أهم حدث غيّر مجرى الحياة عند شهريار، هو تفعيل الذاكرة نتيجة التماس بينه وبين نصّ الحكايات. اعتاد شهريار قبل أن تدخل شهرزاد حياته أن يعيش فترات زمنية متطابقة بوعي واحد، ليلة بعد ليلة، ضحية بعد ضحية. يقول بيرجسون: إنّه لا للمرء أن يعيش فترتين زمنيتين متطابقتين بوعي واحد، أي أنّ الحدث، أو التجربة في فترة زمنية واحدة، لا تتكرّر نفسها ولا تعيد نفسها، ولو صحّت الفرضيّة: حدثان أو زمنان تطابقا في وقعهما على الوعي، لكان الوعي بهما واحداً، وفي هذه الحالة لا يكون للذاكرة مكانٌ في الوعي، أي أنّ الحياة تصبح وعياً دون ذاكرة. ومن الواضح إذن أنّ حكايات شهرزاد أيقظت الذاكرة عند شهريار، بل فعّلتها بطريقة جعلت حياته حدثاً أو إحساساً بحدث يتبعه ذاكرة، وأكثر من ذلك، أثرت حياته بأزمان مختلفة وأحداث متنوعة وإحساسات كثيرة وذكريات لا حصر لها -وكلها خرجت به من ظلمات الحدث أو الزمن الواحد الذي كان يكبّله في الماضي إلى نور الحياة الذي طلع عليه من تداخل الزمن الذي أصبح يتشكّل في وعيه واستمرارية هذا الزمن. ومثل هذا الوعي يصفه بيرجسون على أنّه متنوع الصفات، مستمر في تقدّمه إلى الأمام، متوحّد في الاتجاه.(5)ويقول بروست في معرض حديثه عن استرجاع الزمن أنّ هنالك فارقاً بين حالة وعينا في الحاضر، والذاكرة التي تسلّل من الخفاء إلى هذا الوعي، كالفارق بين ذاكرتين نسترجعهما لسنوات، أو أمكنة، أو ساعات مختلفة، إذ تصبح المقارنة بينهما مستحيلة حتى لو أردنا غير ذلك. ويمكن أن نقرأ تغيّر شهريار من هذا المنظور، فبعد أن فعّلت ذاكرتهن أصبح يرى الفارق واضحاً بين ذاكرة البطش في الماضي، وحالة وعيه الحاضر بذكريات السندباد الجميلة المتنوّعة مثلاً، وغيرها من الذكريات الأخرى الأخّاذة. باختصار، يتغيّر شهريار عندما يتحرّر من عبودية الحدث الواحد المتكرر كل ليلة. أصبح وعيه مسكوناً حاضراً بليالٍ وملامح متنوعة الأزمان والمشاعر ومستمرة في تعاقب تداخل حدوثها وذكرياتها.إنّ المشكلة الرئيسية التي كان شهريار يواجهها قبل تعرّضه لتأثير الحكايات، هي أنّ خياله كان يبدو معطّلاً، اللهمّ إلاّ من ذكرى الخيانة الزوجية التي لا تدخل طبعاً في سياق الخيال الإيجابي الذي يمكن أن يجلب البهجة والسرور إلى حياة الإنسان، إذ إنّ خياله بدأ عاجزاً عن استرجاع ذكرى جميلة في حياته الزوجية، أو أي ذكرى في حياته الماضية. ومن الطبيعي في هذه الحالة، أن يتعطّل وعيه بالحاضر الذي يمكن أن يعوّضه عن حدث الخيانة الزوجية، أو يصدّ استرجاعها مثلاً. يقول بروست في هذا الصدد: إنّه في كثير من الأحيان كان يصاب بخيبة الأمل في واقع الحياة التي يعيشها ويراقبها، خصوصاً وهو يرى أن خياله، وهو الأداة الوحيدة التي من خلالها كان بإمكانه أن يستمتع بالحياة ليس طوع إرادته؛ لأنّه بطبيعة الحال لا يأتيه إلاّ بما هو مفقود في واقعه، أي أنّه ليس من السهل علينا أن نطوّع خيالنا كأن يحضر إلى حاضرنا ماهو في ماضينا وقتما نشاء، وهذا ما يشكّل إحباطاً لابُدَّ أنّ الرومنتيكيين عانوا منه أكثر من غيرهم. لكن بروست يلاحظ أنّ الحاضر والوعي به يسدّ هذا الفراغ، إذ يلاحظ أنّ عدداً هائلاً من المشاعر والذكريات تتولّد من مجرّد الإحساس بالواقع، وأنّ الخيال يمكن أن يولد من الحاضر وفيه، وأنّه ليس قصراً على الماضي الذي يفصله الحاضر عنّا، والذي نرغب أحيانا في أن نعبره عن طريق الخيال الذي عاش الرومنتيكيون في ظلّه وتحت رحمته. يعتقد بروست أنّ خيالنا قادر على أن يفعّل أشياء كثيرة في وجودنا الحاضر من خلال الوصول إلى كنهها بواسطة الحواس. ويلاحظ بروست أنّ الحواس بمفردها غير قادرة على إيصالنا لجوهر الأشياء، وأنّ العقل بمفرده يعجز عن دراسة ماضي الأِشياء في جوهرها، وأنّه لا يستطيع أن يكوّن مستقبلاً متماسكاً يتعدّى شذرات من الماضي والحاضر تظلّ معزولة عن الواقع، ولا تناسب غير المنتفع الذي يرى فيها خطة مناسبة فقط لقصد إنساني محدود الأفق. وهكذا يمكن أن نصف حياة شهريار قبل شهرزاد بأنها محاصرة بثالوث زمني عقيم، وما خطّة الانتقام التي رسمها إلاّ شذرة تشكّلت من منطق عقيم جعلها تتحرّك عبر وحدات زمنية مغلقة، نفعية وهمية.