الحدوث دون البقاء، يشبه القول بأنَّ بعضأبعاد الجسم بحاجة إلى العلة دون الأبعادالأخرى. فإنَّ لكل جسم بعدين، بعداًمكانياً و بعداً زمانياً، فامتداد الجسمفي أبعاده الثلاثة، يشكل بعده المكاني.كما أنَّ بقاءه في عمود الزمان يشكل بعدهالزماني. فالجسم باعتبار أبعاضه، ذو أبعادمكانية، و باعتبار استمرار وجوده مدىالساعات و الأيام ذو أبعاد زمانية. فكماأنَّ حاجة الجسم إلى العلّة لا تختص ببعضأجزائه و أبعاضه بل الجسم في كل بعد منالأبعاد المكانية محتاج إلى العلّة، فكذاهو محتاج إليها في جميع أبعاده الزمانية،حدوثاً و بقاء من غير فرق بين آن الحدوث وآن البقاء و الآنات المتتالية. فالتفريقبين الحدوث و البقاء يشبه القول باستغناءالجسم في بعض أبعاضه عن العلّة. فالبعدالزماني و المكاني وجهان لعملة واحدة، وبعدان لشيء واحد فلا يمكن التفكيك بينهما.
و تظهر حقيقة هذا الوجه إذا وقفنا علىأنَّ العالم في ظل الحركة الجوهرية، فيتبدل مستمر، و تغيير دائم نافذين في جوهرالأشياء و طبيعة العالم المادي، فذواتالأشياء في تجدد دائم و اندثار متواصل. والعالم حسب هذه النظرية أشبه بنهر جارتنعكس فيه صورة القمر، فالناظر الساذجيتصور أنَّ هناك صورة منعكسة على الماء وهي باقية ثابتة و الناظر الدقيق على أنَّالصور تتبدل حسب جريان الماء و سيلانه،فهناك صور مستمرة.
و على ضوء هذه النظرية: العالم الماديأشبه بعين نابعة من دون توقف حتى لحظةواحدة. فإذا كان هذا حال العالم المادي،فكيف يصح لعاقل أن يقول: إنَّ العالم و منهالإِنسان إنما يحتاج إلى العلّة في حدوثهدون بقائه، مع أنَّه ليس هنا أي بقاء وثبات بل العالم في حدوث بعد حدوث و زوالبعد زوال، على وجه الإتصال و الإِستمراربحيث يحسبه الساذج بقاءً، و هو في حالالزوال و التبدل و السيلان: (وَ تَرىالجِبالَ تَحْسَبُها جَامِدَةً و هيتَمُرّ مَرَّ السَّحَابِ)(1).
1- سورة النمل: الآية 88. البحث عن الحركةالجوهرية طويل الذيل و قد أشبع الأستاذالكلام فيها في بعض محاضراته. لاحظ كتاب«اللّه خالق الكون» ص 525 ـ 555 تجد فيه بغيتك.