باب الحوائج الإمام موسی الکاظم (علیه السلام)

حسین إبراهیم الحاج حسن

نسخه متنی -صفحه : 169/ 123
نمايش فراداده

ب) جباية الأموال

وسبب آخر أثار كوامن الغيظ والحقد في نفس هارون، وهو جباية الأموال، عمد بعض الأشرار بإخباره أن الإمام قد اشترى ضيعة تسمى (اليسيريّة) جمعها (عليه السلام) من الأموال التي تجبى إليه عن طريق الخُمس من كل صعيد فكمن للإمام الشرّ ليوقع به.

وكانت سياسته المكشوفة تجاه العلويين تقضي بفقرهم ووضع الحصار الاقتصادي عليهم، فإن فقرهم أجدى له وأنفع من غناهم ـ كما أوصى ولده المأمون ـ لأن المال كان ولم يزل عنصراً هاماً في سياسة الأشخاص وسياسة الدول، فهو سلاح ذو حدين يستعمل للمصالح الخيرية كما يستعمل للشر عن طريق الجماعة الباغية.

وقد ذهب ابن الصباغ إلى أن هذه الوشاية من جملة الأسباب التي دعت إلى سجن الإمام (عليه السلام).487

6ـ سموّ شخصية الإمام (عليه السلام)

كان الإمام (عليه السلام) كما هو معروف من قبل علماء عصره، من ألمع الشخصيات الإسلامية، فهو إمام معصوم ابن إمام معصوم، وأحد أوصياء الرسول (صلّى الله عليه وآله) على أمته. وقد أجمع المسلمون على اختلاف مذاهبهم على إكبار الإمام وتقديره. فكلهم نهلوا من علومه وأخلاقه، وكلهم تمثلوا بتقواه وورعه وكلهم أحبوه لسخائه وكرمه. حتى أن أعداءه كانوا يحترمونه ويبجلونه، وهارون الرشيد نفسه يبجّله ويعتقد ضميرياً بأن الإمام (عليه السلام) أولى بالخلافة الإسلامية منه، كما حدّث بذلك لابنه المأمون.

فقد قال لندمائه: أتدرون من علّمني التشيّع؟

فانبروا جميعاً قائلين: لا والله ما نعلم.. فقال: علّمني ذلك الرشيد.

فقالوا: كيف ذلك؟ والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت؟!

قال: كان يقتلهم على المُلك لأن المُلك عقيم، ثم أخذ يحدّثهم عن ذلك قائلاً: لقد حججت معه سنة فلما انتهى إلى المدينة قال: لا يدخل عليّ رجل من أهلها أو من المكيّين سواء كانوا من أبناء المهاجرين والأنصار أو من بني هاشم حتى يعرّفني بنسبه وأسرته، فأقبلت إليه الوفود تترى وهي تعرّف الحاجب بأنسابها، فيأذن لها، وكان يمنحها العطاء حسب مكانتها ومنزلتها، وفي ذات يوم أقبل الفضل بن الربيع حاجبه يقول له: رجل على الباب، زعم أنه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

فلما سمع هارون بهذا الاسم الشريف أمر جلساءه بالوقار والهدوء، ثم قال لرئيس تشريفاته: إئذن له، ولا ينزل إلا على بساطي.

وأقبل الإمام (عليه السلام) وقد وصفه المأمون فقال: إنه شيخ أنهكته العبادة، والسجود يكلم وجهه. أما هارون فقام ولم يقبل إلا أن ينزل الإمام عن دابته على بساطه، ونظر إليه بكل إجلال وإعظام فقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيّره في صدر مجلسه والحجّاب وكبار القوم محدقون به. ثم أقبل يسأله عن أحواله ويحدّثه. ثم قال له:

ـ يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟ قال الإمام: يزيدون على الخمسمائة.

ـ أولاد كلهم؟ قال الإمام (عليه السلام): لا، أكثرهم مواليّ وحشمي فأما الأولاد فلي نيّف وثلاثون. ثم بيّن له عدد الذكور والإناث.

ـ لِمَ لا تزوّج النسوة من بني عمومتهن؟ قال الإمام: اليد تقصر عن ذلك.

ـ فما حال الضيعة؟ قال الإمام: تعطي في وقت وتمنع في آخر.

ـ فهل عليك دين؟ قال الإمام (عليه السلام): نعم.

ـ كم؟ قال الإمام (عليه السلام): نحو من عشرة آلاف دينار.

ـ يا ابن العم، أنا أعطيك من المال، ما تزوّج به أولادك، وتعمر به الضياع.

