وَالحَديثُ ذُوشجوُن
لصاحب الفضيلة الشيخ محمد الطناطاوي
الأستاذ في كلية اللغةالعربية
قال قائل منهم: إن هذا الحكم العام الذي أصدره الشاعر في هذا الشطر ليبيح لنا أن نسأل ما شئنا دون أن يكون الاستفهام فينطاق معلومات خاصة يلقيها المدرس وقد تهيأنا لتعرفها بما مهد سابقها المشروح لنا، وأن يردف استفسارنا حتما مع هذا بالإجابة الوافية. فكيف يحال بيننا وبين رغبائناالممنوحة لنا، إذا ما نشدناها فرصة أتيحت؟
لم يولكم الشاعر في شطره الحق في التسآل على غرار ما زعمتم خاطئين، بله إيجاب الجواب؟ حتى تتذرعوا به وتسوقوه حجة لكم.
نعم لو قال جميل: لكل سؤال يا بثين جواب.
لصح لكم ما تدعون، وصدق حدسكم فيما تزعمون، وحق لكم الاستعلام عن كل ما تقترحون، وإن ذك لن يكون.
جميل بن معمر:
لكنجميلا إنما قضى بحكمه الماضي في محادثة عرضت بينه وبين بثينة، تبادلا فيها قولا بقول، واستمراً عذوبة الحديث حتى طالت المحاورة الكلامية كما هي هجيري المتحابين، فلا عنتولا مشقة، ولا ضجر
/ صفحه 202/
ولا تبرم، بل متعة نفسية وغذاء روحي، وربما انصرم الوقت الطويل فلا يشعران به، بل يستطيبان هذه الغفوة من الزمن وقد نامت عنهماالأحداث والمحن، يوضح لكم ذلك الشعر الذي منه الشطر والأسباب التي دعت إليه.
ورد في الأغاني: وكان أول ما علق بثينة أنه أقبل يوما بأبله حتى أوردها واديا يقال لهبغيض، فاضطجع وأرسل أبله مصعدة، وأهل بثينة بذنب الوادي، فأقبلت بثينة وجارية لها واردتين الماء، فمرتا على فصال له بروك فعرمتهن بثينة (نفرتهن) وهي إذ ذاك جويرية صغيرة،فسبها جميل، فافترت عليه، فملح إليه سبابها فقال:
وأول ما قاد المودة بيننا بوادي بغيض يا بثيثين سباب
وقلنا لها قولا فجاءت بمثله لكل كلام يا بثيين جواب (1)
ذلك التلاقي الذي أتيح لهما عرضا كان مبعث هوى جميل العذرى ملك عليه مشاعره طيلة عمره إلى أن قضى نحبه، ولقى ربه.
نعم إنه يجمل أن استطرد إلى حديث جميل عن نفسه قرباحتضاره، مما جعله في مصاف الأعفة المستعصمين، واستمطر الترحم عليه من العائدين. وإن لم يك ذلك الاستطراد في جوهر الرد عليكم ـ في وفيات الأعيان: قال عباس بن سهلالساعدي: بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي، فقال هل لك في جميل ـ فأنه يعتل ـ نعوده. فدخلنا عليه وهو يجود بنفسه، فنظر إلى وقال: يابن سهل ما تقول في رجل لم يشربالخمر قد ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق، يشهد أن لا إله إلا الله، قلت: أظنه قد نجا وأرجو له الجنة، فمن هذا الرجل؛ قال أنا، قلت له: والله ما أحسبك سلمت وأنت تشبب منذعشرين سنة ببثينة، قال: لا نالتني شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا إن كنت
(1) الأغاني أخبارجميل 8: 98 طبع الدار.