الجواب الأوّل: لا يجوز الإتيان بأحجار من الخارج وإصلاح الأحجار المتكسّرة، ويجب استخدام الأحجار الموجودة كما هي، أي انّه يجب تعمير وبناء الحيطان الخاصّة بالأبنية المباركة بالأحجار القديمة الأصليّة لتلك الأبنية.
الجواب الثاني: أنّ تهديم الحيطان التي لم تتهدّم يعدّ عملا سهلا، لكنّ الصعوبة تكمن في أنّ أحجار هذه الحيطان لا يجوز إخراجها عن موضعها بل يجب إبقاؤها وبناء الكعبة الشريفة بها ممّا يشكّل عائقاً في البناء.
ولا يظن أنَّ المعترضين كانوا يطالبون بما قلناه فقط، بل انّهم إضافة إلى ذلك أرادوا أن يتدخلّ البلاط العثماني في تلك العملية حيث إنَّ واقعة تهدّم بيت الله الحرام أمرٌ يتعلّق بالبلاط المذكور، لذا فلا يجوز بدأ العمل بالتعمير والبناء، بل والبت فيه قبل صدور أمر عثماني بذلك، وحتّى إن كان الأمر يتعلّق بتنظيف الحرم الشريف واكساء الكعبة المشرَّفة بردائها الخاص. إضافة إلى ذلك فإنّهم لم يجيزوا تهديم الحائط الواقع بين الركن اليماني والحجر الأسود بأيّ شكل من الأشكال، بينما كانوا يجيزون الجلوس داخل الكعبة، وتدريس كتاب البخاري في عقر تلك الدار المقدّسة ويحلّلونه على الاطلاق. إلاّ أنَّ جميع تلك الادّعاءات وكما رأينا كانت واهية ولا أساس لها من الصحّة، ذلك انّ عدم جلب الأحجار من الخارج لن يؤمّن وصول جدران بيت الله الحرام إلى ارتفاعه الأوّل، وإذا لم يُصلّح ما بقي من الأحجار الأصليّة فإنّه وحسب قواعد الفن المعماري لن تستقر في أماكنها المناسبة، وأنّ إلصاق الجدار المائل بآخر جديد لا يجوز أبداً نظراً لعدم امكانية دوامه وبقائه. وأمّا اعتراضهم على تنظيف الحرم الشريف وتطهيره من الأحجار والطين وما إلى ذلك، فإن كان اعتراضهم هذا بسبب خوفهم من دخول الحيوانات والدواب إلى المسجد الحرام وهتكها لقدسيّة الحرم، فإنّه كذلك غير صحيح; لأنّ تلك الأحجار والطين لا يمكن نقلها خارج الحرم الشريف إلاّ بواسطة تلك الدواب كما فصّلناه أعلاه، وأنّ تلك الحيوانات تقوم بهذه العملية في حوالى (30 ـ 40) ألف مرّة كلّ يوم وهو ما يصعب على الانسان تنفيذه ولو بمصاريف باهظة، وقد تطول مدّة التطهير إلى (5) أو (6) سنوات ممّا سيؤدّي إلى حرمان الحجّاج في تلك الفترة من الطواف وأداء مراسم الحج على النحو المطلوب، ولذا لا يمكن حتّى للجاهل قبول ذلك أو تجويزه، وبما أنّه يجوز إحاطة الكعبة المشرّفة بالجدران الخشبيّة، وتنظيف الأماكن المهمّة وأداء التعظيمات الواجبة، حسب الفتاوى التي ذكرت في آخر هذه المقالة. وبما أنّ تدريس كتاب البخاري في داخل تلك البقعة المقدّسة غير جائز; لذا فإنّ رضوان آقا استند على تلك الفتاوى الصادرة من علماء المذاهب الأربعة وبدأ بالعمل بمقتضى ماخُوَّل إليه.
