البعض الآخر(1).
و لا يخفى أنَّ امتناع التَّرَجُّح من غيرمرجح (كامتناع تحقق الممكن بلا علّة) وامتناع التَّرْجِيح بلا مرجح من باب واحد،و القول بالامتناع في الأول يستلزمالامتناع في الثاني. و ذاك لأن أصل الفعلكما لا يتحقق بلا علة، فكذلك الخصوصيات لاتتحقق إلاَّ معها، فالجائع بالنسبة إلىالرغيفين و الهارب بالنسبة إلى الطريقينكذلك، فكما أنَّ صدور أصل الأكل و الهربيحتاج إلى علّة، لامتناع وجود الممكن بلاسبب، كذلك تخصيص أحد الرغيفين بالأكل وترك الآخر، بما أنَّه أمر وجودي يحتاج إلىعلّة. والقول بأنَّ وجود أصل الفعل يتوقفعلى علّة دون خصوصياته، يرجع إلى القولبوجود الممكن ـ و لو في بعض مراتبه ـ وتحققه بلا علّة. و لأجل ذلك يقول المحققونإنَّ مآل تجويز الترجيح بلا مرجح إلىتجويز التّرَجُّح بلا مرجح. فلازم هذاالجواب أنَّ الخصوصية لا تطلب العلّة، وهذا انخرام للقاعدة العقلية، من حاجةالممكن إلى علّة.
و أمَّا التمثيل برغيفي الجائع و طريقيالهارب، فلا شك أنَّ للفعل و الخصوصيةهناك مرجح و هو أنَّ الإِنسان العادي يجدفي نفسه ميلا إلى جانب اليمين من كل منالرغيف و الطريق، فالميل الطبيعي يكونمرجحاً لانصراف الإِرادة إليه دون طرفاليسار. نعم ربما ينعكس لأجل طوارئ فيالواقعة تلتفت إليها النفس فتختار ما فيجانب اليسار(2).
1- المحاضرات، ج 2، ص 47 ـ 49. و يظهر ذلكالجواب أيضاً من العلاّمة في (نهجالمسترشدين) لاحظ إرشاد الطالبيين ص 266. 2- ثم إنَّ للمحقّق الطوسي في المقامكلاماً و هو: «الوجوب للداعي لا ينافيالقدرة كالواجب». و قد جعله العلاّمةجواباً عن الاستدلال الذي نقلناه عنالأشاعرة. و الظاهر أنَّ هذه العبارةناظرة إلى تحليل دليل آخر للقائلين بالجبرو هو أنَّ القاعدة الفلسفية المسلمة أعني«الفعل ما لم يجب لم يوجد»، تقتضي صدورالفعل عن الإِنسان عن وجوب و اضطرار. و هذالا يجتمع مع القول بالاختيار. فأجاب عنهالمحقق الطوسي بأنَّ الوجوب العرضيللداعي لا ينافي القدرة و الاختيار فالفعلبالنظر إلى قدرة العبد ممكن، و بالنظر إلىداعيه واجب، و ذلك لا يستلزم الجبر. فإنَّكل قادر يجب صدور الأثر منه عند وجودالداعي كالواجب. و أنت تعلم أن هذا الجواب يمكن أن يكونرافعاً للشبهة الثانية أعني وجوب الفعلعند وجوب العلّة، و لا يكون قالعاً لما نحنفيه من الإشكال لأن كلام الأشاعرة مركزعلى أن هذا الداعي يوجد في النفس لا منجانب الإِنسان بل من جانبه سبحانه و معهيكون الفعل واجباً ضرورياً خارجاً عنالاختيار، فالقول بأنَّ الفعل واجببالنظر إلى الداعي و هو لا ينافي القدرة والإِمكان بالنظر إلى نفس الفعل، لا يرتبطبالإِشكال. نعم يمكن أن تكون عبارة المحققجواباً نقضياً عن استدلال الأشاعرة ببيانأن ما ذكرتموه من الدليل في حق الإنسانقائم في حقه سبحانه حرفاً بحرف كما نوّه بهالعلاّمة في (كشف المراد) و أوضحه شارح(المواقف) فلاحظهما. و قد خلط شيخنا المظفرفي تقرير استدلال الأشاعرة، بين الدليلين.فلاحظ (دلائل الصدق)، ج 1، ص 511.