في عهد النبوة
لفضيلة الاستاذ الشيخ عبدالمتعال الصعيدي
الأستاذ بكلية اللغة العربية
توجد الآن دعوة لجمع كلمة والمسيحيين حتى يقفوا صفاً واحداً في وجه الشيوعية التي تحاول السيطرة على العالم،وتحارب الأديان جميعا، وفي مقدمتها دين المسيحية ودين الإسلام، لأنهما الدينان القويان اللذان يقفان الآن في وجهها، ويحولان دون اتنشارها في العالم.
وقد ظهرت هذهالدعوة إلى جمع كلمة المسلمين والمسيحيين في أوربا المسيحية أولا، بعد أن نال الإسلام والمسلمين من أذاها ما نالوا، وبعد أن اغتصبت البلاد الإسلامية، وعملت على إضعافالإسلام بكل ما يمكنها من الوسائل، وعاملت أهله بسياسة غادرة لا تعرف معنى للوفاء، حتى كان جزاؤهم عندها على مشاركتهم غنيمة باردة لليهود، وكان عليها أن تحاول قبل هذهالدعوة إصلح سياستها مع المسلمين، لتقدم دليلا إخلاصاً بإخلاص، لأنه نشأ ديناً بريئاَ مسالما لا يضمو عداء لأحد من الناس، ولا لدين من الأديان، ولا سيما دين المسيحيةالتي يعدها أقرب الأديان إليه، وأدنى تسامحاً إلى تسامحه، لأنها لا تخلط بين الدين والجنسية كما تخلط اليهودية مثلا، فلا يكون في طبيعتها شيء من تعصب الجنسية، وتشبه فيهذا إلى حد بعيد دين الإسلام، ولو لا المطامع السياسية لسارتا جنباً إلى جنب
/ صحفة 427 /
من ظهور الإسلام، إلى عصرنا الحاضر، ولسنا نقول هذا جزافا، وإنما نقولهوعندنا من ماضي الإسلام مع المسيحية في عهد النبوة ما يؤيده.
نشأ الإسلام بين دولتين متنافستين: دولة الروم المسيحية بالغرب، ودولة الفُرس المجوسية في الشرق، وكانالفساد متغلغلا فيهما، فوازن بينهما موازنة عادلة في هذا الفساد، ورأى أن دولة الروم أقرب إليه درباً، وأن الطغيان لم يصل في ملوكها إلى دعوى الألوهية، كما وصل في دولةالفرس، حتى إن كسرى بزويز ملك الفرس كتب إلى هرقل ملك الروم حين استولى جيشه على بيت المقدس سنة 614م ما يأتي:
((من كسرى أعظم الآلهة، وسيد العالم كله، إلى هرقل عبده، ألمأقض على الأغريق؟ إنك تقول إنك تثق في إلهك، فلماذا لم يخلص من يدي قيسرية وبيت المقدس والإسكندرية؟ وهل أنا لن أخرب القسطنطنية أيضاً؟ على أني سأغفر كل جميع ذنوبك إذاقدمت لاي ومعك روجتك وأطفالك، سأمنحك الأراضي والكروم وعروش الزيتون، وسأنظر اليك نظر رحمة، لا تغش نفسك بأملك الخائب في ذلك المسيح الذي لم يستطع أن ينفذ نفسه من اليهودالذين قتلوه وصلبوه)).
وكذلك بلغ الفريق بين طبقات الفرس أسوأ ما بلغ اليه في أمة من الامم، حتى إن إسكافياً في عهد كسرى أبو شروان ـ وكان من أعدل ملوكهم ـ أراد أن يأذنبتعليم ابنه الخط والأدب ليكون كاتبا، ولا يبقى في حرفته يرثها عنه، وعرض على وزيره بزرجهر أن يقرضه من المال ما شاء، فعرض بزرجمهر هذا عليه فقال هل: انصرف ورد إلىالإسكافي أحمال الدارهم والدنانير، أما ترى أن ولد المحترف إذا صار كاتبا وأديبا، وعالما وأريبا، صار من الغر لولدنا خادما، ومنه قريبا، فلا يبقى عند أهل الأدب وأربابالحسب والنسب من أهل البيوتات واصحاب المروءات سوى الهم والحزن والحسرة والأسف، وهل يأتي الخير من ولد المحترف؟ إنه إذا علت مرتبته استهان بذوى الألباب، واستعظم لهم فيالثواب رد الجواب، فيستجلب لنا بعد موتنا اللغن والذم فآثر الإسلام حين رأى هذا
/ صحفة 428 /
في دولة الفرس أن يكون ميله مع دولة الروم، فلما انتصروا عليهم في عهدكسرى برويز ذلك الانتصار السابق، وكان هذا في أوائل ظهور الإسلام، حزن المسلمون لذلك وفرح كفار قريش، فنزلت الآيات الأولى من سورة الروم تسلية للمسلمين ((أ لم)) غُلبتِالرومُ في أدنى الأرض هم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم)).
فلما نزلت هذهالآيات قال أبو بكر لكفار قريش: لا أقر الله أعينكم، والله ليظهرون الروم على فارس بعد بضع سنين. فكذبه أُبيُّ بن خلق وقال: أجعل ييننا أجلا أنا حبك عليه (1) فخاطره أبو بكرعلى عشر قلائص من كل واحد منهما، وجعل الأجل ثلاث سنين، ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: البضع ما بين الثلاث إلى التسع، فزايده في الحظر، وماده في الأجل،فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين، وكان أن انتصر الروم على الفرس في هذا الأجل، وجاء الخبر لاي النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ـ سنة (7 هـ ـ 628م) ففرح ومن معه بهذاالنصر.
كل هذا والفرس أمة شرقية مثل أمة العرب، وكان السملمون في ذلك الوقت عربا خلصا، أما الروم فأمة غربية غير شرقية، ولكن الإسلام دين إنساني لا ينظر إلى هذهالحدود، ولا يتأثر بها إلى أن تحيد به عن سنة العدل، كما يتأثر بها رجال السياسة في عصرنا، فيقول قائلهم هذه الكلمة المشهورة ـ الغرب غرب والشرق شرق ولا يلتقيان ـ وتجريسياستهم مع الشرق على هذا الأساس، فللغرب عندهم الحرية والعدل، وللشرق عندهم الاستعباد والظلم، ولا يرون هذا ظلما تحاسبهم ضمائرهم عليه، وإنما هو هندهم العدل كل العدل،حتى أبادوا في هذا إمما من غير أجناسهم، لتخلص لهم بلادهم وخيراتهم، وهم بسبيل إبادة غيرها من الأمم فياويل الأمم الضعيفة منهم. وياقسوة ما يصيبهما إذا جاء موعد إبادتهملها،
(1) أنا حبك بمعنى أراهنك.