ـ قال الإمام (عليه السلام): وصلتك رحم يابن العم، وشكر الله لك هذه النية الجميلة، والرحم ماسة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبي (صلّى الله عليه وآله) وصنو أبيه، وعم علي بن أبي طالب وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك، وأعلى محتدك.

ـ أفعل ذلك يا أبا الحسن، وكرامة.

فقال له الإمام (عليه السلام): إن الله عزّ وجلّ قد فرض على ولاة العهد أن ينعشوا فقراء الأمة، ويقضوا على الغارمين، ويؤدوا عن المثقل ويكسوا العاري، وأنت أولى من يفعل ذلك.

ـ افعل ذلك يا أبا الحسن.

فانصرف الإمام (عليه السلام) وقام هارون فودّعه وقبّل وجهه وعينيه، ثم التفت إلى أولاده فقال لهم: قوموا بين يدي عمكم وسيدكم، وخذوا بركابه وسووا عليه ثيابه، وشيّعوه إلى منزل، فانطلقوا مع الإمام بخدمته وأسرّ الإمام (عليه السلام) إلى المأمون فبشّره بالخلافة وأوصاه بالإحسان إلى والده، ولما انتهوا من خدمة الإمام (عليه السلام) وإيصاله إلى داره. قال المأمون كنت أجرأ ولد أبي عليه، فلما خلا المجلس قلت له:

(يا أمير المؤمنين، مَن هذا الرجل الذي عظّمته وقمت من مجلسك إليه فاستقبلته وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه ثم أمرتنا بأخذ الركاب له)؟

قال هارون: هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده.

قال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك؟

قال هارون: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام الحق، والله يا بني: إنه لأحق بمقام رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مني ومن الخلق جميعاً، ووالله لو نازعتني أنت هذا الأمر لأخذت الذي فيه عينيك فإن المُلك عقيم.

فيا سبحان الله عرف الحق ونطق به، ثم انحرف عنه حباً بالتملك والسلطان.

اهتم هارون بدنياه ونسي أو تناسى اليوم الآخر، يوم لا ينفع لا مال ولا ولد ولا سلطان!!

بقي هارون في يثرب عدة أيام، ولما أزمع على الرحيل منها أمر للإمام بصلة ضئيلة جداً قدرها مائتا دينار، وأوصى الفضل بن الربيع أن يعتذر له عند الإمام. فانبرى إليه ولده المأمون مستغرباً من قلّة صلته مع كثرة تعظيمه وتقديره الزائد له قائلاً:

(يا أمير المؤمنين تعطي أبناء المهاجرين والأنصار، وسائر قريش وبني هاشم، ومن لا يعرف نسبه خمسة آلاف دينار، وتعطي الإمام موسى بن جعفر وقد عظمته وأجللته مائتي دينار وهي أخس عطية أعطيتها أحداً من الناس)؟ فغضب هارون وصاح على ابنه قائلاً: (اسكت، لا أم لك، فإني لو أعطيت هذا ما ضمنته له ما كنت آمنه أن يضرب وجهي بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم)488.

يتوضح من خلال هذه الرواية وغيرها اعتقاد هارون بإمامة موسى (عليه السلام) وأنه خليفة الله في أرضه، وحجّته على عباده، وأن الخلافة الإسلامية من حقوقه الخاصة، وهو أولى بها منه، لكن الذي حدث عكس ذلك لأن حب الدنيا وزهوة السلطان هو الذي سلبها منه ومن آبائه من قبله. فالمُلك عقيم، كما كشف هارون عن نفسه في حديثه مع ابنه المأمون، السبب الأساسي في حرمانه الإمام الكاظم (عليه السلام) من عطائه حسب منزلته. عقدة الخوف تطارده دائماً، وهي انتفاضة الإمام وخروجه عليه إن تحسنت أحواله الاقتصادية.

وهذا هو الحرب الذي تستعمله الدول المستعمرة مع خصومها اليوم من أجل إنهاكها وإضعافها. لكن الليل سوف يزول مهما تأخر طلوع الصباح.

كان الرشيد يعلم بمكانة الإمام الاجتماعية، وكفاءته العلمية، ومحبّة الناس له، وتقديرهم لمواهبه، وهو نفسه يعتقد أن الإمام وارث علوم الأنبياء، وخليفة الله الحق على عباده، فكان يسأله دائماً عما يجري من الأحداث، والإمام (عليه السلام) لم يبخل عليه بأي جواب.

وقد سأله عن الأمين والمأمون، فأخبره بما يقع بينهما، فحزّ ذلك في نفسه، وتألّم كثيراً.