وقد أطلع محمّد باشا والي مصر كما ذكرنا الباب العالي في اسطنبول على الواقعة المؤلمة لتهدّم بيت الله الحرام، كما أخبره بذلك الشريف مسعود في كتاب مفصّل، فقد أحدثت تلك الرسالة ضجّة كبيرة عند الباب العالي وأوصل الخبر إلى السلطان نفسه فأصدرت الأوامر إلى السيّد محمّد أفندي أنقروي (نقيب الأشراف) مطالبة إيّاه بالإشراف على تنفيذ الأعمال المطلوبة للبقعة المقدّسة وإرجاعها إلى حالتها السابقة، وأصدر أمراً آخر إلى محمّد باشا والي مصر لإرسال ما يستطيع إرساله من أموال الجزية المفروضة على الأقباط المصريين لتأمين احتياجات تلك العملية، وكذلك أمر والي مصر بتعيين شخص متديّن ليكون أمين الأبنية المباركة وإيفاده إلى هناك لمراقبة سير العمل في تلك الأماكن المقدّسة، فأوكل إلى سيّد محمد أفندي (المذكور آنفاً) هذا المنصب وأرسله إلى مكّة المكرّمة وأعلم الشريف مسعود بالأمر السلطاني. فشكلّ محمّد باشا والي مصر مجلساً لتعيين وانتخاب شخص لمنصب أمانة الأبنية والأماكن المقدّسة وذلك حسب الأمر الصادر له من السلطان العثماني، ودعى جميع المسؤولين في الحكومة وأعيان البلاد وخطب فيهم قائلا: لقد أطلعتُ الباب العالي على تهديم بيت الله الحرام وأرسلتُ كتاباً إلى البلاط السلطاني يضمّ كتاب الشريف مسعود حول ذلك، وأمر جلالة السلطان بتعيين سيّد محمّد أفندي أنقروي (قاضي المدينة المنوّرة) للإشراف على التعميرات المطلوبة، وأمرَ جلالته كذلك بتعيين شخص مُتديّن من مصر لأمانة الأبنية المذكورة، وأمر بتأمين مصاريف ذلك من خزينة مصر الشخصيّة. ويتضمّن الأمر السلطاني أيضاً إرسال خلعة إلى الشريف مسعود وأمر بتسليم البيرق السلطاني إلى من يُعَيَّن بمنصب الأمانة المذكورة. وتعلمون بأنّني قد أوفدت قبل هذا رضوان آقا، وقد أرسل رضوان آقا بدوره كتاباً ذكر فيه كلّ ما يحتاجه لتلك الأبنية، وقد عُين محمّد چاوش لمرافقة القافلة التي ستحمل هذه الأشياء إلى الحجاز، فإذا أرتأيتم أنَّ رضوان آقا يليق بهذه المهمّة فلنرسل محمّد چاوش إلى هناك حاملا تلك المستلزمات معه، وإلاّ فاتفقوا على من ترضونه بديلا لرضوان آقا لإتمام هذه المهمّة. وبعد أن تداول المجتمعون وتبادلوا الآراء حول ذلك وتشاوروا فيما بينهم، اتّفق الجميع على أنّ رضوان آقا هو الشخص المناسب واللائق لذلك لما عُرِف عن تديّنه واستقامته وأهليّته في مثل تلك الأمور، وقد تصدّى من قبل لأعمال من هذه وأبرز فيها قدرته ومعرفته، ولكي لا نضيّع وقتاً ثميناً نصرفه في البحث والمداولة، فإنّنا لا نجد أنسب وأجدر منه للقيام بذلك.
فأرسلت العطية التي بعث بها السلطان إلى رضوان آقا وباقي الأشياء اللازمة; لكي يستطيع المشار إليه إتمام جميع الأعمال الخاصّة بالأبنية المقدّسة الموكلة إليه. فنكون قد أدّينا واجبنا تجاه خزينة الدولة من حيث صرفها لتلك الأموال من جهة، وإلى الأماكن المقدّسة في الكعبة الشريفة من جهة أُخرى. وهكذا صادق محمّد باشا والي مصر على مأمورية رضوان آقا، ثمّ كتب رسالة مُفصّلة إلى الشريف مسعود وبعث بها بواسطة مأمور خاص محمِّلا إيّاه الفرقان والخلعة من قِبَل جناب السلطان إلى الشريف المذكور. وكان سيّد محمّد أفندي (في تلك الفترة في مصر) فأُرسل مع الوفد الذاهب إلى مكّة المكرّمة حاملا معه الآلات والأشياء التي كان رضوان آقا قد طلبها من قَبْل. فحُملت تلك المستلزمات إلى جهة قناة السويس، وشُحنت داخل سفينة القبطان هناك وهو محمّد بيك (قبطان السويس) لتُسلَّم بعد ذلك إلى رضوان آقا، وهكذا تحرّكت السفينة متّجهة إلى جدّة.
