تفسیر جزء عم

مساعد بن سلیمان بن ناصر الطیار

نسخه متنی -صفحه : 83/ 35
نمايش فراداده

فيها أحقابا} [النبأ : 23] ، ثم قال : " ولا معنى لهذا القول ؛ لأن قوله : {لابثين فيها أحقابا} [النبأ : 23] خبر ، والأخبار لا يكون فيها نسخ ، وإنما النسخ في الأمر والنهي " . ولو حُمل كلام مقاتل على مفهوم النسخ عند السلف - وهو مطلق الرفع لشيء من معنى الآية أو حُكمها ، وهو أعم من المصطلح الذي ذكره الطبري - لما كان في الأمر إشكال ، ويكون مراد مقاتل أن الآية الأخرى تبين أنهم إذا انتهوا من العذاب في هذه الأحقاب ، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك، وهذا هو معنى التوجيه الثاني الذي ذكره الطبري واختاره . ويظهر من هذا المثال وغيره أ، الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعمل مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثال هذا المثال ، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر ، وهي أن تعرف مصطلح كل قوم ، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم ، فتقع في الخطأ ، وأعظم ما يكون الخطأ إذ حملت ألفاظ القرآن والسنة على المصطلحات حادثة مبتدعة ، فتقع بذلك الطوام ، وتحرف نصوص الكتاب والسنة . انظر في ذلك : الصواعق المرسلة ، لابن القيم ، تحقيق : الدخيل الله (1 : 189 ـ 192).

ذكر في معنى البرد قول آخر ، وهو أن يكون البرد النوم ، وقال عنه الطبري : "وقد زعم بعض أهل العلم بالكلام العرب - يعني : أبا عبيدة معمر بن المثنى - أن البرد في هذا الموضع النوم ، وأن معنى الكلام : لا يذوقون فيها نوماً ولا شراباً ، واستشهد لقيله ذلك بقول الكندي : بردت مراشفها على فصدني عنها وعن قبلاتها البرد يعني بالبرد : النعاس . والنوم ، وإن كان يبرد غليل العطش ، فقيل له من أجل ذلك : البرد ، فليس هو بأسمه المعروف ، وتأويل كلام الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره" . وقد نسب هذا القول لابن عباس (تفسير البغوي) ، ومجاهد والسدي (تفسير الماوردي) ، وهو قول يحتمله السياق ، غير أنه مترجح للسبب الذي ذكره الطبري ، وإذا كان كذلك ، فإن سبب الاختلاف : الاشتراك اللغوي ، ويكون من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى .

اختلفت عبارة السلف في تفسير الغساق ، فقال بعضهم : الغساق : هو ما سال من صديد أهل النار، ورد ذلك عن عطية العوفي ، وعكرمة ، وأبي رزين ، وإبراهيم النخعي ، وابن زيد . وعن عبد الله بن بريدة أن المنتن بلاطخارية [أي بلغة أهل طخارستان} . قال بعضهم : الغساق ، الزمهرير ، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، وعن مجاهد من طريق ليث ، وعن أبي العالية، والربيع ابن نس . ومادة (غسق) فيها هذا المعنيان ، أما الغسق بمعنى البرد ، فمنه غسق الليل ، سمى بذلك لبرودته . وأما الغسق بمعنى الصديد المنتن الذي يسيل من أهل النار ، فمن قولهم غسق الجرح : إذا سال فيحه . وعلى هذا ، فالتفسيران صحيحان ، وجائز اجتماعهما في معنى الغساق ، ويكون من عذاب النار الذي يعذب الله به الكفار . وهذا هو ترجيح الإمام الطبري . وعلى هذا فسبب الاختلاف : الاشتراك اللغوي ، وهو من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى .

كذا ورد عن السلف : ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ، وقتادة من طريق معمر وسعيد ، والربيع من طريق أبي جعفر ، وابن زيد الذي جعل نظيرها قوله تعالى: {ثم كان عاقبة الذين اسئوا السواى } [الروم : 10] .

عبر مجاهد وقتادة عن جملة " لا يرجون" بأنهم لا يخافون ، وقد ورد عن أهل اللغة كذلك (تهذيب اللغة: 11 : 182) ، ويرد الإشكال في تفسير الرجاء الذي هو ترقب حصول أمر محبوب للنفس ، بالخوف الذي هو ضد له . وتحرير ذلك : أن الرجاء بمعنى الخوف لا يأتي إلا منفيا ؛ أي : لا يرجون (انظر : معاني القرآن للفراء : 1 : 286) ، وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف ؛ لأن الرجاء أمل قد يخاف ألم يتم (انظر : معاني القرآن ، للزجاج : 2 : 100) .

يظهر من السياق أن الحديث عن كتاب الأعمال الذي تسجله الملائكة على العباد ؛ لأن المقام -فيما يظهر- مقام محاسبة ، وهم سيحاسبون على ما كتب عليهم ، لا على عموم قدر الله سبحانه ، ذلك أن بعض المفسرين جعل المحصى هنا كل قدر الله الذي في اللوح المحفوظ ، والله أعلم .

هذه الآية مرتبطة بقوله : {جزاء وفاقا} [النبأ : 26] ، وما قبلها من قوله : {إن جهنم كانت مرصادا} [النبأ : 21] ، وتكون الجمل التي بينهما معترضة ، والله أعلم . انظر : التحرير والنوير .

أسند الطبري ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه : {فذوقوا فلن تزيدكم إلا عذابا} [النبأ : 30] قال : فهم في مزيد من العذاب أبداً .

عبر ابن عباس عن المفاز بأنه المتنزه ،