روى الأصمعي قال: دخلت على الرشيد، وكنت قد غبت عنه بالبصرة حولاً، فسلّمت عليه بالخلافة، فأومأ لي بالجلوس قريباً منه فجلست، ثم نهضت، فأومأ لي ثانية أن أجلس فجلست حتّى خفّ الناس، ثم قال لي: (يا أصمعي ألا تحب أن ترى محمداً وعبد الله ابنيّ؟).

قلت: (بلى يا أمير المؤمنين، إني لأحب ذلك، وما أردت القصد إلا إليهما لأسلّم عليهما).

أمر الرشيد بإحضارهما، فأقبلا حتى وقفا على أبيهما، وسلّما عليه بالخلافة، فأومأ لهما بالجلوس، فجلس محمد عن يمينه، وعبد الله عن يساره ثم أمرني بمطارحتهما الأدب، فكنت لا ألقي عليهما شيئا في فنون الأدب إلا أجابا فيه، وأصابا، فقال الرشيد: كيف ترى أدبهما؟

ـ يا أمير المؤمنين ما رأيت مثلهما في ذكائهما، وجودة فهمهما، أطال الله بقاءهما ورزق الله الأمة من رأفتهما وعطفهما.

فأخذهما الرشيد وضمّهما إلى صدره، وسبقته عبرته فبكى حتى انحدرت دموعه على لحيته، ثم إذن لهما في القيام فنهضا، وقال:

(يا أصمعي كيف فهما إذا ظهر تعاديهما، وبدا تباغضهما، ووقع بأسهما بينهما، حتى تسفك الدماء، ويود كثير من الأحياء أنهما كانا موتى) فبهر الأصمعي من ذلك وقال له:

(يا أمير المؤمنين هذا شيء قضى به المنجّمون عند مولدهما، أو شيء أثرته العلماء في أمرهما!!).

فقال الرشيد بلهجة الواثق بما يقول:

(لا، بل شيء أثرته العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء في أمرهما..).

قال المأمون: كان الرشيد قد سمع جميع ما يجري بيننا من موسى بن جعفر.489

إن علم الرشيد بسموّ منزلة الإمام، وبما تذهب إليه جموع المسلمين من القول بإمامته هو الذي أثار غضبه، وزاد في أحقاده عليه، ممّا دعاه إلى زجّه في السجن أعواماً طويلة.

كان الحقد على العلويين عامة والإمام موسى (عليه السلام) خاصة من مقومات ذات الرشيد، ومن أبرز صفاته النفسية، وكان يحمل حقداً لكل شخصية مرموقة لها المكانة العليا في مجتمعه، ولم يرق له بأي حال أن يسمع الناس يتحدّثون عن أي شخص يتمتع بمكانة عليا، محاولاً احتكار الذكر الحسن لنفسه ولذاته؛ لكن الليل لا يستطيع منع الفجر من الطلوع، فالفجر يطلع والشمس تسطع بنورها الكاشف، والجمهور يميّز بين الظلام والنور.

7ـ صلابة موقف الإمام (عليه السلام)

كان صلحاء الأمة يقاومون الظلم في كل عهوده وفي كل ألوانه، لأن ذلك واجب شرعي أوصى عليه الله عزّ وجلّ في كتابه، وأوصى عليه الرسول (صلّى الله عليه وآله) في أحاديثه الشريفة، وقاومه الأئمة (عليهم السلام) كل واحد منهم حسب الظرف المناسب له. قال تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)490.

والإمام موسى الكاظم ابن أبيه وأجداده (عليهم السلام) كان موقفه مع هارون الرشيد الطاغية الظالم موقفاً سلبياً، تمثلت فيه صلابة الحق وصرامة العدل.

فقد حرّم على شيعته التعاون مع السلطة الحاكمة بأي وجه من الوجوه.

من ذلك ما قاله لصاحبه صفوان وكان صاحب جمال يكريها لهارون أيام حج بيت الله الحرام، افهمه أن التعامل مع الظالمين حرام، فاضطرّ صفوان لبيع جماله، فعرف هارون، ممّا دفعه إلى الحقد على صفوان وهمّ بقتله.

وكذلك منع الإمام (عليه السلام) زياد بن أبي سلمة من وظيفته في بلاد هارون عملاً بقول الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله)، عن أبيه الصادق عن أبيه، عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال: (قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله): من أرضى سلطاناً بسخط الله خرج من دين الله)491.

لقد شاعت في الأوساط الإسلامية فتوى الإمام الكاظم بحرمة الولاية من قبل هارون الطاغية وأضرابه من الحكام الظالمين، فأوغر ذلك قلب هارون وساءه إلى أبعد الحدود، فترقّب له ساعة الوقوع به.