وصل محمّد بيك إلى ميناء يَنْبُع في اليوم التاسع عشر من شهر ربيع الثاني. فنزل محمد چاوش من على متن السفينة ثمّ امتطى جملا وتوجّه إلى مكّة المكرّمة قاطعاً الصحراء. فلمّا وصل بيّن تجديد مأمورية رضوان آقا قائلا: مع أنَّ سيد محمد أفندي لا يزال في مصر الآن، إلاّ أنّ جميع الأُمور الخاصّة بأبنية البيت المعظّم المباركة قد فُوّضت إلى باشا والي مصر بصورة تامّة، وقد عُمِلَ اللازم ودوّنت الأوامر السلطانية المطلوبة; لكي يتمّ ذلك بالدقّة والعناية المطلوبتين. وقد عيّن محمد باشا رضوان آقا وكيلا عنه لأداء هذه المهمّة الشريفة نيابة عنه. هذا وقد وصل سيد محمد أفندي إلى مكّة المكرّمة بعد فترة وجيزة والتقى رضوان آقا وبحثا مسألة الأبنية المباركة للكعبة الشريفة بالتفصيل. وفي الوقت الذي كان يواصل محمد چاوش رحلته برّاً من ميناء ينبع إلى مكّة المكرّمة، كان محمد بيك يقطع البحر باتّجاه ميناء جدّة فوصلها في الحادي والعشرين من ربيع الثاني، وسَلَّم الأشياء التي كانت بعهدته، كالآلات والألواح واللوازم الأُخرى إلى أحمد قباني أفندي كاتب المالية طبقاً للقائمة المثبّتة عنده لتلك المواد. ولمّا كان أحمد قباني أفندي يعلم أنّ الأبنية الشريفة بحاجة ماسّة إلى تلك الألواح والمواد، فقد هيّأ قافلة خاصّة في تلك الليلة مباشرة، وبعث بها إلى مكّة المكرّمة في الحال، فوصلت القافلة في صباح اليوم الثاني إلى البلدة الطيّبة (مكّة). وما إن وصلت هذه القافلة مكّة توجّه رضوان آقا على التوّ وأحاط الكعبة الشريفة بتلك الألواح. ثمّ وصلت باقي المواد التي كانت في جدّة بعد ذلك بيوم واحد فوضعت في مخزن خاص وحُفظت هناك.
وهكذا سُتِرَتْ الكعبة عن أنظار عشّاقها في الثاني والعشرين من ربيع الثاني بواسطة تلك الألواح احتراماً وتعظيماً لها عن رؤيتها بتلك الحالة. ولمّا كان سيّد محمد أفندي ناظر العمليات حاملا لأمر السلطان، كتب إلى سيد عبد الكريم أفندي وكان أخاً للشريف مسعود، وإلى جميع الأشراف والأعيان والقاضي وشيخ الإسلام في مكّة المكرّمة يدعوهم فيها إلى الاجتماع في داخل الحرم الشريف وذلك في اليوم السابع والعشرين من شهر ربيع الثاني وفي ساعة معيّنة. وفعلا تمّ الإجتماع داخل الحطيم الشريف، وقُرِئَ الأمر السلطاني الذي كان يخاطب الشريف (مسعود) شخصيّاً. ولمّا كان الشريف مسعود مريضاً راقداً في سريره، لم يستطع الحضور إلى ذلك الاجتماع، فأُرسلت الخلعة السلطانية التي بعث بها السلطان إلى دار المشار إليه، ثمّ أُلبِسَ رضوان آقا الخلعة التي أُرسلت إليه أمام الحضور، وأُلبِسَ سيد علي بن إفرع وباقي الخَدَمة هناك خلعاً كذلك حسب ما كان متعارفاً عليه في ذلك الوقت، وبدأ الحاضرون بالدعاء لرفعة الإسلام وشموخه. وأُهدِيَ إلى رضوان آقا كذلك البيرق السلطاني نظراً لخدماته الجليلة. هذا ولأنّ رضوان آقا لم يشأ أن تُناط إليه أعمال غير تلك الأعمال المقدّسة التي خدم فيها الأماكن الشريفة، فقد طلب أن تُناط إليه مأمورية شيخ الحرم (في المدينة المنوّرة) لأنّه كان مولعاً كما ذكرنا بالأعمال الخاصّة بالأماكن المقدّسة. فقُبِلَ طلبه، ووكّلت إليه قصبة جدّة المعمورة ومنصب شيخ الحرم لدار الهجرة. ولما أنهى رضوان آقا مأموريّته على أحسن وجه رجع إلى اسطنبول، ثمّ وُكِّلَ إليه منصب بيكلر بيكي كري كذلك لكنّه لم يقبل ذلك المنصب.
