إذن فما هي النكتة في أن يجعل القانون المعاملة تحت سلطة شخصين أو أكثر أو تحت سلطة شخص واحد ؟ إنّ النكتة والملاك النوعي في جعل القانون معاملة تحت سلطة شخصين أو أزيد هو أن يكون التصرّف منصبّا علي شأنين لا علي شأن واحد ، وبتعبير أوضح : يكون التصرّف ماسّا شأن شخصين أو أكثر ، وحينذاك فبحسب الارتكاز العقلائي والإطلاق المقامي تكون المعاملات التي هي من قبيل البيع والصلح والإجارة من العقود ، فإنّ التصرف فيها ينصبّ علي شأن شخصين : مالك السلعة ومالك الثمن ، فلا يصحّ فيها الاكتفاء بتقوّمها بشخص واحد ، فهذه قاعدة عقلائية جارية في العقود كافّة ، ولا يجب أن يدلّ دليل علي أنّ البيع ـ مثلاً ـ عقد ، بل تكون القاعدة العقلائية حاكمة بذلك بعد قيام الدليل علي صحّة المعاملة .
نعم ، قد تنخرم هذه القاعدة في بعض الموارد ، فنري أنّ المعاملة تمسّ شأن شخصين ومع ذلك حكم القانون بتقوّمها بشخص واحد وجعل ولايتها له وحده من دون أن تكون الولاية لمجموع الشخصين ، وذلك كالطلاق فإنّه معاملة تمسّ شأن كلّ من الزوجين ؛ فإنّ الزوجيّة ثابتة لكل منهما ، وكان مقتضي القاعدة العقلائية المزبورة أن تكون ولاية الطلاق لمجموع الزوجين ، إلاّ أنّه دلّ النصّ علي جعل ولايته للزوج فقط ولا دخل للزوجة في ذلك ، فحينئذٍ تخصّص القاعدة بأمثال هذا المورد ، ونقيّد ذاك الإطلاق المقامي الذي كان يقتضي في المقام ثبوت الولاية لمجموع الشخصين .
وأمّا النكتة في جعل القانون معاملة تحت سلطة شخص واحد هو أن يكون التصرّف فيها ماسّا شأن شخص واحد ولا ينصبّ علي شؤون أشخاص آخرين ، فبعد قيام الدليل علي صحّة معاملة تمسّ شأن شخص واحد لا يفتقر إلي قيام دليل آخر علي كونها إيقاعا ، بل القاعدة العقلائية والإطلاق المقامي يقتضيان ذلك ، من قبيل العتق فإنّه يمسّ شأن شخص واحد وهو المولي المالك دون غيره ، ومن هنا كانت الولاية له فقط ، فبعد قيام الدليل علي صحّة العتق لا يفتقر إلي قيام دليل آخر علي كونه إيقاعا ، بل ذلك ما تقتضيه القاعدة العقلائية المزبورة .
نعم ، قد تنخرم القاعدة أيضا ، فنري في معاملة أنّها تمسّ شأنا واحدا لا أزيد ومع ذلك حكم القانون بأنّها تتقوّم بشخصين وجعل ولايتها لهما دون شخص واحد ، فيكون تخصيصا للقاعدة وتقييدا للإطلاق المقامي .
فالميزان النوعي في كون المعاملة تحت سلطة شخص واحد أن لا تمسّ أكثر من شأن واحد ، والميزان النوعي في كونها تحت سلطة شخصين أو أكثر أنّها تمسّ شأنين أو أكثر من ذلك ، وهذه القاعدة جارية عقلائيا في كلّ مورد .
ومن هنا ـ حيث جعلنا الميزان النوعي في جعل المعاملة تحت سلطان شخص واحد أنّها تمسّ شأنا واحدا ـ وقع الإشكال في جملة من المعاملات التي تعتبر عندهم من العقود رغم أنّها تمسّ شأنا واحدا ، وذلك من قبيل الهبة فإنّها تمسّ شأن الواهب فقط ، وأمّا المتّهِب فليست الهبة تصرّفا ماسّا شأنا من شؤونه ، فينبغي أن تكون إيقاعا والحال أنّهم جعلوها من العقود ، وكذلك المضاربة والمزارعة والمساقاة فإنّها تمسّ شأن المالك فقط ، ولا تقتضي تملّك المالك عمل العامل كالإجارة كي يقال إنّها تمسّ شأن العامل أيضا ، فكان من المفروض أن تعدّ هذه المعاملات من الإيقاعات مع أنّهم عدّوها من جملة العقود .
إلاّ أنّ هذا الإشكال غير صحيح ، وذلك : أمّا بالنسبة للمضاربة والمزارعة والمساقاة فقد بيّنا حقيقتها سابقا ، فإنّ حقيقتها عبارة عن تعيين ما يكون العمل مضمونا به .