ونوجز القول: إن موقف الإمام مع هارون كان موقفاً صريحاً واضحاً، لم يصانع ولم يتسامح معه على الإطلاق.

فقد دخل عليه في بعض قصوره الأنيقة والفريدة في جمالها في بغداد، فانبرى إليه هارون وقد أسكرته نشوة الحكم قائلاً:

ما هذه الدار؟ فأجابه الإمام (عليه السلام) غير مكترث بسلطانه وجبروته قائلاً: (هذه دار الفاسقين) قال الله تعالى في كتابه العزيز:

(سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لاَ يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ)492.

لما سمع هارون هذا الكلام سرت الرعدة في جسمه، وامتلأ قلبه غيظاً فقال للإمام: دار من هي؟

ـ هي لشيعتنا فترة، ولغيرهم فتنة.

ذلك أن المؤمن كل ما يملك هو وكيل عليه يملكه فترة ويتركه لغيره هو زاهد في الدنيا، والشيعة هم كذلك وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لقب بـ(أبي تراب) وخاطب الدنيا قائلاً: (فقد طلّقتك ثلاثاً فلا رجعة لك عندي).

ـ ثم سأله هارون: ما بال صاحب الدار لا يأخذها؟

ـ أجابه الإمام: أخذت منه عامرة، ولا يأخذها إلا معمورة.

ـ أين شيعتك؟

ـ فتلا الإمام قول الله عزّ وجلّ: (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)493.

فثار هارون ثورة عارمة وقال بصوت يقطر غضباً:

ـ أنحن كفار؟

ـ لا، ولكن كما قال الله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)494.

فغضب هارون وأغلظ على الإمام (عليه السلام) في كلامه.495

من الواضح والمعروف مسبقاً أن موقف الإمام (عليه السلام) مع هارون موقف واضح وصريح لا يقبل الرد ولا يقبل المهادنة، لأنّ هارون مغتصب لمنصب الخلافة التي هي من حق علي بن أبي طالب والأئمة المعصومين من بعده. فالعباسيون اختلسوا السلطة، وخانوا الأمانة والعهد لقد استلموا السلطة باسم العلويين، وتبنّوا شعارهم، ولما جلسوا على كرسي الحكم خانوا العهد، واشتروا به وبأيمانهم ثمناً قليلاً.

قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)496.

هذه هي أهم الأسباب التي دعت هارون الرشيد إلى اعتقال الإمام (عليه السلام).

وأيضا: قال الفضل بن الربيع: حج هارون الرشيد وابتدأ بالطواف، ومنعت العامة من ذلك لينفرد وحده، فبينما هو في ذلك إذ ابتدر أعرابي وجعل يطوف معه.

فقال الحاجب: تنح يا هذا عن وجه الخليفة: فانتهره الأعرابي وقال: إن الله يساوي بين الناس في هذا الموضع فقال: (سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)497.

فأمر الحاجب بالكف عنه.

ولما فرغ الأعرابي من صلاته استدعاه الحاجب وقال له: أجب أمير المؤمنين.

فقال الأعرابي: ما لي إليه حاجة فأقوم إليه، بل إن كانت الحاجة له فهو بالقيام إليّ أولى. قال: صدق.

فمشى إليه هارون وسلم عليه، فرد عليه السلام، فقال هارون: اجلس يا أعرابي؟ فقال الأعرابي:

ما الموضع لي فتستأذني فيه بالجلوس، وإنما هو بيت الله نصبه لعباده، فإن أحببت فاجلس، وإن أحببت أن تنصرف فانصرف.

فجلس هارون وقال: ويحك يا أعرابي مثلك من يزاحم الملوك؟!

قال: نعم، وفي مستمع. قال هارون: فإني سائلك، فإن عجزت آذيتك.

قال الأعرابي: سؤالك هذا سؤال متعلم، أو سؤال متعنّت؟

قال هارون: بل سؤال متعلّم.

قال الأعرابي: اجلس مكان السائل من المسؤول وسل، وأنت مسؤول.

فقال هارون: ما فرضك؟

قال الأعرابي: إن الفرض رحمك الله واحد، وخمس، وسبع عشرة، وأربع وثلاثون، وأربع وتسعون، ومائة ثلاث وخمسون على سبع عشرة، ومن إثنى عشر واحد، ومن أربعين واحد، ومن مائتين خمس، ومن الدهر كله واحد، وواحد بواحد.

فضحك الرشيد وقال: ويحك أسألك عن فرضك وأنت تعد علي الحساب؟!

قال الأعرابي: أما علمت أن الدين كله حساب، ولو لم يكن الدين كله حساب لما اتخذ الله الخلائق حسابا، ثم قرأ: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)498.