وقد ورد في الرسالة التي بعث بها محمد باشا والي مصر إلى الشريف مسعود: أن الوالي يحثّ الشريف مسعود لبذل كلّ الجهود والمساعي من أجل إتمام عملية البناء والتعمير المذكورتين وأن يستعين بمن شاء لإنهاء ذلك. فَسُرَّ الشريف مسعود بذلك كثيراً، وبعث يشكر الوالي المصري على ايكال تلك المهمّة إليه، وأهدى خلعاً إلى رضوان آقا والوفد المُرافق له. ثمّ انتقل بعد ذلك الشريف مسعود إلى الملكوت الأعلى في السابع والعشرين من ربيع الثاني تاركاً منصبه شاغراً. وقد أدّى رحيل الشريف مسعود إلى إحداث ضجّة بين الأهالي. ممّا حدى برضوان آقا إلى استخدام كلّ طاقاته وملكاته الرفيعة والعمل على نشر الهدوء والأمن في تلك المنطقة، ثمّ أعلن أنَّ كلّ من يسعى إلى نشر الفوضى والإخلال بالأمن هو مهدور الدم. وقد قرأ المنادون هذا الاعلان في الأزقّة والأسواق والمحلاّت على الناس. وأمّا الشريف مسعود فبعد تجهيزه وتكفينه والصلاة على جنازته في الحرم الشريف أُقيمت له مراسيم التشييع ثمّ دُفن في مقبرة المعلاّة، وقد دعى رضوان آقا جميع الأعيان والأشراف في مكّة والقاضي وشيخ الحرم وذوي المقامات والمناصب العليا من الأهالي وغيرهم فحضر الجميع في الحرم الشريف. ثمّ خاطب رضوان آقا السيد الشريف عبد الله ابن حسن (والذي كان في ذلك الوقت مفخرة آل عبد مناف ومُنتخب السادات والأشراف) بقوله: يا سيّدنا، نُعلمكم أنّه بشهادة ومصادقة جميع الحاضرين في هذا الحشد، وكذلك الموجودين في كلّ الأماكن والنواحي، يُناط إليكم المنصب الأميري الجليل والرتبة العال العال للشرف على الأشراف، والذي هو حقكم الصريح والواضح فنرجو منكم أن تلبسوا خلعة الإمارة الفاخرة، وأن تبدأوا بضبط وإحكام أُمور المملكة. وهكذا أُطفئت نار الفتنة والفوضى التي أراد أهل الضلال والفساد تأجيجها.
ومع أنّ سيد عبد الله أفندي كان معارضاً لهذا التكليف الذي وكّله رضوان آقا إلى الشريف عبد الله بن حسن، إلاّ أنّ جميع الحاضرين من الأعيان والأشراف والعلماء الأعلام في مكّة المكرّمة خاطبوا الشريف عبدالله بن حسن قائلين: «إنّ التكليف الذي وُكِّلَ إليكم من قبل رضوان آقا نافعٌ للدين والدولة، ونحن كذلك نطلب منكم قبول هذا المنصب». فلبس الشريف المذكور خلعة خضراء11، وشرع بالقيام بمهام عمله في حفظ الأمن ومنع الفوضى.
لقد أنقذ عمل رضوان آقا البلاد من فتنة كبيرة، وطرد الأوهام التي عشعشت فى أدمغة الأهالي، فشكر له الخلائق عمله ذاك والخدمة الجليلة التي قدّمها للكعبة المشرَّفة، فكانت تلك إحدى خدماته الفرعية في الواقع التي برز فيها كما هو ديدنه.
هذا وقد بقيت الأحجار الساقطة من جدران الكعبة الشريفة داخل الحرم المبارك متناثرة هنا وهناك، فاجتمع الأشراف والأعيان في المملكة وخَدَمة بيت الله الحرام في يوم الجمعة غُرّة جمادى الأُولى في الحرم الطاهر، وجمعوا الأحجار التي كانت موجودة في الحرم، فوُضِعَ قسم منها قرب الركن العراقي تجاه المقام الحنفي، وأقاموا عليها خيمة تحفظها. ثمّ جمع الخَدَمة ما تبقّى من الحجر ووضعوه قرب المدرسة السليمانية، وأُحضِرَ الكثير من أساتذة النحت من خارج البلاد. وكان المرحوم الشريف مسعود قد وضع قناديل الذهب والفضة الخاصّة ببيت الله الحرام قرب محلّة باسقلية. وقد أُخرجت تلك القناديل في اليوم المذكور وضُبطت الواحدة تلوَ الأُخرى وطُوبقت مع سِجلّ خاص بها ثمّ سُلّمت إلى رضوان آقا. فكان من تلك القناديل ثماني عشرة مصنوعة من الذهب وإحدى وثلاثون مصنوعة من الفضة فكان مجموع الكلّ إحدى وخمسين قطعة.
