هل كان يمكن أن يكون فاوست من إبداع كاتب غير ألماني؟... هذا استفهام استنكاري يطرحه يونغ في معرض حديثه عن الأسطورة والأدب. ومن الواضح أنَّ يونغ يعبّر عن اعتقاده بأنَّ فاوست يميّز الروح الألمانية وهي تتوق إلى شخصية الرجل الحكيم، المعلّم، الطبيب الهادئ، إلى آخر ذلك من أوصاف مماثلة تصف رسالة الشخصية المنتظرة التي كانت أبعادها تعيش في أعماق اللاوعي الجماعي للشخصية الألمانية.وأكثر من ذلك، فقد تطوّرت صورة فاوست، كما تتطور الأسطورة عادّة، وأصبحت تشمل صورة الرجل الغربي، وتشكّل إشارة رئيسية في التراث الغربي، ترمز إلى جبروت الفرد وحكمته وقدرته العقلية الخارقة. وهكذا أصبح فاوست رمزاً بروحه لعدد هائل من الأعمال الأدبية والفنية الأوروبية، بل ذهب الاعتقاد إلى أنّ تأثيره امتدَّ إلى مجالات أخرى في العلوم والمعرفة، وأنَّه كان الدافع إلى أنماط كثيرة من السلوك الفردي المتميّز عبر التاريخ الأوروبي.غير أنَّ هذه الصورة المثالية لفاوست بدأت تهتزّ إثر ويلات الحرب العالمية وما خلّفته من دمار، دعا كبار المفكّرين الأوروبيين والأمريكيين إلى مراجعة الحساب وتقييم العلاقة بين الفكر المثالي والسلطة، والبحث عن منظور جديد يدين تلك المثالية، خصوصاً في تأثيرها في تكوين السلطة الذاتية، وهيمنتها في ميادين الحياة المختلفة. هاهو جورج شتاينر يبيّن أنَّ النازية وريثة ما يسمّى بالثقافة الأوروبية الرفيعة (High culture)، التي تسري في عصبها فردية فاوست، وهاهي سوزان سونتاج تتحدّث عن العطب الذي أحدثه الرجل الغربي الفاوستي (نسبة إلى فاوست طبعاً)، بكل ما لديه من مثالية وفن رفيع ومغامرة فكرية وطاقة لابتلاع العالم وغزوه (والإشارة هنا إلى الاستعمار الغربي). وآخرون كثيرون تبنّوا مثل ردّة الفعل هذه أمثال ريتشارد جلمان، وثيودور روزاك، وهيربرت ماركيوز، وفيدلر، وبواربي وغيرهم. وهؤلاء جميعاً أصبحوا يرون في التراث الأوروبي، الذي تأسّس على أسطورة الذات الفردية، قوة مدمّرة يجب التحوّل عنها.ولو نظرنا إلى مصطفى سعيد في مثل هذا السياق، لأمكننا القول أولاً إنَّ مصطفى سعيد لا يمكن أن يكون من نتاج كاتب غير عربي، أي إنّه لا وعي جمعيّ عربي يواجه وعياً جماعياً أوروبياً عبر التاريخ ابتداء من حضارة قرطاجنة والأندلس، مروراً بالمواجهات المختلفة مع الغرب التي ترد في سياقها قصّة عطيل، إلى أنْ تصل إلى دخول الجنرال اللنبي فلسطين وإنشاء الجسر الذي سمي باسمه، إذ أصبح جسر المواجهة الأبدية الذي تلتقي فوقه أطراف هذه المواجهة.