذكورة وترتيبها. إلاّ
أنّ الشيخ محمّد علي بن علان الذي كان على رأس المعترضين على ذلك كرّر
اعتراضه وشجبه لتلك الأعمال، وحشَّد جمعاً غفيراً من الأهالي وأمرهم بمنع
العمّال والنحّاتين من مواصلة أعمالهم ممّا حدى برضوان آقا إلى استدعاء علماء
المذاهب الأربعة ثانية، وشرح لهم المسألة بالتفصيل وطلب منهم أن يُفتوه بذلك.
فذكر كلّ العلماء الحاضرين جملة: «يجوز كلّ فعل ما دعت إليه ضرورة أو حاجة»
وافتوا بجواز العمل بالتفصيل، واستطاعوا إقناع الحشود المعترضة، وإفهامهم
الأمر على حقيقته، وانّه لابدّ من البدء بالعمل قبل وصول الأمر
العثماني.
وجدير بالذكر أنّ المعترضين لم يكونوا
ليعترضوا على إصلاح الحجارة، أو وضعها في أماكنها المناسبة بل كان اعتراضهم
على غير ذلك كما ورد في كتاب قدّمه المهندسون وأبدوا ملاحظاتهم فيه. وإليك
بعض الأسباب المجبرة التي استند عليها أولئك المعترضون:
السبب الأوّل: أنَّ الأحجار
الساقطة من الأبنية المباركة لم تكن تصلح للاستعمال أبداً، لأنّ الكثير منها
كان قد تعرّض للكسر، فلا يمكن والحال هذه تعمير بيت الله الحرام بتلك
الأحجار، ولذا وجب احضار كميّة كافية من الأحجار من خارج البلاد.
السبب الثاني: مع انّه يمكن
بناء حائط يسند الحائط الذي لم يتهدّم بعد وإلصاقهما بعضهما ببعض، إلاّ أنّه
وبمرور الوقت سيتهدّم الحائط القديم إضافةً إلى وجود جدران قديمة أُخرى آئلة
للسقوط، والتي يتوجّب تهديمها ثمّ بناؤها من جديد وهو ما تفرضه قواعد الفن
المعماري.