ثمّ اجتمعت الهيئة المذكورة في يوم السبت (الثاني من جمادى الأُولى) ووضعت الأحجار التي كانت في أطراف الركن العراقي تجاه المقام الحنفي، ثمّ رُفعت أحجار المرمر الخاصّة بالمطاف الشريف ووضعت في مكان ما قرب باب السدّة. هذا وبدأ الحجّارون بتسوية وترتيب الحجارة الساقطة من الكعبة الشريفة، وشرع النجّارون كذلك بقطع الأخشاب والألواح اللازمة.
ثمّ خلعت باب خزينة الشموع (وهى عبارة عن نصف سقاية عباس بن عبد المطلب) في الثالث من جمادى الأُولى، وأُخرِجَ الحزام الذي كان قد أرسله السلطان أحمد خان، وأُحْضِرَ جمعٌ من الصاغة بحضور قاضي مكّة وشيخ الحرم وسائر الأعيان في البلاد، وفصلوا الذهب والفضة عن الحزام المذكور، فأخرجوا من صفائح الحديد لذلك الحزام عشرة آلاف درهم من الذهب ومئة وأربعة وعشرين درهماً من الفضة. إلاّ أنَّ ذلك لا يشمل الذهب والفضة التي كانت موجودة في الجدار الذي يتوسّط الركن اليماني والحجر الأسود. فلو حُسِبَ الذهب والفضة الموجودة في حزام هذا الطرف كذلك لوجب إضافة ثلث المقدار المذكور إليها.
وقد أرسل محمد باشا والي مصر قدراً كافياً من الأخشاب والألواح والآلات بالسفينة عن طريق السويس إلى جدّة. وقد تعرّضت السفينة التي كانت تحمل تلك المواد إلى عاصفة هوجاء ممّا أدى في النهاية إلى غرقها في البحر، وقد وصلت أخبار غرقها إلى مكّة المكرمة في يوم الجمعة (15 جمادى الأُولى) ممّا تسبّب في حزن وكآبة الأهالي هناك.
وفي اليوم الثالث والعشرين من الشهر المذكور، بُدِئَ بتهديم جدران الكعبة المشرَّفة بعد أن أُحيط البيت الشريف بسور خشبي، وكان الغرض من ذلك هو منع الأهالي من النظر إلى العُمّال والمشتغلين في البيت الشريف، وهي الطريقة التي استخدمها عبدالله ابن الزبير قبل ذلك حيث أحاط البيت الشريف بستار مانع عندما أراد تهديم الكعبة.
وبينما كان النجّارون مشغولين بإقامة السور حول الكعبة، كان رضوان آقا والشيخ من جهة ورئيس العمّال من جهة أُخرى يتباحثون في اختيار اليوم المناسب لتهديم البقعة المقدّسة. وبعد ساعات من المباحثات قرّر الطرفان أن يكون يوم الأحد يوم تهديم وتخريب البيت العظيم. وفعلا بُوشر العمل بذلك يوم الأحد الرابع والعشرين من الشهر المذكور بحضور الأشراف الكرام والعلماء الأعلام وسائر الأهالي هناك. فأُحيطت جدران الحرم الشريف من الخارج بسور من الألواح الخشبية إلى ارتفاع ستة أذرع، وفتحوا طريقاً يستطيع من خلالها أهل الطواف تقبيل واستلام الحجر الأسود، كما فعل ابن الزبير ذلك من قبل أيضاً. وكان الطّائفون يطوفون حول الكعبة خارج السور الثاني الُمحاط بها. وقد وُضعت سقالة متينة وقوية في أطراف السور الأربعة.