وتوضيحه : إنّ عمل الغير للإنسان إذا كان باستدعاء منه فهو مضمون عليه باُجرة المثل ، فلو فرض أنّ زيدا قال لعمرو : احمل متاعي هذا ، فإنّ العمل يكون مضمونا عليه باُجرة المثل ، فإذا أراد الخروج عن هذه القاعدة فلابدّ له من أن يستأجر العامل ، فإذا استأجره فسوف يكون عمله مملوكا له ، وحينذاك فلا تلزمه اُجرة المثل بل تلزمه الاُجرة التي بها استأجر العامل سواء كانت أقلّ من اُجرة المثل أو أكثر ، إذن فمع عدم اتّفاق العامل والمالك يكون العمل مضمونا علي المالك باُجرة المثل ، وليس هذا الضمان مجعولاً معامليّا بل هو ضمان الغرامة ، وحيث إنّ الضمان إنّما شرّع هنا من أجل منفعة العامل فيصحّ اتّفاقهما علي تحديد ما به الضمان من دون إجارة ؛ وذلك بأن يأمره المالك بالعمل ويبيّن له أنّه مستعدّ لأن يضمن عمله بهذا المقدار من المال لا أكثر منه ، فهذا صحيح ولا يكون معاملة بل استدعاءً من العامل وتحديدا لما به الضمان ، فبدلاً من أن تلزمه اُجرة المثل عيّن له مقدارا من المال من دون إجارة ومعاملة ، فيكون قد حدّد ضمانه ، ومن هنا قلنا إنّ الجعالة ليست معاملة بل هي استدعاء من المجعول له العامل وتحديد لما به الضمان ؛ أي تعيين للمقدار الذي يستعدّ المالك ضمانه ولا يكون ضامنا بأكثر منه ، وإنّما يعيّنه لكي لا تلازمه اُجرة المثل بعد ذلك ، ونفس النكتة موجودة في المضاربة والمزارعة والمساقاة ، فإنّ العامل لو عمل من دون تعيين ما به الضمان من قبل المالك فله اُجرة المثل ، وأمّا لو اتّفقا علي شيء به الضمان فمرجعه إلي ما قلناه من الضابط الكلّي ، حيث إنّها تصرّفات تمسّ شأنين : شأن المالك وشأن العامل ، فيلزم أن تكون من جملة العقود لا الإيقاعات ، وعليه فيندفع الإشـكال .
فكون هذه التصرّفات عقودا لا إشكال فيه ؛ فإنّ ذلك ما يقتضيه الميزان النوعي الذي ذكرناه ، فإنّها تمسّ شأنين ؛ لأنّ مرجعها إلي تعيين ما به الضمان كما قلنا ، وهذا يمسّ شأن العامل كما يمسّ شأن المالك .
وأمّا الهبة فهي تصرّف في شأن الواهب ، فإن كان الارتكاز العقلائي يقتضي أن تكون زيادة المال تصرّفا في شؤون الشخص فتكون الهبة عقدا من العقود ؛ لأنّها حينئذٍ تمسّ شأنين : شأن الواهب لأنّه مالك للمال ، وشأن المتّهب لأنّ المفروض أنّ ازدياد مال الإنسان تصرّف يمسّ شأنه ، فزيادة هذا المال الموهوب علي أموال المتّهب يمسّ شأنه فتكون عقدا .
وإن لم يكن الارتكاز العقلائي مقتضيا لأن تكون زيادة مال علي أموال الانسان تصرّفا ماسّا شأنه فتكون الهبة إيقاعا لا عقدا ؛ لأنّها حينذاك تمسّ شأن الواهب فقط .
وأمّا الخصوصية الثالثة : فهي التي بها تكون المعاملة منوطة برضا الغير دون أن يكون طرفا للعقد ؛ بأن يكون دخل الغير في المعاملة بنحو تتوقف المعاملة علي رضاه فقط من دون أن يكون دخله بنحو تتوقف علي إنشائه ، ولابدّ من معرفة الضابط في هذا النحو من الدخل الذي هو في قبال النحو الأوّل من الدخل ، فإنّ النحو الأوّل من الدخل عبارة عن الدخل الإنشائي ، كدخل المتعاقدين في المعاملة فإنّها تتوقف علي إنشائهما ، وهذا النحو من الدخل عبارة عن الدخل الإذني ، فإنّ المعاملة تتوقف علي إذنه لا علي إنشائه ، فلنلاحظ ما هو الضابط لهذا النحو من الدخل ؟ قبل ذلك لابدّ من التمييز بين ما نقصده بالإذن هنا وبين ما يعتبر من الإذن في باب التوكيل ونحوه ، فإنّ الإذن المعتبر هناك ليس إلاّ عبارة اُخري عن الدخل الإنشائي ؛ فإنّ الموكّل للوكيل يأذن في إيجاد المعاملة ، فدخل الموكّل في المعاملة دخل إنشائي غاية الأمر أنّه بتوسّط الوكيل المأذون ، فإنشاء الوكيل في الواقع هو إنشاء موكّله ومعاملته معاملته ، فإذنه إذن إنشائي وضعي ؛ فإنّ إذنه يفيد صحّة المعاملة وإنشائها ، وذلك بخلاف الإذن المقصود هنا ، فإنّ المعتبر منه هنا مايكون من قبيل الإذن التكليفي ؛ بمعني أنّه يأذن الغير في المعاملة بحيث لاتنفذ المعاملة بدونه فهو مبيح للمعاملة ، فالإذن يفيد حكما تكليفيا وهو الإباحة ولا يفيد إنشاءً ، كما في إذن المرتهن ببيع العين المرهونة من قبل الراهن ، فإنّ هذا الإذن معتبر في المعاملة بمعني أنّه مبيح لها ، ولا يفيد إنشاءً ؛ لأنّ المرتهن ليس بمالك للعين المرهونة .
إذن فلنعد إلي السؤال الأوّل : ماهو الضابط لاعتبار إذن الغير في المعاملة وتوقفها علي رضاه ؟ الجــواب : أنّ الضابط أحد أمرين :