وعند الحديث عن التلقّي كإشكالية حديثة تشكّل وجهاً من وجوه الحداثة وما بعد الحداثة، فإنّه يجدر بنا النظر إلى مسألة التلقّي في مثل خلّد نفسه على مرّ الزمن شرقاً وغرباً وهو ألف ليلة وليلة، أي في العلاقة بين المتلقّي شهريار، والراوي شهرزاد وحكاياتها النص الذي تبثّه عبر الزمن على مسمع من شهريار.
كيف استطاعت شهرزاد سيدة القصص الأولى (والليدي مونوليزا الشرقية بكل جدارة) أن تسيطر على الموقف وتبدع نصّاً له إشكالية حديثة؟ إنّ التماس بين شهريار ونص الحكايات أدّى إلى تطويع الزمن الفيزيائي، أي أنّ الزمن لديها لم يعد وحدات منفصلة ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، ساعات وأيام وأشهر وسنوات، وما إلى ذلك من التقسيم الذي نعيش فيه ظاهراً والذي يهيمن على حياتنا فيجعلنا نرضخ لوقعه وإيقاعه وقدره المحتوم. فكما نعلم عاش شهريار ردحاً من الزمن وهو ينتظر انقضاء الليلة حتى يختمها بضحية، وظلّ الأمر على هذه الحال إلى أن جاءت شهرزاد واستطاعت أن توقف عقارب الساعة وتدخل مع شهريار في حسبة مختلفة للزمن لا يمكن ضبطها بالطريقة المعهودة لحساب الزمن، وأول تصدّع في بناء الزمن التقليدي نجده في العنوان الذي يخلو من التطابق بين عدد الحكايات وعدد الليالي، أي أنّ الحكاية الواحدة لا تبدأ مع بداية الليلة وتنتهي مع نهايتها.. استطاعت شهرزاد أن تجعل الزمن عند شهريار وعياً داخلياً لا قوة خارجية منفصلة يحين موعدها عند الغروب مثلاً، أو في منتصف الليل، أو قبل الشروق، أو ما شابه ذلك.
استطاعت شهرزاد أن تخلق من شهريار متلقياً مشاركاً في نصّ الحكايات، وكأنّه أصبح لزاماً عليه أن يساهم في إبداعها وإعادة خلقها من جديد، كل ذلك من خلال تكوّن شعوري داخلي بالزمن لا مطابقة له مع الزمن الخارجي الذي كان يفرض نفسه عليه قبل سماع الحكايات. حالة شهريار الجمالية أصبحت أشبه بحالة الفنّان الذي يستمر في خلق الصورة الفنيّة دون أن يعرف سلفاً الصورة كاملة قبل أن تنتهي؛ لأنّه لو عرفها سلفاً لما وجد نفسه بحاجة إلى الاستمرار في خلقها، فهو من ناحية لا يمكنه أن يعرف الصورة التي يعمل على تكوينها قبل أن تكتمل، وهو من ناحية أخرى، لا يعرف زمناً محدّداً، أو معيناً يمكن التنبؤ به قبل أن تكتمل الصورة فعلاً، أي أنّ الفنّان يظلّ معلّقاً بزمن شعوري إلى حين اكتمال الصورة وما عليه إلا أن يستمر في الإبداع دون قيد زمني. هذا هو تصوّر الزمن عند بيرجسون: استمرارية شعورية متدفّقة يتحكّم بها وعينا بحالتنا الداخلية التي لا يمكن قياسها بساعة الحائط، ويضيف بيرجسون قائلاً إنّ ما نقوم به من عمل، يعتمد على ما نحن عليه من حالة شعورية.
لابُدَّ أن شهريار أدرك وهو يستمع إلى الحكايات، أنّ الحقيقة ليست ثابتة ثبوت موعد اقتراب الليلة التي تنقضي بضحية، بل إنها متغيّرة تغيّر حالاتنا الشعورية من حكاية إلى حكاية، أي أنّ الوعي بالحقيقة ليس شيئاً جامداً، بل إنّه في حالة تغيّر مستمر حتى في داخل الشخص الواحد. ويقول بيرجسون إنّ الوجود عند الكيان الواعي هو التغيير، وأنّ التغيير يعني النضج، وأنّ النضج يعني الاستمرار في خلق الذات إلى مالا نهاية. وهكذا يدخل شهريار في ديمومة التغيّر التي تحيد به عن روتين البطش الجامد الذي كان ناقوسه يدقّ بعد انقضاء كل ليلة. أي أنّ حياته التي كانت موزّعة على وحدات من الليالي، أصبحت ليالي متداخلة أشبه بالفترة الزمنية (duration) التي شبّهها بيرجسون بكرة الثلج التي تتدحرج من عل، فما أن تهبط إلى الوادي حتى تكبر في حجمها بعد أن استمرت في التقاط الثلج عبر تدحرجها. والتشبيه هنا كناية عن تداخل الماضي بالحاضر، وعدم النظر إليهما كوحدتين زمنيتين منفصلتين، إذ يصبح الزمن في هذه الحالة وعياً حاضراً تذوب فيه حدود الزمن التقليدي.