وكان هدف رضوان آقا من بناء تلك السقالة تسهيل ذهاب ومجيء البنّائين، وسهولة تنقّل العمّال الذين كانوا ينقلون الطين والحجر. وبعد انقضاء ستة أو سبعة أيام على تلك الأعمال، استخرج ما تبقّى من الحزام الحديدي الذي كان فوق جدار الحجر الأسود 12 وذلك في غرّة جمادى الآخرة، ثمّ اجتمع في اليوم الثاني من الشهر المذكور الشريف علي بن بركات وسادة البلدة صباحاً في دائرة الحطيم الشريف، ولاحظوا مع رضوان آقا جدران بيت الله الحرام، التي لم تتهدّم بعد مع سقفه. وقد حضر هناك أيضاً معماريو الأبنية الشريفة ومهندسو البلاد عموماً. فعاين المهندسون والمعماريّون الأماكن المذكورة وفحصوها بدقّة وانتظام. فتوصّلوا إلى أنَّ الجدران التي لم تتهدّم وسقف الدار الشريف قد أصابها التهرُّؤ والفساد فخاطبوا الحضور قائلين أنَّ أبنية هذه البقعة الشريفة قد تحرّكت وتزحزحت عن موضعها الأصلي، وها نحن نُخبركم بأنّ لا تتّهمونا بالتقصير والإهمال وإخفاء الحقيقة عنكم، وقد قلنا ذلك من قبل أمام فقهاء المذاهب الأربعة وقاضي أفندي وجميع الأشراف والأعيان في البلدة، وها نحن نكرّر ذلك مرّة أُخرى أنّه لا يجوز تعمير جزء من بيت الله الحرام والاقتصار على ذلك; لأنّ جميع أركان وجدران البيت الشريف آئلة للتهدّم والسقوط في أيّ وقت; لذا فإنَّ تجديد كلّ أجزاء البيت العظيم واجب وحتميّ، وقدموا أدلتهم لإثبات ادّعاءاتهم أمام جميع المسلمين الحاضرين، وقد وافق الحضور على تلك التصريحات، وذلك لإسكات محمد علي بن علاّن الذي كان ضمن العلماء الذين اعترضوا من قبل، ذلك انّ (ابن علاّن) لم يُجز تهديم جدران البيت ما دامت لم تسقط بعد، واستطاع بهذه الفرية خداع مجموعة من الناس وحرّضهم على منع المهندسين والمشتغلين من تهديم الجدران، التي أصابها السيل وتهرّأت بسبب ذلك لمجرّد أنّها لم تسقط فعلا. ممّا حدى برضوان آقا إلى التردّد في المسألة واستفسر من فقهاء المذاهب الأربعة ممّن ملأت شهرتهم الآفاق، فأجاب أُولئك العلماء بفتواهم المشهورة قائلين: «لا بأس بتجديد البناء ما دامت الضرورة تقتضي ذلك بشهادة أهل الخبرة على أن يصرف لذلك من المال الحلال».
وبالاستناد إلى الورقة المختومة للمهندسين والمعماريّين وشهادة أكثر المسلمين، فقد أُزيل الستار المكون من الألواح الخشبية، التي كانت موضوعة بدل الجدران المتهدّمة، ورُفِعتِ الأحجار المتبقية بكلّ احترام وتعظيم، ووضِعَتْ في محل قرب المدرسة الباسطية والذي تمّ تعيينه من قبل.
وبُدئَ في يوم الأربعاء الرابع من جمادى الآخرة بعملية إنزال السقف الشريف، ولم يفارق رضوان آقا في ذلك اليوم المهندسين والمعماريّين، وأنزل كذلك الذي كان فوق السقف المبارك، واللوحة التي كانت مخصّصة لربط الكسوة الشريفة، ووُضِعَتا في خزينة الشموع، وجُمِعَ ما سقط من التراب من السقف الشريف ووضع قرب المطاف.
وفي يوم الجمعة (السادس من جمادى الآخرة) اجتمع الشريف علي ابن بركات والأعيان والعلماء وفقهاء المذاهب الأربعة داخل الحطيم الكريم، وشاهدوا العمارة الجديدة لبيت الله الحرام، وأكّدوا متانةَ وقوّة البناء الجديد. هذا وقد حضر الاجتماع كذلك الشيخ محمد علي بن علاّن الذي كان أحد المعترضين من أهل مكّة. فقام رضوان آقا وخطب بالجموع قائلا: إنَّ بن علاّن لا يرضى على هدم الجدران التي خرّبها السيل، ويُلقي بعض الأحاديث المحرِّضة على العصيان، وإشعال نار الفتنة بهذا الخصوص ممّا تسبّب في إخلال الأمن والفساد بين الناس. فماذا أنتم قائلون؟ فصاح الحضور والفقهاء جميعاً: إنَّ الجدران التي أريتموها إيّانا، وحسب قول المهندسين والمعماريّين يجب أن تهدّم، ويُجَدَّد أساس بيت الله الحرام حيث وصل الأمر إلى درجة الوجوب.
وأنزلت بقية السقف الشريف في يوم السبت السابع من جمادى الآخرة، ووضع قسم منها قرب مدرسة السليمانية، بينما وضع القسم الآخر فوق الأحجار المتراكمة في أطراف بيت الله الحرام.
وكان السبب في وضع الألواح في أماكن متفرّقة هو عدم اصابتها عندما كانوا يُهدّمون الجدار الشريف، وسقوط أحجاره عليها وحمايتها من التلف.
