تارة نرى الإنسان يعلم بهذه الحقائق ولكنه لا يؤمن بها.. إن من يتولى غسل الميت لا يخاف منه لأنه متيقن أنه غير قادر على إيذائه، فهو عندما كان على قيد الحياة وكانت الروح تدب في بدنه، كان عاجزاً عن الإيذاء، فكيف به الآن وقد أصبح جثة هامدة لا حراك فيها.. أما أولئك الذين يخافون من الموتى، فهو لأنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة وإنما على علم بها فحسب..
إنهم عالمون بالله ويوم الحساب، ولكنهم غير متيقنين. فالقلب لا علم له بما أدركه العقل. إنهم يعلمون بأن الدليل يقودهم إلى الإيمان بالله والمعاد ويوم القيامة. ولكن هذا البرهان العقلي نفسه من الممكن أن يكون حجاباً على قلوبهم يمنع نور الإيمان من أن يسطع عليها، ولا ينقذهم من ذلك إلا الله سبحانه: {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظمات إلى النور}(45). فالذي وليّه الله ويخرجه من الظلمات، لا يرتكب الذنوب، لا يغتاب، ولا يتهم، ولا يحقد على أخيه المؤمن أو يحسده، ويشعر بالنور يملأ قلبه فلا يعود يقيم وزناً للدنيا وما فيها، ويصبح كما قال أمير المؤمنين (ع): "والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها، على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة، ما فعلت"(46).
إلا أن بعضكم يدوس على كل شيء ويغتاب عظماء الإسلام. فإذا كان الآخرون يغتابون بقال المحلة ويتحدثون ضده، فإن هؤلاء ينسبون التهم لعلماء الإسلام ويهينونهم ويتطاولون عليهم، لأن الإيمان لم يترسخ في النفوس ولم يؤمنوا بجزاء أعمالهم وأفعالهم.
"فالعصمة" ليست غير الإيمان الكامل. إن عصمة الأنبياء والأولياء لا تعني أن جبرئيل ـ مثلاً ـ يأخذ بأيديهم ويرشدهم إلى ما ينبغي فعله. (وبطبيعة الحال لو أن جبرائيل أخذ بيد شمر بن ذي الجوشن على هذا النحو لما ارتكب محرماً أبداً). بل العصمة وليدة الإيمان؛ فإذا آمن الإنسان بالله تعالى ورآه بعين القلب كما يرى الشمس بناظريه، فمن غير الممكن أن يرتكب ذنباً أو معصية. فإذا كنت على رأى ومسمع من رجل قوي مسلح، فإنك تجتنب القيام بما يسوءه. وهكذا الإنسان الذي يعتقد ويتيقن من أنه على مرأى ومسمع من الله تبارك وتعالى وأنه حاضر بين يديه سبحانه دائماً، فإنه لن يتجرأ على ارتكاب ما لا يرضاه الله تعالى.