قال هارون: فبين لي ما قلت وإلا أمرت بقتلك بين الصفا والمروة؟ فقال الحاجب: تهبه لله ولهذا المقام.

فضحك الأعرابي من قوله. فقال هارون: ممّا تضحك يا أعرابي؟

قال: تعجّباً منكما، إذ لا أدري من الأجهل منكما، الذي يستوهب أجلاً قد حضر، أو الذي استعجل أجلاً لم يحضر؟

فقال هارون: فسر لنا ما قلت.

قال الأعرابي: أما قولي الفرض واحد فدين الإسلام كله واحد، وعليه خمس صلوات، وهي سبعة عشر ركعة، وأربع وثلاثون سجدة، وأربع وتسعون تكبيرة، ومائة وثلاث وخمسون تسبيحة، وأما قولي من اثني عشر واحد: فشهر رمضان من إثني عشر شهر، وأما قولي من الأربعين واحد: فمن ملك أربعين ديناراً أوجب الله عليه ديناراً، وأما قولي من مائتي خمسة: فمن ملك مائتي درهم أوجب الله عليه خمسة دراهم.

وأما قولي فمن الدهر كله واحد: فحجة الإسلام، وأما قولي واحد بواحد: فمن أهرق دماً من غير حق، وجب إهراق دمه، قال الله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ...)499.

فقال الرشيد: لله درك، وأعطاه بدرة.

فقال الأعرابي: فبم استوجبت منك هذه البدرة يا هارون، بالكلام أم بالمسألة؟

قال هارون: بالكلام.

قال الأعرابي: فإني أسألك عن مسألة، فإن أتيت بها كانت البدرة لك، تصدّ ق بها في هذا الموضع الشريف، وإن لم تجبني عنها أضفت إلى البدرة بدرة أخرى لأتصدق بها على فقراء الحي من قومي.

فأمر هارون بإيراد أخرى وقال: سل عما بدا لك.

فقال الأعرابي: أخبرني عن الخنفساء تزق أم ترضع ولدها؟

فغضب هارون وقال: ويحك من يسأل عن هذه المسألة؟!

فقال الأعرابي: سمعت ممن سمع من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يقول:

من ولي أقواماً وهب له من العقل كعقولهم، وأنت إمام هذه الأمة يجب أن لا تسأل عن شيء من أمر دينك ومن الفرائض، إلا أجبت عنها، فهل عندك جواب؟

قال هارون: رحمك الله لا، فبين لي ما قلته وخذ البدرتين.

فقال الأعرابي: إن الله تعالى لما خلق الأرض خلق ديابات الأرض التي من غير فرث ولا دم، خلقها من التراب، وجعل رزقها وعيشها منه، فإذا فارق الجنين أمه لم تزقه ولم ترضعه وكان عيشها من التراب. فقال هارون: والله ما ابتلي أحد بمثل هذه المسألة، وأخذ الأعرابي البدرتين وخرج، فتبعه الناس وسألوا عن اسمه، فإذا هو موسى بن جعفر (عليه السلام)، فأخبر هارون بذلك فقال:

والله لقد كان ينبغي أن تكون هذه الورقة من تلك الشجرة.

ولكن هل سمح لهذه الشجرة أن تنمو وتعطي وتثمر ثمراً طيباً يتغذى منه جميع الناس؟!

لم يكتف الحكام العباسيون بتقمصهم الخلافة، مستأثرين بها على أهل البيت (عليهم السلام)، حتى أخذوا يتبعونهم سجناً وقتلاً وتشريداً. أهل العلم والحكمة والأخلاق باتوا قابعين في بيوتهم ليس لهم الأمر ولا نهي! رحمك الله يا أبا فراس حيث تقول:


  • بنو علي رعايا في ديارهم والأمر تملكه النسوان والخدم!

  • والأمر تملكه النسوان والخدم! والأمر تملكه النسوان والخدم!

لم يعبأ الأئمة (عليهم السلام) بهذه الشدة والظلامة التي قوبلوا بها، بل استمروا على تبليغ رسالتهم في إعلاء كلمة الله، ونشر المفاهيم الإسلامية، ومحاربة التيارات الفكرية الفاسدة والملحدة، فقد نوّروا الدنيا بعلومهم ومعارفهم من أجل رفع راية الإسلام في العالم. ولا عجب إن كانوا كذلك، فهم أحق من غيرهم، لا بل هم المكلفون بعد الرسول الأكرم (صلّى الله عليه وآله) بالمحافظة على السنن والشرائع المحمدية ونشر الإسلام إسلام المحبة والعدالة والحرية والأخلاق.