وفي ظهر ذلك اليوم تمّ إنزال الجدار الشريف، أي ما تبقّى من الجدار من جهة بئر زمزم، ثمّ في اليوم التالي (8 جمادى الآخرة) أُنزل الجدار الغربي، أي بقية كعبة الله الشريفة، الذي كان مقابل باب إبراهيم، واللوحة التي كانت موضوعة فوق هذا الجدار، ثمّ هُدِّمَ الجدار اليماني أيضاً وهو بقية الجدار المقابل لباب الصفا.
ولما انتهت عملية هدم الجدار اليماني في (9 جمادى الآخرة) بُدِئَ بتهديم بقية الجدران الأُخرى لبيت الله الحرام وذلك يوم (10 جمادى الآخرة)، ثمّ هدَّموا العتبة العليا لباب الكعبة الشريفة في يوم الجمعة (14 جمادى الآخرة) فجيءَ بالباب العليا لبيت الله نهاراً إلى الموقع الخاصّ الذي فيه الحجّارون الذين كانوا مشغولين بتنظيف وتسوية الأحجار الشريفة، ثمّ خلع وقلع الباب الشريف، ثمّ وُضِعَتْ واقفة في الخلوة التي كانت تقع تحت دار المرحوم ميرزا.
بعد ذلك هُدّمت أحجار الشاذروان لبيت الله الحرام، والركن اليماني والأحجار الأُخرى، التي كانت موضع استلام الطائفين الكرام، ووضع كلّ منها في أماكن مُختلفة. وقد احتوت أحجار الشاذروان على بعض الحلقات الحديدية المكسوّة بالذهب، والتي كانت مُخصّصة لربط الكسوة الشريفة.
وفي يوم الأربعاء (الثامن عشر من جمادى الآخرة) لم يبق حجر في طرف من أطراف جدران الكعبة سوى تلك التي كانت فوق وتحت الحجر الأسود، فأحضرت جميع الآلات والأدوات الخاصة بالحجّارين والنجّارين ووضعت في خزينة المال. وفي يوم الخميس (19 من الشهر المذكور) نُقِلَتِ الأحجار الكبيرة إلى محل قريب من بيت الله الحرام; وذلك للبدء بحفر وتطهير أساس وجدران بيت الله الأربعة، وقد تمّ تعيين ذلك على أساس الأحجار الخضراء اللون الأصلية للبناء الشريف، وأساسه الذي ظهر بعد ذلك وبُديَ بالتجديد عند الجانب الشامي من الكعبة الشريفة فوضِعَ صَفٌّ من الأحجار، وقد وُضِعَ أساس بيت الله في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الآخرة. من الأحجار الأساسية لكعبة الله حتى سقفها حسب الترتيب الذي سار عليه عبدالله بن الزبير. وُضِعَ (25) صفّاً من الحجر، إلاّ أنّ الأحجار التي كانت موجودة على الأحجار خضراء اللون; ولأنّها كانت موجودة تحت شاذروان الكعبة لم تُحْسَب مع تلك الصفوف. وقد عُدّلَتْ الأحواض المائلة في يوم (24) جمادى الآخرة، ثمّ نُقِلَتِ الأحجار التي كانت في الخارج إلى المطاف الشريف.
ثمّ جيءَ بأحجار جديدة من جبل شبيكة في اليوم الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، ووضعت بالقرب من ضريح العارف بالله الشيخ محمود بن إبراهيم أدهم ونُحِتَت هناك، ثمّ حُملت إلى الحرم الشريف في المسجد الحرام من قبل الحمّالين، ثمّ غُسلت تلك الأحجار قرب المقام المالكي، وكانت تُنْقَل بعد ذلك إلى مقربة من جدران كعبة الله.
وفي اليوم السادس والعشرين من جمادى الآخرة شرع بالبناء على الأحجار، التي كانت قد وُضِعت سابقاً وارتفع البناء من الجهات الأربعة الطائفين إلى أرضية المطاف، وقد حضر ذلك اليوم كلّ من شريف مكّة وقضاة الحرمين المحترَمين وشيخ الحرم وجميع العلماء وفقهاء أهل مكّة للتمتّع بذلك المشهد العظيم، فكان كّل أُولئك الرجال الحضور يتشرّفون بحمل الأحجار ونقلها اعتقاداً منهم بأنّهم بهذه الخدمة الجليلة يَنالون منزلة رفيعة. وانشغلوا لمدّة، وبعد ذلك جاءوا إلى الحطيم الكريم وجلسوا هناك.
ولمّا كان رضوان آقا أيضاً معهم، فقد قام بعد مدّة وأخرجَ دفتراً من جَيْبه وقرأَ اسم الشريف عبد الله وقاضي مكّة المكرّمة المعظّمة وشيخ الحرم ونائب ووالي البلدة المباركة وفقهاء المذاهب الأربعة وعشرين شخصاً آخرين كانوا مستخدمين في خدمة البناء، ولكلّ واحد منهم ألبَسَ خلعة وبعد ذلك خَتَموا مجلس البناء.
وفي اليوم الذي بُدِئَ بالعمل في قواعد أساس بيت الله الحرام، قام أحد فضلاء مكّة المكرّمة وألقى قصيدة ارتجالية (رفع الله قواعد البيت) على المدعوّين المشار إليهم كما شُرِحَ. وبعد أن زارَ المدعوّون أساس بيت الله عديم الإندراس، واكتسوا بالخلعة داخل الحطيم الكريم، وجلسوا بمعيّة زوّار آخرين حول بيت الله وتلوا القرآن، عادوا.
وكان رضوان آقا يجمع الحُفّاظ وقرّاء القرآن كلّ يوم داخل المقامات الأربعة، ويبدأون بقراءة القرآن الكريم كلّه، وكان قد عيّن ثلاثة قُرّاء فقهاء يأتون كلّ يوم، ويقومون بقراءة سورة الفتح في الوقت الذي يبدأ العمّال فيه بالبناء. هذا وقد أضاف رضوان آقا باباً إلى المحيط والمكوّن من الألواح وسلَّم، مفتاح تلك الباب إلى شخص عيّنه هو بنفسه، وكان كلّما فُتحت تلك الباب في الصباح كان القرآء الموجودون داخل المقامات الأربعة قد انتهوا من ختم القرآن المجيد، وإذا بُدِئَ العمل في جدران الكعبة، قام الحُفّاظ الموجودون في المقام الحنفي بتلاوة سورة الفتح المباركة. هذا وقد دامت تلك الأُصول والتقاليد حتّى الانتهاء من بناء البقعة المشرَّفة لبيت الله الحرام، إذ كان القرآن يُختم كلّه في يوم واحد وتقرأُ سورة الفتح بعد ذلك. وكانت الأيام (26، 27، 28 من جمادى الآخرة) قد خُصّصت لتحضير الأدوات واللوازم الخاصّة بالأحجار المتعلّقة بالصف الثاني للبناء وترتيبها، ثمّ بُدِئَ بتنضيد الأحجار للصف الثاني في (29) من الشهر المذكور، ثمّ وُضِعَ الحجر المبارك في اليوم الثلاثين من ذلك الشهر في زاوية من الركن اليماني، ثمّ أُذيب مقدار كاف من الرصاص وصُبَّ على المكان المتكسّر له من سائر جهاته فالتأم مع بعضه.
وأثناء وضع الحجر المبارك في محلّه الشريف قام الأمين على مفتاح البيت المبارك بإحضار العطور الخاصّة وعطّر بها الحجر المذكور والأحجار الموجودة عند أطرافه. وبعد أن وضع البنّاؤون الحجر المبارك في محلّه الشريف وأحكموا عليه من كلّ جهاته بدأوا بتنضيد أحجار الصف الثاني للركن الغربي والجدار الشامي، وانتهوا من إتمام ووضع أحجار الصف الثاني لأركان البيت الحرام الأربعة في اليوم التالي، الذي كان الأوّل من شهر رجب المرجّب.
وشرع في (2) رجب بتخمير وتصفية الطين وتحضير أحجار الصف الثالث، ثمّ وضعت العتبة الشريفة لباب الكعبة الطاهرة على الأحجار المرصوفة، ثمّ شرع الصاغة الموجودون بوضع إناء النحاس المخصّص للحجر الأسود في مكانه وثُبِّتَ بالفضة، وأمّا الحجّارون فقد قاموا بوضع ثلاثة ألواح ضخمة داخل بيت الله الحرام وتركيزها هناك بمعونة الحمّالين، وتمَّ نقل مصراعي باب الكعبة المطهّرة إلى الباحة المقدّسة لبيت الله الحرام.
هذا وقد انتهت الأعمال الخاصّة بالكعبة الشريفة في أواخر شهر رمضان المبارك من تلك السنة وتمّت بكلّ دقّة وعناية.
وقد كُتِبَ على لوحة عُلِّقت في أعلى الباب الشريف للكعبة الطاهرة فوق اللون اللاجوردي للباب الذهبية ما يلي:
{إنَّ أوّلَّ بيت وُضِعَ للناس لَلَّذي ببكّةَ مباركاً وهدًى للعالمين * فيه آياتٌ بيِّناتٌ مقام إبراهيم ومَن دخله كان آمناً ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا }13، وكُتبت الأبيات التالية تحت تينك الآيتين الشريفتين: